دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > النحو والصرف > ألفية ابن مالك

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24 ذو الحجة 1429هـ/22-12-2008م, 09:43 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,458
افتراضي أحوال النصب بـ(أن) المصدرية


وبينَ لا ولامِ جَرٍّ الْتُزِمْ = إظهارُ أنْ ناصبةًوإنْ عُدِمْ
لا كَأَنَاعْمِلْ مُظْهَرًا أوْ مُضْمَرَا = وبعدَ نَفْيِ كانَ حَتْمًا أُضْمِرَا
كذاكَ بعدَ أوْ إذا يَصْلُحُ في = موْضِعِها حتَّى أوِالَّا أنْ خَفِي
وبعدَ حتَّى هكذا إِضمارُ أنْ = حَتْمٌ كجُدْ حتَّى تَسُرَّ ذا حَزَنْ
وتِلْوَ حَتَّى حالًا اوْ مُؤَوَّلَا = بهِ ارْفَعَنَّ وانْصِبِ المستقبَلَا
وبعدَ فَا جَوابِ نَفْيٍ أوْ طَلَبْ = مَحْضَيْنِ أنْ وسَتْرُها حَتْمٌ نَصَبْ
والواوُ كالْفَا إنْ تُفِدْ مفهومَ مَعْ = كَلَا تَكُنْ جَلْدًا وتُظْهِرَ الْجَزَعْ


  #2  
قديم 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م, 07:00 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح ابن عقيل (ومعه منحة الجليل للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)


وَبَيْنَ "لاَ" وَلاَمِ جَرٍّ الْتُزِمْ = إِظْهَارُ "أَنْ" نَاصِبَةً ، وَإِنْ عُدِمْ ([1])
"لاَ" فَأَنَ اعْمِلْ مُظْهِرًا أَوْ مُضْمِرًا = وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ حَتْمًا أُضْمِرَا ([2])
كَذَاكَ بَعْدَ "أَوْ" إِذَا يَصْلُحُ فِي = مَوْضِعِهَا "حَتَّى" أَوِ "إِلاَّ" أنْ خَفي ([3])
اختَصَّتْ "أنْ" مِنْ بينِ نواصبِ المضارعِ بأنَّها تعمَلُ مُظْهَرَةً ومُضْمَرَةً.
فتظهَرُ وجوبًا إذَا وقَعَت بينَ لامِ الجرِّ ولا النافيةِ ، نحوَ: "جِئْتُكَ لِئَلاَّ تَضْرِبَ زَيْدًا".
وتظهَرُ جوازًا إذَا وقَعَت بعدَ لامِ الجرِّ ولمْ تصحَبْها لا النافيةُ نحوَ: "جِئْتُكَ لِأَقْرَأَ" وَ"لِأَنْ أَقْرَأَ "هذَا إذَا لمْ تسبِقْها "كانَ" المنفيةُ.
فإنْ سبَقَتها "كانَ" المنفيةُ وَجَبَ إضمارُ "أَنْ" نحوَ: "مَا كَانَ زَيْدٌ لِيَفْعَلَ" ولا تقولُ: "لِأَنْ يَفْعَلَ " قال اللهُ تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}.
ويجِبُ إضمارُ "أَنْ" بعدَ "أَوْ" المُقَدَّرَةَ بحتى أو إلاَّ ؛ فَتُقَدَّرُ بحتى إذا كان الفعلُ الذي قبلَها مما ينقضي شيئًا فشيئًا ، وتُقَدَّرَ بإلاَّ إنْ لم يكُنْ كذلك ؛ فالأولُ كقولِه:
322- لَأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ المُنَى = فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلاَّ لِصَابِرِ ([4])
أي: لأستسهلنَّ الصعبَ حتى أدركَ المُنَى فـ "أُدْرِكَ" منصوبٌ بـ "أنْ" المُقَدَّرَةِ بعدَ "أَوْ" التي بمعنى حتى وهي واجبةُ الإضمارِ ، والثاني كقولِه:
323- وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ = كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا ([5])
أي : كسَرْتُ كعوبَها إلاَّ أَنْ تستقيمَ فـ "تَسْتَقِيمَ" منصوبٌ بـ "أَنْ" بعدَ "أَوْ" واجبةَ الإضمارِ.
وَبَعْدَ حَتَّى هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ" = حَتْمٌ كَـ "جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"([6])
ومما يجِبُ إضمارُ "أَنْ" بعدَه حتى نحو: "سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَ البَلَدِ" فـ "حتى" حرفُ جرٍّ و"أَدْخُلَ" مَنْصُوبٌ بأنِ المُقَدَّرَةِ بعدَ حتى ، هذا إذا كانَ الفعلُ بعدَها مُسْتَقْبَلاً.
فإنْ كان حالاً ، أو مُؤَوَّلاً بالحالِ وجَبَ رفعُه وإليه الإشارةُ بقولِه:
وَتِلْوَ حَتَّى حَالاً اوْ مُؤَوَّلاَ = بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ المُسْتَقْبَلاَ([7])
فتقولُ: "سِرْتُ حتَّى أَدْخُلُ البَلَدَ" بالرفعِ إنْ قلتَه وأنتَ داخلٌ ، وكذلك إنْ كانَ الدخولُ قدْ وقعَ وقصَدْتَ بِهِ حكايةَ تلكَ الحالِ نحوَ: "كُنْتُ سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلُهَا".

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ = مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ ([8])
يعني أنَّ "أنْ" تنصِبُ - وهي واجبةُ الحذفِ - الفعلَ المضارعَ بعدَ الفاءِ المُجَابِ بها نفيٌ محضٌ أو طلبٌ مَحْضٌ ؛ فمثالُ النفيِ: "مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا" وقد قال تعالى: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}([9]) ومعنى كَوْنِ النفيِ محضًا : أنْ يكُونَ خالصًا مِنَ معنى الإثباتِ ، فإنْ لمْ يكُنْ خالِصًا منه وجَبَ رفعُ ما بعدَ الفاءِ نحوَ: "مَا أَنْتَ إِلا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثُنَا"([10]) ، ومثالُ الطلبِ - وهو يشملُ الأمرَ ، والنهيَ ، والدعاءَ ، والاستفهامَ ، والعرضَ ، والتحضيضَ والتمنِّي - فالأمرُ نحو: "ائْتِنِي فَأُكْرِمَكَ" ومنه:
324- يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحًا = إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا ([11])
والنهيُ نحو: "لاَ تَضْرِبْ زَيْدًا فَيَضْرِبَكَ" ومنه قولُه تَعَالَى: {لاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} ، والدعاءُ نحو: "رَبِّ انْصُرْنِي فَلا َأُخْذَلُ" ومنه:
325- ربِّ وَفِّقْنِي فَلاَ أَعْدِلُ عَنْ = سَنَنِ السَّاعِينَ فِي خَيْرِ سَنَنْ ([12])
والاستفهامُ نحو: "هلْ تُكْرِمُ زَيْدًا فَيُكْرِمَكَ" ومنه قولُه تعالى: {فَهْلَ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيْشَفَعُوا لَنَا} والعرضُ نحو: "أَلاَ تَنْزِلُ عِنْدَنَا فَتُصِيبَ خَيْرًا" ومنه قولُه:
326- يَا ابْنَ الكِرَامِ أَلاَ تَدْنُو فَتُبْصِرَ ما = قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا([13])
والتحضيضُ نحو: " لَوْلاَ تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا" ومنه قولُه تعالى: { لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، والتمنِّى نحو: { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} وَمَعْنَى "أَنْ يكُونَ الطلبُ محضًا" أنْ لا يكُونَ مدلولاً عليه باسمِ فعلٍ ولا بلفظِ الخبرِ ، فإنْ كانَ مدلولاً عليه بأحدِ هذينِ المذكورينِ وجَبَ رَفْعُ ما بعدَ الفاءِ نحو: "صَهٍ فَأَحْسنُ إِلَيْكَ ، وَحَسْبُكَ الحَدِيثُ فَيَنَامُ الناسُ".

وَالْوَاوُ كَالفَا إِنْ تُفِدْ مَفْهُومَ مَعْ = كَلاَ تَكُنْ جَلْدًا وَتُظْهِرَ الجَزَعْ ([14])
يعني أنَّ المواضعَ التي يُنصبُ فيها المضارعُ بإضمارِ "أن" وجوبًا بعد الفاءِ يُنصبُ فيها كُلِّها بـ "أَنْ" مُضْمَرَة وجوبًا بعد الواوِ إذا قُصِدَ بها المصاحبةُ نحو: {وَلمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} ، وقولُه:
327- فَقُلْتُ : ادْعِي وَأَدْعُو إِنَّ أَنْدَى = لِصَوْتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ([15])
وقولُه:
328- لاَتَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ = عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ([16])
وقولُهُ:
329- أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِي = وَبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ([17])
وَاحْتَرِزْ بقولِه: (إِنْ تُفِدْ مَفْهُومَ مَعْ) عمَّا إذَا لَمْ تُفِدْ ذلكَ ، بَلْ أرَدْتَ التشريكَ بينَ الفعلِ والفعلِ ، أو أرَدْتُ جَعْلَ ما بعَدَ الواوِ خبرًا لمبتدأٍ محذوفٍ ؛ فإنه لا يجوزُ حينئذٍ النصبُ.
ولهذا جازَ فيما بعدَ الواوِ في قولِكَ: "لاَ تَأْكُلَ السمَكَ وَتَشْرَب ُاللَّبَنَ" ثلاثةُ أوجهٍ : الجزمُ على التشريكِ بينَ الفعلينِ نحو: "لا تأكلِ السمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ".
والثاني : الرفعُ على إضمارِ مبتدأٍ نحو: "لا تأكلْ السمكَ وَتَشْرَبُ اللبن" أي: وأنتَ تَشْرَبُ اللَّبَنَ.
والثالثُ : النصبُ على معنى النهيِ عن الجمعِ بينَهما نحو: "لا تأكلِ السمكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ" أي: لا يكُنْ منك أَنْ تأكلَ السمكَ وأَنْ تَشْرَبَ اللَّبَنَ ، فَيُنصَبُ هذا الفعلُ بأنْ مُضْمَرَةً.


