بدأ الشيخ – رحمه الله تعالى – رسالته هذه بما يبدأ به المصنفون من أئمة الإسلام – رحمهم الله تعالى – فقال : (( بسم الله الرحمن الرحيم )) .
والكلام على البسملة منتشر في كافة شروح الكتب في جميع الفنون ؛ في اللغة , وفي النحو , وفي كتب العقائد , وفي الفقه وغيرها , لا يكاد مَنْ شرح كتاباً من هذه الكتب إلا وتكلم عن البسملة ؛ معناها , وما دلت عليه من أسماء الله - سبحانه وتعالى - : الله , الرحمن , الرحيم , وكذلك الكلام حول قوله : (( بسم )) وبأي شيء يتعلق الجار والمجرور .
ونحن نشير إشارة مجملة فنقول : قال المؤلف رحمه الله تعالى : (( بسم الله الرحمن الرحيم )) بسم : المعنى أبتدئ كتابي مستعيناً بالله تبارك وتعالى , فبسم : جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره أبدأ , ذلك بالنسبة لمن يؤلف كتاباً كإمامنا هنا , وإذا كان القارئ يقرأ القرآن وقال بسم الله الرحمن الرحيم , تكون بسم جاراً ومجروراً متعلقاً بمحذوف تقديره أقرأ بسم , وإذا كان الإنسان مثلاً يدخل بيته أو يدخل مكاناً ويقول بسم الله , يكون معناها أدخل هذا المكان بسم الله الرحمن الرحيم , أي مستعيناً بالله تبارك وتعالى .
ولفظ الجلالة (( الله )) الصحيح فيه أنه مشتق وليس بجامد ؛ لأن العلماء وأهل اللغة اختلفوا في لفظ الجلالة (( الله )) فبعضهم قال : إنه علم جامد وغير مشتق , وبعضهم قال : إنه مشتق , ثم اختلفوا في الاشتقاق , هل هو من ألُه يَألَه فهو مألوه , أو من ألُهَ يَألَه فهو آلِه .
فذهب بعض المتكلمين إلى أنه من أله يأله فهو آلِه , أي إن الله يأله عباده فهو الذي خلقهم , وهو الذي يرزقهم إلى آخره .
وبناءً على هذا التفسير وقع خطأ كبير عند كثير من المتكلمين حين فسروا كلمة الشهادة : لا إله إلا الله , حيث فسروها بأن معناها : لا خالق إلا الله , بناءً على هذا الفهم في الاشتقاق , لكن القول الثاني هو الصحيح , أنها من ألُه يَأله فهو مألوه أي معبود , أي أن الله سبحانه وتعالى هو الله , أي هو المستحق للعبودية ومن ثم جاء تفسير كلمة الشهادة : لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى , وهذا هو توحيد العبادة وهو الصحيح أيضاً في اشتقاق كلمة (( الله )).
و (( الرحمن الرحيم )) اسمان من أسماء الله تبارك وتعالى .
(( الرحمن )) : صيغة مبالغة خاص بالله سبحانه وتعالى , لا يوصف به مخلوق . و (( الرحيم )) : أيضاً اسم من أسمائه تبارك وتعالى , لكن قد يوصف المخلوق بأنه رحيم , واسمه تبارك وتعالى الرحمن والرحيم دال على صفة الرحمة , وهو أي هذا الاسم وكذلك أيضاً اسم الله (( الرحمن )) نثبتهما لله تبارك وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته , من غير مشابهة للمخلوقين . ولابن القيم رحمه الله تعالى في أول كتاب ((مدارج السالكين )) كلام طيب جداً حول الفاتحة , وحول اسمه تعالى (( الرحمن الرحيم )) , فمن أراد الفائدة فليرجع إليه بتمامه فإن فيه فوائد جمة .
بعد هذا يقول الشيخ رحمه الله تعالى : (( الحمد لله المحمودِ بكل لسان )) .
