(وللمشركين شبهة أخرى، يقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على
أسامة قتل من قال لا إله إلا الله، وقال له: ((أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله)) وكذلك قوله) إلى آخره.وهذا الكلام مع جوابه أفاد أن شبهة من احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله))الجواب على هذه الشبهة مترتب في أمور:
الأول: أن يقال: (لا إله إلا الله) تُدخِل في الإسلام، ومن دخل في الإسلام بلا إله إلا الله فإنه يُنتظر له حتى يُرى أيكون آتياً بحقوق (لا إله إلا الله) أم لا؟(فلا إله إلا الله) لها حقوق،وأعظم حقوقها التوحيد بل هي في التوحيد مُطابقة، وإذا كان كذلك، فإن قول القائل: (لا إله إلا الله)محمد رسول الله ينتظر به إذا كان قاله في معركة أو إستسلاماً أو نحو ذلك، ولا يعاقب على ما كان منه من الكفر وإنما يُنتظر به.ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)) وجاء في الحديث الآخر أيضاً قال: ((حرم دمه وماله إلا بحقها))، ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، وقاتل النفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).وقوله: ((إلا بحقها))، ((التارك لدينه المفارق للجماعة)) وهنا: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله))كلها متفقة غير مختلفة. ولهذا نقول في جواب هذه الشبهة ما ذكره الشيخ رحمه الله: أن من قال: (لا إله إلا الله) فيما ظاهره أنه خوف فينتظر به، فإن أتى بحقوق (لا إله إلا الله) قُبلت، وإن خالف حقها من التوحيد، فإنه دل على نفاقه وعلى أنه إنما قالها تعوذاً.وأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قَتل قبل التثبت، قتل قبل أن يستفصل وأن يرى هل هذا قالها تعوذا أو قالها على الإسلام حقيقة؟
والجواب الثاني عن هذه الشبهة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاتل اليهود وسباهم، سواءً يهود قريظة أو بني النظير أو يهود خيبر، قاتلهم -عليه الصلاة والسلام- وهم يشهدون (أن لا إله إلا الله) أو يقولون (لا إله إلا الله) بحسب تفسيرهم (للا إله إلا الله) فعليه الصلاة والسلام قاتلهم على الشرك، قاتلهم على أنهم اتخذوا إلهاً مع الله -جل وعلا- كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} فدل على أن قول (لا إله إلا الله) مع عدم تطبيقها، مع عدم عمل ما دلت عليه لا ينفع صاحبه؛ لأنه خالف مقتضاها.
كذلك بنو حنيفة الذين قاتلهم الصحابة، قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه - فيما قدمنا - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يقولون (لا إله إلا الله) وأن محمداً رسول الله، ويصلون، ويدَّعون الإسلام، لكن لما لم يلتزموا بحكم أداء الزكاة إلى خليفة المسلمين قوتلوا، وكان قتالهم قتال ردة لا قتال بغاة؛ لأنهم ادعوا أنهم غير مخاطبين بحكم الله جل وعلا، بأداء الزكاة لخليفة المسلمين.كذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار - فيما تقدم - هم كانوا يقولون ظاهرا: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
قال: (وهؤلاء الجهلة يقولون: إن من أنكر البعث كفر وقُتل ولو قال: لا إله إلا الله، وإن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها) يعني: أن هؤلاء الذين احتجوا بفعل أسامة، قالوا ما قاله الفقهاء والعلماء: (بأن من جحد البعث كفر، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر) فكيف إذاً تقولون هنا: يكفر مع قوله (للا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وإتيانه بالصلاة والزكاة والصيام والحج إلى غير ذلك، وفي هذه المسألة العظيمة مسألة التوحيد تقولون لا يكفر؟!لا شك أن هذا خُلف من القول وتناقض.والقاعدة عند أهل العلم واحدة، وهي:أنه من أتى بمكفر قولي أو عملي أو اعتقادي أو شك فيما أنزل الله -جل وعلا- على رسوله صلى الله عليه وسلم -مما كانت دلالته قطعية- فإنه يكفر ولو كان أصلح الصلحاء، بل قد قال الله -جل وعلا- لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
قال المصنف -رحمه الله- في بيان تناقض أهل هذه الشبهة: (فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع) يعني: كيف لا تنفعه (لا إله إلا الله)محمد رسول الله إذا جحد فرعاً من الفروع، مسألة من المسائل، جحد الصلاة، جحد الزكاة، جحد الحج، جحد تحريم الربا، جحد حل البيع، إلى آخر ذلك (وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس الملة وأساس دين الرسل ورأسه؟). لا شك أن هذا تناقض، بل الباب باب واحد، الأصول والفروع في هذا سواء، فمن جحد التوحيد كفر، ومن جحد الصلاة كفر، ومن جحد الزكاة كفر، إلى آخر الأمور، فالباب باب واحد، ولا ينفعه قوله (لا إله إلا الله).قال: (ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث ولن يفهموا) أما كونهم ما فهموا:فهذا واضح؛ لما قدمنا.
