القارئ:
وعن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ)) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
الشيخ:
هذا الحديث حديث عظيمٌ جداً، عظَّمهُ العلماء، وقالوا إنَّه أصل في رَدِّ كل المحدثات والبدع والأوضاع المخالفة للشريعة، فهو أصلٌ في رَدِّ البدع في العبادات، وفي رد العقود المحرمة، وفي رد الأوضاع المحدثة على خلاف الشريعة في المعاملات وفي عقود النكاح وما أشبه ذلك، ولهذا جعل كثير من أهل العلم هذا الحديث مستمسكاً في ردِّ كل بدعة من البدع التي أحدثت في الدين، ولهذا ينبغي لطالب العلم أنْ يحرص على هذا الحديث حرصاً عظيماً وأن يحتج به في كلِّ موْرد يُحتاج إليه فيه، في ردِّ البدع والمحدثات في الأقوال والأعمال والاعتقادات فإنه أصلٌ في هذا كله.
قال رحمه الله تعالى: (عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). وفي رواية لمسلم -وقد علقها البخاري في (الصحيح) أيضاً- : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ).
قال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))
قال: (من أحدث) ولفظ (من) هذا للاشتراط وجوابه: (فهو رد) والحدث في قوله (أحدث) هو كل ما لم يكن على وفق الشريعة، على وفق ما جاء به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لهذا قال فيه: ((من أحدث في أمرنا)) والأمر هنا هو الدين كقوله -جل وعلا-: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم} فمن أحدث في الدين ما ليس منه فهو مردودٌ عليه، وقوله هنا: (ما ليس منه) لأنه قد يحدث شيئاً -باعتبار الناس- ولكنهُ سُنّة مهجورة هجرها الناس، فهو قد سنَّ سنَّةً من الدين وذكَّر بها الناس، كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال، ((ومن سنَّ في الإسلام سنةً حسنة فله أجرُها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة)).
فإذاً قوله -أولاً-: (من أحدث) هذا فيه المحدثات في الدين ودل عليها قوله (في أمرنا هذا) يعني في ديننا هذا وما عليه أمرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو شريعته.
قال (ما ليس منه) وهذه هي الرواية المشتهرة في (الصحيحين) وفي غيرهما ورُوي في بعض كتب الحديث (ما ليس فيه فهو رد) يعني ما ليس في أمرنا، وهذه الرواية تدل على اشتراط العمل بذلك الشيء ولا يُكتفى بالكليات في الدِّلالة، قال: (فهو رد) يعني فهو مردود عليه كما قال علماء اللغة، (رد) هنا بمعنى مردود كسد بمعنى مَسْدود، و(فَعْل) تأتي بمعنى (مفعول).
يعني من أتى بشيءٍ محدثٍ في الدين لم يكن عليه أمرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مردود عليه كائناً من كان، وهذا فسَّرته الرواية الأخرى: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) فأرجعه إلى الأعمال والعمل هنا المراد به الدين أيضاً يعني من عمل عملاً يتديَّنُ به من الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات ليس عليه أمرنا فهو رد يعني مردوداً عليه، وهذا فيه إبطال كل المحدثات وإبطال كل البدع وذم ذلك وأنها مردودة على أصحابها، وهذا الحديث -كما ذكرت.
والأعمال التي في الدين يعني: أمور الدين منقسمه:
- إلى عبادات.
- وإلى معاملات.
والمُحْدثات تكون في العبادات وتكون في المعاملات، فهذا الحديث دلّ على إبطال المحدثات وإبطال البدع؛ لأنّ كل محدثة في الدين بدعة والعلماء تكلموا كثيراً عن البدع والمحدثات وجعلوا هذا الحديث دليلاً على رد المحدثات والبدع، فالبدع مذمومة في الدين وهي شرٌّ من كبائر الذنوب العملية لأنَّ صاحبها يستحسنها ويستقيمُ عليها تقرباً إلى الله -جل وعلا-.
إذا تبَّين هذا الشرح العام للحديث فما المراد بالبدع، والمحدثات؟
هذه مما اختلف العلماء في تفسيرها.
والمحدثات والبدع منقسمة:
- إلى محدثاتٍ وبدعٍ لغوية.
- وإلى محدثاتٍ وبدعٍ في الشرع.
أما المُحدث في اللغة فهو: كلُّ ما كان أُحدث سواء أكان في الدين أو لم يكن في الدين، وإذا لم يكن في الدين فإن هذا معناهُ أنه لا يدخل في هذا الحديث، وكذلك البدع.
ولهذا قسَّم بعض أهل العلم المحدثات إلى قسمين:
- محدثات ليست في الدين، وهذه لا تذم.
