المبحثُ الثالثُ
فى أغراضِ التشبيهِ(11)
الغرضُ من التشبيهِ إما بيانُ إمكانِ(12) المشبَّهِ(13)،
نحوُ:(1)
فإن تَفُقِ الأنامَ(2) و(3) أنت منهم(4) ..... فإن المِسْكَ(5) بعضُ دَمِ الغزالِ(6)
فإنه لما ادَّعَى(7) أنَّ الممدوحَ مُبايِنٌ لأصلِه بخصائصَ(8) جَعَلَتْه(9) حقيقةً منفرِدَةً(10) احتَجَّ على إمكانِ دَعْواه(11) بتشبيهِه(12) بالمِسْكِ الذى أصلُه دمُ الغزالِ(13).
وإما بيانُ حالِه(1)، كما(2) فى قولِه(3):
كأنك شمسٌ والملوكُ كواكبُ ..... إذا طَلَعَتْ(4) لم يَبْدُ(5) منهنَّ كوكبُ(6)
وإما بيانُ مِقدارِ حالِه(7)، نحوُ(8):
فيها اثنتان وأربعون(9) حلوبةً ..... سُوداً كخافِيَةِ الغُرابِ الأسحَمِ(10)
شَبَّهَ النُّوقَ السُّودَ(11) بخافِيَةِ الغرابِ بياناً لمقدارِ سوادِها(12).
وإما تقريرُ حالِه(13)، نحوُ(14):
إنَّ القلوبَ إذا تَنافَرَ(15) وُدُّها(16) ..... مثلُ الزجاجةِ كَسْرُها لا يُجْبَرُ(17)
شَبَّهَ(1) تَنافُرَ القلوبِ(2) بكَسْرِ الزجاجةِ تثبيتاً(3) لتَعَذُّرِ عودتِها(4) إلى ما كانت عليه من(5) الموَدَّةِ(6), وإما تزيينُه(7)، نحوُ(8):
سوداءُ واضحةُ الْجَبِيـ ..... نِ كمُقلَةِ الظَّبْيِ الغريرِ(9)
شبَّهَ(10) سوادَها(11) بسوادِ مُقْلَةِ الظَّبْيِ(12) تحسيناً لها(13).
وإما تقبيحُه(14)، نحوُ(15):
وإذا أَشارَ محدِّثاً(16) فكأنَّه ..... قِرْدٌ(17) يُقَهْقِهُ(18) أو عجوزٌ تَلْطِمُ(19)
وقد يعودُ الغرَضُ(1) إلى المشبَّهِ به(2) إذا عُكِسَ طرفا التشبيهِ(3)، نحوُ(4):
وبَدا(5) الصباحُ(6) كأن غُرَّتَه(7) ..... وجهُ الخليفةِ(8) حين يُمْتَدَحُ(9)
ومثلُ هذا(10) يُسَمَّى بالتشبيهِ المقلوبِ(11).
__________________________
(11) المبحثُ الثالثُ في أغراضِ التشبيهِ
الأغراضُ جمْعُ غرَضٍ والمرادُ به الأمرُ الباعثُ للمتكلِّمِ في استعمالِ التشبيهِ، وهو قسمان: أحدُهما أن يكونَ غَرَضًا عائداً إلى المُشبَّهِ، والثاني أن يكونَ عائداً إلى المُشبَّهِ به، أما الأوَّلُ فهو المشارُ إليه بقولِه.
(12) (الغرضُ من التشبيهِ إما بيانُ إمكانِ) وجودِ
(13) (المُشبَّهِ) أي: بيانُ أنَّ المُشبَّهَ أمْرٌ ممكِنُ الوجودِ, وذلك فيما إذا كان المُشبَّهُ أمْراً غريباً يُمْكِنُ أن يُدَّعَى استحالةُ وقوعِه لغرابتِه فيُؤْتَى بالتشبيهِ على طريقِ الدليلِ على إثباتِه، بأن يُشَبَّهَ بأمرٍ مُسَلَّمِ الإمكانِ لوقوعِه في وجهٍ جامعٍ بينَهما, فيُسَلَّمُ إمكانُ المدَّعَى؛ إذ لو استحالَ انْتَفى معناه الكُلِّيُّ عن كلِّ فردٍ, فيَلزَمُ انتفاءُ ذلك الواقعِ وهو محالٌ فيَثْبُتُ المدَّعَى.
(1) (نحوُ) قولِ أبي الطَّيِّبِ المتنَبِّي من قصيدتِه التي رَثَى بها والدةَ سيفِ الدولةِ ابنِ حَمْدانَ.