(( ال )) في (( الحمد )) للاستغراق . والمقصود بقول القائل (( الحمد لله )) ذكر أوصاف المحمود , والاعتراف بها , والثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى هنا : (( بكلِّ لسانٍ )) يدل على أمر مهم , وهو أن الله سبحانه وتعالى فطر جميع الخلق على حمده سبحانه وتعالى , والاعتراف له بالربوبية , ومن ثم فقوله (( المحمود بكل لسان )) يشمل لسان الحال , ويشمل أيضاً لسان المقال الذي يعم جميع المخلوقات كما قال تعالى :
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم} [الإسراء: من الآية44] .
لسان الحال : فإن الله سبحانه وتعالى يحمده جميع المخلوقات .
ولسان المقال : فإنه سبحانه وتعالى المحمود على جميع الألسنة , فمهما اختلفت اللغات , فإن الله سبحانه وتعالى يحمده أهل تلك اللغة بما علموا من أوصافه سبحانه وتعالى وبما هو أهل ه , وهذا من خصائص الألوهية والربوبية التي لاتكون لأحد إلا الله سبحانه وتعالى .
يقول رحمه الله تعالى (( المعبود في كل زمان )) أي أنه سبحانه وتعالى له العبودية. والعبودية قسمان :
القسم الأول : عبودية عامة شاملة , لا يخرج عنها أحد , تشمل جميع الخلق كما قال سبحانه : )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً( [مريم: 93] , وهو سبحانه وتعالى معبود وتلك العبودية هي مقتضى الربوبية , فهو معبود عند جميع الخلق ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو خالقهم ورازقهم , وهو الذي أحياهم ثم يميتهم , وهو ربهم تبارك وتعالى الربوبية الكاملة , لهذا فإن هذه العبودية العامة الشاملة لا يخرج منها أحد , لا من إنس ولا من جن , ولا مؤمن ولا كافر , ولا من بشر ولا ملك , ولا من شمس ولا قمر , ولا من أرض ولا سماء , ولا من بحر ولا من هواء , فالكل عبيد لله سبحانه وتعالى , مسخرون له تبارك وتعالى , مطيعون له سبحانه شاؤوا أم أبوا .
وهذا مما دلت عليه النصوص الكثيرة , فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق , وهو الذي يأمرهم , وهو الذي يقدِّر لهم ما يشاء , وهم خاضعون لـه , حتى بني آدم , الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى عقولاً هم أيضاً في نشأتهم في هذه الأرض , وفي حياتهم فيها , بل وفي رزقهم , وأجلهم , وموتهم , وألوانهم ، وأطوالهم , وما يجري داخل أجسامهم من حركات القلب والدم والهضم إلى آخره , كل ذلك هم خاضعون فيه لله سبحانه وتعالى , فليس للإنسان إرادة في أن يختار كيفية معيشته , ولا كيفية نَفَسه , ولا كيفية ضخِّ الدم في عروقه , ولا كيفية قضاء حاجته , إلى غير ذلك , وإذا كان هذا في الإنسان العاقل المكلف , فكيف بغيره من المخلوقات ؟
هذه هي العبودية الشاملة التي لا يخرج عنها أحد .
القسم الثاني : العبودية الخاصة ؛ وهذه العبودية هي التي يتميز بها المؤمنون عن الكفار , فالمؤمنون هم الذين يعبدون الله تبارك وتعالى مخلصين لـه على وفق شريعته التي أمر بها على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .
فقول المؤلف رحمه الله تعالى : (( المعبود في كل زمان )) قد يدخل فيه العبودية العامة , وقد يدخل فيه العبودية الخاصة بالمؤمنين .
وقوله : (( في كلِّ زمانٍ )) يشمل أيضاً كلِّ مكان , والمعنى أنه لا يخلو زمان أو مكان من وجود من يعبد الله سبحانه وتعالى , وهذا الذي علمناه من أخبار رسل الله الكرام ومما أخبرنا به رسول الله r في قوله : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق , لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم , حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى )) (1) , وما قبل ذلك فإن الملائكة عباد لله , وآدم أهبط إلى الأرض وهو على التوحيد .