- ومحدثات في الدين، وهذه تُذم.
مَثَل المحدثات التي ليست من الدين: مثل ما حصل من تغيرٍ في طرقات المدينة، وتوسعة عمر الطرقات أو تجصيص البيوت، أو استخدام أنواع من البُسُط فيها، واتخاذ القصور في المزارع، وما أشبه ذلك مما كان في زمن الصحابة وما بعده أو اتخاذ الدواوين أو ما أشبه ذلك، فهذه أُحْدِثت في حياة الناس، فهي مُحْدَثةٌ ولكنها ليست بمذمومة؛ لأنَّها لم تتعلق بالدين.
كذلك البدع منها بدع في اللغة يصحُّ أن تُسمَّى بدعةً باعتبار أنها ليس لها مثال سابقٌ عليها في حال مًنْ وصفها بالبدعة.
وبدع في الدين وهذه البدع التي في الدين كانت الحال على خلافها ثم أُحدثت،
مثاله: قول عمر-رضي الله عنه- لما جمع الناس على إمام واحد وكانوا يُصلون أشتاتاً في رمضان، في التراويح على إمام واحدٍ قال: (نعمت البدعةُ هذه) فسماها: (بدعة) باعتبار اللغة لأنها في عهده بدعة يعني لم يكن لها مثالٌ سابق في عهد عمر، فَتعلقت باللغة أولاً ثم بالمتكلم ثانياً.
إذا تبينَّ هذا فالمقصود بهذا الحديث المحدثات والبدع في الدين، والبدعة في الدين دلّ الحديث على ردها، ودلّ على ذلك آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، كما قال -جل وعلا-: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} فسمّاهم شركاء لأنهم شرعوا من الدين شيئاً لم يأت به محمد عليه الصلاة والسلام، لم يأذن به الله شرعاً، قد قال -جل وعلا-: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.
وقال -جل وعلا-: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} والآيات في هذا المعنى كثيرة، ويصلح أن يكون منها قوله -جل وعلا-: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
- وقد جاء أيضاً في الأحاديث ذم البدع والمحدثات كما كان عليه الصلاة والسلام يقول في الجمعة وفي غيرها: ((ألا وإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)).
-وقد جاء أيضاً في السنن من حديث العرباض ابن سارية -رضي الله عنه- أنه قال: (وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يومٍ موعظةً بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول كأنها موعظة مودع…) الحديث، وفيه قال عليه الصلاة والسلام: ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ فإن كل محدثة بدعة)).
وعلماء السلف أجمعوا على إبطال البدع، فكل بدعة في الدين أُجمع على إبطالها؛ دخل العلماء في تعريف البدعة التي يحكم عليها بأنها (رَدٌّ) لأن هذا الحديث دل على أن كل محدثة رَدٌّ: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
فالبدعة في الدين عُرفت بعدّة تعريفات، يهمنا منها تعريفان -لضيق المقام-
أولها:التعريف المشهورالذي ذكره الشاطبي في الاعتصام وحاصله: (أنّ البدعة طريقة في الدين مخترعة يُراد بالسلوك عليها مضاهاة الطريقة الشرعية).
وهذا التعريف جيِّد لأنه جعل البدعة طريقة ملتزمة، وأنَّ المقصود من السلوك عليها مضاهاة الطريقة الشرعية، وشرح التعريف والكلام عليه يطول فتراجعونه في مكانه، لكن يهمُّنا من هذا التعريف ثلاثة أشياء:
الأول: أنّ البدعة ملتزمٌ بها؛ لأنه قال طريقة في الدين والطريقة هي الملتزم بها، يعني أصبحت طريقة يطرقها الأول والثاني والثالث أو تتكرر، فهذه الطريقة يعني ما التزم به من هذا الأمر.
والثاني: أنها مخترعة يعني أنها لم تكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والثالث:أنّ هذه الطريقة تضاهى بها الطريقة الشرعية من حيث إنّ الطريقة الشرعية لها وصف ولها أثر.
- أما الوصف: فمن جهة الزمان والمكان والعدد.
- وأما الأثر: فهو طلب الأجر من الله -جل وعلا-.
فتحصلّ لنا أن خلاصة ما يتصل بتعريف الشاطبي للبدعة يتعلق بثلاثة أشياء:
1-أنّ البدعة يُلتزم بها.
2-أنها مخترعة لم يكن عليها عمل سابق وهذه توافق الرواية الثانية ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
3- أنَّه تضاهى بها الطريقة الشرعية من حيث الزمان والمكان والوصف والأثر يعني العدد الذي هو الوصف مع الزمان والمكان والأثر وهو طلب الأجر من الله -جل وعلا- بذلك العمل.
