2: نزول القرآن على سبعة أحرف
المقصد الكلي الأول: نزول القرآن على سبعة أحرف:
المقصد الفرعي الأول: إثبات أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف بالأحاديث المتواترة:
- عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف). رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، وقد رواه أيضاً في بدء الخلق.
- رواه أيضاً مسلم بسنده عن الزهري بنحوه.
- قال الإمام ابن كثير: وهذا مبسوط في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده عن حميد الطويل عن أنس بن مالك عن أُبَيِّ بن كعب قال: ما حاك في صدري شيء منذ أسلمت، إلا أنني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي فقلت: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال: (نعم)، وقال الآخر: أليس تقرِئُني آية كذا وكذا؟ قال: (نعم)، فقال: (إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائل عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائل: استزده، حتى بلغ ستة أحرف، وكل حرف شافٍ كافٍ).
- رواه أيضاً النسائي بسنده عن حميد الطويل به.
- وكذا رواه ابن أبي عدي ومحمود بن ميمون الزعفراني ويحيى بن أيوب كلهم عن حميد به.
- ورواه ابن جرير عن حميد عن أنس عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُنزل القرآن على سبعة أحرف)، فأدخل بينهما عبادة بن الصامت.
- عن إسماعيل بن أبي خالد، حدثني عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أُبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فقمنا جميعاً، فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرآ)، فقرآ، فقال: (أصبتما)، فلما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال، كبر عليَّ ولا إذا كنت في الجاهلية، فلما رأى الذي غشيني ضرب في صدري ففضضت عرقاً، وكأنما أنظر إلى رسول الله فرقاً، فقال: (يا أبي، إن ربي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هوِّن على أمتي، فأرسل إلي أن اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هوِّن على أمتي، فأرسل إلي أن اقرأ على سبعة أحرف، ولك بكل ردةٍ مسألةٌ تسألنيها. قال: (قلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام). رواه الإمام احمد بن حنبل.
- وهكذا رواه مسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد به.
- عن أُبَيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: خفف عن أمتي، فقال: اقرأه على حرفين، فقلت: اللهم رب خفف عن أمتي، فأمرني أن أقرأ على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة، كلها شافٍ كافٍ). رواه ابن جرير.
- عن أُبَيِّ بن كعب قال: سمعت رجلاً يقرأ في سورة النحل قراءة تخالف قراءتي، ثم سمعت آخر يقرؤها بخلاف ذلك، فانطلقت بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل فسألتهما من أقرأكما؟ فقالا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لأذهبن بكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خالفتما ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدهما: (اقرأ)، فقرأ، فقال: (أحسنت)، ثم قال للآخر: (اقرأ)، فقرأ، فقال: (أحسنت)، فقال أبي: فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمرَّ وجهي، فعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي، فضرب يده في صدري، ثم قال: (اللهم أخسئ الشيطان عنه، يا أُبي، أتاني آتٍ من ربي، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب، خفف عن أمتي، ثم أتاني الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين، فقلت: رب خفف عن أمتي، ثم أتاني الثالثة، فقال مثل ذلك، وقلت له مثل ذلك، ثم أتاني الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردَّة مسألة، فقلت: يا رب، اللهم اغفر لأمتي، يا رب، اللهم اغفر لأمتي، واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي يوم القيامة). رواه ابن جرير، وقال ابن كثير: إسناده صحيح.
- عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، قال: أسأل الله معافاته ومغفرته؛ فإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، قال: أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، قال: أسأل الله مغفرته ومعافاته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا). رواه ابن جرير.
- وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية شعبة به.
- في لفظ لأبي داود عن أبي بن كعب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أُبي، إني قرأت القرآن فقيل لي: على حرف أو حرفين؟ فقال الملك الذي معي: قل على حرفين، فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي: قل على ثلاثة. حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلا شافٍ كافٍ إن قلت: سميعاً عليماً، عزيزاً حكيماً، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب).
- روى ثابت بن قاسم نحواً من هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كلام ابن مسعود رضي الله عنه نحو ذلك.
- عن عاصم عن زر عن أبي قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (إني بُعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني، والعجوز الكبيرة، والغلام، فقال: مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف). رواه الإمام أحمد.
- أخرجه الترمذي من حديث عاصم عن زر عن أبي به، وقال: حسن صحيح.
- رواه أبو عبيد بسنده عن عاصم عن زر عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي جبريل عند أحجار المراء فذكر الحديث.
- رواه الإمام أحمد بسنده عن عاصم عن زر عن حذيفة فذكر نحوه.