ثم يقول الشيخ رحمه الله تعالى : (( الذي لا يخلو من علمه مكان )) في هذا إثبات شمول علم الله سبحانه وتعالى , فلا يخلو من علمه أي مكان , سواء كان هذا المكان ظاهراً أو باطناً , في جوف البحار , أوفي جوف الأرض , أو تحت صخور الجبال , أو فيما هو ظاهر , فعلم الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل مكان , قال تعالى : {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59] .
وعلمه سبحانه وتعالى أحاط بكل شئ : )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ( [غافر:19] .
قال : (( ولا يشغله شأن عن شأن )) وذلك لكمال صفاته جل وعلا , فالمخلوق لضعفه وقصور صفاته – فيما قد يكون عنده من بعض الصفات – لا يستطيع أن يشتغل بأكثر من عمل في وقت واحد , ويندر أن يجمع إنسان قواه
العقلية لتكون في عملين متكافئين في وقت واحد , وإنما غاية ما يحصل عن الإنسان أن يشتغل بعمل يُعمِل فيه ذهنه , ثم يشتغل بيده أو برجله بعمل آخر لا يحتاج إلى إعمال فكرٍ . أما ما عدا ذلك فلا يستطيع .
أما الله سبحانه وتعالى فقد وسع سمعه السموات والأرض , فيسمع في وقت واحد دعاء الداعين وأقوالهم , على اختلاف الزمان والمكان ومهما بلغت كثرة الداعين والسائلين , وهو سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن , ولا يشغله شأن عن شأن , فيغفر لهذا ، و يتوب على هذا , ويستجيب لهذا , ويرزق هذا , ويحيي هذا , ويميت هذا , سبحانه وتعالى وتقدس ؛ لأنه كامل الصفات , فلا يقاس بغيره .
وهذا هو حقيقة فهم أئمة أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى لأسمائه وصفاته , كانوا يفهمونها كما يليق بجلاله وعظمته دون مشابهة المخلوقين , ومن ثم فلا يحتاجون إلى تأويل .
أما أهل الكلام الباطل فهم أولاً يقعون في التشبيه , فإذا سمعوا صفةً من صفات الله تبارك وتعالى ظنوا أنها كصفة فلان أو فلان من البشر , ثم يضطرون إلى التأويل للهروب من هذا التشبيه الذي توهموه , فيقعون في الجحود والتعطيل . أما أهل السنة والجماعة فيثبتون لله الصفات كما يليق بجلاله وعظمته , ولا يحتاجون إلى تأويل , ولا إلى تحريف , ولا إلى تعطيل .
قال رحمه الله تعالى :(( جلَّ )) أي تقدس وتنزه (( عن الأشباه والأنداد )) الأشباه والشبيه هو المُشَابِه من بعض الوجوه دون بعض , وهو سبحانه وتعالى جل عن أن يشبه شيئاً من خلقه , لا في ذاته , ولا في أي صفة من صفاته تبارك وتعالى .
كما أنه أيضاً جل وتقدس عن الند والمثيل , سواء في الربوبية , أو في الألوهية , أو في صفة من الصفات , أو غير ذلك ، فهو الرب المعبود وحده لا شريك له .
قال : (( وتنزه عن الصاحبة والأولاد )) وهذا دلت عليه النصوص من القرآن والسنة في سورة الإخلاص وغيرها , فهو سبحانه وتعالى لم يتخذ صاحبة ولا ولداً , وفي ذلك نقض لما ادعاه المشركون حينما زعموا أن الملائكة إناث , وأنهم بنات الله , تعالى الله عن ذلك . أو النصارى حينما يقولون : إن المسيح ابن الله . أو اليهود حينما يقولون : إن العزيز ابن الله . والابن يحتاج إلى صاحبة , والله سبحانه وتعالى تنزه عن الصاحبة والولد , تعالى عما يقول هؤلاء جميعاً علواً كبيراً .
