ومَاَ وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ في كِتَابِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: ( اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيْطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤودُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيْمُ ).( 32)
ولهذا كانَ مَن قرَأَ هذه الآيةَ في ليلةٍ لم يزلْ عليه حافظٌ، ولم يقربْهُ شيطانُ حتّى يصبحَ.( 33)
(32) قولُه: (وما وصفَ به نفسَه في أعظمِ آيةٍ في كتابِ اللهِ ): وهي آيةُ الكرسيِّ، وذلك لما اشتملَتْ عليه من العلومِ والمعارفِ، كما في الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لأُبيِّ بنِ كعبٍ: ((يَا أَبَا المُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ أَعْظَمُ؟)) فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَرَدَّدها مِرارًا ثُمَّ قالَ أُبَيٌّ: هِيَ آيَةُ الكُرْسِيِّ (اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ) فقالَ((: لِيَهْنَكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ)).
قولُه: (آيَةٍ): هي لُغةً: العلامةُ، واصطلاحًا: طائِفَةٌ من كلماتِ القرآنِ متميِّزةٌ بفصلٍ. سُمِّيَت هذه الآيةُ آيةَ الكرسيِّ لذكرِ الكرسيِّ فيها، وفيه دليلٌ على فضلِ هذه الآيةِ، وأنَّها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ اللهِ، وفيه دليلٌ - كما تقدَّم - على فضلِ علمِ التَّوحيدِ. وأنَّ القرآنَ يتفاضلُ بل آياتُ الصِّفاتِ تتفاضلُ.
قولُه: (اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ) أي لا معبودَ بحقٍّ إلا هُوَ، قولُه: (الحَيُّ) أي الدَّائمُ الباقي الَّذي لا سبيلَ للفناءِ عليه، قولُه: (القَيُّومُ) أي القائمُ بنفسِهِ، المُقيمُ لِما سواهُ، فهذان الاسمانِ عليهما مدارُ الأسماءِ الحُسنى، وإليهما ترجعُ معانيها جميعًا، فإنَّ الحياةَ مستلزمةٌ لصفاتِ الكمالِ، والقيُّومُ متضمِّنٌ لكمالِ غِناه وكمالِ قدرتِهِ، فإنَّه القائمُ بنفسِهِ لا يحتاجُ إلى مَنْ يُقيمُه بوجهٍ من الوجوهِ، وهذا من كمالِ غِناه بنفسِه عمَّا سواهُ، وهو المقيمُ لغيرهِ، فلا قيامَ لغيرهِ إلا بإقامتِهِ، وهذا من كمالِ قدرتهِ وعزَّتِهِ. انتهى مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ بتصرُّفٍ.
قولُه: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ): السِّنَةُ: النُّعاسُ، وهو النَّومُ الخفيفُ، والنَّومُ ثِقَلٌ في الرَّأسِ، والسِّنَةُ في العينِ، والنَّومُ في القلبِ، وهو تأكيدٌ للقيُّومِ، أي أنَّه -سُبْحَانَهُ- لا يَعتَرِيهِ نقصٌ ولا غفلةٌ ولا ذهولٌ ولا يغيبُ عنه شيءٌ ولا تَخْفى عليهِ خافيةٌ، كما في الصَّحيحِ من حديثِ أبي موسى قَال: قامَ فينا رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بِأَرْبَعِ كلماتٍ، فقال: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حجابُه النَّارُ – أَو النُّورُ- لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مُلْكًا وَخَلقًا وَعَبِيدًا)).
قولُه: (مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بإِذْنِهِ) أي ليسَ لأحدٍ أنْ يشفعَ عندَه لعظمتِه وكبريائِه إلا بإذنهِ: أي بأمرِهِ, قولُه: (وَلاَ يُحِيْطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ) أي لا يُحيطُ الخلقُ بشيءٍ من علمهِ إلا بما شاءَ أنْ يعلِّمَهُم إيَّاهُ، ويطلعَهُمْ عليهِ، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- عن الملائكةِ: (سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا).