وعرّفها غيره بتعريف أوضح وهو تعريف الشُمُنِّي حيث قال: (إنَّ البدعة ما أُحدث على خلاف الحق المتلقى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ أو عملٍ أو اعتقاد، وجُعل ذلك ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً) وهذا التعريف أيضاً صحيح، ويتضح لنا منه أنّ البدعة أُحدثت على خلاف الحق فهي باطل، وأنها تكون في الأقوال وفي الأعمال وفي الاعتقادات، وأنها ملتزمٌ بها؛ لأنه قال في آخره: (جُعل ذلك ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً).
إذا تقرَّر ذلك: فمن المهمات في معرفة البدعة أنّ البدعة تكون في:
- الأقوال.
- والأعمال.
- والاعتقادات.
إذا كان القول على غير وصف الشريعة يعني جُعل للقول طريقة من حيث الزمان والمكان أو من حيث العدد تُعبد بقولٍ ليس على وفق الشريعة، وجُعل له وصف من حيث المكان أو الزمان أو العدد، وطُلب به الأجر من الله -جل وعلا-.
أو الأعمال، يُحدثُ أعمالاً يتقرب بها إلى الله -جل وعلا-، ويجعل لها صفة تضاهى بها الصفة الشرعية، على نحو ما ذكرنا.
أو يعتقد اعتقادات على خلاف الحق المتلقى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهذه كُلها من أحدثها بمعنى: من أنشأها فهي مردودة عليه، ومن تبعه على ذلك فهو أيضاً عمله مردودٌ عليه، ولو كان تابعاً؛ لأنَّ التابع أيضاً مُحدث بالنسبة لأهل زمانه، وذاك مُحدث بالنسبة لأهل زمانه فكلُّ من عمل ببدعة فهو محدثٌ لها.
لهذا يتقرر من هذا التأصيل: أنَّ البدع ملتزم بها في الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات، فلا يُقال إنَّه من أخطأ مرّةً في اعتقاد ولم يلتزم به أنّه مبتدع، ولا يدخل فيمن فعل فعلاً على خلاف السنة إنه مبتدع إذا فعله مرَّة أو مرَّتين أو نحو ذلك ولم يلتزمه. فوصف الالتزام ضابط مهم كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه في بعض كلامه (أنّ ضابط الالتزام مهم في الفرق بين البدعة ومخالفة السنة).
فنقول هذا خالف السنة في عمله ولا نقول إنه مبتدع إلا إذا التزم مخالفة السنة وجعل ذلك ديناً يلتزمه.
فإذاً من أخطأ في عمل من الأعمال في العبادات وخالف السنة فيه فإنه إن كان يتقرب به إلى الله فنقول له هذا الفعل منك مخالف للسنة فإن التزمه بعد البيان أو كان ملتزماً له، دائماً يفعل هذا الشيء فهذا يدخل في حيز البدع، وهذا ضابط مهم في الفرق ما بين البدعة ومخالفة السنة.
مما يتصل أيضاً بهذا الحديث -والكلام على البدع والمحدثات يطول، لكن ننبه على أصول الفرق بين مُحدثٍ ومُحدث- أنَّ هناك محدثات لم يجعلها الصحابة -رضوان الله عليهم- من البدع بل أقَرّوها وجعلوها سائغة وعمل بها، وهذه هي التي سمَّاها العلماء فيما بعد: (المصالح المرسلة).
و(المصالح المرسلة) للعلماء فيها وجهان من حيث التفسير.
ومعنى المصالح المرسلة: أنّ هذا العمل أرسل الشارع حُكْمه باعتبار المصلحة، فإذا رأى أهل العلم أن فيه مصلحةً فإن لهم أن يأذنوا به؛ لأجل أنّ الشارع ما علَّق به حكماً، وهذا يأتي بيان صفاته.
قال العلماء: (المصالح المرسلة) تكون في أمور الدنيا لا أمور العبادات، وفي أمور الدنيا في الوسائل منها التي يُحقَّقُ بها أحدُ الضروريات الخمس، يعني أن الشريعة قامت على حفظ الضروريات وهي: (الدين والنفس والمال والنسل والعقل) هذه الخمس وسائل حِفظها من المصالح المرسلة؛ وسائل حفظ الدين مصلحة مرسلة لك أن تحدث فيها ما يحفظ دين الناس مثل: تأليف الكتب؛ وتأليف الكتب لم يكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع الحديث ما كان موجوداً؛ نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُكتب حديثه، ونهى عمر أن يُكتب حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم كُتِب، هذه وسيلة لم يكن المقتضي لها في ذلك الوقت قائماً ثم قام المقتضي لها فصارت وسيلة لحفظ الدين، صارت مصلحة مرسلة وليست بدعة.