قال : (( ونفذ حكمه في جميع العباد )) الأصل في هذا الحكم النافذ في جميع العباد أنه حكمه القدري , فما شاء الله كان , وما لم يشأ لم يكن , وهذا الذي نفذ في الجميع المؤمن والكافر , فجميع العباد نفذ فيهم حكم الله سبحانه وتعالى , فهم جاءوا إلى هذه الدنيا بأمر الله , ويحيون بأمر الله , ويموتون بأمر الله , فحكمه فيهم نافذ وقد يدخل في عموم هذا الكلام : أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يحكم بين العباد في الدنيا بشرعه وأمره وفي الآخرة بجزائه وحسابه . كما قال تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
والخلق : هو (( التقدير )) , والأمر : هو نفاذ شرع الله سبحانه وتعالى , فهو سبحانه وتعالى الذي يحكم بين عباده , ويُشَرِّعُ لهم بما يشاء , فبما أنه سبحانه هو
القاهر فوق عباده , وبما أن حكمه القدري ُّهو النافذ , فهو أيضاً سبحانه وتعالى الذي له الشرع والحكم بين عباده . قال تعالى : )وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً( [الكهف: 26] , وقال تعالى :)وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ([الأحزاب: من الآية36] , وقول سبحانه وتعالى : )وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ( [القصص: 65،66] , إلى أن قال تعالى بعد ذلك : )وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ( [القصص: 68] , يخلق ويختار , كقوله : )أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ( [لأعراف: 54] , فهو الذي ينفذ حكمه في جميع العباد قدراً , وهو الذي يجب أن ينفذ حكمه في جميع العباد أمراً وشرعاً .
قال رحمه الله تعالى : (( لا تمثله العقول بالتفكير )) أي أنه سبحانه وتعالى في ذاته وصفاته , لا يمكن أن تمثله أو تشبهه العقول بالتفكير , أي مهما بلغ العقل في فهمه وسعة خياله أو نحو ذلك , فلا يستطيع أن يمثل أو يشبه ذات الله , أو صفة من صفات الله تبارك وتعالى .
وكيف يستطيع عقل الإنسان القاصر الصغير أن يمثل ذاتَ الله أو صفةً من صفاته ؟ والله سبحانه وتعالى يقول عن نفسه في آية – هي مما يجب أن يقف عندها الإنسان دائماً وهو يتكلم عن صفات الله سبحانه وتعالى - : )وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه(ِ [الزمر: من الآية67] تصور هذا !! فأنى لهذا الإنسان الذي هو خلق صغير جداً يجري على هذه الأرض , وهذه الأرض بالنسبة لكون الله الشاسع لا تمثل إلا ذرة صغيرةجداً , ومع ذلك فإن الأرضين والسموات بكواكبها ومجراتها وسعتها كما قال الله سبحانه وتعالى :)وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه( [ الزمر: 67] , فكيف يأتي العقل ليمثِّل صفات الله سبحانه وتعالى ؟
فهو سبحانه وتعالى لا تمثله العقول بالتفكير .
وقوله : (( ولا تتوهمه القلوب بالتصوير )) ؛ الوهم : قوة من شأنها إدراك الجزئيات , والمعنى أن القلب مهما توهم , لا يمكن أن يصل إلى وَهَمٍ معين بتصوير ذات الله سبحانه وتعالى أو صفاته .
ولهذا قطع أئمة السلف رحمهم الله تعالى أن كيفية صفات الله سبحانه وتعالى لا تعرف , ولا يحاط بها , ولذا فإن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات ، لكن الكيفية يكلون أمرها إلى الله ، كما قال الله تبارك وتعالى عن نفسه:)لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ( [الأنعام: من الآية103] ؛ أي أنه سبحانه وتعالى وإن كان يرى , حيث يراه المؤمنون يوم القيامة رؤيا عيانية حقيقية , إلا أنهم مع رؤيتهم له لا يدركونه , ولا يحيطون به سبحانه وتعالى .
وفرقٌ بين الرؤية وبين الإدراك , ولله المثل الأعلى فنحن الآن مثلاً نرى السماء , ونرى الشمس , ونرى القمر , لكننا لا نستطيع أن ندرك هذه المخلوقات , بل في الأرض نرى الجبل , إلا أننا لا نستطيع أن ندرك تفاصيل هذا الجبل ونحو ذلك , ولله المثل الأعلى , فالله يرى , ولكن مع ذلك لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير , فهو سبحانه وتعالى لا تتوهمه القلوب بتصوير معين , سواء كان هذا التصوير مما يتوهمه القلب أو العقل لصفة ذاتية لله سبحانه وتعالى , أو لصفة معنوية أو لصفة فعلية .