قولُه: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ): أي ملأ وأحاطَ، والكرسيُّ مخلوقٌ عظيمٌ، وهو مَوضِعُ القدمَينِ لله ِسُبْحَانَهُ وتعالى، كما يُروى عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرهِ، وقد قيلَ: إنَّهُ العرشُ، والصَّحيحُ أنَّه غيرُهُ، كما رَوى ابنُ أبي شيبةَ والحاكمُ وقال إنَّه على شرطِ الشَّيخينِ، عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِه: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ): أنَّه قالَ: الكُرسيُّ موضعُ القدمينِ، والعرشُ لا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلا اللهُ، وقد رُويَ مرفوعًا، والصَّوابُ أنَّه موقوفٌ على ابنِ عبَّاسٍ، وذكر ابنُ جريرٍ عن أبي ذرٍّ: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((مَا الكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ)) وأمَّا مَا زعمَهُ بعضُهُم أنَّ معنى (كُرْسِيُّهُ) عِلْمُهُ، ونَسبَهُ إلى ابنِ عبَّاسٍ فليسَ بصحيحٍ، بل هو مِن كلامِ أهلِ البدعِ المذمومِ، وإنَّما هو كما قالَ غَيرُ واحدٍ من السَّلفِ: الكرسيُّ بين العرشِ كالمرقاةِ إليه.
قوْلُه: (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي لا يُكرثُه ولا يُثقِلُه ولا يُعجزهُ حفظُهما، أي حفظُ السَّماواتِ والأرضِ وما بينهما، بل ذلك عليه سهلٌ يسيرٌ، وهذا النَّفيُ في قولِه: (ولا يؤودُه حفظهُما) لثبوتِ كمالِ ضدِّهِ، وكذلك كلُّ نفيٍ يأتي في صفاتِ اللهِ، وقد تقدَّمَت الإشارةُ إلى ذلك.
قولُه: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ): (ال) في قولِه: (وَهُوَ الْعَلِيُّ) للشُّمولِ والاستغراقِ، فله -سُبْحَانَهُ- العُلوُّ الكاملُ من جميعِ الوجوهِ: عُلوُّ القدرِ، وعلوُّ القهرِ، وعلوُّ الذَّاتِ، كما تواترتْ بذلك الأدلَّةُ، وطابقَ على ذلك دليلُ العقلِ، فدليلُ العلوِّ عقليٌّ ونقليٌّ، وهو من الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ كصفةِ الفوقيَّةِ، فوصفُهُ -سُبْحَانَهُ- بالعلوِّ يجمعُ معانيَ العلوِّ جميعَها: علوِّ القهرِ، أي أنَّه -سُبْحَانَهُ- علا كلَّ شيءٍ، بمعنى: أَنَّه قاهرٌ له قادرٌ عليه مُتصرِّفٌ فيه، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَـهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) وعلوِّ القدرِ، أي أنَّه عالٍ عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، فهو عالٍ عن ذلك مُنَزَّهٌ عنه، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ) الآيةَ، وفي دعاءِ الاستفتاحِ ((وَتَعَالى جَدُّكَ)). وعلوِّ الذَّاتِ، أي أنَّهُ -سُبْحَانَهُ- عالٍ على الجميعِ فوقَ عرشِه، فتبيَّنَ أنَّ أنواعَ العلوِّ ثلاثةٌ، وأنَّ اسمَه العليُّ يتضمَّنُ اتِّصافَه بجميعِ صفاتِ الكمالِ والتَّنـزيهِ له -سُبْحَانَهُ- عمَّا ينافيها من صفاتِ النَّقصِ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
قولُه: (الْعَظِيمُ) أي الَّذي لا أعظَم منه ولا أجلَّ، لا في ذاتِه ولا في أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، فهذه الآيةُ اشتملتْ على فوائدَ عظيمةٍ.
الأولى: إثباتُ ألوهيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ- وانفرادُه بذلك، وبطلانُ ألوهيَّةِ كلِّ مَن سواه.
الثَّانيةِ: إثباتُ صفةِ الحياةِ له -سُبْحَانَهُ- وتعالى، الحياةِِ التَّامَّةِِ الدَّائمةِ الَّتي لا يلحقُها فناءٌ ولا اضمحلالٌ، فهي صفةٌ ذاتيَّةٌ تواطأَ على إثباتِها النَّقلُ والعقلُ.