فإذاً من المهمات في هذا الباب أن تفرِّق بين البدعة وبين المصلحة المرسلة:
فالبدعة في الدين متجهة إلى الغاية وأمّا المصلحة المرسلة فهي متجهة إلى وسائل تحقيق الغايات هذا واحد.
الثاني: أنَّ البدعة قام المقتضي لفعلها في زمن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولم تُفعل، والمصلحة المرسلة لم يقم المقتضي لفعلها في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-. _ فإذاً: إذا نظرنا مثلاً إلى جمع القرآن: جمع القرآن، جُمِع بعد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفي عهده عليه الصلاة والسلام لم يجمع فهل نقول جمع القرآن بدعة ؟ العلماء أجمعوا من الصحابة فمن بعدهم أن جمع القرآن من الواجبات العظيمة التي يجب أن تقوم بها الأمة، هنا في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- ما قام المقتضي للفعل؛ لأنَّ الوحي يتنزل فلو نسخ القرآن كاملاً لكان هناك إدخال للآيات في الهوامش أو بين السطور، وهذا عُرضة لأشياء غير محمودة،
فكان من حكمة الله -جل وعلا- أنه ما أمر نبيه بجمع القرآن في كتابٍ واحد في حياته -عليه الصلاة والسلام- وإنما لمّا انتهى الوحي بوفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام جمعه أبو بكر ثم جُمع بعد ذلك، وفي أشياء شتى من إنشاء دواوين الجند ومن استخدام الآلات، ومن تأليف العلوم ومن الاهتمام بعلوم مختلفة، وأشباه ذلك من فتح الطرقات وتكوين البلديات والوزارات وأشباه هذا في عهد عمر -رضي الله عنه- وفي عهد أمراء المؤمنين فيما بعد ذلك.
إذاً فالحاصل من هذا أنَّ المصلحة المرسلة محدثة ولكن لا ينطبق عليها هذا الحديث ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) لأن هذه ليست في الأمر وإنما هي في وسيلة تحقيق الأمر فخرجت عن شمول هذا الحديث لها من هذه الجهة، ومن جهة ثانية أنها إحداث ليس في الدين وإنما هو في الدنيا لمصلحة شرعية تعلقت بهذا العمل، سمّاها العلماء مصالح مرسلة وجُعلت مطلوبة من باب تحقيق الوسائل؛ لأنَّ الوسائل لها أحكام الغايات، فهي واجبة ولا بد من عملها؛ لأنّ لها حكم الغاية.
العبادات قسم من الشريعة، والمعاملات قسم من الشريعة.
فالعبادات؛ إحداث أمر في عبادة على خلاف سنة المصطفى-صلى الله عليه وسلم- محدث وبدعة في الدين.
وكذلك في المعاملات؛ إحداث أوضاع في المعاملات على خلاف ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو أيضاً مردود، لأنه محدث في الدين.
مثاله: أن يحوَّل مثلاً عقد الربا من كونه عقداً محرّماً إلى عقد جائز فهذا تبديل للحكم أو إحداث لتحليل عقد حرَّمه الشارع، أو يُبطل شرطاً من الشروط الشرعية التي دلّ عليها الدليل.
فإبطاله لهذا الشرط محدثٌ أيضاً فيعود عليه بالرد، أو أن يحوّل مثلاً عقوبة الزنا من كونها رجماً للمحصن أو الجلد والتغريب لغير المحصن إلى عقوبة مالية، فهذا ردّ على صاحبه ولو كانت في المعاملات؛ لأنها إحداث في الدين ما ليس منه، وهذا يختلف عن القاعدة المعروفة (أنّ الأصل في العبادات التوقيف والأصل في المعاملات الإباحة وعدم التوقيف)، هذا يعني فيما يكون في معاملات الناس.
أمّا إذا كان هناك شرط شرعي واشترطه الشارع أو عقد أبطله الشارع فلا يدخل في جواز التغيير، وإنما جواز التغيير أو التجديد في المعاملات وأنها مبنية على الإباحة والسَّعة، هذا فيما لم يدلّ الدليل على شرطيته أو على عقده أو على إبطال ذلك العقد وما شابه ذلك.
وعلى هذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة المشهور: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط)) فهذا الحديث يأتي في جميع أبواب الدين، يأتي في الطهارة وفي الصلاة وفي الزكاة والصيام والحج وفي البيوع والشركات والقرض والصرف والإجارة والنكاح والطلاق وجميع أبواب الشريعة كما هو معروف في مواضعه من تفصيل الكلام عليه.