أما كونهم لن يفهموا؛ لأن الشبهة إذا قامت بالقلب، والبدعة إذا قامت بالروح وبالقلب؛ فإن صاحبها يصعب عليه الخلاص منها، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: (أن أهل الأهواء تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبَ بصاحبه، لا يبقى منه مفصل ولا عرق إلا دخله ذلك).فأهل البدع استغرقت البدع في قلوبهم حتى حجبتهم عن نور فهم الكتاب والسنة، وهذه من أنواع العقوبات التي يعاقب بها من ترك الكتاب والسنة إلى غيره، فهذا ملاحظ، تجد أن طائفة منهم، من الأذكياء ومن العلماء وممن عنده علوم مختلفة في التفسير وفي الفقه وفي العقائد إلى غير ذلك، ومع ذلك يقعون في هذه المسألة، وإذا فهمتهم لن يفهموا.وهنا بحث في أنهم إذا لم يفهموا فإنهم لا يعذرون بذلك؛لأن فهم الحجة ليس بشرط، بل الشرط هو إقامة الحجة في التكفير، يعني: لا يُكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية التي يَكفر من أنكرها أو ترك مقتضاها، وأما فهم الحجة فإنه لا يُشترط.لهذا قال الشيخ هنا رحمه الله: (ما فهموا... ولن يفهموا) وإذا كانوا لن يفهموا فإنه لا يعني أنه يسلب عنهم الحكم بالشرك الأكبر؛ لأن فهم الحجة ليس بشرط.وهذا مبحث بحثه علماء الدعوة والعلماء قبلهم، هل فهم الحجة شرط أم ليس بشرط؟ والله -جل وعلا- قال في كتابه: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} يعني: جعلنا على قلوبهم أكنة، أغطية وحجباً أن يفهموا هذا البلاغ وهذا الإنذار {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} فدل على أن المشرك لم يفقه الكتاب ولم يفقه السنة، يعني: لم يفهم.وتحقيق المقام هنا؛ لأن بعض الناس قال: كيف لا تشترطون فهم الحجة؟ وكيف تقام الحجة بلا فهم؟وتفصيل المقام هنا أن فهم الحجة نوعان:
النوع الأول: فهم لسان.
والنوع الثاني: فهم احتجاج.
- أما فهم اللسان: فهذا ليس الكلام فيه، فإنه شرط في بلوغ الحجة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} والله -جل وعلا- جعل هذا القرآن عربياً لتقوم الحجة به على من يفقه اللسان العربي، وإذا كان كذلك فإن فهم اللسانهذا لابد منه، يعني: إذا أتاك رجل يتكلم بغير العربية فأتيت بالحجة الرسالية باللغة العربية وذاك لا يفهم منها كلمة، فهذا لا تكون الحجة قد قامت عليه بلسانٍ لا يفهمه حتى يبلغه بما يفهمه لسانه.
والنوع الثاني من فهم الحجة:هو فهم احتجاج، يعني: يفهم أن تكون هذه الحجة التي في الكتاب والسنة -حجة في التوحيد أو في غيره- أرجح وأقوى وأظهر وأبين، أو هي الحجة الداحضة لحجج الآخرين، وهذا النوع لا يشترط؛ لأنه -جل وعلا- بين لنا وأخبر أن المشركين لم يفقهوا الحجة:
-فقال جل وعلا: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}.
-وقال سبحانه: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}.
-{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}.
فهم لا يسمعون سمع فائدة، وإن سمعوا سمع أذن، ولا يستطيعون أن يسمعوا سمع الفائدة وإن كانوا يسمعون سمع أذن.
وقد قال جل وعلا: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وقال سبحانه: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حتى وصفهم بأنهم يستمعون وليس فقط يسمعون، بل يستمعون، يعني: ينصتون، ومع ذلك نفى عنهم السمع:
-بقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}.
-وبقوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ}.
-وقوله -جل وعلا- في سورة تبارك:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
فإذاً: هم سمعوا سمع لسان، لكن لم يسمعوا الحجة سمع قلب وسمع فهم للحجة،يعني: أنها راجحة، ولم يفهموا الحجة ولكنهم فهموها فهم لسان، فهموها لأنها أقيمت عليهم بلسانهم الذي يعلمون معه معاني الكلام، ولكن لم يفهموها بمعنى أن الحجة هذه راجحة على غيرها؛ ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}
الوجه الثاني:
أن الكفر والكفار أنواع:
منهم:من كفره كفر عناد.