(2) (فإن تفُقِ الأنامَ) أي: إن تَعْلُ بالشرفِ الأنامَ الموجودِين في زمانِك من إنسٍ وجِنٍّ حتى صِرْتَ كأنك جنْسٌ آخَرُ استُفِيدَ صَيْرُورتُه جنساً آخَرَ من تعميمِ الأنامِ بواسطةِ أن الداخلَ في الجنسِ لابد أن يساويَه فردٌ منه غالباً.
(3) (و) الحالُ أنك.
(4) (أنت منهم) أي: بحسبِ الأصلِ؛ لأنك آدَمِيٌّ بالأصالةِ فلا يُنافي دعوى صيرورتِه جنساً برأسِه، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أُقيمَ مُقامَه حالُ المُشبَّهِ به, وهو ما أُشيرَ إليه بقولِه.
(5) (فإنَّ الْمِسْكَ) أي: إن خرَجْتَ أيُّها الممدوحُ عن جنسِك بكمالِ أوصافِك فلا بُعْدَ في ذلك, ولا استغرابَ؛ لأنك كالْمِسْكِ، والْمِسْكُ في أصلِه.
(6) (بعضُ دمِ الغزالِ) وقد خرَجَ عن جنسِه بكمالِ أوصافِه, فحالُك كحالِ الْمِسْكِ.
(7) (فإنه لما ادَّعَى) أي: الشاعرُ هذا علَّةً لصحَّةِ التمثيلِ بالبيتِ لكونِ الغرَضِ من التشبيهِ بيانَ إمكانِ المُشبَّهِ.
(8) (أن الممدوحَ مبايِنٌ لأصلِه بخصائصَ) أي: صفاتٍ فاضلةٍ.
(9) (جعلَتْه) أي: الممدوحَ.
(10) (حقيقةً منفرِدةً) أي: بنفسِها ومستقلَّةً برأسِها وكان هذا المدَّعَى في الظاهرِ مما يمكِنُ أن تُدَّعَى استحالتُه.
(11) (احتجَّ على إمكانِ دَعْواه) أي: أقامَ الْحُجَّةَ أي: الدليلَ على إثباتِ هذا المدَّعَى وإمكانِه لدفْعِ إنكارِه لغرابتِه.
(12) (بتشبيهِه) أي: الممدوحِ.
(13) (بالمسْكِ الذي أصلُه دمُ الغزالِ) بجامعِ فوَقَانِ الأصلِ في كلٍّ، وهذا التشبيهُ ليس مذكوراً صراحةً بل كِنايةً ذُكِرَ لازِمُه وهو وجهُ الشبَهِ أعني فَوَقَانَ الأصلِ وأُريدَ الملزومُ وهو التشبيهُ.
(1) (وإما بيانُ حالِه) أي: حالِ المُشبَّهِ، ومعنى ذلك أن يُبَيِّنَ الوصْفَ الذي هو عليه, للجهْلِ به عندَ السامعِ بأن يُقَرِّرَ بذلك التشبيهِ أيَّةَ حالةٍ وصِفَةٍ كان عليها المُشبَّهُ عندَ سؤالِ المخاطَبِ ذلك بلفظِه أو بحالِه.
(2) (كما) أي: كالبيانِ الكائنِ.
(3) (في قولِه) أي: الشاعرِ.
(4) (كأنك شمسٌ والملوكُ كواكبُ. إذا طلَعَتْ) أي: الشمسُ.
(5) (لم يَبْدُ) أي: لم يَظْهَرْ.
(6) (منهن كوكبُ) شبَّهَ المخاطَبَ بالشمسِ بياناً لحالِه من الظهورِ، وشبَّهَ الملوكَ بالكواكبِ بياناً لحالِهم من عدَمِ الظهورِ بجانبِه, فيكونُ هذا التشبيهُ لبيانِ حالِ المُشبَّهِ إذا علِمَ السامعُ حالَ المُشبَّهِ به دونَ المُشبَّهِ، بخلافِ ما لو كان حالُ المُشبَّهِ معلوماً له قبلَ التشبيهِ فلا يكونُ ذلك التشبيهُ لبيانِ حالِ المُشبَّهِ؛ لأنها مبيَّنَةٌ ومعلومةٌ, وتَبيينُ المبيَّنِ عَبَثٌ، بل يكونُ لمدحِه فتدَبَّرْ.
(7) (وإما بيانُ مقدارِ حالِه) أي: كَمِّيتِهَا بأن عرَفَ السامعُ صفتَه, ولكن جَهِلَ مَرتَبَتَها من قوَّةٍ وضعْفٍ وزَيْدٍ ونقْصٍ.
