103 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعَرِ، ثُمَّ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ حَفَنَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى فَرْجِهِ وَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِهَا الأَرْضَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَسَحَهُمَا بِالتُّرَابِ. وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ فَرَدَّهُ. وَفِيهِ: وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ.
مفرداتُ الحديثِ:
- اغْتَسَلَ: شَرَعَ في الاغْتِسَالِ، وهو مِن التعبيرِ بالفعلِ عن إرادتِه، مِن بابِ المجازِ المرسَلِ؛ لأنه تعبيرٌ بالمسبَّبِ عن السَّبَبِ؛ فإنَّ الفعلَ مُسَبَّبٌ عن الإرادةِ، فأُقِيمَ مُقامَها للملابسةِ بينَهما.
- مِنَ الْجَنَابَةِ: مِن للسبَبِيَّةِ؛ أي: بسببِ الجنابةِ.
- الجَنَابَةِ: ما أَوْجَبَ غُسْلاً لإنزالٍ أو جماعٍ، سُمِّيَ بذلك إما لأنَّ الماءَ باعَدَ مَحَلَّه وجانَبَه؛ أو لأنَّ الجُنُبَ يَجْتَنِبُ ما لا يَجْتَنِبُه الطاهِرُ.
- أُصُولِ الشَّعَرِ: أصلُ الشيءِ: أساسُه الذي يَقُومُ عليه، والمرادُ هنا: أسافِلُه التي تَلِي البَشَرَةَ.
- فَرْجَهُ: الفَرْجُ لُغَةً: الفتحةُ والشَّقُّ والصَّدْعُ بينَ الشيئيْنِ.
قالَ في المِصباحِ: وكلُّ مُنْفَرَجٍ بينَ الشيئيْن فهو فُرْجَةٌ، والفرجُ مِن الإنسانِ: يُطْلَقُ على القُبُلِ والدُّبُرِ ؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما مُنْفَرِجٌ، وكَثُرَ استعمالُه في العُرْفِ في القُبُلِ.
وقالَ في النهايةِ: الفَرْجُ: ما بينَ الرجليْن، وبه سُمِّيَ فَرْجُ المرأةِ والرجلِ؛ لأنهما بينَ الرجليْنِ.
- حَفَنَ: فعلٌ ماضٍ، والحَفْنَةُ: مِلْءُ الكفِّ من شيءٍ، جَمْعُه حَفَنَاتٌ وحُفَنٌ.
- أَفَاضَ: يُفِيضُ إفاضةً، أي: أَسَالَ الماءَ على بقيَّةِ جَسَدِه وأَجْرَاهُ عليه.
- سَائِرِ جَسَدِهِ: أي: بَقِيَّةِ جَسَدِهِ، قالَ الأزهريُّ: اتَّفَقَ أهلُ اللغةِ على أنَّ سائِرَ الشيءِ: باقِيه, قليلاً كانَ أو كثيراً.
قالَ الصَّغَانِيُّ: سائِرُ الناسِ: باقِيهم، وليسَ معناه جَمِيعَهم كما زَعَمَ مَن قَصَّرَ في اللغةِ وجَعَلَه بمعنى الجميعِ مِن نحوِ العَوَامِّ، ولا يَجُوزُ أنْ يُشْتَقَّ مِن سُورِ البلدِ؛ لاختلافِ المادتَيْنِ.
- أَفْرَغَ: يُقالُ: أَفْرَغَ الإناءَ إفراغاً وفَرَّغَه تفريغاً: إذا قَلَبَ ما فيه وأَخْلاَهُ ممَّا فيه، والمرادُ هنا: صَبَّ على يَدَيْهِ مِن الإناءِ.
- ضَرَبَ بِهَا الأَرْضَ: مَسَحَ بيدِه الأرضَ لِيُزِيلَ ما عليها مِن لُزُوجَةِ النجاسةِ أو المَنِيِّ.
- الْمِنْدِيلُ: نَسِيجٌ مِن قُطْنٍ أو حَريرٍ أو نَحْوِهما، مُرَبَّعُ الشَّكْلِ، يُمْسَحُ به رَذَاذُ الماءِ ونحوُه، جَمْعُه منادِيلُ.