- عن ربعي بن حراش: حدثني من لم يكذبني – يعني حذيفة – قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء فقال: (إن أمتك يقرؤون القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منهم على حرف فليقرأ كما علم، ولا يرجع عنه). رواه الإمام أحمد، قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
- وذكر حديثاً في معناه عن سيمان بن صرد، رواه ابن جرير. ورواه النسائي في اليوم والليلة، ورواه أحمد بن منيع وأبو عبيد كذلك كلٌ بإسناده عن سليمان بن صرد.
- وذكر ابن كثير كذلك قصة أبي المتقدمة عن سليمان بن صرد عن أبي، رواه ابن جرير وأبو عبيد وأبو داود كلٌ بإسناده عنه، ثم قال ابن كثير: فهذا الحديث محفوظ من حيث الجملة عن أبي بن كعب، والظاهر أن سليمان بن صُرد الخزاعي شاهد على ذلك، والله أعلم.
- عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل وميكائيل عليهما السلام، فقال جبريل: اقرأ على حرف واحد، فقال ميكائيل استزده، قال اقرأ على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب برحمة). رواه الإمام أحمد.
- وهكذا رواه ابن جرير بسنده عن حماد بن سلمة به، وزاد في آخره كقولك: (هلم وتعال).
- عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف). رواه الإمام أحمد، قال ابن كثير: إسناد صحيح ولم يخرجوه.
- عن أنس بن عياض، حدثني أبو حازم، عن أبي سلمة – لا أعلمه إلا عن أبي هريرة – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نزل القرآن على سبعة أحرف، مراء في القرآن كفر – ثلاث مرات – فما علمتم منه فاعملوا وما جهلتم منه فردوا إلى عالمه). رواه الإمام أحمد.
- رواه النسائي عن قتيبة عن أنس بن عياض به.
- عن أم أيوب الأنصارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف، أيها قرأت أجزأك)، رواه الإمام أحمد، قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
- عن أبي جهيم الأنصاري أن رجلين اختلفا في آية من القرآن فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا فيه؛ فإن مراء في القرآن كفر). رواه الإمام أحمد بسنده عن بسر عن أبي جهيم، ورواه أبو عبيد على الشك في رواته، قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح أيضاً ولم يخرجوه.
- عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن رجلاً قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو – يعني ابن العاص – إنما هي كذا وكذا، بغير ما قرأ الرجل، فقال الرجل: هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتياه، فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم أصبتم، فلا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر). رواه أبو عبيد.
- ورواه الإمام أحمد بإسناده عن أبي قيس فذكر نحوه وفيه: (فإن المراء فيه كفر، أو إنه الكفر به). قال ابن كثير: وهذا أيضاً حديث جيد.
- عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان الكتاب الأول نزل من باب واحد وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كلٌ من عند ربنا). رواه ابن جرير، ثم رواه بطريق آخر عن ابن مسعود من كلامه، قال ابن كثير: وهو أشبه، والله أعلم.
- عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القارئ حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسله، اقرأ يا هشام)، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذلك أنزلت)، ثم قال: (اقرأ يا عمر)، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذلك أنزلت. إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه). رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن.
- وقد رواه الإمام أحمد والبخاري – أيضاً – ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من طرق عن الزهري.
- ورواه الإمام أحمد بسنده عن الزهر عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر، فذكر الحديث بنحوه.
- عن حرب بن ثابت، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال: قرأ رجل عند عمر فغيَّر عليه، فقال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغير علي، قال: فاجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أحسنت)، قال: فكأن عمر وجد من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر، إن القرآن كله صواب، ما لم يُجعل عذابٌ مغفرةً، أو مغفرةٌ عذاباً). رواه الإمام أحمد، قال ابن كثير: وهذا إسناد حسن، وحرب بن ثابت هذا يكنى بأبي ثابت، لا نعرف أحداً جرحه.
- قال أبو عبيد: قد تواترت هذه الأحاديث كلها عن الأحرف السبعة.
المقصد الفرعي الثاني: ذكر رواية شاذة في الباب:
- عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزل القرآن على ثلاثة أحرف).
- قال أبو عبيد: ولا نرى المحفوظ إلا السبعة لأنها المشهورة.
المقصد الكلي الثاني: معنى الأحرف السبعة:
المقصد الفرعي الأول: ذكر أقوال أهل العلم في المراد بالأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن:
- قال أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المالكي في مقدمة تفسيره: وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولاً، نذكر منها خمسة أقوال:
- قال ابن كثير: حاصلها ما أنا مورده ملخصاً:
المسألة الأولى: قول أكثر أهل العلم:
- المراد بالأحرف السبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل وتعال وهلمَّ.