ثم ذكر الشيخ رحمه الله تعالى قاعدة من قواعد أهل السنة مستنبطة من
كتاب الله تبارك وتعالى : )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(
, وهذا هو منهاج أهل السنة والجماعة , فقوله : (ليس كمثله شيء ) رد على المشبهة والممثلة , فهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء , فلا يماثل أحداً من خلقه , ولا تماثل صفاته صفات أحد من خلقه , ولذا قال : ليس كمثله شيء , و((شيء)) هنا تعم لأنها نكرة في سياق نفي بقوله (( ليس )) ؛ والكاف في قوله (( كمثله )) جاءت للتأكيد , والأصل فيه (( ليس مِثْلَهُ شيء )) , فأكدها بقوله (( ليس كمثلهِ شيء)) .
وبعض العلماء قالوا : إن الكاف بمعنى (( مِثْل )) فيكون المعنى ((ليس مِثْلَ مِثْلِهِ شيءٌ)) قالوا وهذا من باب المبالغة أي : أنه إذا كان مثل المثل ليس كمثله سبحانه , فإن المِثْل من باب أولى .
وقوله تعالى : )وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( هذا لبيان إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى , فهو رد على المعطلة ؛ لأن قوله تعالى : )وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( اسمان لله دالان على صفتي السمع والبصر له تبارك وتعالى , و(( السميع البصير )) اسمان لله لا يمكن أن يثبتا إلا بإثبات ما دلاّ عليه وهو صفة السمع والبصر .
ولذا اقترح بعض المعتزلة على أحد خلفاء بني العباس في زمن تسلط المعتزلة أن يكتب على سترة الكعبة وكان مكتوباً عليها ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) اقترح عليه أن يمحوها ويكتب (( ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم )).
فبعضهم يقول : ما الفرق بين السميع البصير والعزيز الحكيم ؟ ونقول : إن هذا المعتزلي لا مانع عنده من أن يثبت أن الله عزيز حكيم ؛ لأن هذين الاسمين قد يرجعهما إلى ربوبيته ونحو ذلك , لكنه أراد أن يمحو السميع البصير , حتى ينفي ما دلا عليه من صفة السمع والبصر نظراً لتوهمه التشبيه .
قال الشيخ رحمه الله تعالى : (( له الأسماء الحسنى )) الحسنى هي الحسنة , التي بلغت في الحسن غايته , وهذا قد ورد بنص القرآن قال تعالى :)وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا( [لأعراف: 180] , فأسماؤه سبحانه وتعالى كلها حسنة , بالغة الكمال في الحسن , (( والصفات العُلَى )) أي أن له سبحانه وتعالى الصفات العالية الكاملة , ذات القَدْر والعظمة ؛لأنها صفةُ عظيم , فهي صفات كاملة .
ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى أراد أن يمثل في بداية هذه العقيدة لبيان منهاج السلف رحمهم الله تعالى , ببعض الصفات التي قد وقع فيها خلاف أو كلام أو نحو ذلك بين الفرق والطوائف , فقال : )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( [طـه:5] , وقد ساقها رحمه الله تعالى مساق المدح والثناء على الله سبحانه وتعالى , لأن السياق يدل على ذلك فقد قال رحمه الله : (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير , له الأسماء الحسنى والصفات العلى )) , ثم قال : (( الرحمن على العرش استوى )) فجمع رحمه الله تعالى بين الثناء على الله بما هو ثابت من صفاته , مثل صفة الاستواء على العرش , وسيأتينا إن شاء الله في أثناء هذا الشرح الكلام على صفة الاستواء ومدلولها .
والشيخ هنا إنما أراد أن يشير في هذه الآية إلى ما دلت عليه من صفات , لكن أيضاً أراد بيان منهاج السلف رحمهم الله تعالى في إثبات الصفات .
