فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: "الباب الأول: الخبر والإنشاء" عقد هذا الباب؛ لتعريف الخبر والإنشاء وما يتعلق بهما من النكات البلاغية , والكلام كله ينقسم إلى خبر وإنشاء , فالخبر معناه الإخبار بأمر قد حصل , والإنشاء معناه إيقاع معنى بلفظ يقارنه في الوجود , الإنشاء هو إيقاع معنى بلفظ يقارنه في الوجود , والخبر إخبار بما قد حصل , فقال: "كل كلام فهو إما خبر أو إنشاء " فالكلام منحصر في هذين القسمين لا يعدوهما , والخبر ما يصح أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب , الخبر هو ما يقبل الصدق والكذب, جاء زيد , مات زيد , قام زيد , هذا محتمل للصدق فيكون قائله صادقا , ومحتملا للكذب أن يكون كاذبا.
أما الإنشاء فهو إيقاع معنى بلفظ يقارنه في الوجود , فلا يحتمل الصدق ولا الكذب , فتقول: ما اسمك؟ من أنت؟ لماذا أتيت؟ أعطني هذا القلم؟ فهذا لا يقال فيه صدق ولا كذب , والإنشاء ما لا يصح أن يقال لقائله ذلك , أي لا يصح أن يقال لقائله: إنه صادق ولا إنه كاذب , والمراد بصدق الخبر مطابقته للواقع.
هذه مسألة يدرسها أهل البلاغة وأهل الأصول وأهل المنطق , ففيها خلاف على ثلاثة أقوال في تحديد الصدق والكذب ما هو؟ فاختلف في الصدق هل هو مطابقة الخبر للواقع في نفس الأمر ؟ أو هو مطابقة الخبر للاعتقاد؟ أو هو مطابقة الخبر للاعتقاد والواقع معاً؟ هذه ثلاثة أقوال , وعلى هذا يتحدد الكذب أيضا , هل هو مخالفة الخبر للواقع ؟ أو مخالفة الخبر للاعتقاد ؟ أو مخالفة الخبر للاعتقاد والواقع معاً؟ إذا قلت: جاء زيد , وكان هو فعلاً قد جاء وأنت تعتقد أنه جاء , فهذا قطعا صدق؛ لأنه جمع بين موافقة الواقع وموافقة الاعتقاد الذي تعتقده , إذا قلت: جاء زيد وكان فعلا قد جاء , لكنك أنت لم تكن تعتقد أنه جاء , فهل هذا صدق أو كذب؟ هذا موافق للواقع في نفس العلم , لكنه مخالف لاعتقادك أنت, وكذلك إذا قلت: جاء زيد , وأنت تعتقده قد جاء , ولكنه لم يأت في الواقع , فهل هذا صدق أو كذب؟ هذا محل الخلاف.
وقد ذهب الجاحظ إلى أن الصدق هو موافقة الكلام، موافقة الخبر للاعتقاد والواقع معاً , واستدل بقول الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} , فهذا القول الذي قاله المنافقون , وهو شهادتهم أن محمدا رسول الله موافق للواقع , ومحمد فعلا رسول صلى الله عليه وسلم , لكنه مخالف لاعتقادهم هم , فلذلك كان كذبا , فكذبهم الله {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} , أي: إن اعتقادهم مخالف لذلك.
والجمهور ذهبوا إلى أن الصدق هو موافقة الخبر للواقع في نفس الأمر , بغض النظر عن الاعتقاد . وذهب الراغب إلى أنه هو موافقة الخبر للاعتقاد فقط , الراغب الأصفهاني , ولذلك يمكن أن يوصف الكلام بأنه صدق كذب , صدق من جهة , وكذب من جهة أخرى , كما إذا كان موافقا للواقع في نفس الأمر , وكان مخالفا للاعتقاد , فهو من ناحية موافقته للواقع في نفس الأمر صدق , ومن ناحية مخالفته للاعتقاد كذب , والعكس كذلك , إذا كان الكلام موافقا للاعتقاد ولكنه مخالف للواقع في نفس الأمر فيوصف بالصدق والكذب أيضا , فهو صدق من وجه وكذب من وجه آخر , وهذا قال: " والمراد بصدق الخبر مطابقته للواقع , وبكذبه عدم مطابقته له" عدم مطابقته للواقع , هذا هو مذهب جماهير أهل العلم.
وقد ذكر القولين الآخرين , فجملة: علي مقيم , هذا اللفظ: علي مقيم , إن كانت النسبة المفهومة منها , أي إن كانت نسبة القيام , الإقامة إلى علي صحيحة مطابقة لما في الخارج فهذا صدق , وإن كانت غير صحيحة فهي كذب , فالنسبة هي ما يتعقل بين الشيئين , وهي هنا القيام المتوقع من علي , الإقامة المتوقعة من علي , فإن كانت الإقامة فعلا قد اتصف بها علي فالنسبة صحيحة , وإن كانت الإقامة لم تحصل من علي فالنسبة باطلة نعم.