ومنهم:من كفره كفر تقليد{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.
-ومن الكفار من كفره كفر إعراض، معرض عن الحق {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
وإذا اشتُرط فهم الاحتجاج للحجة، فمعنى ذلك: المصير إلى مخالفة الإجماع بالقول بأنه لا يكفر إلا المعاند، إذا قيل إنه يشترط فهم الاحتجاج، يعني: أن يفهم من أقيمت عليه الحجة أن هذه الحجة أقوى وتدحض حجة الخصوم، فمعنى ذلك: أن يصير القول إلى أنه لا يكفر إلا من كان معانداً فقط، ومعلومٌ أن الكفار ليسوا كلهم معاندين، بل منهم المعاند ومنهم غير المعاند، فمنهم من جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، ومنهم المقلّد، ومنهم المعرض، إلى غير ذلك.فإذاً: فهم الحجة ليس شرطاً في إقامتها، ونعني بفهم الحجة: فهم الحجة من حيث كونها داحضةً لحجج الخصوم، ومن حيث كونها أوضح من حجج الخصوم.فلو قال بعد إقامة الحجة عليه، وبيان الأدلة من الكتاب والسنة، وبيان معنى العبادة، ويقيم الحجة عالم يعلم كيف يقيم الحجة ويزيل الشبهة، لهذا يقول العلماء: الحجة الرسالية، مثل ما يقول شيخ الإسلام في مواضع كثيرة: (ويكفر من قامت عليه الحجة الرسالية). الحجة الرسالية، يعني: التي يقيمها الرسل أو ورثة الرسل ممن يحسنون إقامة الحجة، سمع بالحجة وأنصت لها ثم لم يقتنع، قال: أنالم أقتنع، فعدم الاقتناع هو عدم الفهم ليس بشرط في تمام إقامة الحجة، لهذا الشيخ -رحمه الله- نبه على ذلك بقوله: (ولن يفهموا). وكونهم لن يفهموا لما أُشربت قلوبهم من حب الشرك وحب البدع ومخالفة السنة.ثم بين -رحمه الله- فقال: (فأما حديث أسامة، فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} الآية) إلى أن قال تعالى في آخرها: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا}يعني: أن الله -جل وعلا- يمنّ، فمن قال هذه الكلمة فيُنتظر في شأنه حتى يُرى ما يأتي به من حقوق (لا إله إلا الله).قال: (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قُتِل لقوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} ولو كان لا يُقْتَلُ إذا قالها لم يكن للتثبت معنى، وكذلك الحديث الآخر وأمثاله، فمعنى ما ذكرناه أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك) وهذا الذي قاله الشيخ -رحمه الله- محل إجماع بين أهل العلم في تفسير حديثأسامة بن زيد في قتله الرجل، وغير هذا الحديث من أشباهه.
وأما الأحاديث التي عُلّق فيها قتال الناس بقول: (لا إله إلا الله)((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها)) فإن في الحديث الاستثناء بقوله: ((إلا بحقها))وأعظم حقوقها الواجبة التي تدل عليها الكلمة المطابقة: التوحيد.قال: (والدليل على هذا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال:((أقتلته بعد ما قال لا الله إلا الله)) قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) وهذا واضح أيضاً، وهو الذي قال في الخوارج:((أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً) إلى آخر الكلام. وهنا تنبيه على أنه ليس ثَمَّ تلازم ما بين القتال والحكم بالكفر،فقد يحكم بالكفر ولا يقاتل، وقد يقاتل وليس بكافر، يعني: ليس كل من قوتل فإنه كافر، بل تقاتل الطائفة التي تـمتنع عن إظهار شعيرة من شعائر الإسلام، التي تمنع شعيرة من شعائر الإسلام، تقول: (أنا لا أظهر الأذان، لا أظهر الصلوات جماعة، لا ندعوا، كلٌّ يصلي - مثلاً - في بيته، لا نقيم المساجد) ونحو ذلك من شعائر الإسلام، فإنهم وإن كانوا مقرين بذلك لكن إن منعوا هذا فإنهم يقاتلون.
وإن كان تركهم لبعض السنن؛ لأن الطائفة المانعة لشعيرة من شعائر الله تقاتل حتى تُظْهر شعائر الله، وأظهر منه الطائفة الممتنعة التي لم تلتزم حكماً من أحكام الله فإنها تقاتل قتال كفر وردة.إذاً: فمن حكم عليه بأنه يقتل أو يقاتل لا يلزم منه أنه يكفر، وكل من كفر فقد يُقتل وقد لا يقتل أيضاً.
