وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ والبَاطِنُ ….( 34)
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ ).( 35)
(34) قولُهُ: (هُوَ الأَوَّلُ) أي الَّذي ليس قبلَهُ شيءٌ، كما فسـَّرَهُ بذلك رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقالَ: ((الَّلهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ)) رواه مُسلمٌ. فهو -سُبْحَانَهُ- أوَّلٌ ليس له بدايةٌ، وأمَّا القديمُ فقد ذكرَهُ بعضُ المتكلِّمينَ في أسماءِ اللهِ، والصَّوابُ أنَّه ليس من أسمائِه -سُبْحَانَهُ- لأنَّه لم يرِدْ دليلٌ في تسميتِهِ -سُبْحَانَهُ- بذلك، ولأنَّ القِدمَ ينقسمُ إلى قِسمين:
قِدَمٍ حقيقيٍّ، وقِدمٍ نِسبيٍّ، فالقِدَمُ الحقيقيُّ: هو الَّذي لم يسبقْهُ عدمٌ، والنِّسبيُّ: هو قِدمُ المخلوقاتِ على بعضٍ، كما قال سُبْحَانَهُ: (حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ) وقد تقدَّمَ الأصلُ الَّذي ذكره ابنُ القيِّمِ أَنَّ الصِّفةَ إذا كانتْ منقسمةً إلى كمالٍ ونقصٍ لم تدخلْ بمطلقِها في أسمائِه الحُسنى، وذكرَ أنَّ بابَ الإخبارِ عنه -سُبْحَانَهُ- أوسعُ من بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ، وذكرَ أنَّه يُخبَرُ عنه -سُبْحَانَهُ- بالقديمِ ولا يُسمَّى به، وقال في ((النُّونيَّةِ )):
وهو القديمُ فلم يزلْ بصفاتِه مُتَفَرِّداً بل دائِمَ الإحسانِ
قولُه: (وَالآخِرُ) أي الَّذي ليسَ بعدَهُ شيءٌ. قولُه: (وَالظَّاهِرُ) أي العالي المرتفعُ الَّذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، ولا ريبَ أنَّه ظاهرٌ بذاتِه فوقَ كلِّ شيءٍ، فالظُّهورُ هنا: هو العُلوُّ، كما قالَ تعالى: (فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ) ولا يَصِحُّ أنْ يُحْمَلَ الظُّهورُ على الغلبةِ، لأنَّهُ قابلَهُ بقولِه وأنتَ الباطنُ.
قولُه: (وَالْبَاطِنُ) أي الَّذي ليسَ دونَهُ شيءٌ، كما فسَّرهُ الرَّسولُ: بطَنَ -سُبْحَانَهُ- بعلمِه فلا يحجبُهُ شيءٌ. قال ابنُ القيِّمِ: فهذه الأسماءُ الأربعةُ متقابلةٌ, اسمانِ لأزليَّتهِ وأبديَّتهِ سُبْحَانَهُ، واسمانِ لعلوُّهِ وقربِه، فَأوَّليَّتُه -سُبْحَانَهُ- سابقةٌ على أوليَّةِ كلِّ ما سواه، وآخريَّتـُه -سُبْحَانَهُ- ثابتةٌ بعد آخريَّةِ كلِّ ما سواه، فأوليَّـتُه سَبْقُهُ لكلِّ شيءٍ، وآخريَّتـُه بقاؤه بعدَ كلِّ شيءٍ، وظاهريَّتـُه: فوقيَّتـُه وعلوُّه على كلِّ شيءٍ، ومعنى الظهورِ يقتضي العُلوَّ، وظاهرُ الشَّيءِ هو ما علا منهُ وأحاطَ بباطنِه، وبُطونُه -سُبْحَانَهُ-: إحاطتُه بكلِّ شيءٍ، بحيثُ يكونُ أقربَ إليهِ من نفسِهِ، وهذا قربُ الإحاطةِ العامَّةِ. وأمَّا القربُ المذكورُ في الكتابِ والسُّنَّةِ فقُربٌ خاصٌّ من عابديهِ وسائليهِ، وهو ثمرةُ التَّعبُّدِ باسمِهِ الباطنِ. ذَكرَ البيهقيُّ عن مُقاتلٍ قولَه تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) هو الأوَّلُ قبلَ كلّ شيءٍ، والآخرُ بعدَ كلِّ شيءٍ، والظَّاهرُ فوقَ كلِّ شيءٍ، والباطنُ أقربُ من كلِّ شيءٍ، وإنَّما يعني القربَ بعلمِه وقدرتِه، وهو فوقَ عرشِه وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ.اهـ.
(35) قولـُه: (عَلِيْمٌ) جاءَ على بناءِ فعيلٍ للمبالغةِ في وصفِه بكمالِ العلمِ والإحاطةِ بكلِّ شيءٍ علمًا، فهو من الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، فهذه الآيةُ أفادتْ أوليَّتَه -سُبْحَانَهُ- وسبقَهُ لكلِّ مخلوقٍ، وأنَّه لا شيءَ قبْلَه، كما أفادَت دوامَهُ وبقاءَه وآخريَّتـَه، وأنَّهُ لا شيءَ بعدهُ، وأفادت عُلوَّه وارتفاعَهُ وفوقيـَّتـَه سُبْحَانَهُ، وأفادتْ قربَه ودنوَّه وإحاطتَه وسعَةَ علمِه. وأنَّه لا يَخفى عليه شيءٌ، وفيه الرَّدُّ على المعتزلةِ والرَّافضةِ الَّذين يزعمُون أنَّ اللهَ لا يعلمُ الأشياءَ إلا بعدَ وقوعِها، والرَّدُّ على مَن يزعُمُ أنَّه يعلمُ الكُلِّيَّاتِ دونَ الجزئيَّاتِ.