- فَرَدَّهُ: هذه الروايةُ تُؤَيِّدُ أنَّ ما جاءَ في بعضِ رواياتِ البُخَارِيِّ (266) من قولِهِ: فَنَاوَلْتُه خِرْقَةً فلم يَرُدَّها. أنها مُخَفَّفَةٌ؛ فإنَّ بعضَ المُحَدِّثِينَ قالَ بالتشديدِ، والتخفيفُ أصحُّ، ولذا فإنَّ ابنَ السَّكَنِ عَدَّ رِوَايَةَ التشديدِ مِن الوَهْمِ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- في هذا الحديثِ صِفَةُ غُسْلِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجنابَةِ، تَرْوِيها عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
2- استحبابُ البَداءةِ بغَسْلِ يَدَيْهِ؛ لأنَّ اليديْن هما أداةُ غَرْفِ الماءِ وأداةُ دَلْكِ الجَسَدِ، فيَنْبَغِي طَهَارَتُهما قبلَ كلِّ شيءٍ، والمرادُ باليديْن عندَ الإطلاقِ هما الكفَّانِ.
3- إفراغُ الماءِ من اليدِ اليُمنَى على اليدِ اليُسرَى التي سَتُبَاشِرُ غَسْلَ الفَرْجِ الذي عليه آثارُ الجِماعِ، فاليُمْنَى لِتَنَاوُلِ الماءِ، واليسرى لإزالةِ الأذى.
4- البَداءةُ بغَسْلِ الفَرْجِ قَبْلَ بَقِيَّةِ البَدَنِ لإزالةِ الأذى الذي عليه؛ لأنَّ غَسْلَه: إما لإزالةِ نجاسةٍ تَجِبُ إزالتُها، أو لإزالةِ وساخةٍ يَنْبَغِي إزالتُها أيضاً، وتكونُ إزالةُ النجاساتِ والأوساخِ قبلَ رَفْعِ الحَدَثِ.
5- بعدَ غَسْلِهِ فَرْجَه بشِمالِه يَمْسَحُ يَدَهُ بالتُّرابِ؛ وذلكَ لإزالةِ اللُّزُوجَةِ العالقةِ بها مِن غَسْلِ الفَرْجِ المُتَلَوِّثِ بالنجاسةِ أو المنيِّ؛ وليكونَ ذلك عندَ إزالةِ الأذَى.
6- ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بغَسْلِ ما يُغْسَلُ من أعضاءِ الوضوءِ، ومسحِ ما يُمْسَحُ مِنها، فرَفْعُ الحَدَثِ الأصغرِ يكونُ قبلَ رفعِ الأكبرِ.
7- ثم يُرَوِّي بالماءِ أصولَ شَعَرِه؛ فإنه لو صَبَّ الماءَ على الشعَرِ الكثيفِ بدونِ تخليلِ وتَعَاهُدِأُصُولِه لم يَصِلِ الماءُ إلى أصولِه ولا إلى ما تَحْتَه مِن البَشَرَةِ.
8- ثُمَّ يَصُبُّ الماءَ على رأسِه بثلاثِ حَفَنَاتٍ؛ لِيَعُمَّ الماءُ ظاهرَ الشعَرِ وباطِنَه.
9- ثُمَّ يَغْسِلُ سائِرَ جَسَدِه ويُفِيضُ الماءَ عليه مَرَّةً واحدةً، وظاهِرُ النصِّ أنه دونَ أعضاءِ الوضوءِ التي سَبَقَ غَسْلُها، وهو الذي يَدُلُّ لفظُ (سائر)؛ فإنَّ السائِرَ هو الباقي.
10- المشهورُ من المَذْهَبِ: استحبابُ غَسْلِ البَدَنِ ثلاثَ مَرَّاتٍ، ولكنَّ الحديثَ يَدُلُّ على أنه لا يُشْرَعُ غَسْلُ البَدَنِ إلاَّ مَرَّةً واحدةً؛ فإنَّ التثليثَ لم يَرِدْ إلاَّ في غَسْلِ الرأسِ، وهذا هو الصحيحُ. واللَّهُ أَعْلَمُ.