وأهل السنة والجماعة يثبتون صفة الاستواء لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته ؛ لأن استواء الله على العرش , ورد في كتاب الله تبارك وتعالى في
سبعة مواضع , أما من فسره أو تأوله بالاستيلاء أو نحو ذلك , فتأويله باطل , وسيأتي إن شاء الله تعالى مناقشة ذلك .
ثم يقول الشيخ مستشهداً :)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى( [طـه:6] , وهذا لبيان كمال صفاته . له ما في السموات وما في الأرض , فهو مالك الملك . ولا أحد مِن المخلوقين يملك شيئاً , وحتى ملوك الدنيا يملكون ملكاً ناقصاً من جهتين : من جهة أنه ملك لا يستطيع هو أن يحوزه ويتصرف فيه كما يشاء . ومن جهة أخرى أن ملكه هذا ناقص ومنقطع لأنه إما أن يرحل هو عنه , أو يرحل عنه ملكُه . أما مالك الملك الذي له ما في السموات وما في الأرض , فهو الخالق له وهو المالك تبارك وتعالى .
قال :) وَمَا بَيْنَهُمَا ( أي ما بين السموات والأرض : )وَمَا تَحْتَ الثَّرَى( الثرى : هو التراب وهذا لبيان أن الله سبحانه وتعالى له كلُّ شيء , في العلو والسفل وما بينهما .
قال : )وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى( [طـه:7] وهذا لبيان كمال الله سبحانه وتعالى في سمعه وعلمه . وقوله تعالى : )وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ ( لبيان أن الجهر بالقول والعلانية عنده سواء , ولذا جاء التعليل بقوله : {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي أخفى من السر , والسرُّ : قيل هو ما يُسره الإنسان لشخص آخر , فيقال : سارَّه بكذا , كلَّمه سراً بينه وبينه .
فقوله تعالى : )وَأَخْفَى( أي أخفى من هذا السر الذي يكون بين اثنين .
وقيل : إن قوله : )فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ ( أي ما يسره الإنسان في نفسه ,
فيكون معنى قوله تعالى : )وَأَخْفَى( أي ما هو أخفى من السر , أي مما يجهله الإنسان من نفسه هو , فإن الإنسان يسرُّ أمراً فيعلمه , لكن قد يكون في نفسه أمور هي أخفى مما يسره , فالله سبحانه وتعالى يعلمها , فكيف بما فوق السر من الجهر بالقول ؟ لاشك أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء كما قال تعالى : )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(. [المجادلة:7].
ولذا قال الشيخ هنا : (( أحاط بكل شيء علماً )) وهذا العموم المطلق هو مدلول هذه الآية ؛ أي : أن الله تعالى أحاط بكل شيء علماً : فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ويعلم السر وأخفى , فقد أحاط بكل شيء علماً تبارك وتعالى , وهذا نصُّ آية وهو قوله تعالى : )لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً( . [الطلاق: 12] .
وقوله : ((بكل شيء)) , هذه نكرة في سياق النفي فتعمُّ , أي أن علمه أحاط بكل شيء , مهما دق أو صغر أو خفي , في ليل أو نهار , في داخل البحار , أو تحت الثرى أو أخفى من ذلك , قد أحاط الله بكل شيء تبارك وتعالى وتقدس .
قال : (( وقهر كل مخلوق عزة وحكماً )) ؛ أي أنه سبحانه وتعالى قهر الجميع عزة وحكماً ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو العزيز وهو الحكيم ؛ العزيز في ملكه , الحكيم في خلقه وأمره وشرعه , فهو سبحانه وتعالى قهر كل مخلوق , وهذا واضح جداً , فالكل داخل تحت مشيئته سبحانه وتعالى , وقد سبق قبل قليل أن بينا أن كل مخلوق سائر على ما يقدره الله سبحانه وتعالى , ولنضرب أمثلة بمن قد يُظَن أنهم أوتوا قدرة , كرجل أوتي قوة عضلية , أو أوتي قوة مال ,
أو قوة سلطان , أو قوة في قيادة الجيش أو نحو ذلك من القوى .
