خلاصة المسألة والترجيح بين الأقوال:
فإنه مما سبق يتبين لنا أن القول الثالث أضعف الأقوال سندا ومعنى, وذلك لعدم العثور على سند له, وكذلك المعنى غريب شاذ, إلا إن كان المراد به النجوم فأطلقت كلمة السماء مجازا, أو أن المراد به السماء حقيقة وذلك لكون النجوم تقع فيها, فكان مبنى اختيار هذا المعنى هو أن مواقع النجوم في السماء, فكان القسم إذن بالسماء, وفي كل الأحوال القول شاذ والقول الثاني أوضح منه وأكثر جماهيرية بين أهل التفسير, وأكثر دقة.
نجيء الآن للقول الأول والثاني, وهما الأقوى والأكثر ترجيحا, وفي الحقيقة يصعب الترجيح بينهما, لكن قبل الترجيح بينهما فإن القول الثاني تندرج تحته أقوال تستحق التصفية واختيار القول الأرجح بينها لمقارنته مع القول الأول, وتحريرها فيما يلي:
أما القول الثالث والرابع المندرجان تحت القول الثاني فمستبعدات وذلك لضعف قائليهما فالأول لم يرو إلا عن الحسن ولم يوافقه أحد, والثاني نقله ابن عطية ولم يذكر قائله, أما الضعف في المقولين فآت من كونهما مخصصين دون قرينة تبين سبب التخصيص, فلا السياق سياق حديث عن يوم القيامة, ولا هو كذلك سياق حديث عن رجم الشياطين, وأظن أن منشأ القولين آت من قياس القائلين على آيات أخر ورد فيها ذكر أهوال القيامة كقوله :"وإذا النجوم انكدرت", ورجم الشياطين كقوله :"ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين", والحديث في كلا الآيتين عن النجوم, ولكن السياق كما ذكرنا مختلف هنا فالأولى عدم صحة هذين القولين, لعدم وجود قرينة تدل على التخصيص في السياق.
أما القول الأول والثاني الواردين تحت القول الثاني فأجدهما قويين, وقد أوضحت فيما نقلت عن ابن عاشور منشأ الخلاف بينهما, وذلك لاختلاف القائلين بهما في تناول مفردة (مواقع) من حيث مبنى الكلمة, وكونها تصح أن تطلق على المنازل والمساقط, وإن كان لا بد من الترجيح فلعل القول الثاني هو الأرجح لكثرة القائلين به, وترجيح ابن جرير له, وحسن توضيح ابن عاشور للفائدة من القسم بالمساقط, وما يحمله سقوط النجم من معان بديعة تُذَكِّرُ بِالنِّظامِ البَدِيعِ المَجْعُولِ لِسَيْرِ الكَواكِبِ كُلَّ لَيْلَةٍ لا يَخْتَلُّ ولا يَتَخَلَّفُ، وتُذَكِّرُ بِعَظَمَةِ الكَواكِبِ وبِتَداوُلِها خِلْفَةً بَعْدَ أُخْرى، وذَلِكَ أمْرٌ عَظِيمٌ يَحِقُّ القَسَمُ بِهِ الرّاجِعُ إلى القَسَمِ بِمُبْدِعِهِ.
نجيء الآن للترجيح بين القول الثاني المندرج تحت القول الثاني والقول الأول, والذي وضحنا منشأه ومبناه في نقلنا لكلام ابن عاشور مسبقا, فنقول: أن الترجيح بينهما صعب جدا ولا أجد ميلا لأحدهما دون الآخر, فالقول الأول يدعمه الكثير من القرائن التي ذكرناها وأعيد ذكرها باختصار هنا وهي: أن القسم بالقرآن قسم عظيم بل هو أعظم من القسم بأي مخلوق بلا شك, ومجيء آية :"وإنه لقسم لو تعلمون عظيم" بعد آية :"فلا أقسم بمواقع النجوم" تدعم اختيار هذا القول, كما أن القرآن كما نعلم متشابه في منهجه وأساليبه, وقد اعتدنا منه القسم بالقرآن في مواطن كثيرة كقوله :"والقرآن المجيد", مما يدعم القول بأن القسم هنا كذلك بالقرآن, كما أن كون المقسم عليه هو القرآن فيه دلالة على أن الله أقسم بأكرم أمر على كرم هذا الأمر, ففيه نوع من البلاغة والتفخيم كما أشار إلى ذلك ابن عاشور, فكل ذلك مما يدعم هذا القول, ناهيك عما ورد من أقوال للسلف كثيرة تختار هذا القول, وكذلك ذكر حديث أن القرآن نزل منجما في عشرين سنة, وكون الضمير كما أشار إلى ذلك ابن عطية يرجع للقرآن في قوله :"إنه لقرآن كريم"-وإن كان هذا التأويل كما ذكر ابن عطية قد يرد عليه بأن الضمير قد لا يعود على متقدم لوضوح الأمر وشهرته (أي: القرآن)-, فكل ما ذكرنا من القرائن ترجح كفة هذا القول, ولكن كذلك إذا أتينا للقول الثاني فإننا سنجد نقل أكثر من مفسر القول بأنه قول جمهور التفسير, كما أن هذا القول من الأقوال التي فسرت الآية تفسيرا مباشرا, وقد يكون سبب القسم بالنجوم ومساقطها لما في ذلك المشهد من عظمة, وقد ثبت في غير موضع من القرآن إقسام الله بمخلوقاته, بل وبالنجم إذا هوى تحديدا كما في قوله :"والنجم إذا هوى", بل وفي هذه السورة أقسم الله بالنجم على هذا الوحي, مما يجعل سياق الآيات متشابها, مما لا يجعلنا نستبعد هذا القول, ويكون مقصد القسم لفت النظر إلى هذه المشاهد الرهيبة التي تستحق التأمل, والتي تزيد من إيمانك بعظمة الله ودقة صنعه وخلقه, وربما مشابهة الآي بالنجم في نوره وهدايته للسائلين, فإذن بالنسبة لي لا أميل إلى ترجيح قول دون قول, فكلا القولين أجدهما متساويين في القوة, ولكن من أراد أن يعرف ما رجحه المفسرون, فإن ابن جرير رجح القول الثاني, والشنقيطي رجح القول الأول, وقد ذكرت أسباب ترجيحهما فيما سبق، فقد يكون في ترجيحهما لمن يميل إلى أحدهما وضوح في اختيار ما يكون أقرب للصواب.
والحمدلله رب العالمين ..