فإن خف الضبط فالحسن لذاته.
هذا بيان للحديث الحسن لذاته.
والحسن لذاته:
يعنون به الذي يحكم له بالحسن لا بغيره، فلا يحتاج إلى عاضد يعضده ليكون حسناً لذاته، وإنما هو بمفرده ويكون حسناً.
قال المؤلف: (فإن خف الضبط فالحسن لذاته) يعني: فإن خف ضبط الناقل مع استيفاء الشروط المتقدمة المذكورة في قول المؤلف: (وخبر الآحاد بنقل عدلٍ، تام الضبط، متصل الإسناد، غير شاذٍّ، ولا معللٍ، هو الصحيح لذاته) هذه الشروط يجب توافرها، إلا تمام الضبط.
فعلى هذا يقال: خبر الآحاد بنقل عدل خفيف الضبط متصل الإسناد، غير شاذ، ولا معلل هو الحسن لذاته، فاجتمعت فيه شروط خمسة:
- عدالة الراوي الثاني:خفة الضبط.
الثالث:اتصال السند.
الرابع:السلامة من الشذوذ.
الخامس:السلامة من العلة.
فمدار الاختلاف بين الحديث الصحيح والحسن، هو
ضبط الراوي.
الحديث الصحيح: يكون تام الضبط، قد تقدم بيان تمام الضبط.
وفي الحسن لذاته: يكون خفيف الضبط، ما هو خفيف الضبط؟
خفيف الضبط يعنى به:من ارتفعت حاله عمن يُضَعَّفُ حديثه، ونزلت عمن يصحح حديثه.
وهذا لا يعرف إلا إذا اطلع الإنسان على مراتب الرواة، وعرف أحوالهم.
ولهذا قال العلماء: إن الحديث الحسن من أصعب أنواع علوم الحديث؛ لأن الضابط في خفة الضبط ليس معلوماً على وجه يصح معه الاعتدال في الحكم دائماً، ولا القياس عليه.
ولهذا نرى في مثل هؤلاء الرجال الذين يحسن حديثهم، أن العالم الواحد يختلف قوله في الراوي، ثم يختلف قوله في الحكم على حديثه.ونرى أيضا أن النقاد من أئمة الجرح والتعديل يختلفون فيه؛ لأن حاله ليست بينةً؛ تارةً يقول العالم: هذا ارتفع عن حد الضعيف إذا قارنه بغيره من الضعفاء.
وتارة يقول:هذا ضعيف. إذا قارنه مع الثقات.
فلهذا مثل هذا النوع ترى في تراجمهم اختلافاً بين العلماء.
وفي بعضهم نرى أن العالم الواحد يكون له في الراوي قولان، وهذا يدل على أنه ليس هناك معيارٌ دقيقٌ لقياس مستوى حفظ هذا الراوي خفيف الضبط، إذا كان ليس هناك شيءٌ محددٌ لمعرفة ضبطه إلا الاطلاع الدائم على كتب الجرح والتعديل، والقراءة في أحوال الرواة؛ فإن الإنسان إذا قرأ مثل هذه المختصرات؛ فإنه يعتمد على كلام المتأخرين ممن لخصوا أقوال الأئمة، والمتأخرون المشهور منهم الذين اعتمد على قولهم الحافظ ابن حجر والذهبي- رحمهم الله-.
الذهبي وابن حجر استعملا ألفاظا تقرب للإنسان خفة الضبط.
فإذا وجدنا أن الذهبي يقول عن رجل: (حسن الحديث، أو جيد الحديث، أو صالح الحديث، أو صدوق)؛ فإن هذا نجعل حديثه حسناً، دلنا على ذلك مقارنة كلام الذهبي بعضه ببعض؛ تراه مثلاً في (الميزان) أحيانا يقول: (فلانٌ صدوقٌ حسن الحديث)، وأحياناً يقول في (الميزان): (صدوق) ثم يقول في كتابه من تكلم فيه وهو موثق يقول: (حسن الحديث).
فإذا قابلت ألفاظه بعضها ببعض وجدت أنه يقصد بها حسن الحديث.
- كذلك:ابن حجر رحمه الله إذا قال في راوٍ في (التقريب): (صدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس).
- وكذلك:الذهبي إذا قال: (لا بأس به، أو ليس به بأس)؛ فهذا يكون حديثه حسنا.
- أو قال ابن حجر: (حسن الحديث) خاصةً في غير (التقريب) ، فهذا يكون حديثه حسناً.
أو وجدنا أحدا من العلماء المتأخرين الذين فرقوا بين الصحيح والحسن، كالعراقي ونحوهم، إذا قالوا في الراوي: (حسن الحديث) إنما يعنون به: الحسن الاصطلاحي، ويكون في الراوي خفةً في ضبطه، إذا وجدنا مثل: هذه الألفاظ، هذه تدلنا على أن رواية هذا الراوي للحديث تجعله حديثا حسناً.
رواة الحديث الحسن لا مطعن في عدالتهم،إنما الكلام في حفظهم؛ لأن الراوي الذي يطعن في عدالته دائر بين أمرين:
- إما التوثيق.
-وإما التضعيف.
ليس هناك شيء وسط، فمن عدله في دينه، وعدل حفظه، أو حكم له بالضبط، فهذا يجعله ثقةً، ومن طعن في عدالته؛ فهذا يكون ضعيفاً عندهم؛ فإذا طعن في العدالة وعدل فيها فليس هناك مرتبةٌ متوسطةٌ، ليس هناك إلا
الضعف، أو الثقة، والعدالة.
أما إذا طعن في ضبطه، فهو يتأرجح بين ثلاثة أحوال:
-إما أن يكون ثقةً، والكلام فيه لا يضر.
- وإما أن يكون الكلام جاء من طرفين وناقدين كبيرين، ولم يكن هناك مرجح ظاهر، فيكون حديثه حسناً.
- أو أنه يترجح جانب الضعف وتدل المرجحات على ضعفه، فعندئذ يحكم على حديثه بأنه ضعيف.
لكن إذا طعن في عدالة الرجل لا يكون حديثه حسناً.
إما أن يكون الطعن هذا غير ثابت، والرجل ضابط، حافظ؛ فيبقى حديثه صحيحاً، وإما أن يطعن في عدالته مع حفظه، فيكون حديثه ضعيفاً.
أمثلة رواة الحديث الحسن:
- محمد بن عجلان، هذا ممن نص الذهبي على أن حديثه حسن، ولهذا طعن في حفظه.
- محمد بن إسحاق، صاحب (السيرة)، اعتمد المتأخرون تحسين حديثه، وإن كان قد تكلم بعض العلماء في عدالته، لكن الكلام هذا ضعيف في عدالته، إنما كلام الأئمة المعتبرين في توثيقه.
- عاصم بن أبي النجود، (عاصم ابن بهدلة)، هذا أيضا ممن اختلف فيه، واعتمد أن حديثه حسن، فإذا جاءنا حديث فيه عاصم بن أبي النجود مثل: حديث عاصم، عن زر، عن صفوان، قال: ((كنا سفراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن..)) إلى آخر الحديث. هذا الحديث فيه: عاصم، زر ثقة، وابن مسعود صحابي، إذا وجدنا فيه عاصماً هذا فنقول: هذا حديث حسن؛ لأن فيه عاصماً،وعاصمٌ خفيف الضبط، عرفنا خفة الضبط من كلام العلماء فيه، فمثل هذا يقال: هذا حديث حسن لذاته.
إذا جاء لهذا الحديث طريق آخر يُرَقِّيه إلى الصحيح لغيره، فعندنا في هذا الحديث جاء من حديث: أبي الغريف، عن صفوان، وأبو الغريف هذا قال العلماء: صدوقٌ حسن الحديث.
فاجتمع عندنا: راوٍ صدوق (حسن الحديث)، وراوٍ صدوق (حسن الحديث) فهذه الطريق تقوي هذه الطريق، فيصير الحديث صحيحاً لغيره، بمجموع الطريقين يكون صحيحاً لغيره.
إذا عرفنا أن الحديث الحسن يرتقي إلى الصحيح لغيره؛
فيبقى تعريف الصحيح لغيره:
هو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه؛ بأن يوجد طريق مثل هذا الحديث الحسن لذاته أو أرفع منه؛ فإذا وجدنا حديثاً صحيحا يقوي الحسن لذاته حكمنا على الحسن لذاته بأنه صحيح لغيره، يعني: ليس بمفرده، وإنما صححناه من أجل غيره، إذا وجدنا مماثلا له يعني حسن لذاته وحسن لذاته نرقيه إلى الصحيح لغيره.
أما لو جاءنا دون الحسن لذاته؛ وجدنا ضعيفاً، فإنه لا يقوي الحسن لذاته؛ لأنه يشترط في المقوِّي أن يكون مماثلاً للمقوَّى، أو أقوى منه، فإن كان مثله رقاه، وإن كان دونه لم يرقه، وإن كان أرفع منه رقاه.
وعلى هذا يقال: الحديث الصحيح لغيره:هو الحسن لذاته إذا اعتضد بمثله أو فوقه. فإذا كان الشاهد أو المتابع دونه فهذا لا يرتقي بالحديث إلى الصحيح لغيره.
فعلى هذا ظهر عندنا أن الحديث الذي تكلم عنه المؤلف، الصحيح لذاته.
ثم تكلم عن الحديث الحسن، وهو الذي استجمع شروطاً خمسة:
(عدالة الراوي، خفة الضبط، واتصال السند، والسلامة من الشذوذ والعلة)
فإذا فقد شرطا من هذه الشروط كان ضعيفاً، إذا كان راويه لم يكن خفيف الضبط، بل دون ذلك، وإذا فقد شرطاً من الشروط الباقية أيضاً فيكون ضعيفاً.
ثم بعد ذلك: إذا عرفنا الحديث الحسن لذاته، يتخرج عليه - الصحيح لغيره، فيكون الصحيح لغيره: هو الحديث الحسن لذاته، إذا اعتضد بمثله أو بما هو فوقه؛ لأن الحديث الصحيح لغيره قال العلماء: لا يعرف إلا بعد أن يعرف الحسن لذاته؛ فصار هذا هو الحديث الحسن.
القارئ:
(فإن خف الضبط فالحسن لذاته، وبكثرة طرقه يصحح).
الشيخ:
(وبكثرة طرقه يصحح)
هذا هو الصحيح لغيره، لكن كثرة الطرق لا يعنى بها أي: كثرة، بل لا بد أن يكون الطريق مماثلاً أو أقوى، إلا في حالةٍ واحدةٍ استثناها بعض العلماء: أن يكون عندنا حديثٌ حسنٌ، ثم تأتي طرقٌ أخرى ضعيفةٌ، لكن ليس الضعف شديداً، بحيث إن كثرة هذه الطرق الضعيفة مع هذه الطريقة الحسنة لذاتها تغلب جانب حفظ الراوي، فيرتقي الحديث للصحيح لغيره.
أما لو جاء طريق واحدة دونه وهي ضعيفة لا ترقيه، لكن لو كثرت هذه الطرق الضعيفة كثرةً، ولم يكن هذا الضعف شديداً، واجتمع مع حديث حسن لذاته، فإنه يمكن أن نقول: إن هذه الطرق بمجموعها ترقي هذه الطريقة الحسنة لذاتها إلى درجة الصحيح لغيره.
القارئ:
(فإن جمعا فللتردد في الناقل حيث التفرد، وإلا فباعتبار إسناديه).
الشيخ:
(فإن جمعا)
يعني: إن جمعا بين الحسن والصحيح، بأن قيل: (حديث حسن صحيح).
كما يصنع الترمذي وغيره، وصنعه الدارقطني، وصنعه البغوي في شرح (السنة).
المؤلف يقول: إذا وجدنا حديثا قيل عنه إنه: (حسن صحيح) معلوم أن الحسن يفرق عن الصحيح، فإن قلنا: إنه يريد حسناً خالفنا كلمة الصحيح، وإن قلنا: إنه يريد صحيحا خالفنا كلمة الحسن.
قال المؤلف: هذا ننظر في الحديث الذي يأتينا هل له طريق أو طريقان؟
إن كان له طريقٌ واحدٌ قال: هذا يحمل على أن هذا الذي حكم على الحديث بأنه تردد في الحكم على الحديث، يعني كأنه يقول: (حسن صحيح) يعني: كأنه مرتبة ليس جازماً بأنه صحيح فيرقيه، وليس جازماً بأنه حسن فيبقيه على الحسن، فهو مترددٌ في الحكم؛ فلتردده قال: (حسنٌ صحيحٌ) ، هذا إذا كان له طريق واحدة.
- أما إذا كان له طريقان، فيقول المؤلف: يكون المراد أن هذا الحديث حسن بطريق وصحيح بطريق أخرى، كأن الذي حكم على الحديث نظر إلى الإسنادين، فقال: (حسنٌ) يعني: من هذه الطريق، و(صحيحٌ) من الطريق الأخرى، لكنه لم يفصح بذلك، والجمع بينهما: (حسن صحيح): هذا من المعضلات التي لم يوجد لها حل، وقد ذكر فيها توجيهات كثيرةٌ، لكن ليس عليها معول.
ومنها:كلام المؤلف؛ لأنه وجد أن الترمذي يقول: (حديث حسن صحيح) وليس له إلا إسنادٌ واحدٌ، ورواته من الأئمة المشهورين الذين لا يتردد في ثقتهم، أطلق هذا على أصح الأسانيد، بل على الأحاديث المخرجة في الصحيحين بأصح الأسانيد، وليس له إلا طريقٌ واحدٌ، فهذا يبعد أن يكون الترمذي تردد في هؤلاء الثقات الأئمة الحفاظ.
كذلك: (باعتبار طريقين) هذا أيضا فيه ضعفٌ؛ لأن هذا مبنيٌّ على فيما يظهر تصور نظري، لا عملي؛ لأنه توجد أحاديث خرجت بأسانيد صحيحة وقيل عنها: حسن صحيح. فليس أحد الإسنادين حسناً والآخر صحيحاً، بل كلاهما صحيح، ومع ذلك قيل عنه أنه (حسن صحيح).
والذي يظهر أن العلماء لهم اصطلاح، لكنه ما توصل إليه يعني: ما ظهر هذا الاصطلاح للناس؛ فيحتمل لأن كونه يقوله الترمذي، ويقوله الدارقطني ويقوله من بعدهما، هذا يدل على أنه اصطلاح مفهوم، لكن من كتب في الاصطلاح لم يتوصل إلى نتيجة، أو لا يتوصل إلى هذا الاصطلاح. فالله أعلم به.
ولهذا كل قول قيل في هذه المسألة فهو منتقدٌ، وخاصةً ما يأتي على كلام الترمذي -رحمه الله-؛ لأن أكثر الكلام في الحسن الصحيح عند الترمذي، وهو الذي أكثر العلماء من توجيه قوله، ووصلت الأقوال في توجيه قوله إلى ثمانية أقوال أو أكثر وكلها أقوالٌ منتقدةٌ.