انظر إلى حال هذا الإنسان بذاته , تجده فعلاً بالنسبة لربه مقهوراً ؛ يأتيه المرض فلا يستطيع أن يرده , يأتيه الهرم فلا يستطيع أن يوقفه , ويأتيه الموت فيعجز هو ومن في الأرض جميعاً عن أن يؤخروا أجله لحظة . إذن هو مقهور في كل ذلك , بل إنه مقهور في وجوده في هذه الأرض , حيث وجد بغير إرادة منه , ولا تدخل في ولادته , ولا في تحديد لونه وطوله ونحو ذلك .
والأمر في ذلك واضح جداً , ولذا قال الشيخ رحمه الله تعالى : (( ووسع كل شيء رحمة وعلماً )) أي أنه سبحانه وتعالى قهر عباده , ووسعهم برحمته , وسع كل شيء رحمة وعلماً , كما أنه وسعهم علماً فهو وسعهم رحمة , ورحمة الله سبحانه وتعالى امتدت ووسعت كل شيء , حتى البهائم , والحشرات , وحتى الكفار , لأننا نشاهد أن الكفار يرحم بعضهم بعضاً , ويرحمون أولادهم , والحيوانات كذلك , فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء , كما أن علمه تبارك وتعالى وسع كل شيء .
ثم يقول الشيخ مستشهداً :)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً( , وهذا مؤكد لما قلناه قبل ذلك , فهو سبحانه وتعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم , يعلم ما أمامهم مما سيعملونه , سواء عملوه بتخطيط منهم وإرادة , أو غير ذلك مما يقع لهم من مقدورات الله سبحانه وتعالى المستقبلية , كما أنه يعلم ما خلفهم مما عملوه , أحصاه الله سبحانه وتعالى , وعلمه , وكتبه .
وعلى هذا فإن علم الله أحاط بكل شيء سابق ولاحق , والله تبارك وتعالى علم ما كان , وما يكون , وما لم يكن لو كان كيف يكون , كما قال تعالى عن الكفار في الدنيا وحينما يقفون بين يديه تبارك وتعالى يطلبون الرجعة . قال الله تعالى : )وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ( [لأنفال: من الآية23] , هذا في الدنيا . وقال عنهم في الآخرة : )وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ( [الأنعام: 28] .
ولاتظنوا أن هذا من باب التقدير , بل هذا من باب العلم اليقيني , العلم الكامل لله تعالى : أن الكافر وهو واقف بين يدي الله يوم القيامة , يشاهد العذاب , ويوقن بالحقيقة التي لا مراء فيها , يرى الحقيقة بأم عينيه , البعث , والجزاء , والحساب , والنار , والجنة , قال الله عنه : )وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ( أي أن هذا الكافر لوعاد إلى الدنيا , لعاد إلىكفره وشركه , فيقول :
ها قد قلنا لكم إن الأمر غير صحيح , ها نحن قد رجعنا إلى الدنيا مرة أخرى . فقوله تعالى: )وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه( هو من باب العلم , العلم بما لم يكن لو كان كيف كان يكون . فهو سبحانه وتعالى علم ما كان وما لم يكن .
ثم بدأ الشيخ رحمه الله تعالى , بذكر قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات , فقال رحمه الله تعالى عن الله : (( موصوفٌ بما وصف به نفسه في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم )) أي أنه تبارك وتعالى موصوف بما وصف به نفسه من صفات الكمال والجلال في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم .
وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ؛ يصفون الله بما وصف به نفسه , أو وصفه به رسوله r , من غير أن يعطلوا الصفات أو يشبهوها , أو يحرفوها , أو يتأولوها تأ ويلاً يبعد بها عن معانيها اللائقة بالله , مع قولهم واعتقا دهم ويقينهم وإيمانهم بأن كيفية هذه الصفات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى , وهذه هي قاعدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب :
إثبات الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى كما وردت في الكتاب والسنة , وكما يليق بجلال الله وعظمته . وهذه القاعدة هي التي سار عليها المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه هذا , وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر تفصيل ما ورد من أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته , وبقية مسائل الاعتقاد .
(1) أخرجه مسلم رقم (1920) كتاب الإمارة من حديث ثوبان رضي الله عنه
وهو متفق عليه بنحوه من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .