ثم من المحسنات –كذلك- المعنوية مراعاة النظير, والنظير فعيل, مشتقة من النظر, أي: الشيء الذي ينظر إلى آخر ويقابله, فهذا نظير لهذا, أي: ينظر إليه, وهو مشعر بالتساوي, والتناظر التساوي،مثلا تناظروا في الصف, أي: تساووا فيه, وقاموا على وتيرة واحدة, والمقصود هنا بمراعاة النظير جمع الشيء مع نظيره, أن يجمع الشيء مع ما يناسبه, هي جميع أمر وما يناسبه, والمناسبة أنواع.
فقال: لا للتضاد, فلا يقصد بالمناسبة هنا مناسبة الضدية, فتلك هي المقابلة التي سبقت:{فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً} فليضحكوا يقابلها فليبكوا, هي ضدها, وكثيراً ضدها قليلاً، لكن هذا مناسبته المضادة،نحن هنا نريد عكس ذلك أن تكون المناسبة للموافقة لا للمضادة, فهذا الذي يسمى مراعاة النظير, وذلك مثل قول الشاعر:
والطل في سلك الغصون كلؤلؤ ..... رطب يصافحة النسيم فيسقط
والطير تقرأ والغدير صحيفة ..... والريح تكتب والغمام ينقِّط
فهنا قوله: (والطل في سلك الغصون كلؤلؤ), السلك يناسبه اللؤلؤ, (رطب يصافحه النسيم فيسقط)، (والطير يقرأ), والقراءة تناسبها الصحيفة؛ لذلك قال: (والغدير صحيفة), (والريح تكتب) والكتابة يناسبها التنقيط, فقال: (والغمام ينقط), فهذا من مراعاة النظير, (الطل)هو بدايات المطر, هو الرش الخفيف، (في سلك الغصون) شبه الغصون وما فيها من الثمر والكزبرة في بدايتها كأنها خرز تنضمه، هذه الغصون (كلؤلؤة) فالغصن الواحد فيه خرز من الماء، مثل اللؤلؤ، فهذا الماء الذي اجتمع وجمعته الغصون يكون لونه كلون اللؤلؤ في صفأه (كلؤلؤ رطب) أصل الماء رطب، واللؤلؤ في أصله قد يكون كذلك, (يصافحة النسيم) أي: تحركه الرياح، وجعل مس الرياح للأغصان للطفه كالمصافحة باليد، (يصافحه النسيم فيسقط) أي: يتساقط هذا الخرز, خرز الماء يتساقط من نسيم بسبب مسِّ النسم له، (والطير يقرأ) لأن والطير تصدح, وأصوات الطيور دائماً يعتبرها العرب إما مهيجات للبكاء والحزن وإما للسرور، ولذلك يقول أحد الشعراء:
جشىصوت الخلي فقال غنى ..... ومن رحى بالشجي فقال ناح
الخلي غير الحزين إذا سمع صوت الحمام, يقول: هذا يغني، والشجي الحزين إذا سمع صوته قال هذا يبكي.
شجى: صوت الخلي فقال غنى ومن رحى بالشجي فقال ناح .
وكثيراً ما يطلقون على أصوات الطير البكاء, في كقول أبي فراس الحمداني:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة..... أيا جارتا هل تشعرين بحالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ..... تعالي أقاسمك الهموم تعالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ..... ويسكت محزون ويندب سالي
فلأنه هو حزين سمع صوتها فظنه بكاء، ومثل ذلك قول الآخر:
ألم تسمعي أي بعد في رونق الضحى ..... بكاء حمامات لهن هدير
تجاوبنا في(غير مسموع) مرجحِّنة ..... من السدر روَّاها المصيف غدير
فهيجن لي أشواق جوننوإنما ..... يهيج هوى جونن علاَّ يسير
وهذه الأبيات من أبيات العرب التي تشتهر لأنها يمكن قراءتها بهذه القافية وبقافية أخرى, فيمكن أن تقرأها:
ألم تسمعي أي بعد في رونق الضحى ..... بكاء حمامات لهن هدير
باللام تجاوبنا في(غير مسموع) مرجحنة من السدر روَّاهاالمصيف مسيل
فهيجن لي أشواق جوننوإنما ..... يهيج هوى جونن علاَّ قليل
بدل (يسير)، فتقرأ باللام والراء
وكذلك قول الآخر:
تذكرني أم العلاء حمائم ..... تجاوبن إن مالت بهن غصون
تمنع ظلاً ريش ثم من الندى ..... وتخضر مما حولكن فنون
ألا يا حماماتٍ إذا عدن عودة ..... فإني إلى أصواتكن حزين
فعدن فلما عدن كدنيمتنني ..... وكدت بأسرار لهن أبين
وعدن بقرقار الهدير كأنما ..... شربن الحميَّاء أو بهن جنون
الحمياء: الخمر
وعدن بقرقار الهدير كأنما ..... شربن الحمياء أو بهن جنون
فلم ترعيني مثلهن حمائم ..... بكين ولم تدمع لهن عيون.
(والغدير صحيفة), الغدير في صفحة الماء، الغدير هو ما غادره الماء، ما غادره السيل من الماء, فجعله كالصحيفة البيضاء، (والريح تكتب) تحركه كأنها تكتب عليه، ترقم عليه، (والغمام ينقط) ينزل المطر فهو مثل النقاط إذا نزل في صفحة الغدير, فكأنما ينقط الحروف التي تكتبها الريح.