فإذاً:قد يكون الحال أن الكافر يقتل وقد يؤخر فلا يقتل، وكذلك حال القتال فقد يقاتَل من كان كافراً وقد يقاتل من ليس بكافر، ومن النوع الأخير هذا الخوارج، فإن الخوارج لا يحكم بكفرهم؛ لأن علياً -رضي الله- عنه سئل عنهم: أكفارٌ هم؟ فقال: (من الكفر فروا).وفي كفرهم روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، والمنصور من الروايتين أنه لا يطلق القول بتكفير الخوارج، يعني: الخوارج الذين قاتلوا علياً -رضي الله- عنه وحصل منهم ما حصل مما هو معروف.قال: (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) الصحابة -رضوان الله عليهم- علّموا العلم في المدينة، وفي مكة، وفي مصر، وفي الشام، وفي اليمن، والخوارج اجتمعوا من هذه الأقطار، أتى طائفة منهم من اليمن وطائفة من المدينة وطائفة من مصر وطائفة من الشام، فتجمعوا على هذا.
فلا يُزكَّون بأنهم من تلاميذ الصحابة، فإن التلمذة شيء والثبات على الحق شيء آخر، بل إن عبد الرحمن بن مُلجَم قاتل علي - رضي الله عن علي - كان في المدينة من أكثر الناس إحساناً للقرآن، فكتب عمر -رضي الله عنه- إلى عامله على مصر عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقال له: (إني مرسل إليك برجل آثرتك به على نفسي - وهو عبد الرحمن بن ملجم - اجعل له داراً يعلّم الناس فيها القرآن) فلما وصل المكتوب إلى عمرو استأجر له داراً أو اكترى له داراً، فجعله يعلم الناس.وكان من أكثر الناس عبادة - عبد الرحمن بن ملجم - ومن أكثر الناس صلاحاً -في أول أمره- حتى دخلته الفتنة بالقيام على عثمان رضي الله عنه، ثم سار مع علي، إلى أن حصل آخر أمره بقتل علي رضي الله عنه، حتى إنه لما قتله وأرادوا القصاص منه، قال: (لا تقتلوني دفعة واحدة، بل قطعوني أجزاء؛ حتى أرى جسدي يُقَطَّعُ وأنا صابر في سبيل الله ولساني يلهج بذكر الله) وهذا من أعظم الفتن التي حصلت لطائفة بعده؛ حتى قال بعض أصحابه بعده ممن غرهم هذا المظهر، قال في مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي:
يا ضربة من تقي، يعني: عبد الرحمن بن ملجم، يصفه بأنه تقي صالح.
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ........ ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبـه ............. أوفى البرية عند الله ميزانـاِ
هذا من قول عمران بن حِطَّان، وقد تاب - فيما يقال - في آخر عمره من قول الخوارج.المقصود من هذا: أن قول الشيخ رحمه الله: (حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة)، يدل على أن تعلم العلم ممن هو على الحق لا يعني أن يوصف صاحبه بأنه على الحق دائماً، فإن المعلم لا يكون حَكَماً على من تعلم منه دائماً، فكم خرج ممن علَّمهم أهل السنة والأئمة وأهل العلم ممن ليسوا على طريقة أهل السنة بل راحوا إلى البدع وإلى الضلالات، بل وإلى بعض الكفريات - نسأل الله جل وعلا العافية - حتى بعض من درس التوحيد في هذه المدارس والجامعات، إلى آخره، وعرف السنة وعرف العقيدة الصحيحة زاغ عنها بعد ذلك، فليست التزكية بأن شيخه فلان، وإنما التزكية بأنه ثبت على قول الأشياخ من أهل السنة، وهذا ظاهر والحمد لله، وفي قصة الخوارج عبرة لمن اعتبر.
قال: (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) يعني: في الكف عنهم بألا يقاتلوا.(ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة) فإذا ظهرت مخالفة الشريعة فإنهم يقاتلون، سواء أقلنا بكفرهم أم لم نقل بكفرهم؛ لأن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: ((أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم لمن قتلهم أجراً عند الله جل وعلا)) وقال: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)).
قال: (وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة من هذا الباب، وكذلك أراد -صلى الله عليه وسلم- أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل منهم أنهم منعوا الزكاة، حتى أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وكان الرجل كاذباً عليهم، وكل هذا يدل أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه).وهذا تطويل من الشيخ -رحمه الله- للإيضاح، واستطراد للبيان في أن قول (لا إله إلا الله)محمد رسول الله لا ينفع صاحبه إلا إذا أتى بحقوقه ((إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل)) فإذا لم يأت بحقها فإنه لا يقبل منه ذلك، بل إما أن يقاتل قتال كفر إذا كان الذي ترك من حقها التوحيد، وإما أن تقاتل الطائفة قتال بغاة إذا كان الذي تركوا من حقها دون التوحيد فمنعوه ولم يمتنعوا منه.