ما جاء في الأخذ عن أهل البدع والأهواء والإحتجاج بروايتهم
قال أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيبُ البغدادي (ت: 463هـ): (اختلف أهل العلم في سماع من أهل البدع والأهواء كالقدرية, والخوارج, والرافضة, وفى احتجاج بما يروونه:-
1- فمنعت طائفة من السلف صحة ذلك لعلةأنهم كفار عند من ذهب إلى إكفار المتأولين, وفساق عند من لم يحكم بكفر متأول وممن لا يروى عنه ذلك مالك بن أنس, وقال من ذهب إلى هذا المذهب أن الكافر والفاسق بالتأويل بمثابة الكافر المعاند والفاسق العامد فيجب أن لا يقبل خبرهما ولا تثبت روايتهما.
2- وذهبت طائفة من أهل العلم إلى قبول أخبار أهل الأهواء الذين لا يعرفون منهم استحلال الكذب, والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة, وممن قال بهذا القول من الفقهاء أبو عبد الله- محمد بن إدريس الشافعي-؛ فإنه قال: وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة, لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. وحكي أن هذا مذهب ابن أبي ليلى, وسفيان الثوري, وروي مثله عن أبي يوسف القاضي.
3- وقال كثير من العلماء يقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء, فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم وممن ذهب إلى ذلك أبو عبد الله- أحمد بن محمد بن حنبل-.
4- وقال جماعة من أهل النقل والمتكلمين أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة وإن كانوا كفارا وفساقا بالتأويل.
ممن ذهب إلى منع قبول اخبارهم احتج مع ما قدمنا ذكره: بما أخبرنا أبو سعد الماليني قال: أنا عبد الله بن عدي الحافظ, قال: ثنا علي بن الحسين بن عبد الرحيم, قال: ثنا أحمد بن نصر المقري العابد, قال: أنا المبارك- مولى إبراهيم بن هشام المرابطي-, ح وأخبرني عبيد الله بن أبي الفتح قال: ثنا علي بن عمر الحربي قال: ثنا حاتم بن الحسن الشاشي, قال: حدثني حبيب بن المغيرة الشاشي, قال: ثنا المبارك, قال ثنا العطاف بن خالد, عن نافع, عن ابن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا ابن عمر دينك دينك, إنما هو لحمك ودمك, فانظر عمن تأخذ, خذ عن الذين استقاموا, ولا تأخذ عن الذين مالوا)).
- أخبرنا يوسف بن رباح البصري قال: ثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل المهندس بمصر, قال: ثنا محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي, قال: ثنا خالد بن عبد السلام, قال: ثنا الفضل بن المختار, عن أبي سكينة- مجاشع بن قطبة- قال: سمعت علي بن أبى طالب رضى الله عنه, وهو في مسجد الكوفة يقول: (انظروا عمن تأخذون هذا العلم فإنما هو الدين).
- أخبرنا القاضي أبو بكر- أحمد بن الحسن الحرشي- قال: ثنا أبو العباس- محمد بن يعقوب الأصم-, قال: ثنا أبو أمية الطرسوسي, قال: ثنا يونس بن محمد, قال: ثنا مغيث, قال: ثنا الضحاك بن مزاحم قال: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه).
- وأخبرنا القاضي أبو بكر أيضا قال: ثنا محمد بن يعقوب الأصم, قال: ثنا الحسن بن علي بن عفان العامري, قال: ثنا أبو أسامة, عن ابن عون قال: قال: محمد بن سيرين: (إنما هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذونه).
- أخبرنا أبو الحسين- أحمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن الواثق بالله- قال: حدثني جدي, قال: ثنا أبو عمران- موسى بن هارون-, وأبو بكر الفريابي قال: و أنا هدبة بن خالد, قال: ثنا مهدى بن ميمون قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه),وقال الفريابي في حديثه: (فانظروا عمن تأخذون دينكم).
- أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل, أنا محمد بن عمر الرزاز, أنا محمد بن عبد الملك الدقيقي قال: ثنا محمد بن إسماعيل السكري الكوفى, قال: ثنا حماد بن زيد قال: دخلنا على أنس بن سيرين في مرضه, فقال: (اتقوا الله- يا معشر الشباب- وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث, فإنها من دينكم).
- أخبرنا أبو بكر- محمد بن عمر بن جعفر الخرقي- قال: أنا أحمد بن جعفر بن سلم, قال: ثنا أحمد بن علي الأبار, قال: ثنا علي بن ميمون الرقي العطار, قال: ثنا مخلد بن الحسين, عن هشام, عن ابن سيرين قال: (إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم).
- أخبرنا أبو طالب- محمد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير- قال: نا الحاكم أبو حامد- أحمد بن الحسين بن علي الهمذاني- قال: نا أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام قال: نا أحمد بن سيار قال: أنا النصر بن عبد الله المديني من مدينة الداخلة أبو عبد الله الأصم, قال: ثنا إسماعيل بن زكريا, عن عاصم, عن ابن سيرين قال: (كان في زمن الأول الناس لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة, فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد ليحدث حديث أهل السنة, ويترك حديث أهل البدعة).
- أخبرنا محمد بن جعفر بن علان الوراق قال: أنا أبو نصر- منصور بن محمد بن منصور الأصبهاني, ح وأخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب قال: قريء على منصور بن محمد الأصبهانى وأنا أسمع, قال: أنا إسحاق بن أحمد بن زيرك, قال: ثنا محمد بن حميد, قال: ثنا جرير عن عاصم قال: سمعت ابن سيرين يقول: (كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى كان بأخره, فكانوا يسألون عن الإسناد لينظروا من كان صاحب سنة كتبوا عنه, ومن لم يكن صاحب سنة لم يكتبوا عنه).
- أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال: ثنا يوسف بن عمر القواس الزاهد, قال: ثنا محمد بن الحسن بن الفرج الأنماطي قال: قال علي بن حرب: (من قدر أن يكتب الحديث إلا عن صاحب سنة, فإنهم يكذبون كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي).
- أخبرنا أبو الفضل- عمر بن أبي سعيد الهروي- قال: نا عبد العزيز بن جعفر الحريري ببغداد قال: أحمد بن إسحاق بن بهلول, قال: ثنا أبي, قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقري قال: سمعت ابن لهيعة يذكر: أنه سمع رجلا من أهل البدع رجع عن بدعته. فجعل يقول: (انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه فإنا كنا إذا رأينا رأيا جعلناه حديثا).
- أخبرنا أبو الحسين- محمد بن الحسين بن الفضل القطان- قال: أنا دعلج بن أحمد, قال: أنا أحمد بن علي الأبار, قال: ثنا أبو نعيم الحلبي, قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقري, عن ابن لهيعة قال: سمعت شيخا من الخوارج وهو يقول: (إن هذه الأحاديث دين, فانظروا عمن تأخذون دينكم, فإناكنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا).
- وأخبرنا ابن الفضل قال: أنا دعلج, أنا أحمد بن علي قال: حدثني أبو أمية قال: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: (ما تركت الرواية عن فطر إلا لمذهبه).
- أخبرنا ابن الفضل قال: أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال: ثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني أحمد بن الخليل, قال: ثنا إسحاق قال: أخبرني شبابة بن سوار قال: قلت ليونس بن أبي إسحاق: ثوير لأي شيء تركته؟.قال: لأنه رافضي.
قلت: إن أباك روى عنه.
قال: هو أعلم.
- أخبرنا بن الفضل قال: أنا دعلج, قال: أنا أحمد بن علي الأبار, قال: ثنا إبراهيم بن سعيد, قال: سمعت شبابة يقول: قيل ليونس بن أبي إسحاق: لم لم تحمل عن ثوير بن أبي فاختة ؟.
قال: كان رافضيا .
قال: وأخبرنا ابن الفضل قال: أنا دعلج, قال: أنا أحمد بن علي الأبار , قال: ثنا عوام, قال : قال لي الحميدي: (كان بشر بن السري جهميا لا يحل أن يكتب عنه).
- أخبرنا أبو بكر البرقاني قال: قرأت على أحمد بن جعفر بن سلم: حدثكم أبو العباس الأبار قال: ثنا سويد بن سعيد قال: قيل لسفيان بن عيينة: لم أقللت الرواية عن سعيد بن أبي عروبة؟. قال: وكيف لا أقل الرواية عنه, وسمعته يقول هو رأيي ورأي الحسن ورأي قتادة- يعني القدر-.
- أخبرنا محمد بن عمر الخرقي قال: أنا أبو بكر بن سلم, قال: ثنا أحمد بن علي الأبار, قال: ثنا محمد بن الحسين العامري, قال: ثنا خالد بن خداش قال: لما ودعت مالك بن أنس؟. قال لي: (اتق الله وانظر ممن تأخذ هذا الشأن).
- وأخبرنا محمد بن عمر قال ثنا أبو بكر بن سلم, ح وأخبرني ابن الفضل قال: أنا دعلج, أنا وقال: ابن سلم, ثنا أحمد بن علي الأبار, ح وأخبرنا أحمد بن أبي جعفر قال: ثنا محمد بن عثمان النفري, قال: ثنا عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري, قالا: ثنا يونس بن عبد الأعلى قال: ثنا ابن وهب, قال: سمعت مالك بن أنس يقول: (لا يصلى خلف القدرية, ولا يحمل عنهم الحديث).
- أخبرني القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري قال: ثنا محمد بن عمران المرزباني, قال: حدثني محمد بن يحيى, قال: ثنا الحسين بن يحيى قال: سمعت الفضل بن مروان يقول: كان المعتصم يختلف إلى علي بن عاصم المحدث, وكنت أمضي معه إليه.
فقال يوما: حدثنا عمرو بن عبيد وكان قدريا.
فقال له المعتصم: يا أبا الحسن أما تروي أن القدرية مجوس هذه الأمة؟.
قال: بلى.
قال: فلم تروي عنه؟.
قال: لأنه ثقة في الحديث صدوق.
قال: فإن كان المجوسي ثقة فما تقول أتروي عنه؟.
فقال له علي: أنت شغاب يا أبا إسحاق.
قلت: وهذا الاعتراض المذكور في الخبر لازم, ولا خلاف أن الفاسق بفعله لا يقبل قوله في أمور الدين مع كونه مؤمنا عندنا, فإنه لا يقبل قول من يحكم بكفره من المعتزلة وغيرهم أولى.
وقد احتج من ذهب إلى قبول أخبارهم؛ بأن مواقع الفسق معتمدا والكافر الأصلي معاندان, وأهل الأهواء متأولون غير معاندين, وبأن الفاسق المعتمد أوقع الفسق مجانة, وأهل الأهواء اعتقدوا ما اعتقدوا ديانة, ويلزمهم على هذا الفرق أن يقبلوا خبر الكافر الأصلي؛ فإنه يعتقد الكفر ديانة.
فإن قالوا : قد منع السمع من قبول خبر الكافر الأصلي, فلم يجز ذلك لمنع السمع منه.
قيل: فالسمع إذاً قد أبطل فرقكم بين المتأول والمعتمد وصحح إلحاق أحدهما بالآخر فصار الحكم فيهما سواء.د
والذي يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم, ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل, ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك لما رأوا من تحريهم الصدق, وتعظيمهم الكذب, وحفظهم أنفسهم عن المحظوارت من الأفعال, وإنكارهم على أهل الريب, والطرائق المذمومة, ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم, ويتعلق بها مخالفوهم في الأحتجاج فاحتجوا برواية:-
عمران بن حطان, وهو من الخوارج.
وعمرو بن دينار, وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع.
وكان عكرمة إباضيا, وابن أبى نجيح وكان معتزليا.
وعبد الوارث بن سعيد, وشبل بن عباد, وسيف بن سليمان, وهشام الدستوائي, وسعيد بن أبي عروبة, وسلام بن مسكين, وكانوا قدرية.
وعلقمة بن مرثد, وعمرو بن مرة, ومسعر بن كدام, وكانوا مرجئة.
وعبيد الله بن موسى, وخالد بن مخلد, وعبد الرزاق بن همام, وكانوا يذهبون إلى التشيع, في خلق كثير يتسع ذكرهم دون أهل العلم قديما وحديثا رواياتهم, واحتجوا بأخبارهم فصار ذلك كالإجماع منهم وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب). [الكفاية في علوم الرواية: ؟؟]