11- ثُمَّ خَصَّ رِجْلَيْه بالغَسْلِ في آخِرِ الأمرِ؛ لأنَّ كلَّ ما تَحَدَّرَ به من جَسَدِه مِن أوساخٍ وفَضَلاَتٍ أصابَتْ رِجْلَيْه؛ فكانَ حَقُّهُما أنْ يُطَهَّرا بعدَ ذلكَ لإزالةِ ما عَلِقَ بهما وما نَزَلَ عليهما.
وفي بعضِ ألفاظِ حديثِ مَيْمُونَةَ: ثم تَنَحَّى عن مَقامِه ذلكَ فغَسَلَ رِجْلَيْه. وهذا أَبْلَغُ في تَنْظِيفِهما.
12- ذَكَرَ المؤلِّفُ في صِفَةِ غُسْلِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثيْن: حديثَ عائشةَ وحديثَ ميمونةَ:
فأمَّا حديثُ عائشةَ: فذَكَرَتِ الوضوءَ وقالَتْ في إحدَى رواياتِه: "ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ للصلاةِ". ثمَّ قالَتْ: "ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ". ممَّا يُفِيدُ أنه كَرَّرَ غَسْلَ الرجليْن في أوَّلِ الغُسْلِ وآخِرِهِ.
وأمَّا حديثُ ميمونةَ: فذَكَرَتِ الوضوءَ إلاَّ غَسْلَ الرجليْن ثمَّ قالَتْ: "ثُمَّ تَنَحَّى مِن مَقامِهِ فغَسَلَ يَدَيْهِ" ممَّا يُفِيدُ أنه لم يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ إلاَّ مَرَّةً واحدةً، بخلافِ ما جاءَ في حديثِ عائشةَ مِن أنه تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ للصلاةِ، ثمَّ قَالَتْ: "ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ". قالَ الحافِظُ: "ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْه" أي: أعادَ غَسْلَهُما لاستيعابِ الغَسْلِ بعدَ أنْ كانَ غَسَلَهُما في الوضوءِ، فيُحْمَلُ هذا على حالةٍ أُخرَى.
13- كَرَاهَةُ التنشيفِ بالمِنْدِيلِ ونحوِه بعدَ الغُسْلِ أو الوضوءِ؛ لأنَّ ما على البَدَنِ أو على أعضاءِ الوضوءِ هو من أثرِ العبادةِ، فيَنْبَغِي بَقاؤُها واسْتِصْحَابُها، ويُكْتَفَى بنَفْضِ زائدِ الماءِ باليَدِ دونَ إزالتِه.
14- هذه الصفةُ هي أفضلُ الصفاتِ للغُسْلِ من الجنابةِ؛ فقدْ جَمَعَتْ بينَ تنظيفِ أداةِ الغَسْلِ، وغَسْلِ الأذى، وتَرْوِيَةِ أُصُولِ الشَّعَرِ، وإسباغِ الوضوءِ، والغُسْلِ، ففيها النظافةُ والطهارةُ الكاملةُ.
15- الحكمةُ الشرعيَّةُ من تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنهنَّ نَقَلْنَ مِن الأحكامِ الشرعيَّةِ – ولا سِيَّما المَنْزِلِيَّةُ – العِلْمَ الكثيرَ الذي نَفَعَ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ، وكلُّ واحدةٍ مِنْهُنَّ حَفِظَتْ ورَوَتْ غالباً ما لم تَحْفَظْ وتَرْوِهِ الأُخْرَى.
16- قالَ ابنُ المُلَقِّنِ: لتخليلِ الشعَرِ ثلاثُ فوائدَ:
(أ) تَسْهِيلُ إيصالِ الماءِ إلى الشَّعَرِ والبَشَرَةِ.
(ب) مباشرةُ الشعَرِ باليَدِ؛ لِيَحْصُلَ تَعْمِيمُه.
(ج) تبليلُ البَشَرَةِ؛ خَشْيَةَ أنْ يُصَابَ بصبِّ الماءِ دَفْعَةً واحدةً بوَجَعٍ فِي رَأْسِهِ.