قال: " ولكل جملة ركنان محكوم عليه ومحكوم به " الجملة في اللغة مشتقة من جَمَلَه بمعنى أذابه , والإجمال الإذابة , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود , حرم الله عليهم الشحوم فجملوها , فباعوها فأكلوا ثمنها)) جملوها أي: أذابوها , والكلام إذا ركب كأنما جُمِلَ , أي: أذيب حتى امتزج بعضه ببعض , فلذلك يسمى الكلام المركب جملة , والجملة لا بد لها من ركنين؛ لأنها لا تتصور إلا بتركيبة غير واضحة إجمالا أي إذابة , فلذلك لابد فيها من ركنين , وهذان الركنان يسميان بالعمدة.
والعمدة: هو ما لا يسوغ حذفه من الكلام إلا لدليل , ما لا يسوغ حذفه من الكلام إلا لدليل , زيد قائم , لو قلت: قائم فقط لم يفد الكلام معناه , ولو قلت: زيد فقط لم يفد الكلام معناه , فلا يسوغ حذفه من الكلام إلا لدليل , ما هو الدليل الذي تحذف له العمدة , لو قلت: من أتى؟ فقال قائل: زيد , فقد حذف الخبر هنا معناه ، زيد أتى , لكن ذلك الحذف له دليل , فإذن العمدة: هي ما لا يسوغ حذفه من الكلام إلا لدليل. وضدها يسمى بالفضلة.
فالفضلة: هي ما يسوغ حذفه من الكلام لغير دليل , وأن الكلام مفهوم دونه وهو قيد له , فالفضلات كلها قيود. ضرب زيد , هذا كلام مفيد؛ لأن فيه نسبة الضرب لزيد , وأن الضرب حصل من زيد , لكن على من وقع الضرب؟ على عمرو مثلا عمراً , في أي وقت وقع الضرب؟ البارحة , في أي مكان وقع الضرب؟ هنا. هذه كلها قيود , فهي المفعولات , مفعول به , المفعول المطلق , المفعول لأجله , المفعول معه ، المفعول فيه الذي هو الظرف ، (غير مسموع) والحال , والتمييز , والاستثناء , هذه كلها قيود تسمى الفضلات , يمكن أن يستقيم الكلام و يفهم دونها , فلذلك يمكن أن تحذف من غير دليل.
والعمدة لا تعد أحد أمرين: إما حكما وإما محكوما عليه , والحكم هو محط الخبر , نحن هنالك تكلمنا على الخبر الذي هو قسم من نوعي الكلام , قلنا لك: الكلام ينقسم إلى إنشاء وخبر , فإذا أردت أن تخبر فاعلم أن الخبر هو نسبة , بمعنى أن شيئا حصل أو لم يحصل , فذلك الشيء الذي حُكم عليه بالحصول هو المسند إليه , وهو الذي يسمى محكوما عليه , والحصول أو عدم الحصول هو الحكم , وهو الذي يسمى مسندا , لذلك قال:
" ولكل جملة ركنان: محكوم عليه " وهذا الذي يسمى بالمسند إليه , " ومحكوم به وهو الحكم " وهذا الذي يسمى بالمسند , ويسمى الأمير مسندا إليه وهو منه الفاعل ونائبه والمبتدأ , فالفاعل إذا قلت: جاء زيد , فمن المحكوم عليه هنا بالمجيء؟ زيد , هو الذي أثبت له المجيء , وإذا قلت لم يأت زيد , فمن الذي نفي عنه المجيء ؟ زيد . فزيد إذاً هو المسند إليه ، هو المحكوم عليه ، حكم عليه بالمجيء أو بعدمه , كذلك: ضُرب عمرو , فعمرو هنا نائب , وهو الذي حكم عليه بأنه قد ضُرب ، أو لم يضرب عمرو ، هو الذي حُكم عليه بأنه لم يضرب , لكنه هو المحكوم عليه , إذن هو المسند إليه , كذلك: زيد قائم , فزيد هنا هو الذي حُكم عليه بإثبات القيام له. زيد غير قائم , زيد هنا هو الذي حكم عليه بنفي القيام عنه , فهو المحكوم عليه , وما بعده وهو الخبر هو الحكم عليه , فالخبر به تتم فائدة الإسناد , كما أن الخبر يقابله في الجملة الفعلية الفعل , فهو الذي يحصل به الحكم على الفاعل , ويسمى الثاني مسنداً أي: هو الذي يحكم به , كالفاعل والمبتدأ المكتفى بمرفوعه , كالفعل قام زيد , قام هنا هو المسند , وزيد هو المسند إليه , كذلك المبتدأ المكتفي برفع الفاعل أسار أنت؟ أقائم أنت؟
أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنا ...... إن يظعنوا فعجيب عيش من قطنا
أمنجز أنتم وعدا وثقت بـه ...... أم اقتفيتم جميعا مجد عرقــوب
فمنجز مبتدأ وفاعله هو أنتم , فهذا المبتدأ هنا ليس هو المحكوم عليه , بل هو المحكوم به؛ لأن المحكوم عليه هو أنتم ، (أقاطن قوم سلمى) قاطن مبتدأ ولكنه هنا اكتفى بالفاعل , وفاعله قوم سلمى , فقوم سلمى هو المسند إليه , وقاطن مسند ؛ لأنه حكم , وهذا معنى: والمبتدأ المكتفي بمرفوعه. أي المبتدأ الذي بعده فاعل أغنى ، فاعل أغنى ، هذا المبتدأ حينئذ محكوم عليه بل هو أقصد الفاعل هو المحكوم عليه بالمبتدأ , والمبتدأ هو الحكم.