الثَّالثةِ: إثباتُ صفةِ القيُّومِ، أي قيامِهِ بنفسِهِ وقيامِهِ بتدبيِرِ أمورِ خلقِه، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) وهذان الاسمانِ أعني الحيَّ والقيُّومَ – ذُكِرا معًا في ثلاثةِ مواضعَ من القرآنِ، وهما من أعظمِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه، ووردَ أنَّهما الاسمُ الأعظمُ، فإنَّهما مُتَضَمِّنان لصفاتِ الكمالِ أعظمَ تضمُّنٍ، فالصِّفاتُ الذَّاتيَّةُ كلُّها ترجعُ إلى اسمِ الحيِّ، والصِّفاتُ الفعليَّةُ ترجعُ إلى اسمِ القيُّومِ، ويَدُلُّ القيُّومُ على معنى الأزليَّةِ والأبديَّةِ، وعلى قيامِهِ بذاتِهِ وعلى قيامِ كلِّ شيءٍ به، وعلى أنَّه موجودٌ بنفسِه، وهذا معنى كونِه واجبَ الوجودِ.
الرَّابعةِ: تنـزيهُهُ -سُبْحَانَهُ- عن صفاتِ النَّقصِ، كالسِّنَةِ والنَّومِ والعجزِ والفقرِ ونحوِ ذلك، وهو تأكيدٌ للقيُّومِ؛ لأنَّ مَن جازَ عليه السِّنَةُ والنَّومُ استحَالَ أنْ يكونَ قيُّومًا.
الخامسةِ: سَعةُ ملكِهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى-، له ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلكًا وعبيدًا تحت قهرِه وسلطانِه.
السَّادسةِ: فيه دليلٌ على عظمتِه وسلطانِه، وأنَّ أحدًا لا يشفعُ عندَهُ إلا بعدَ إذنِهِ -سُبْحَانَهُ- ورضاه عن المشفوعِ له.
السَّابعةِ: فيه إثباتُ الشَّفاعةِ بقيودِها، وهو إذنُ اللهِ للشَّافعِ أنْ يشفعَ ورِضاهُ عن المشفوعِ له.
الثَّامنةِ: فيه الرَّدُّ على المشركين الَّذين يزعمونَ أنَّ أصنامَهم تشفعُ لهم، فظهرَ أنَّ الشَّفاعةَ تنقسمُ إلى قِسمين: شفاعةٌ منفيَّةٌ وشفاعةٌ مُثبتةٌ.
التَّاسعةِ: فيه إثباتُ صفةِ الكلامِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وأنَّه يتكلَّمُ متى شاءَ، إذا شاءَ، وأنَّه يتكلَّمُ -سُبْحَانَهُ- بحرفٍ وصوتٍ يليقانِ بجلالِه وعظمتِه، وأنَّ كلامَهُ -سُبْحَانَهُ- يُسمَعُ لقولِه (إِلاَّ بإِذْنِهِ).
العاشرِ: فيها إثباتُ صفةِ العلمِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وإحاطتِه بكلِّ معلومٍ، وأَنَّه يعلمُ ما كانَ وما يكونُ وما لم يكنْ لو كانَ كيفَ يكونُ.
الحاديَ عشرَ: في ذكرِ إحاطةِ علمهِ -سُبْحَانَهُ- بالماضي والمستقبلِ إشارةٌ إلى أنَّه لا يَنسى، ولا يغفلُ، ولا يحدثُ له علمٌ، ولا يتجدَّدُ.
الثَّانيَ عشرَ: فيه الرَّدُّ على القدريَّةِ والرَّافضةِ ونحوِهم الَّذين يزعمون أنَّ اللهَ لا يعلمُ الأشياءَ إلا بعدَ وقوعِها، والرَّدُّ على من زعمَ أنَّ الله لا يعلمُ إلا الكلِّيَّاتِ، تعالى اللهُ عن قولهِم.
الثَّالثَ عشرَ: فيها اختصاصُه بالتَّعليمِ، وأنَّ الخلقَ لا يعلمونَ إلا ما علَّمَهم، كما قالتِ الملائكةُ: ( سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا).
الرَّابعَ عشرَ: فيه إثباتُ عظمتِهِ -سُبْحَانَهُ- بعظمةِ مخلوقاتِه، فإذا كان عَظَمَةُ كرسيِّهِ هذه العظمةَ الَّتي جاءَتْ بها الأدلَّةُ، فمِن بابٍ أولى أَنْ يكونَ الخلقُ أعظمَ وأجلَّ.
الخامسَ عشرَ: فيها إثباتُ الكرسيِّ وعظمتِه، وأنَّه مخلوقٌ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- والرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ كرسيَّهُ علمُه.
السَّادسَ عشرَ: فيه إثباتُ صفةِ المشيئةِ للهِ سُبْحَانَهُ.
السَّابعَ عشرَ والثَّامنَ عشرَ والتَّاسعَ عشرَ: فيه إثباتُ عظمتِهِ واقتدارِهِ، وفيه إثباتُ السَّماواتِ وتعدُّدِها، وإثباتُ عُلوِّهِ -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، وإثباتُ عظمتِهِ -سُبْحَانَهُ- ذاتًا وصفاتٍ وأفعالاً.
قال ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: قَرَنَ بين هذينِ الاسمين الدَّالَّينِ على عُلوِّهِ وعَظمتهِ -سُبْحَانَهُ- في آخرِ آيةِ الكرسيِّ، وفي سورةِ الشُّورى، وفي سورةِ الرَّعدِ، وسورةِ سبأٍ.
ففي آيةِ الكرسيِّ ذكرَ الحياةَ الَّتي هي أصلُ جميعِ الصِّفاتِ، وذكرَ معها قيُّوميَّتَه المقتضيةَ لدوامهِ وبقائهِ، وانتفاءِ الآفاتِ جميعِها عنه من السِّنَة والنَّومِ والعجزِ وغيرِها، ثمَّ ذكرَ كمالَ مُلكِهِ ثمَّ عقَّبهُ بذكرِ وحدانيَّتِه في مُلكِه، وأنَّهُ لا يشفعُ عندَهُ أحدٌ إلا بإذنِهِ، ثمَّ ذكرَ سعَةَ علمهِ وإحاطتِهُ، ثمَّ عقَّبهُ بأنَّهُ لا سبيلَ للخلقِ إلى علمِ شيءٍ من الأشياءِ إلا بعدَ مشيئتِهِ لهم أنْ يعلموه، ثمَّ ذكرَ سَعَةَ كرسيِّهِ منبِّهًا على سَعتِه -سُبْحَانَهُ- وعظمتِه وعلوِّهِ، وذلك تَوْطِئَةً بين يدي علوِّه وعظمتِهِ، ثمَّ أخبَرَ عن كمالِ اقتدارِه وحفظِه للعالمِ العلويِّ والسُّفليِّ من غيرِ اكتراثٍ ولا مشقَّةٍ ولا تعبٍ، ثمَّ ختمَ الآيةَ بهذين الاسمينِ الجليلينِ الدَّالَّينِ على علوِّ ذاتِه وعظمتِه. انتهى من الصَّواعقِ.
(33) قولُه: (ولهذا كانَ من قرأَ هذه الآيةَ في ليلةٍ لمَ يَزَلْ عليه من اللهِ حافظٌ، ولم يقربْه شيطانٌ ).