(8) (نحوُ) قولِ الشاعرِ.
(9) (فيها اثنتان وأربعون) نِياقاً.
(10) (حَلوبَةً. سُوداً كخافِيَةِ الغُرابِ الأسحَمِ) الخافيةُ تُجمَعُ على خَوَافٍ وهي ما دونَ الرِّيشاتِ العشْرِ من مقدَّمِ الْجَناحِ.
(11) (شبَّهَ النُّوقَ السودَ) أي: شبَّهَ الشاعرُ النِّياقَ السودَ أي: المعلومَ أصلُ سوادِها.
(12) (بخافِيَةِ الغرابِ بياناً لمقدارِ سوادِها) في الشدَّةِ حيثُ عَلِمَ السامعُ مقدارَ حالِ المُشبَّهِ به دونَ المُشبَّهِ نظيرَ الغرضِ الآنفِ ذِكرُه.
(13) (وإما تقريرُ حالِه) أي: حالِ المُشبَّهِ في نفْسِ السامعِ بإبرازِها فيما هي أظهرُ وأقوى.
(14) (نحوُ) قولِ الشاعرِ.
(15) (إنَّ القلوبَ إذا تَنافَرَ) أي: ذَهَبَ.
(16) (وُدُّها) أي: محبَّتُها.
(17) (مثلُ الزجاجةِ كسْرُها لا يُجبَرُ) أي: لا يُمكِنُ إصلاحُه
(1) (شبَّهَ) الشاعرُ.
(2) (تَنافُرَ القلوبِ) وحالُه واضحٌ.
(3) (بكسْرِ الزجاجةِ تثبيتًا) أي: قصْدًا لتقريرِه في ذهْنِ السامعِ.
(4) (لتعذُّرِ عودتِها) أي: القلوبِ.
(5) (إلى ما كانت عليه من ) الأُنْسِ و.
(6) (المودَّةِ) كما أن الزجاجةَ المكسورةَ يَتعذَّرُ جبْرُها بجامِعِ تعذُّرِ العوْدِ إلى ما كان عليه في كلٍّ، وإنما أفادَ التقريرُ المذكورُ؛ لأن تعذُّرَ العودِ إلى ما كان عليه في الزجاجةِ أمرٌ حِسِّيٌّ متحقِّقٌ بالشهودِ, والنفسُ بالحسِّيِّ أكثرُ إلْفاً منها بغيرِه.
(7) (وإما تزيينُه) أي: إيقاعُ زينتِه وحسْنِه في ذهْنِ السامعِ فيَتخيَّلُ أنه كذلك ترغيباً فيه, ولو لم يكنْ في نفسِ الأمرِ كذلك بأن يُصَوِّرَه للسامِعِ بصورةٍ حسَنةٍ، سواءٌ كانت تُدرَكُ بالعينِ أو بغيرِها.
(8) نحوُ قولِ الشاعرِ في امرأةٍ:
(9) (سوداءُ واضحةُ الْجَبينِ كمُقْلَةِ الظبْيِ الغَريرِ) الْمُقْلَةُ بضمِّ الميمِ: شَحْمَةُ العينِ, أو هي السوادُ والبياضُ منها. والغَريرُ بفتحِ الغَيْنِ المعجَمَةِ أي: الحسَنُ خَلْقاً بفتحِ الخاءِ المعْجَمَةِ.
(10) (شبَّهَ) الشاعرُ.
(11) (سوادَها) أي: سوادَ المرأةِ
(12) (بسوادِ مُقْلَةِ الظبْيِ) أي: بالسوادِ الكائنِ في مُقْلَةِ الظبْيِ.
(13) (تَحسيناً لها) أي: تصويراً للسامعِ إيَّاها بصورةٍ حسَنةٍ، وإنما أفادَ ذلك؛ لأن السوادَ الذي في مُقْلَةِ الظبْيِ أوجبَ لها حسْناً، لأن السوادَ في العينِ حسَنٌ بالْجِبِلَّةِ وذلك لِمَا يُلازِمُه من الصفاءِ العجيبِ، والاستدارةِ مع إحاطةِ لونٍ مخالِفٍ له غالباً من نفسِ العينِ أو خارجِها. قال في الأطْوَلِ: والتشبيهُ مبْنِيٌّ على ما قالَ الأصمعيُّ من أن عينَ الظبْيِ وبَقَرِ الوحْشِ في حالِ الحياةِ كلَّها سوادٌ, وإنما يَظهرُ فيها البياضُ مع السوادِ بعدَ الموتِ. ا هـ.
(14) (وإما تقبيحُه) أي: إيقاعُ قبْحِ المُشبَّهِ في ذهْنِ السامعِ لتنفيرِه عنه, فيُتخيَّلُ أنه كذلك, ولو لم يكنْ في نفسِ الأمرِ كذلك بأن يُصوِّرَه بصورةٍ قبيحةٍ.
(15) (نحوُ) قولِ الشاعرِ.
(16) (وإذا أشارَ محدِّثاً) اسمُ فاعلٍ من التحديثِ حالٌ.
(17) (فكأنَّه قرْدٌ) حيوانٌ معروفٌ عندَ العامَّةِ بالسَّعْدَانِ.
(18) (يُقَهْقِهُ) أي: يَشتدُّ ضَحِكُه.
(19) (أو عجوزٌ تَلْطِمُ) بكسْرِ الطاءِ المهمَلةِ, أي: تَضرِبُ خدَّها أو صَفْحةَ جسدِها بالكَفِّ مفتوحةً أو بباطنِ كفِّها، والغرَضُ من التشبيهِ في هذا هو تشويهُ المُشبَّهِ به وذمُّه (وأما القسمُ الثاني فقد أشارَ إليه بقولِه.
(1) (وقد يعودُ الغرَضُ) أي: من التشبيهِ.
(2) (إلى المُشبَّهِ به) لفظاً, وإن كان مشبَّهاً معنًى.
(3) (إذا عكِسَ طرَفَا التشبيهِ) أي: إذا جُعِلَ المُشبَّهُ مشبَّهاً به, وبالعكسِ فإن الغرَضَ في ذلك إيهامُ السامعِ أن المُشبَّهَ به أَتَمُّ من المُشبَّهِ في وجهِ الشبَهِ مع أنه ليس كذلك في الواقعِ.
(4) (نحوُ) قولِ محمَّدِ بنِ وُهَيْبٍ الْحِمْيَرِيِّ في مدْحِ الخليفةِ المأمونِ.
(5) (وبَدَا) أي: ظهَرَ.
(6) (الصباحُ) أي: الصبْحُ.
(7) (كأنَّ غُرَّتَهُ) إضافةُ الغُرَّةِ إلى الضميرِ للبيانِ, أي: كأنَّ الغُرَّةَ التي هي من الصباحِ؛ لأنَّ الغُرَّةَ في الأصْلِ بياضٌ في جَبْهةِ الفرَسِ فوقَ الدرهمِ استعارَها الشاعرُ للضياءِ التامِّ الحاصلِ عندَ الإسفارِ فيكونُ المرادُ بالغُرَّةِ نفسَ الصباحِ.
(8) (وجهُ الخليفةِ) المأمونِ بنِ هارونَ الرَّشِيدِ العباسيِّ.
(9) (حينَ يُمْتَدَحُ) أي: حالَ الامتداحِ أعني قَبولَ المدحِ فوجهُ الخليفةِ هو المُشبَّهُ بالأصالةِ ضرورةَ أن إشراقَ الصباحِ أقوى ضياءً, وأظهرُ من إشراقِ وجهِ الخليفةِ, لكنْ عَكَسَ التشبيهَ فجَعلَه مشبَّهاً به؛ ليُوهِمَ أن هذا المُشبَّهَ به لفظاً وهو وجهُ الخليفةِ أقوى من المُشبَّهِ لفظاً وهو الصباحُ أو غُرَّتِه على قاعدةِ ما يُفيدُه التشبيهُ بالأصالةِ من كونِ المُشبَّهِ به أقوى من المُشبَّهِ في وجهِ الشبَهِ.
(10) (ومِثلُ هذا) أي: التشبيهِ الذي عُكِسَ طرَفاه.
(11) (يُسَمَّى بالتشبيهِ المقلوبِ) وهو الذي يُجعَلُ فيه المُشبَّهُ الذي هو الناقصُ بالأصالةِ مشبَّهاً به، ويُجعلُ فيه المُشبَّهُ به الذي هو الكاملُ بالأصالةِ مشبَّهاً، فإذا جُعِلَ كذلك وَقعَ في وهْمِ السامعِ أن المُشبَّهَ به الناقصَ أَتَمُّ من المُشبَّهِ في وجهِ الشبَهِ؛ لأن مُقْتَضَى أصلِ تركيبِ التشبيهِ كمالُ المُشبَّهِ به عن المُشبَّهِ في وجهِ الشبَهِ، ويُسَمَّى أيضاً التشبيهَ المعكوسَ أو الْمُنْعَكِسَ.