- ممن اختار هذا القول سفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، وأبو جعفر بن جرير، والطحاوي.
- من أبين أدلة هذا القول – كما ذكر الطحاوي – حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: (جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف، فقال ميكائيل استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: اقرأ فكل شاف كاف إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، على نحو هلم وتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجِّل).
- مما يستدل به أصحاب هذا القول – أيضاً – ما رواه الطحاوي بسنده عن ابن عباس عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: ((يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم)) "للذين آمنوا امهلونا"، "للذين آمنوا أخرونا"، "للذين آمنوا ارقبونا"، وكان يقرأ: ((كلما أضاء لهم مشوا فيه)) "مروا فيه"، "سعوا فيه".
المسألة الثانية: قول أبي عبيد القاسم بن سلام وجماعة:
- المراد بالأحرف السبعة أن القرآن نزل على سبع لغات متفرقة في جميع القرآن من لغات العرب، فليس المراد أن جميعه يقرأ على سبعة أوجه ولكن يكون الحرف الواحد منها بلغة قبيلة، والثاني بلغة أخرى سوى الأولى، والثالث بلغة أخرى سواهما، كذلك إلى السبعة.
- بعض أحياء العرب أسعد بها وأكثر حظاً فيها من بعض.
- عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن، رواه أبو عبيد، وقال: والعجز هم بنوا أسد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف هم عليا هوازن، وبنو دارم وهم سفلى تميم، قال ابن جرير: واللغتان الأخريان قريش وخزاعة.
- ممن اختار هذا القول: ابن عطية والقاضي الباقلاني.
- استدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: (قرآناً عربياً)، قال الباقلاني: "واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولاً واحداً – حجازها ويمنها –" ،ولا يرد عليه قول عثمان – رضي الله عنه – إنه نزل بلسان قريش؛ فإن المراد معظمه، ولذا قال ابن عبد البر: "لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات كتحقيق الهمزات، فإن قريشاً لا تهمز".
- ومما يستدل به أصحاب هذا القول أيضاً: ما ورد عن ابن عباس أنه كان يُسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر، رواه أبو عبيد، وقال: يعني أنه كان يتشهد به في التفسير. ثم روى ما يشهد لذلك من أمثلة منها: أن ابن عباس قال في قوله تعالى: (والليل وما وسق): "ما جمع، وأنشد: قد اتسقن لو يجدن سائقاً"، وقال في قوله تعالى: (فإذا هم بالساهرة): الأرض، قال أمية بن أبي الصلت: عندهم لحم بحر ولحم ساهرة، وأنه قال: كنت لا أدري ما (فاطر السموات والأرض) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها.
المسألة الثالثة: الجواب على هذا القول:
- قال ابن جرير مجيباً على هذا القول: صح وثبت أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب البعض منها دون الجميع، إذ كان معلوماً أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبع بما يعجز عن إحصائه.
المسألة الرابعة: قول ثالث:
- المراد أن لغات القرآن السبع منحصرة في مضر خاصة على اختلاف قبائلها.
- قال عثمان رضي الله عنه: "إن القرآن نزل بلغة قريش"، وقريش هم بنو النضر بن الحارث على الصحيح من أقوال أهل النسب، وللحديث الوارد في سنن ابن ماجه.
المسألة الخامسة: قول رابع:
- المراد وجوه القراءات؛ فهي ترجع إلى سبعة أشياء.
- وجوه القراءات السبعة:
منها ما تتغير حركته ولا تتغير صورته ولا معناه، مثل: (ويضيقُ صدري) "ويضيقَ".
ومنها ما لا تتغير صورته ويختلف معناه، مثل: (فقالوا ربنا باعِد بين أسفارنا) و "باعَد بين أسفارنا".
ومنها ما يكون الاختلاف في الصورة والمعنى بالحرف مثل: (ننشزها)، و(ننشرها).
أو بالكلمة مع بقاء المعنى مثل (كالعهن المنفوش) أو "كالصوف المنفوش".
أو باختلاف الكلمة واختلاف المعنى مثل: (وطلح منضود) "وطلع منضود".
أو بالتقدم والتأخر، مثل: (وجاءت سكرة الموت بالحق)، "وجاءت سكرة الحق بالموت".
أو بالزيادة مثل: "تسع وتسعون نعجة أنثى"، "وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين"، "فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم".
المسألة السادسة: الجواب على هذا القول:
- قال ابن جرير: أما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف ونصبه وجره وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة فمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقرأ على سبعة أحرف بمعزل)، لأن المراء في مثل هذا ليس بكفر في قول أحد من علماء الأمة، وقد أوجب صلى الله عليه وسلم بالمراء في الأحرف السبعة الكفر.
المسألة السابعة: قول خامس:
- المراد بالأحرف السبعة معاني القرآن، وهي: أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة، وأمثال.
المسألة الثامنة: الجواب على هذا القول:
- قال ابن عطية: "وهذا ضعيف؛ لأن هذه لا تسمى حروفاً.
- الإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حرام ولا تغيير شيء من المعاني.
- قال الباقلاني: وليست هذه التي أجاز لهم القراءة بها.
المسألة التاسعة: بيان رجحان القول الأول، وتوجيه دلائل الأقوال الأخرى:
- ذكر ابن جرير رجحان ما اختاره على الأقوال الأخرى، معللاً ذلك بأن ما ورد من أقوال السلف في المراد بالأحرف السبعة - مما يخالف اختياره- لم يكن إيرادهم إياها في معرض تأويل الأحاديث الواردة في الأحرف السبعة، إنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف، يعنون بذلك أنه نزل على سبعة أوجه.
- وقال ابن جرير: "الأبواب السبعة من الجنة التي نزل منها القرآن هي المعاني التي فيها من الأمر والنهي والترغيب والترهيب، والقصص والمثل، التي إذا عمل بها العامل وانتهى إلى حدودها التهي استوجب الجنة"، وليست تفسيراً للأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن.
المقصد الفرعي الثاني: بيان كون الأحرف السبعة رخصة:
- ذكر ابن جرير: أن الشارع رخص للأمة التلاوة على سبعة أحرف.
- قال أبو عمر ابن عبد البر: "كان ذلك رخصة في أول الأمر".
مسألة: الحكمة في رخصة الأحرف السبعة:
- رُخص في الأحرف السبعة تخفيفاً على الأمة؛ لأن فيهم الشيخ العاتي والعجوز الكبيرة والغلام.
- قال الطحاوي: "إنما كان ذلك رخصة أن يقرأ الناس القرآن على سبع لغات، وذلك لما كان يتعسر على كثير من الناس التلاوة على لغة قريش".
المقصد الفرعي الثالث: بيان رفع رخصة الأحرف السبعة:
- جمع عثمان بن عفان - رضي الله عنه – الناس على قراءة واحدة، على حرف واحد.
- رتب لهم المصاحف الأئمة على العرضة الأخيرة التي عارض بها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان من عمره – عليه الصلاة والسلام -.
- عزم عثمان بن عفان على الناس ألا يقرؤوا بغير المصاحف الأئمة، وألا يتعاطوا الرخصة التي كانت لهم فيها سعة.
- فدرست تلك الأحرف الستة التي عزم عثمان على الناس في تركها، وتعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها؛ لدثورها وعفو آثارها.
المسألة الأولى: الحكمة في رفع رخصة الأحرف السبعة:
- جمع عثمان الناس على مصحف إمام بحرف واحد، ورفع رخصة الأحرف السبعة لِما رأى من اختلافهم في القراءة المفضية إلى تفرق الأمة وتكفير بعضهم بعضاً.
- استوثقت الأمة لعثمان بالطاعة، ورأت أن فيما فعله من ذلك الرشد والهداية وتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها طاعة منها له، ونظراً منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها.
المسألة الثانية: الجواب عن شبهة حول شرعية رفع الأحرف السبعة:
- إن قيل: كيف جاز للناس ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها؟
- فالجواب: أن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة.
- القراءة بهذه الأحرف لو كانت فرضاً عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة عند من يقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قراءة الأمة، وفي تركهم نقل ذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيّرين.
- إنما كان الذي جمعهم على حرف واحد أمير المؤمنين عثمان بن عفان أحد الخلفاء الراشدين المهديين المأمور باتباعهم.
- أن فعل عثمان هو العزم عليهم ألا يتعاطوا الرخصة التي كانت لهم فيها سعة، ولكنها أدت إلى الفرقة والاختلاف، وهذا من جنس إلزام عمر بن خطاب الناس بالطلاق الثلاث وإمضاؤه عليهم لما تتابعوا فيه.
المقصد الفرعي الرابع: الفرق بين الأحرف السبعة والقراءات:
- قال القرطبي: قال كثير من علمائنا كالداودي وابن أبي صفرة: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان المصاحف. ذكره ابن النحاس وغيره.
- وقال القرطبي: وقد أجمع المسلمون في هذه الأمصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة فيما رووه ورأوه من القراءات، وكتبوا في ذلك مصنفات واستمر الاجتماع على الصواب، وحصل ما وعد الله به من حفظ الكتاب.