هذا الحديثُ في صحيحِ البخاريِّ، عن أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قال: وكَّلَنِي رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بحفظِ زَكاةِ رَمضانَ، فأتانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو من الطَّعامِ فَأَخذْتُهُ، وقلتُ: لأَرْفَعنَّكَ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-. قال: دَعْني فإنَّي مُحتاجٌ، وعَليَّ عيالٌ، لا أعودُ فَرَحِمْتُه وَخَلَّيْتُ سبيلَهُ، فأصبحتُ فقال لي رسولُ الله: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ )) قُلتُ: يا رسولَ اللهِ شَكَا حاجةً وعِيالاً فَرَحِمتهُ وخَلَّيْتُ سَبيلَه، قال: ((أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ)) فَعَرفْتُ أَنَّهُ سَيعُودُ، لقولِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: إِنَّه سيعودُ، فَرَصَدْتُهُ فجاءَ يحثُو مِن الطَّعامِ فَأَخَذْتُهُ فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: دَعْنِي فإنِّي مُحتاجٌ وعليَّ عِيالٌ، لا أعودُ، فَرحِمْتُهُ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فقالَ رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟)) فقلتُ: يا رسولَ اللهِ شَكَا عِيالاً وحاجةً فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سبيلَه، قال: ((أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ)) فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثةَ فجاءَ يحثُو من الطَّعامِ فَأَخَذْتُهُ فَقلتُ: لأَرفَعَنَّكَ إلى رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وهذه آخِرُ ثلاثِ مرَّاتٍ تَزعُمُ فيها أَنَّكَ لا تعودُ ثمَّ تعودُ، فقال: دَعْني أُعَلِّمْكَ كلماتٍ يَنْفَعْكَ اللهُ بِها، قُلتُ: وَما هِي؟ فقالَ: إِذا أَوَيْتَ إِلى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: (اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتَّى تختمَ الآيةَ فإنَّكَ لن يَزالَ عَليكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حتَّى تُصبحَ، وكانوا أَحْرَصَ شَيءٍ على الخَيْرِ، فَقَالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَمَا إنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ؟)) قلتُ: لا. قالَ: ((ذَاكَ الشَّيْطانُ)) كذا رواهُ البخاريُّ معلَّقًا بصيغةِ الجزمِ، وقد رواه النَّسَائيُّ في اليومِ والليلةِ عن إبراهيمَ بنِ يعقوبَ عن عثمانَ بنِ الهيثمِ فذكره، وقد رُوِيَ عن أبي هريرةَ بسياقٍ آخرَ قَريبٍ من هذا.
قولُه: (لَم يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حَافِظٌ): أي يحفظُهُ مِن الشَّياطينِ وغيرِهم، وفي روايةٍ: ((إِذَا قُلْتَهُنَّ لمَْ يَقْرَبْكَ ذَكَرٌ وَلا أُنْثى مِنَ الإِنْسِ وَلا مِنَ الجِنِّ)) وفي حديثِ عليٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ قَرَأَهَا – يَعْنيِ آيَةَ الكُرْسيِّ – حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ أمَّنَهُ اللهُ عَلى دَارِهِ وَدَارِ جَارِهِ وَأَهْلِ دُوَيْراتٍ حَوْلَهُ)). رواه البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ.
قولُه: (شَيْطانٌ): الشَّيطانُ يُطلقُ على كلِّ متمرِّدٍ عاتٍ مِن الجنِّ والإنسِ، مِن شَطَنَ إذا بَعُدَ لبعدِه عن رحمةِ اللهِ. أو من شَاطَ يَشيطُ إذا هلكَ واحترقَ.
في هذا الحديثِ فضلُ آيةِ الكرسيِّ، وَعظمُ منفعتِها وتأثيرُها العظيمُ في التحرُّزِ من الشَّيطانِ، وذلك لِما اشتملتْ عليهِ من العلومِ والمعارفِ، ولذلك إذا قَرَأها الإنسانُ عندَ الأحوالِ الشَّيطانيةِ بصدقٍ أبْطَلَتْهَا، مثلُ مَن يدخلُ النَّارَ بحالٍ شيطانيٍّ، أو يحضرُ المُكَاءَ والتَّصْدِيَةَ وتنـزلُ عليه الشَّياطينُ، وتتكلَّمُ على لسانِه كلامًا لا يُعلمُ، وربما لا يُفقهُ، وربما كاشفَ بعضَ الحاضرينَ بما في قلبِه، إلى غيرِ ذلك منَ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ، فأهلُ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ تنصرفُ عنهم شياطينُهم إذا ذُكرَ عندَهُم ما يطردُها. مثلُ آيةِ الكرسيِّ، أشارَ إلى ذلك الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ في كتابِه ((الفرقانِ بينَ أولياءِ الرَّحمنِ وأولياءِ الشَّيطانِ)).