([1])(وبين) ظرف متعلق بقوله (التزم) الآتي، وبين مضاف و(لا) قصد لفظه: مضاف إليه (ولام) معطوف على لا، ولام مضاف و(جر) مضاف إليه (التزم) فعل ماض مبني للمجهول (إظهار) نائب فاعل لالتزم وإظهار مضاف و(أن) قصد لفظه: مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله (ناصبة) حال من أن (وإن) شرطية (عدم) فعل ماض مبني للمجهول فعل الشرط.

([2])(لا) قصد لفظه: نائب فاعل فعله هو (عدم) في البيت السابق (فأن) الفاء واقعة في جواب الشرط (أن) قصد لفظه: مفعول مقدم لاعمل (اعمل) فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت، والجملة في محل جزم جواب الشرط (مظهرا) بزنة اسم المفعول: حال من (أن) الواقعة مفعولا (أو مضمرا) معطوف على قوله مظهرا (وبعد) ظرف متعلق بقوله (أضمر) الآتي آخر البيت، وبعد مضاف و(نفي) مضاف إليه، ونفي مضاف و(كان) قصد لفظه: مضاف إليه (حتما) نعت لمصدر محذوف، أي إضمارا حتما (أضمرا) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى أن، والألف للإطلاق.

([3])(كذاك) جار ومجرور متعلق بقوله (خفي) الآتي في آخر البيت أو متعلق بمحذوف نعت لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا لخفي، أي: خفي خفاء مثل ذلك الخفاء (بعد) ظرف متعلق بخفي، وبعد مضاف و(أو) قصد لفظه: مضاف إليه (إذا) ظرف متعلق بخفي أيضا (يصلح) فعل مضارع (في موضعها) الجار والمجرور متعلق بيصلح وموضع مضاف وها: مضاف إليه (حتى) قصد لفظه: فاعل يصلح (أو) عاطفة (إلا) معطوف على حتى (أن) قصد لفظه مبتدأ (خفي) فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على أن، والجملة من خفي وفاعله في محل رفع خبر المبتدأ وهو (أن) وتقدير البيت: أن خفي خفاء مثل ذلك الخفاء بعد أو إذا كان يصلح في موضع أو حتى أو إلا.

([4])322 - هذا البيت من الشواهد التي استشهد بها كثير من النحاة، ولم ينسبوها إلى قائل معين.
الإعراب: (لأستسهلن) اللام موطئة للقسم، والفعل المضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ونون التوكيد حرف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب (الصعب) مفعول به لأستسهل (أو) حرف عطف، ومعناه هنا حتى أدرك فعل مضارع منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد أو، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا (المنى) مفعول به لأدرك (فما) الفاء حرف دال على التعليل ما: نافية (انقادت) انقاد: فعل ماض، والتاء للتأنيث (الآمال) فاعل انقاد (إلا) أداة استثناء ملغاة (لصابر) جار ومجرور متعلق بانقاد.
الشاهد فيه: قوله (أو أدرك) حيث نصب الفعل المضارع الذي هو قوله (أدرك) بعد (أو) التي بمعنى حتى بأن مضمرة وجوبا.

([5])323 - هذا البيت لزياد الأعجم.
اللغة: (غمزت) الغمز: جس باليد يشبه النخس (قناة) هي الرمح (قوم) رجال (كعوبها) الكعوب: جمع كعب وهو: طرف الأنبوبة الناشز.
المعنى: يريد أنه إذا اشتد على جانب قوم رماهم بالدواهي وقذفهم بالشدائد والأوابد وضرب ما ذكره مثلا لهذا.
الإعراب: (كنت) كان: فعل ماض ناقص، والتاء التي للمتكلم اسمه (إذا) ظرف تضمن معنى الشرط (غمزت) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة (إذا) إليها (قناة) مفعول به لغمزت وقناة مضاف و(قوم) مضاف إليه (كسرت) فعل ماض وفاعله والجملة جواب إذا وجملتا الشرط والجواب في محل نصب خبر كان (كعوبها) كعوب: مفعول به لكسرت، وكعوب مضاف وها: مضاف إليه (أو) عاطفة وهي هنا بمعنى إلا (تستقيما) فعل مضارع منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد أو والألف للإطلاق والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى (قناة قوم).
الشاهد فيه: قوله (أو تستقيما) حيث نصب الفعل المضارع – الذي هو تستقيم – بأن مضمرة وجوبا بعد (أو) التي بمعنى إلا.

([6])(وبعد) ظرف متعلق بقوله (إضمار) الآتي، وبعد مضاف و(حتى) قصد لفظه: مضاف إليه (هكذا) الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر الآتي (إضمار) مبتدأ، وإضمار مضاف و(أن) قصد لفظه: مضاف إليه (حتم) خبر المبتدأ (كجد) الكاف جارة لقول محذوف، جد: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (حتى) حرف جر بمعنى كي (تسر) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (ذا) مفعول به لتسر، وذا مضاف و(حزن) مضاف إليه، والفعل المضارع الذي هو تسر في تأويل مصدر بواسطة أن المحذوفة، وهذا المصدر مجرور بحتى، والجار والمجرور متعلق بـ (جد).

([7])(وتلو) معناه تالي أي: واقع بعد حتى – مفعول مقدم على عامله وهو قوله (ارفعن) الآتي، وتلو مضاف و(حتى) قصد لفظه: مضاف إليه (حالا) منصوب على الحالية من تلو حتى (أو مؤولا) معطوف على قوله حالا (به) جار ومجرور متعلق بقوله (مؤولا) (ارفعن) ارفع: فعل أمر، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (وانصب) فعل أمر وفيه ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت فاعل (المستقبلا) مفعول به لا نصب.

([8])(وبعد) ظرف متعلق بقوله (نصب) الآتي في آخر البيت، وبعد مضاف و(فا) قصر للضرورة: مضاف إليه، وفا مضاف و(جواب) مضاف إليه، وجواب مضاف و(نفي) مضاف إليه (أو طلب) معطوف على نفي (محضين) نعت لنفي وطلب (أن) قصد لفظه: مبتدأ (وسترها) الواو للحال ستر: مبتدأ وستر مضاف وها مضاف إليه (حتم) خبر المبتدأ وهو ستر والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب حال أو لا محل لها اعتراضية بين المبتدأ وخبره (نصب) فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى أن، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ وهو (أن) والتقدير: أن نصبت في حال كون استتارها واجبا بعد فاء جواب نفي محض أو طلب محض.

([9])ومثل الآية الكريمة – في نصب المضارع المقترن بفاء السببية بعد النفي – قول جميل بن معمر العذري:
فكيف ولا توفي دماؤهم دمي = ولا مالهم ذو ندهة فيدوني؟
الشاهد في قوله (فيدوني) أي: يعطوا ديتي فإنه منصوب بحذف النون وأصله (يدونني) وقوله "ما لهم ذو ندهة" هو بفتح النون وسكون الدال – ومعناه: ذو كثرة.

([10])هذا الوجوب مسلم فيما إذا انتقض النفي بإلا قبل ذكر الفعل المقترن بالفاء كالمثال الذي ذكره الشارح فأما إذا وقعت (إلا) بعد الفعل نحو: "ما تأتينا فتكلمنا إلا بخير" فإنه يجوز في الفعل المقترن بالفاء وجهان: الرفع والنصب وزعم الناظم وابنه أنه يجب فيه الرفع وهو مردود بقول الشاعر:
وما قام منا قائم في ندينا = فينطق إلا بالتي هي أعرف
يروى قوله "فينطق" بالرفع والنصب، ونص سيبويه على جوازهما.

([11])324 - البيت لأبي النجم – الفضل بن قدامة – العجلي.
اللغة: (عنقا) بفتح العين المهملة والنون جميعا: هو ضرب من السير (فسيحا) واسع الخطى وأراد سريعا.
الإعراب: (يا) حرف نداء (ناق) منادى مرخم (سيري) فعل أمر مبني على حذف النون وياء المؤنثة المخاطبة فاعل (عنقا) مفعول مطلق عامله (سيري) وأصله نعت لمحذوف، والتقدير: سيري سيرا عنقا (فسيحا) صفة لعنق (إلى سليمان) جار ومجرور متعلق بسيري (فنستريحا) الفاء للسببية نستريح: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد فاء السببية، والألف للإطلاق، وفي (نستريح) ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن.
الشاهد فيه: قوله (فنستريحا) حيث نصب الفعل المضارع الذي هو نستريح بأن مضمرة وجوبا بعد فاء السببية في جواب الأمر.

([12])325 - البيت من الشواهد التي لم نقف على نسبتها لقائل معين.
الإعراب: (رب) منادى بحرف نداء محذوف، وقد حذفت ياء المتكلم احتزاء بكسر ما قبلها (وفقني) وفق: فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به (فلا) الفاء فاء السببية، ولا: نافية (أعدل) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد فاء السببية وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا (عن سنن) جار ومجرور متعلق بأعدل، وسنن مضاف (والساعين) مضاف إليه (في خير) جار ومجرور متعلق بالساعين وخير مضاف و(سنن) مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة، وسكنه لأجل الوقف.
الشاهد فيه: قوله (فلا أعدل) حيث نصب الفعل المضارع – وهو قوله (أعدل) – بأن مضمرة وجوبا بعد فاء السببية في جواب الدعاء.

([13])326 - وهذا البيت – أيضا – من الشواهد التي لم نقف على نسبتها إلى قائل معين.
الإعراب: (يا) حرف نداء (ابن) منادى منصوب بالفتحة الظاهرة وابن مضاف و(الكرام) مضاف إليه (ألا) أداة عرض (تدنو) فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الواو منع من ظهورها الثقل وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (فتبصر) الفاء فاء السببية، وتبصر: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد فاء السببية، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (ما) اسم موصول: مفعول به لتبصر مبني على السكون في محل نصب (قد) حرف تحقيق (حدثوك) فعل وفاعل ومفعول به أول والجملة لا محل لها صلة الموصول والعائد ضمير منصوب بحدثوا على أنه مفعول ثان له والتقدير: حدثوكه (فما) الفاء للتعليل ما: نافية (راء) مبتدأ (كمن) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ (سمعا) سمع: فعل ماض والألف للإطلاق، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على من الموصولة المجرورة محلا بالكاف، والجملة لا محل لها صلة (من) المجرورة محلا بالكاف.
الشاهد فيه: قوله (فتبصر) حيث نصب الفعل المضارع – وهو تبصر – بأن المضمرة وجوبا بعد فاء السببية في جواب العرض.

([14])(الواو) مبتدأ (كالفا) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ (إن) شرطية (تفد) فعل مضارع فعل الشرط والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى الواو (مفهوم) مفعول به لتفد، ومفهوم مضاف و(مع) مضاف إليه (كلا) الكاف جارة لقول محذوف على غرار ما سبق مرارا لا: ناهية (تكن) فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت و(جلدا) خبر تكن وتظهر الواو واو معية، تظهر: فعل مضارع منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد واو المعية وهو محل الشاهد وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (الجزع) مفعول به لتظهر منصوب بالفتحة الظاهرة، وسكن لأجل الوقف، ولك في هذا وأمثاله أن تقول: منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها سكون الوقف.

([15])327 - البيت لدثار بن شيبان النمري أحد بني النمر بن قاسط من كلمة عدة أبياتها ثلاثة عشر بيتا رواها له أبو السعادات ابن الشجري في مختاراته (ص 6 ق 3) في أثناء مختار شعر الحطيئة والبيت من شواهد سيبويه (1/426) ونسب في الكتاب للأعشى وليس في شعره وهو أيضا من شواهد ابن هشام في أوضح المسالك (رقم 501) وشذور الذهب (رقم 154) وابن الأنباري في الإنصاف (351) وروايته "ادعي وأدع فإن أندى" كرواية ابن الشجرى ومجازها أن "وأدع" مجزوم بلام أمر محذوفة: أي ادعي ولأدع، وقبل البيت المستشهد به قوله:
تقول حليلتي لما اشتكينا: = سيدركنا بنو القرم الهجان
سيبدركنا بنو القمر ابن بدر = سراج الليل للشمس الحصان
اللغة: (اندى) افعل تفضيل من الندى – بفتح النون مقصورا – وهو بعد الصوت.
الإعراب: (فقلت) فعل وفاعل (ادعي) فعل أمر وياء المؤنثة المخاطبة فاعل و(أدعوا) الواو واوا المعية أدعو: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا (إن) حرف توكيد ونصب (اندى) اسم إن (لصوت) اللام زائدة مضاف وصوت: مضاف إليه (أن) مصدرية (ينادي) فعل مضارع منصوب بأن، وأن وما عملت فيه في تأويل مصدر مرفوع خبر إن (داعيان) فاعل ينادي وتقدير الكلام: إن أجهر صوت مناداة داعيين.
الشاهد فيه: قوله (وأدعو) حيث نصب الفعل المضارع – وهو قوله (وأدعو) – بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية في جواب الأمر.

([16])328 - البيت لأبي الأسود الدؤلي، ونسبه ياقوت (معجم البلدان 7 / 384) وأبو الفرج (الأغاني 11/39 بولاق) للمتوكل الكناني.
الإعراب: (لا) ناهية تنه فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف الألف والفتحة قبلها دليل عليها وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (عن خلق) جار ومجرور متعلق بـ (تنه) و(تأتي) الواو واو المعية تأتي: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (مثله) مثل: مفعول به لتأتي، ومثل مضاف والهاء مضاف إليه (عار) خبر لمبتدأ محذوف، أي ذلك عار (عليك) جار ومجرور متعلق بعار (إذا) ظرف تضمن معنى الشرط، والجملة بعده شرط إذا، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله والجملة من الشرط وجوابه معترضة بين الصفة وموصوفها لا محل لها من الإعراب (عظيم) صفة لعار.
الشاهد فيه: قوله (وتأتي) حيث نصب الفعل المضارع – وهو قوله (تأتي) – بعد واو المعية في جواب النهي بأن مضمرة وجوبا.

([17])329 - هذا البيت للحطيئة من قصيدة أولها في رواية الأكثرين:
ألا أبلغ بني عوف بن كعب = وهل قوم على خلق سواء؟
وروى أبو السعادات ابن الشجري في أولها نسيبا وأوله:
ألا قالت أمامة: هل تعزى؟ = فقلت: أمام قد غلب العزاء
اللغة: (جاركم) يطلق الجار في العربية على عدة معان: منها المجير، والمستجير والحليف والناصر.
الإعراب: (ألم) الهمزة للتقرير ولم: نافية جازمة (أك) فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا (جاركم) جار: خبر (أك) وجار مضاف وضمير المخاطبين مضاف إليه (ويكون) الواو واو المعية، يكون: فعل مضارع ناقص منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد واو المعية (بيني) بين: ظرف متعلق بمحذوف خبر يكون تقدم على اسمه، وبين مضاف وياء المتكلم مضاف إليه (وبينكم) معطوف على بيني (المودة) اسم يكون تأخر عن خبره و(الإخاء) معطوف على المودة.
الشاهد فيه: قوله (ويكون) حيث نصب الفعل المضارع – وهو قوله (يكون) – بأن المضمرة وجوبا بعد واو المعية في جواب الاستفهام.
ومثل هذا البيت قول صخر الغي الهذلي:
فلا تقعدن على زخة = وتضمر في القلب وجدا وخيفا


  #3  
قديم 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م, 07:01 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي أوضح المسالك لجمال الدين ابن هشام الأنصاري (ومعه هدي السالك للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)


فصلٌ: يُنْصَبُ المضارِعُ بـ (أنْ) مُضْمَرَةً وُجُوباً في خمسةِ مَوَاضِعَ:
أحدُها: بعدَ اللامِ إنْ سُبِقَتْ بكونٍ ناقصٍ ماضٍ منفيٍّ([1])، نحوُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}([2])، {لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}([3])، وتُسَمَّى هذه اللامُ لامَ الجُحُودِ.
الثاني: بعدَ (أو) إذا صَلَحَ في مَوْضِعِها (حَتَّى)([4])، نحوُ: (لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي)، وكقولِهِ:
498- لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أَدْرِكَ الْمُنَى([5])
أو (إِلاَّ)، نحوُ: (لأَقْتُلَنَّهُ أَوْ يُسْلِمَ)، وقولِه:
499- كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا([6])
الثالِثُ: بعدَ (حَتَّى)([7]) إنْ كانَ الفعلُ مُسْتَقْبَلاً باعتبارِ التكلُّمِ، نحوُ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ}([8]) أو باعتبارِ ما قبلَها، نحوُ: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}([9]).
ويُرْفَعُ الفعلُ بعدَها إنْ كانَ حالاً مُسَبَّباً فَضْلَةً، نحوُ: (مَرِضَ زَيْدٌ حَتَّى لا يَرْجُونَهُ)، ومنه: (حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ) ([10])، في قِرَاءَةِ نافعٍ؛ لأنَّه مُؤَوَّلٌ بالحالِ؛ أي: حتى حالةِ الرسولِ والذين آمَنُوا معَه أنهم يقولون ذلك.
ويَجِبُ النصبُ في مثلِ: (لأَسِيرَنَّ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ)، و(ما سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَهَا)، و(أَسِرْتَ حَتَّى تَدْخُلَهَا)؛ لانتفاءِ السببيَّةِ، بخلافِ: (أَيُّهُمْ سَارَ حَتَّى يَدْخُلَهَا)؛ فإنَّ السيرَ ثابتٌ، وإنما الشكُّ في الفاعلِ، وفي نحوِ: (سِيرِي حَتَّى أَدْخُلَهَا) لعدمِ الفَضْلِيَّةِ، وكذلك (كانَ سَيْرِي أَمْسِ حتى أَدْخُلُهَا) إنْ قَدَّرْتَ كانَ نَاقِصَةً، ولم تُقَدِّرِ الظرفَ خَبَراً.
الرابِعُ والخامِسُ: بعدَ فاءٍ السَّبَبِيَّةِ([11]) وواوِ المَعِيَّةِ مسبوقيْنِ بنفيٍ أو طَلَبٍ مَحْضَيْنِ، نحوُ: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِم فَيَمُوتُوا}([12])، {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}([13])، {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ}([14])، {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ}([15])، {ولا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}([16]) وقولِه:
500- لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ([17])
وقولِه:
501- يا ناقُ سِيرِي عَنَقاً فَسِيحَا = إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا([18])
وقولِهِ:
502- فَقُلْتُ ادْعِي وَأَدْعُو إِنَّ أَنْدَى([19])
وقد اجْتَمَعَ الطَّلَبُ والنفيُ في قَوْلِهِ تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}([20]) الآيةَ؛ لأنَّ (فَتَطْرُدَهُمْ) جوابُ النفيِ، و(فتكون) جوابُ النهيِ.
واحْتُرِزَ بتَقْيِيدِ النفيِ والطلبِ بمَحْضَيْنِ مِن النفيِ التالي؛ تَقريراً، والمَتْلُوِّ بنفيٍ والمُنْتَقَضِ بإلاَّ([21])، نحوُ: (أَلَمْ تَأْتِنِي فَأَحْسِنُ إِلَيْكَ) إذا لم تُرِدِ الاستفهامَ الحقيقيَّ، ونحوُ: (ما تزالُ تَأْتِينَا فتُحَدِّثُنَا) ، و(ما تَأْتِينَا إلاَّ وتُحَدِّثُنَا).
ومن الطلبِ باسمِ الفعلِ([22]) وبما لَفْظُه الخبرُ وسيأتي.
وبتقييدِ الفاءِ بالسبَبِيَّةِ والواوِ بالمعيَّةِ مِن العاطفتيْنِ على صريحِ الفعلِ، ومن الاسْتِئْنَافِيَّتَيْنِ، نحوُ: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}([23])؛ فإنَّها للعَطْفِ، وقولُه:
503- أَلَمْ تَسْأَلِ الرَّبْعَ الْقَوَاءَ فَيَنْطِقُ([24])
فإنَّها للاستئنافِ؛ إذ العطفُ يَقْتَضِي الجزمَ والسببيَّةُ تَقْتَضِي النصبَ([25]).
وتقولُ: (لا تَأْكُلِ السمكَ وتَشْرَبَُِ اللبنَ) بالرفعِ إذا نَهَيْتَه عن الأوَّلِ فقطْ، فإنْ قَدَّرْتَ النهيَ عن الجمعِ نَصَبْتَ، أو عن كلٍّ مِنهما جَزَمْتَ.


([1]) هذا الذي ذَكَرَه المؤلِّفُ – مِن أنَّ الناصبَ للمضارِعِ بعدَ لامِ الجحودِ هو أنِ المُضْمَرَةُ وُجُوباً – هو مَذْهَبُ علماءِ البصرةِ، وقالوا – معَ ذلك – بأنَّ هذه اللامَ مُتَعَلِّقَةً بمحذوفٍ، وذلك المحذوفُ هو خبرُ كانَ، وذهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنّ نَاصِبَ الفعلِ المضارِعِ بعدَ لامِ الجحودِ هو اللامُ نَفْسُها، وذَهَبُوا – معَ ذلك – إلى أنَّ هذه اللامَ زائدةٌ، وأنَّ خَبَرَ كانَ هو الفعلُ المضارِعُ المنصوبُ، فإذا قلتَ: (ما كانَ زَيْدٌ لِيَفْعَلَ القَبِيحَ)، فاللامُ حرفُ جرٍّ عندَ البَصْرِيِّينَ، ويَفْعَلَ: مضارعٌ منصوبٌ بأنْ محذوفةٍ، وأنِ المحذوفةُ معَ مَدْخُولِها في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ باللامِ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ يَقَعُ خبراً لِكَانَ، وتقديرُ الكلامِ عندَهم: ما كانَ زَيْدٌ مُرِيداً لِفِعْلِ القبيحِ، واللامُ فيما قالَ الكُوفِيُّونَ حرفٌ زائدٌ للتأكيدِ، ويَفْعَلَ: فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بهذه اللامِ الزائدةِ، وجملةُ الفِعْلِ المضارِعِ معَ فاعلِه المُسْتَتِرِ فيه في مَحَلِّ نصبِ خبرُ كانَ.
ويَدُلُّ لِمَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ أنَّ مِن الشعراءِ مَن صَرَّحَ بالخبرِ المحذوفِ الذي يُقَدِّرُونَه؛ حيثُ يقولُ:
سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو = ولكِنَّ المُضَيِّعَ قد يُصَابُ

([2]) سورةُ العَنْكَبُوتُ، الآيةُ: 40.

([3]) سورةُ النِّسَاءِ، الآيةُ: 137.

([4]) اعْلَمْ أَوَّلاً أَنَّهُم نَصَبُوا الفِعْلَ المضارِعَ بعدَ (أو) هذه لِيُفَرِّقُوا بينَ مَعْنَيَيْنِ؛ وذلك أنَّ (أو) تَقَعُ في كلامِ العربِ إمَّا للدَّلالةِ على أنَّ ما بَعْدَها مساوٍ لما قَبْلَها في الشكِّ والترَدُّدِ، نحوُ أنْ تقولَ: (سَأَزُورُ مُحَمَّداً أو أَبْعَثُ إليه رَسُولاً)، فأنتَ حينَ تقولُ هذا تُرِيدُ أنَّكَ سَتَفْعَلُ أحدَ الأمريْنِ، فأنتَ مُتَرَدِّدٌ بينَ هذين الأمريْنِ شاكٌّ فيما سَتَفْعَلُه مِنهما، وإمَّا للدَّلالةِ على أنَّ ما قَبْلَها مُخَالِفٌ لِمَا بَعْدَهَا في أنَّ الأوَّلَ منهما مُتَحَقِّقُ الوقوعِ أو مُتَرَجِّحُهُ، والثانِيَ مشكوكٌ فيه، نحوُ أنْ تقولَ: (سَأُعَاقِبُ زيداً أو يَعْتَذِرُ عن ذَنْبِهِ)، فأنتَ تقولُ هذا الكلامَ في حالٍ أنتَ مُتَحَقِّقٌ فيه مِن إيقاعِ عُقُوبَتِكَ بمُحَمَّدٍ، أو مُرَجِّحٌ لإيقاعِهَا به، وأنتَ – معَ ذلك - شاكٌّ في حصولِ الاعتذارِ منه، فقَصَدُوا أنْ يُفَرِّقُوا بينَ هذين المعنييْنِ في اللفظِ المؤدِّي إليهما، فرَفَعُوا المضارِعَ بعدَ (أو) حينَ يَقْصِدُونَ أنَّ ما قبلَها وما بعدَها مُشْتَرَكَانِ في الشكِّ والتردُّدِ، ونَصَبُوا هذا المضارِعَ حينَ يَقْصِدُونَ الدَّلالةَ على أنَّ ما قَبْلَها يُخَالِفُ ما بعدَها على النحوِ الذي أَسْلَفْتُ لكَ، ونَظَر النحاةِ في العاملِ الذي اقْتَضَى النصبَ في الصورةِ الثانيةِ، فأمَّا علماءُ الكُوفَةِ فتَرَدَّدُوا؛ فَتَارَةً يَنْسُبُونَ عَمَلَ النصبِ إلى (أو) نَفْسِها، وهو قولُ الكِسَائِيِّ، وهو شيخُ شُيُوخِهِم، وتَارَةً يَنْسُبُونَ العملَ إلى المعنى، وهو المخالفةُ، وهو قولُ شَيْخِهِم الفَرَّاءِ، وأمَّا علماءُ البَصْرَةِ فرَأَوْا أنَّ العاملَ لا يَجُوزُ أنْ يكونَ (أو)؛ لأنَّه حرفُ عَطْفٍ مُشْتَرَكٌ بينَ الأسماءِ والأفعالِ، والحرفُ المشترَكُ أصلُه ألاَّ يَعْمَلَ، ورَأَوْا أنَّ الخلافَ لا يَصْلُحُ للعملِ؛ لأنَّه معنويٌّ، فلم يَكُنْ لهم بُدٌّ مِن أنْ يَجْعَلُوا العامِلَ هو (أنِ) المصدريَّةَ مُضْمَرَةً بعدَ (أو)؛ لأنَّ (أنْ) عاملٌ قَوِيٌّ، وجَعَلُوا ما بعدَ (أو) في تأويلِ مصدرٍ مَسْبُوكٍ مِن أنِ المُضْمَرَةِ ومنصوبِها، وجَعَلُوا هذا المصدرَ معطوفاً بأو على مصدرٍ آخرَ مُتَصَيِّدٍ مِمَّا قَبْلَها، فإذا قلتَ: (لأُلْزِمَنَّكَ أو تَقْضِينِي حَقِّي) كانَ التقديرُ عندَهم: لَيَكُونَنَّ لُزُومٌ مِنِّي لكَ أو قضاءً لِحَقِّي منكَ، فوَفَّرُوا لأو معناها الأصليَّ.
ثم اعْلَمْ أنَّ المؤلِّفَ جَعَلَ من شرطِ انتصابِ المضارِعِ بعدَ (أو) أنْ تكونَ بمعنى حتَّى، يُرِيدُ أنها تَدُلُّ على أنَّ ما بَعْدَها غايةٌ لِمَا قَبْلَها، فهي حينَئذٍ بمعنى إلى، ومن العلماءِ مَن يُعَبِّرُ بأنْ تكونَ بمعنى إلى، والعبارتانِ سَوَاءٌ، أو تكونَ بمعنى إلا، يعني: أنَّ ما بَعْدَها مُسْتَثْنًى من عمومِ الأزمانِ المستقبَلَةِ التي يَصْلُحُ لها ما قَبْلَها، ومِن العلماءِ مَن يَزِيدُ على ذلك قولَه: (أو تكونَ بمعنى كي) يعني: أنَّ ما بعدَها عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَها. وهي زيادةٌ صحيحةٌ.
ومُلَخَّصُ هذا الكلامِ أنَّ ما بعدَ (أو) قد يكونُ عِلَّةً لِمَا قَبْلَها، نحوُ أنْ تقولَ: (لأُطِيعَنَّ اللهَ أو يَغْفِرَ لِي ذَنْبِي)؛ فإنَّ معنى هذه العبارةِ أنَّكَ تُطِيعُ اللهَ لِكَيْ يَغْفِرَ لكَ ذَنْبَكَ، ولا يَصْلُحُ في هذا المثالِ أنْ تكونَ (أو) بمعنى إلى، ولا أنْ تكونَ بمعنى إلاَّ؛ لِفَسَادِ المعنى على كلٍّ مِنهما، وقد يكونُ ما بعدَه (أو) غايةً يَنْتَهِي عندَها ما قبلَها، نحوُ أنْ تقولَ: (لأَنْتَظِرَنَّ مُحَمَّداً أو يَجِيءَ) فإنك تريدُ بهذه العبارةِ أنَّكَ سَتَنْتَظِرُ مُحَمَّداً إلى أنْ يَجِيءَ، ولا يَصْلُحُ في هذا المثالِ أنْ تكونَ (أو) بمعنى إلاَّ، وقد يكونُ ما بعدَ (أو) مُسْتَثْنًى من أزمانِ المستقبَلِ التي يَصْلُحُ لها ما قَبْلَها، نحوُ أنْ تقولَ: (لأَقْتُلَنَّ الكَافِرَ أَوْ يُسْلِمَ)؛ فإنَّ ما بعدَ (أو) ههنا مُسْتَثْنًى من استمرارِ ما قبلَها في جميعِ الأزمنةِ، ولا يَصْلُحُ في هذا المثالِ أنْ تكونَ (أو) بمعنى إلى، وقد يَصْلُحُ مثالٌ واحدٌ للأمورِ الثلاثِ التي ذَكَرْنَاهَا، نحوُ مِثَالِهِم المشهورِ، وهو: (لأُلْزِمَنَّكَ أو تَقْتَضِيَنِي حَقِّي)؛ فإنَّ ما بعدَ أو في هذا المثالِ يَصِحُّ أنْ يكونَ عِلَّةً لِمَا قَبْلَها؛ بدليلِ أنه يَصِحُّ أنْ تقولَ: لأُلْزِمَنَّكَ كي تَقْضِيَنِي حَقِّي، ويَصِحُّ أنْ يكونَ ما بعدَ (أو) غايةً يَنْتَهِي إليها ما قبلَها؛ بدليلِ أنه يجوزُ لكَ أنْ تقولَ: لأُلْزِمَنَّكَ إلى أنْ تَقْضِيَنِي حَقِّي، ويَصِحُّ أنْ يكونَ ما بعدَ (أو) مُسْتَثْنًى من استمرارِ ما قبلَها في الأزمنةِ المستقبَلَةِ؛ بدليلِ أنه يَصِحُّ لكَ أنْ تقولَ: لأُلْزِمَنَّكَ إلاَّ أنْ تَقْضِيَنِي حَقِّي؛ أي: لَيَكُونَنَّ لُزُومِي إيَّاكَ مُسْتَمِرًّا في جميعِ أوقاتِ المستقبَلِ ويَنْقِطُع في الزمنِ الذي تَقْضِينِي فيه حَقِّي.
وقد وَضَعَ العلماءُ ضابطاً للفرقِ بينَ (أو) التي بمعنى إلى، و أو التي بمعنى إلاَّ، وحاصلُه: أنَّ ما كانَ قبلَ (أو) إنْ كانَ يَنْقَضِي شيئاً فشيئاً كانَتْ (أو) بمعنى إلى، وإنْ كانَ ما قبلَ أو يَنْقَضِي دَفْعَةً واحدةً كانَتْ (أو) بمعنى إلاَّ، فاعْرِفْ هذا كلَّه، واللهُ يَنْفَعُكَ به.

([5]) 498-لم أَقِفْ على نِسْبَةِ هذا الشاهدِ إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ، والذي أَنْشَدَه المؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ مِن الطويلِ، وعَجُزُهُ قولُه:
*فما انْقَادَتِ الآمالُ إلاَّ لِصَابِرِ*

اللغةُ: (لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ) تقولُ: اسْتَسْهَلْتُ الأمرَ، إذا صَيَّرْتُ صَعْبَه سَهْلاً مُنْقاداً لكَ بعدَ إباءٍ وشِمَاسٍ، أو إذا عَدَدْتَه سَهْلاً ولم تُبَالِ بما فيه من صعوبةٍ، والصعبُ هو الأمرُ الذي يَعْسُرُ عليك تَحْصِيلُه، (أَدْرِكَ) أَبْلِغَ، (الْمُنَى) جمعُ مُنْيَةٍ – بضمِّ الميمِ فيهما – وهي ما يَتَمَنَّاهُ الإنسانُ ويَرْغَبُ فيه، (انْقَادَتْ) لاَنَتْ وتَيَسَّرَتْ وسَهُلَت، (الآمالُ) جمعُ أَمَلٍ – بِزِنَةِ جَبَلٍ وأَجْبَالٍ – وهو ما تَرْجُهُ، (لِصَابِرِ) المرادُ هنا الذي يَثْبُتُ على المكارِهِ، ولا تَخُورُ عَزَائِمُه للشدائدِ.
الإعرابُ: (لأَسْتَسْهِلَنَّ) اللامُ واقعةٌ في جوابِ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، وأَسْتسْهِلَ: فعلٌ مضارِعٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ؛ لاتِّصَالِهِ بنونِ التوكيدِ الثقيلةِ، لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنا، ونونُ التوكيدِ حرفٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (الصَّعْبَ) مفعولٌ به لأسْتَسْهِلَ. وجملةُ الفعلِ المضارِعِ وفاعلِه ومفعولِه لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ جوابُ القَسَمِ المقدَّرِ، (أو) حرفٌ معناه إلى مَبْنِيٌّ على السكونِ، لا مَحَلَّ له، (أَدْرِكَ) فعلٌ مضارِعٌ منصوبٌ بأنِ المُضْمَرَةِ بعدَ (أو)، وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنا، (الْمُنَى) مفعولٌ به لأَدْرِكَ منصوبٌ بفتحةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألفِ، (فما) حرفٌ دالٌّ على التعليلِ، وما: حرفُ نفيٍ، (انْقَادَتِ) انقادَ: فعلٌ ماضٍ، والتاءُ علامةُ التأنيثِ، (الآمالُ) فاعلُ انْقَادَتْ، (إلاَّ) أداةُ حَصْرٍ، (لِصَابِرِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بانْقَادَت.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (أو أَدْرِكَ)؛ حيثُ نَصَبَ الفعلَ المضارِعَ الذي هو أَدْرِكَ بأنِ المُضْمَرَةِ وُجُوباً بعدَ أو التي بمعنى إلى، أو حتى.

([6]) 499-هذا الشاهدُ من كلامِ زِيَادٍ الأَعْجَمِ، وهو من شواهِدِ سِيبَوَيْهِ (ج1 ص428)، والذي أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ ههنا هو عَجُزُ بَيْتٍ مِن الوافِرِ، وصَدْرُهُ قولُه:
*وكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ*

اللغةُ: (غَمَزْتُ) لَيَّنْتُ، (قَنَاةَ) القناةُ هنا الرمحُ، وغَمْزُ الرُّمْحِ معناه: أنْ تَقْبِضَ على ما اعْوَجَّ منه قَبْضاً شَديداً إما باليدِ وإما بالثِّقَافِ؛ لِيَعْتَدِلَ ما اعْوَجَّ ويَسْتَقِيمَ، والثِّقَافُ – بكسرِ الثاءِ المُثَلَّثَةِ، بزِنَةِ الكِتَابِ – أداةٌ تَقُومُ بها الرِّمَاحُ وتُعْدَلُ، (كَسَرْتُ كُعُوبَهَا)، الكُعُوبُ: جَمْعُ كَعْبٍ – بفتحٍ فسكونٍ – وهو ما بينَ كلِّ عُقْدَتَيْنِ مِن عُقَدِ الرُّمْحِ، (تَسْتَقِيمَ) تَعْتَدِلُ بعدَ اعْوِجَاجٍ.
الإعرابُ: (كُنْتُ) كانَ: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، وتاءُ المُتَكَلِّمِ اسْمُه، (إذا) ظرفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِن الزمانِ، (غَمَزْتُ) فعلٌ ماضٍ وفاعلُه، (قَنَاةَ) مفعولٌ به لِغَمَزْتُ، وقناةَ مضافٌ و(قومٍ) مضافٌ إليه، وجُمْلَةُ غَمَزْتُ من الفعلِ وفاعلِه ومفعولِه في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ إذا إليها، (كَسَرْتُ) فعلٌ وفاعلٌ، (كُعُوبَهَا)، كُعُوبَ: مفعولٌ به لِكَسَرْتُ، وهو مضافٌ وضميرُ الغائبةِ العائدُ إلى القَنَاةِ مضافٌ إليه، والجملةُ لا مَحَلَّ لها جوابُ إذا، وجملةُ إذا وشَرْطُها وجوابُها في مَحَلِّ نصبٍ خبرُ كانَ الناقصةِ، (أو) حرفٌ بِمَعْنَى إلاَّ مَبْنِيٌّ على السكونِ، لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، (تَسْتَقِيمَا) فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأنِ المضمرةِ بعدَ أنِ التي بمعنى إلاَّ، منصوبٌ وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةِ، والألِفُ للإطلاقِ، والفاعلُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هي يعودُ إلى قَنَاةَ قَوْمٍ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (أوْ تَسْتَقِيمَا)؛ حيثُ نَصَبَ الفعلَ المضارِعَ الذي هو تَسْتَقِيمَ بأنِ المُضْمَرَةِ وُجُوباً بعدَ أو التي بمعنى إلاَّ.

([7]) اعْلَمْ أنَّ (حَتَّى) تَرِدُ في الاستعمالِ على أربعةِ أَوْجُهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ بعدَها اسمٌ مفردٌ مجرورٌ بها، نحوُ قولِهِ تعالى: {سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، ويكونَ الاسمُ المجرورُ بها آخِرَ ما قَبْلَها كما في الآيةِ الكريمةِ، أو مُتَّصِلاً بآخِرِهِ، وهي في هذا الاستعمالِ حرفُ جرٍّ، ومعناها الغايةُ.
الوجهُ الثاني: أنْ يَلِيَهَا اسمٌ مفردٌ تابِعٌ لِمَا قبلَه في إعرابِه، نحوُ قولِهِم: (قَدِمَ الحُجَّاجُ حَتَّى المُشَاةُ)، وقولِهِم: (غَلَبَكَ الناسُ حتى الأَتْبَاعُ)، ويَجِبُ في هذا الاستعمالِ أنْ يكونَ التالي لها اسماً ظاهراً، كما يَجِبُ في هذا الاسمِ أنْ يكونَ بعضاً مما قَبْلَها تحقيقاً أوتأويلاً، وأنْ يكونَ غايةً في زيادةٍ أو نَقْصٍ، إمَّا حِسًّا وإما معنًى، وحتى هذه حَرْفُ عطفٍ.
وقد مَضَى الكلامُ على الأُولَى من بابِ حروفِ الجرِّ (3/43)، كما مَضَى الكلامُ على الثانيةِ في بابِ حروفِ العطفِ (3/324).
الوجهُ الثالِثُ: أنْ تَقَعَ بعدَها الجُمَلُ، إمَّا الاسْمِيَّةُ؛ كقولِ جَرِيرٍ:
فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا = بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلَ
وكقَوْلِ الفَرَزْدَقِ:
فَوَا عَجَباً حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي = كَأَنَّ أَبَاهَا نَهْشَلُ أَوْ مُجَاشِعُ
وأمَّا الجُمَلُ الفعليَّةُ التي فِعْلُها مضارِعٌ مرفوعٌ؛ كقولِ حَسَّانَ بنِ ثابتٍ في أبناءِ جَفْنَةَ:
يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلاَبُهُم = لا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ المُقْبِلِ
وإمَّا الجملُ الفعليَّةُ التي فِعْلُها ماضٍ، نحوُ قولُه تعالى: {حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا}.
وقدِ اجْتَمَعَ وُقُوعُ الجملةِ الفعليَّةِ والجملةُ الاسميَّةُ بعدَ حتى هذه في قولِ امْرِئِ القَيْسِ:
سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلُّ مَطِيُّهُمْ = وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ
في روايةِ مَن رَفَعَ (تَكِلُّ) في هذا البيتِ، وحتى هذه حرفُ ابتداءٍ؛ أي: أنها حرفٌ يُبْتَدَأُ به الكلامُ ويُسْتَأْنَفُ عمَّا قَبْلَه.
الوجهُ الرابِعُ: أنْ يَقَعَ بعدَها الفعلُ المضارِعُ المنصوب، وهي مَوْضِعُ كلامِ المؤلِّفِ هنا، وقد اخْتَلَفَ الكُوفِيُّونَ والبَصْرِيُّونَ في ناصبِ المضارِعِ بَعْدَها، فقالَ الكُوفِيُّونَ: حتى هي الناصبةُ للمضارِعِ بنَفْسِها. وقالَ البَصْرِيُّونَ: حتى حَرْفُ جَرٍّ، والناصِبُ للمضارِعِ (أنْ) مُضْمَرَةً بعدَها، والمصدرُ المسبوكُ مِن أنْ ومَدْخُولِها مجرورٌ بِحَتَّى، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بما قبلَها، فإذا قُلْتَ: (لأُقَاتِلَنَّ الكافِرَ حَتَّى يُؤْمِنَ)، فالكُوفِيُّونَ يقولونَ في إعرابِه: حتى حرفُ نصبٍ، ويُؤْمِنَ: منصوبٌ بحتى، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ، والبَصْرِيُّونَ يقولونَ: حتى حرفُ غايةٍ وجرٍّ، ويُؤْمِنَ: فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأنْ مُضْمَرَةً بعدَ حتى، وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ، وأنْ معَ ما دَخَلَتْ عليه في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ بحتى، والتقديرُ: حتى إيمانِه، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بأُقَاتِلَ.
فأمَّا الكُوفِيُّونَ فاحْتَجُّوا لِمَا ذَهَبُوا إليه بأنْ حتى تقومُ مقامَ (كي) في نحوِ قَوْلِنا: (أَطِعِ اللهَ حتى تَدْخُلَ الجَنَّةَ)؛ فإنَّ معنى هذا الكلامِ: أَطِعِ اللهَ كي تَدْخُلَ الجنَّةَ، أو تقومُ مقامَ إلى أنْ، كما في قولِنا: (اذْكُرِ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشمسُ)؛ فإنَّ معنى هذا الكلامِ: اذْكُرِ اللهَ إلى أنْ تَطْلُعَ الشمسُ، والشيءُ إذا قامَ مقامَ شيءٍ أَدَّى مُؤَدَّاهُ، فوَجَبَ أنْ تُؤَدِّيَ حتَّى مُؤَدَّى كي، أو إلى أنْ، وقد اتَّفَقْنَا على أنَّ كي تَنْصِبُ المضارِعَ بنفسِها، كما اتَّفَقْنَا على أنَّ (أنْ) تَنْصِبُ المضارِعَ بنفسِها، فكذلك ما أَدَّى مُؤَدَّاهَا ووَقَعَ مَوْقِعَها.
وأمَّا البَصْرِيُّونَ فاحْتَجُّوا بأنَّ (حتى) قد جاءَتْ في كلامِ العربِ حرفَ جرٍّ تَعْمَلُ في الأسماءِ، نحوُ قولِهِ تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وإذا كانَتْ (حتى) من عواملِ الأسماءِ باتِّفاقٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُم لم يَجُزْ أنْ تكونَ – معَ ذلك – من عواملِ الأفعالِ؛ لأنَّ عواملَ الأسماءِ لا تكونُ عواملَ في الأفعالِ؛ كما أنَّ عواملَ الأفعالِ لا تكونُ عواملَ في الأسماءِ، وإنما قلنا: إنَّ العاملَ في الفعلِ المضارِعِ النصبَ بعدَ حتى هو (أنِ) المصدريَّةُ مُضْمَرَةً لِنُبْقِيَها على حالِها الذي ثَبَتَ لها بالاتِّفاقِ بينَنا وبينَكم، وهي أنها تَجُرُّ الاسمَ؛ وذلك لأنَّ (أنِ) المصدريَّةَ تكونُ في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ بِحَتَّى.
وبَقِيَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بحتى التي يَنْتَصِبُ الفعلُ المضارِعُ بعدَها شروطُ انتصابِه بعدَها، وقد تَكَفَّلَ المؤلِّفُ ببيانِ ذلك؛ فلا ضرورةَ لذِكْرِ شيءٍ مِنه.
كما بَقِيَ القولُ على المعنى الذي تَدُلُّ عليه حتى حينَئذٍ، وقد اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ العلماءِ على أنَّ (حَتَّى) التي يَنْتَصِبُ بعدَها المضارعُ تأتي بمعنى كي، وذلك إذا كانَ ما قبلَها عِلَّةً لِمَا بعدَها، نحوُ قَوْلِنا: (أَسْلِمْ حَتَّى تَدْخُلَ الجنَّةَ)؛ فإنَّ الإسلامَ عِلَّةٌ لدخولِ الجنَّةِ، كما اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُم على أنَّ حتى هذه تكونُ بمعنى إلى، وذلك إذا كانَ ما بعدَها غايةً يَنْتَهِي إليه ما قبلَها، نحوُ قولِكَ: (لأَسِيرَنَّ حَتَّى تَطْلُعَ الشمسُ)؛ فإنَّ مَن يقولُ ذلك إنما يُرِيدُ أنَّ سَيْرَهُ يَنْتَهِي بطُلُوعِ الشمسِ، وقولُه تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} يَحْتَمِلُ كلَّ واحدٍ من هذين المعنييْنِ؛ فإنَّه يَجُوزُ أنْ يكونَ المرادُ: قَاتِلُوا الفِئَةَ الباغِيَةَ لكي تَرْجِعَ إلى أمرِ اللهِ، كما يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ المرادُ: اسْتَمِرُّوا في قِتالِ الباغيةِ ولا تَتْرُكُوهُ إلى أنْ تَرْجِعَ، وقد زادَ ابنُ مَالِكٍ في التسهيلِ معنًى ثالثاً لِحَتَّى هذه، وهو أنها تأتي بمعنى إلاَّ الاستثنائيَّةِ، وخَرَجَ عليه قولُ الشاعِرِ:
لَيْسَ الْعَطَاءُ مِن الفُضُولِ سَمَاحَةً = حتى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ
كما خَرَّجَ أتباعُه عليه قَوْلَ امْرِئِ القَيْسِ:
واللهِ لاَ يَذْهَبُ شَيْخِي بَاطِلاَ = حَتّى أُبِيرَ مَالِكاً وَكَاهِلاَ

([8]) سورةُ الحُجُرَاتِ، الآيةُ: 9

([9]) سورةُ البقرةِ، الآيةُ: 214

([10]) سورةُ البقرةِ، الآيةُ: 214

([11]) إنما سُمِّيَتْ هذه الفاءُ فاءَ السببيَّةِ؛ لأنَّها تَدُلُّ على أنَّ ما قَبْلَها سَبَبٌ في حُصُولِ ما بَعْدَها، وسُمِّيَتِ الواوُ المذكورةُ في هذا المَبْحَثِ واوَ المَعِيَّةِ؛ لأنَّها بمعنى معَ؛ أي: أنَّ حُصُولَ ما قبلَها وما بعدَها في وَقْتٍ واحدٍ، لا يَسْبِقُ أَحَدُهما الآخرَ ولا يَتَأَخَّرُ عنه.
هذا، واعْلَمْ أنَّ للنُّحَاةِ في ناصبِ الفعلِ المضارِعِ المقترِنِ بفاءِ السببيَّةِ أو واوِ المعيَّةِ خِلافاً، وأنَّ لهم في هذا الموضوعِ ثلاثةَ أقوالٍ:
الأوَّلُ: أنَّ نَاصِبَ المضارِعِ حينَئذٍ هو أنِ المصدريَّةُ، وهي مُضْمَرَةٌ بعدَ الفاءِ والواوِ، وهذا مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ.
والثاني: أنَّ ناصِبَ المضارِعِ في هذه الحالِ هو الخلافُ بينَ ما تَقَدَّمَ على الفاءِ أو الواوِ وما تَأَخَّرَ عنهما، وهذا قولُ جمهورِ الكُوفِيِّينَ.
والثالثُ: أنَّ ناصبَ المضارِعِ هو الواوُ والفاءُ نَفْسُهما، وهذا قولُ أبي عُمَرَ الجَرْمِيِّ، ويُنْسَبُ إلى بعضِ الكُوفِيّين، هذا هو التحقيقُ في بَيَانِ مَذَاهِبِ النحاةِ في هذا الموضوعِ، فمَنِ ادَّعَى أنَّ مذهبَ الكُوفِيِّينَ القولُ بأنَّ ناصِبَ المضارعِ هو الفاءُ والواوُ كمَنِ ادَّعَى أنَّ الكُوفِيِّينَ لم يَذْهَبُوا إلى أنَّ نَاصِبَه هو الفاءُ أو الواوُ، كِلْتَا الحالتيْنِ غيرُ دقيقةٍ، والدقيقُ هو الذي أَنْبَأْنَاكَ به.
فأَمَّا الكُوفِيُّونَ فَزَعَمُوا أنَّ الجوابَ في هذه الصورةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَها؛ لأنَّ ما قبلَه أمرٌ أو نهيٌ أو استفهامٌ أو تَمَنٍّ أو عَرْضٌ أو نَفْيٌ، وما هو الجوابُ ليسَ واحداً مِن هذه الأمورِ، ألا تَرَى أنك لو قُلْتَ: (زُرْنِي فَأُكْرِمَكَ) كانَ ما قبلَ الفاءِ أَمراً، ولم يَكُنْ ما بعدَ الفاءِ أمراً، وكذلك لو قُلْتَ: (لا تَجْهَلْ علينا فنُعَاقِبَكَ) كانَ ما قبلَ الفاءِ نَهْياً، ولم يَكُنْ ما بعدَها نَهْياً، وكذلك الباقي، فلَمَّا لم يَكُنْ ما بعدَها مُوَافِقاً لِمَا قبلَها وَجَبَ أنْ يكونَ منصوباً على الخِلافِ.
وأمَّا البَصْرِيُّون فقالوا: إنما قُلْنَا: إنَّ المضارِعَ منصوبٌ في هذه المواضِعِ بأنِ المصدريَّةِ مُضْمَرَةً بعدَ الفاءِ أو الواوِ؛ لأنا وَجَدْنَا الفاءَ – ومِثْلُها الواوُ- لا تَصْلُحُ لِعَمَلِ النصبِ في الفعلِ المضارِعِ، بل لا تَصْلُحُ للعملِ مُطْلَقاً، والسببُ في ذلك أنَّ كُلاًّ من الفاءِ والواوِ الأصلُ فيه أنْ يكونَ حرفَ عطفٍ، والأصلُ في حرفِ العطفِ أنه لا يَخْتَصُّ بالاسمِ ولا يَخْتَصُّ بالفعلِ، بل هو مُشْتَرَكٌ بينَ الاسمِ والفعلِ، يَصِحُّ دُخُولُه على كلٍّ منهما، ومِن حقِّ الحرفِ المشترَكِ بينَ القَبِيلَيْنِ ألاَّ يَعْمَلَ شيئاً، فوَجَبَ تقديرُ ناصبِ غيرِ الفاءِ والواوِ، فقَدَّرْنَا أنِ المَصْدَرِيَّةَ؛ لأنَّها الأصلَ في عواملِ النصبِ في الفعلِ، وجازَ أنْ تَعْمَلَ (أنِ) المصدريَّةُ النصبَ في هذا الموضِعِ وهي محذوفةٌ؛ لأنَّ الفاءَ أو الواوَ دَالَّةٌ عليها ومُومِئَةٌ إليها، فكأنها موجودةٌ في الكلامِ بوجودِ ما يَدُلُّ عليها، وكذلك لكَ ما قُلْنَا: إنَّ (أنِ) المصدريَّةَ تَعْمَلُ النصبَ، وهي مُضْمَرَةٌ بعدَه، مثلُ لامِ كي ولامِ الجحودِ وحتَّى وأو.
فأمَّا قَوْلُكم: إنَّ ناصِبَ المضارِعِ هو مخالفةُ الجوابِ لِمَا قبلَه؛ فإنَّ الخلافَ لا يَصْلُحُ أنْ يكونَ عاملاً للنصبِ في الفعلِ، بل هو الذي دَعَانَا إلى تقديرِ أنْ، بسببِ أنه دَلَّ على أنَّ الثانِيَ لم يَدْخُلْ في حُكْمِ الأوَّلِ.
وهذا القَدْرُ من البيانِ كافٍ؛ لأننا نَبْنِي كَلامَنَا في مثلِ هذه المباحَثِ على الاختصارِ.

([12]) سورةُ فاطِرٍ، الآيةُ: 36.
واعْلَمْ أنَّ النفيَ يأتي على أربعِ صُوَرٍ:
الصورةُ الأولى: ما يكونُ النافي فيها حرفاً مِن أَحْرُفِ النفيِ كلا وما، نحوُ قولِهِ تعالى: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}، ونحوُ قولِكَ: (مَا تَزُورُنَا فنَتَحَدَّثَ إِلَيْكَ).
الصورةُ الثانيةُ: ما يكونُ النافِي فيها فِعْلاً، نحوُ قولِكَ: (ليسَ زيدٌ معَنا فيُجَازِيَكَ).
الصورةُ الثالثةُ: ما يكونُ النافي فيها اسماً، نحوُ قولِكَ: (أنا غيرُ مسافرٍ اليومَ فأَصْحَبَكَ).
الصورةُ الرابعةُ: أنْ يكونَ الدالُّ على النفيِ فِعْلاً موضوعاً للدَّلالةِ على التقليلِ، لكِنْ أُرِيدَ به النفيُ، نحوُ قولِكَ: (قَلَّمَا تَزُورُنَا فَتَثْلَجَ صُدُورُنا).
والطَّلَبُ يَشْمَلُ سَبْعَةَ أشياءَ، وهي: الأمرُ، والنهيُ، والدعاءُ، والعَرْضُ، والتحضيضُ، والتمنِّي، والاستفهامُ، فصارَ مجموعُ ما يَسْبِقُ الفاءَ أو الواوَ ثمانِيَةَ أشياءَ؛ ولذلك ترَى النُّحَاةَ حِينَ يَتَحَدَّثُونَ عن هذا الموضوعِ يقولونَ: (الأَجْوِبَةُ الثَّمَانِيَةُ).
وقد زادَ الفَرَّاءُ على هذه الثمانيةِ التَّرَجِّي، وقومٌ يَذْكُرُونَ أنَّ الترجِّيَ لا طَلَبَ فيه؛ لأنَّ الترجِّيَ هو ارتقابُ أمرٍ لا وُثُوقَ بِحُصُولِه.
ومِمَّا يَتَعَلَّقُ بهذا الموضوعِ أنْ نُخْبِرَكَ بأنَّ العلماءَ يَخْتَلِفُون في الاستفهامِ التقريريِّ: أَيَأْخُذُ حُكْمَ النفيِ فيَنْصِبَ بعدَه المضارِعَ المُقْتَرِنَ بفاءِ السببيَّةِ أو بواوِ المَعِيَّةِ، أم لا يَأْخُذُ حُكْمَه؟ فمِنهم مَن ذَكَرَ أنه لا يَأْخُذُ حُكْمَه، وذَكَرَ أنَّ عِبَارَةَ ابنِ مَالِكٍ في الأَلْفِيَّةِ تُشِيرُ إلى هذا؛ حيثُ يقولُ: (وبعدَ فا جواب نفي أو طلب محضين)، والمؤلِّفُ من هؤلاءِ، ومِنهم مَن ذَكَرَ أنَّ الاستفهامَ التقريريَّ يَأْخُذُ حُكْمَ النفيِ، فيَنْصِبُ المضارِعَ بعدَ الفاءِ أو الواوِ في جوابِه، وقد صَرَّحَ صاحِبُ (الهَمْعِ) بذلك؛ حيثُ يقولُ: (لا فرقَ في النفيِ بينَ كونِه مَحْضاً، نحوُ {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}، أم لا: بأنْ نُقِضَ بإلاَّ، نحوُ: ما تَأْتِينَا فتُحَدِّثَنَا بخَيْرٍ، أو دَخَلَتْ عليه أداةُ الاستفهامِ التقريريِّ، نحوُ: ألم تَأْتِنَا فتُحَدِّثَنَا، ويجوزُ في هذا الجَزْمُ والرفعُ أيضاً). اهـ كلامُه.
والذين ذَهَبُوا إلى أنَّ الفعلَ المضارِعَ المقترِنَ بفاءِ السببيَّةِ أو واوِ المعيَّةِ بعدَ الاستفهامِ التقريريِّ يُرْفَعُ احْتَجُّوا لهذا بأنَّ الاستفهامَ التقريريَّ يُفِيدُ ثُبُوتَ الفعلِ، لا نَفْيَه، فلا تكونُ الفاءُ واقعةً في جوابِ نفيٍ، فيَجِبُ أنْ يُرْفَعَ المضارِعُ المُقْتَرِنُ بهما، وبيانُ ذلك أنكَ إذا قلتَ لِمُخَاطَبِكَ: (ألم تَأْتِنِي فَأُحْسِنَ إليك) إمَّا أنْ تُرِيدَ الاستفهامَ الحقيقيَّ عمَّا بعدَ الهمزةِ وهو عدمُ الإتيانِ، وتكونُ غيرَ عالِمٍ بعدَ الإتيانِ، وأنتَ تريدُ أنْ تُعْلِمَه، وإما ألاَّ تُرِيدَ الاستفهامَ الحقيقيَّ؛ لأنك عالِمٌ بأنه لم يَأْتِ، وإنما أَرَدْتَ أنْ تَحْمِلَ مُخَاطِبَكَ بهذه العبارةِ على الإقرارِ والاعترافِ بإتيانِه وإحسانِكَ إليه، والمعنى: اعْتَرِفْ أنَّكَ أَتَيْتَنِي فأَحْسَنْتُ إليك، على حدِّ قولِهِ تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}؛ فإنَّ المعنى: اللهُ كافٍ عبدَه، ويَدُلُّ على أنَّ معنى التقريرِ هو ما ذَكَرْنَا قولُ الشيخِ عبدِ القاهِرِ: (معنى قولِنَا: الهمزةُ للتقريرِ: أَنَّكَ أَلْجَأْتَ َالمخاطَبَ إلى الإقرارِ بأمرٍ قد كانَ، تقولُ: أَضَرَبْتَ زيداً؟ ولا يكونُ مِن غَرَضِكَ أنْ يُعْلِمَكَ أمراً لم تَكُنْ تَعْلَمُه، ولكِنْ أَرَدْتَ أنْ تَحْمِلَه على أنْ يُقِرَّ بفعلٍ قد فَعَلَه). اهـ.
ولَمَّا رَأَى القائلون بأنَّ الاستفهامَ التقريريَّ لا يُفِيدُ النفيَ، فأَوْجَبُوا ألاَّ يَنْتَصِبَ المضارِعُ بعدَ الفاءِ أو الواوِ في جوابِه – أنَّ المضارِعَ قد جاءَ منصوباً في مثلِ هذه الحالةِ ذَكَرُوا أنه نُصِبَ لأحدِ سَبَبَيْنِ:
الأوَّلُ: مراعاةُ صورةِ النفيِ، وإنْ لم يَكُنْ نَفْياً على الحقيقةِ.
والثاني: أنه وَاقِعٌ في جوابِ الاستفهامِ، لا النفيِ، ولهذا تَجِدُ المؤلِّفَ يقولُ بعدَ مِثَالِ النفيِ التالي همزةَ التقريرِ: (إذا لم تُرِدْ الاِسْتِفْهَامَ الحقيقيَّ).
ومِمَّا يَتَّصِلُ بهذا الموضوعِ أنْ نُبَيِّنَ لكَ أنَّ العلماءَ لم يَحْفَظُوا نصبَ الفعلِ المضارِعِ المُقْتَرِنِ بواوِ المَعِيَّةِ إلا في جوابِ واحدٍ من أربعةٍ، وهي الأمرُ، والنهيُ، والتمنِّي، والنفيُ، ومن أجلِ هذا تَجِدُ المؤلِّفَ قد اقْتَصَرَ في التمثيلِ للواوِ على أمثلةِ هذه الأربعةِ، وقالَ أبو حَيَّانَ: (ولا أَحْفَظُه بعدَ الدعاءِ والعَرْضِ والتحضيضِ والترجِّي، فيَنْبَغِي ألاَّ يُقْدَمَ على ذلك إلا بسَمَاعٍ). اهـ.
ومِمَّا يَتَّصِلُ بهذا الموضوعِ أيضاً أنْ نُحَدِّثَكَ أنَّ بعضَ العلماءِ قد خَالَفُوا في نصبِ المضارِعِ المقترِنِ بفاءِ السببيَّةِ في جوابِ بعضِ هذه الأشياءِ، فَذَهَبَ ابن سِيَابَةَ مُعَلِّمُ الفَرَّاءِ إلى أنه لا يَنْتَصِبُ في جوابِ الأمرِ، ولو كانَ بصريحِ الفعلِ، وقدِ احْتَجَّ عليه العلماءُ بوُرُودِهِ مَنْصوباً في جوابِ الأمرِ في كلامِ العربِ، ومن ذلك قولُ الشاعِرِ:
*يا ناقُ سِيرِي عَنَقاً فَسِيحَا*

البيتُ رَقْمُ 501 الذي اسْتَشْهَدَ به المؤلِّفُ، وسيأتي مَشْرُوحاً، وأجابَ بعضُ الناسِ عنه بأنَّ هذا شِعْرٌ، والشِّعْرُ مَحَلُّ الضرورةِ، فهو مثلُ قولِ الشاعِرِ:
سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ = وألْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
ألاَ تَرَى هذا الشاعِرَ قد نَصَبَ الفعلَ المضارِعَ الواقعَ بعدَ الفاءِ – وهو قولُه: (فَاسْتَرِيحَا) – مِن غيرِ أنْ يكونَ واقعاً في جوابِ نفيٍ أو طلبٍ، فما تُنْكِرُ أنْ يكونَ الشاعرُ الذي اسْتَدْلَلْتُمْ بقولِه قد سَلَكَ مَسْلَكَ هذا الشاعِرِ، فأَتَى بالمضارِعِ مَنْصُوباً في جوابِ الأمرِ، ويكونُ قدْ سَلَكَ طريقاً لا يَسْلُكُه المُتَكَلِّمُونَ.

([13]) سورةُ آلِ عِمْرَانَ، الآيةُ: 142.

([14]) سورةُ النساءِ، الآيةُ: 73

([15]) سورةُ الأنعامِ، الآيةُ: 27.

([16]) سورةُ طه، الآيةُ: 81.

([17]) 500- هذا الشاهِدُ مِن كلامِ أبي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وهو مِن شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ (ج1 ص424)، وقد نَسَبَه قومٌ إلى المُتَوَكِّلِ الكِنَانِيِّ، (انْظُرْ مُعْجَمَ البُلْدَانِ 7/384) هو في كتابِ سِيبَوَيْهِ منسوبٌ إلى الأخطلِ، والذي أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ مِن الكامِلِ، وعَجُزُهُ قولُه:
*عارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ*

ثم انْظُرْ بعدَ ذلكَ كُلِّه (كِتَابَ الأَغَانِي) (11/ 39 بولاق).
الإعرابُ: (لا) حرفُ نَهْيٍ، مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، (تَنْهَ) فعلٌ مضارِعٌ مجزومٌ بلا الناهيةِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حذفُ الألِفِ، والفتحةُ قبلَها دليلٌ عليها، وفاعِلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُه أنتَ، (عَنْ خُلُقٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِهِ: تَنْهَ، (وَتَأْتِي) الواوُ واوُ المَعِيَّةِ حرفٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، تأتي: فِعْلٌ مضارِعٌ منصوبٌ بأنِ المُضْمَرَةِ وُجُوباً بعدَ واوِ المَعِيَّةِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ، وفاعِلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُه أنتَ، (مِثْلَهُ) مِثْلَ: مفعولٌ به لِتَأْتِي منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وهو مضافٌ وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى خُلُقٍ مضافٌ إليه مَبْنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ جرٍّ، (عَارٌ) يَجُوزُ أنْ يكونَ مبتدأً خَبَرُه الجارُّ والمجرورُ بعدَه، ويَجُوزُ أنْ يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: هذا عارٌ، ويَجُوزُ أنْ يكونَ مبتدأً وخَبَرُه محذوفٌ، وعلى هذيْن القوليْنِ يكونُ قولُه: (عَلَيْكَ) جارًّا ومجروراً مُتَعَلِّقاً بعارٌ، (إذا) ظرفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِن الزمانِ، (فَعَلْتَ) فعلٌ ماضٍ وفاعلُه، والجملةُ في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ إذا إليها، وجوابُ إذا محذوفٌ يَدُلُّ عليه سابقُ الكلامِ، (عَظِيمُ) نعتٌ لعارٌ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (وتأتي) حيثُ نَصَبَ الفعلَ المضارِعَ الذي هو تأتي بأنِ المُضْمَرَةِ وُجُوباً بعدَ واوِ المَعِيَّةِ في جوابِ النهيِ بلا.

([18]) 501- هذا الشاهِدُ بيتٌ مِن الرَّجَزِ أو بيتانِ مِن مَشْطُورِهِ، وهو من كَلِمَةٍ قَائِلُها الفَضْلُ بنُ قُدَامَةَ، أو النَّجْمُ العِجْلِيُّ يَمْدَحُ فيها سُلَيْمَانَ بنَ عبدِ المَلِكِ الخَلِيفَةَ الأَمَوِيَّ، وهو من شواهِدِ سِيبَوَيْهِ (ج1 ص421).
اللغة: (يا ناقُ) أرادَ يا ناقةُ، فرَخَّمَ بحذفِ التاءِ، وخِطَابُ النُّوقِ وغيرِها من المَطَايَا كخِطَابِ الأطلالِ والدِّيَارِ مَشْهُورٌ مُتَعَارَفٌ في الشِّعْرِ العَرَبِيِّ، (سِيرِي) أمرٌ مِن السَّيْرِ، وهو المشيُ، (عَنَقاً) بفتحِ العينِ المهملةِ والنونِ جَميعاً – ضَرْبٌ مِن السَّيْرِ السريعِ، (فَسِيحَا) وَاسِعاً، (سُلَيْمَانَ) أرادَ به سليمانَ بنَ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ بنِ الحَكَمِ، الخليفةَ الأَمَوِيَّ المعروفَ، (نَسْتَرِيحَ) أرادَ: نُلْقِي عنَّا مَتَاعِبَ السفرِ، ولا نَحْفَلُ بعدَ لقائِه بالأيامِ؛ لأنَّه سَيَكْفِينَا مُؤَنَةَ التَّعَبِ لِتَحْصِيلِ الرِّزْقِ.
الإعرابُ: (يا) حرفُ نداءٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (ناقُ) منادًى مَبْنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ نصبٍ، (سِيرِي) فِعْلُ أمرٍ مَبْنِيٌّ على حذفِ النونِ، وياءُ المتكلِّمِ المؤنَّثَةُ المخاطَبَةُ فاعلُه مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رفعٍ، (عَنَقاً) مفعولٌ مُطْلَقٌ منصوبٌ بِسِيرِي، (فَسِيحَا) نعتٌ لِعَنَقٍ، (إلى) حرفُ جَرٍّ، (سُلَيْمَانَ) مجرورٌ بإلى، وعلامةُ جَرِّهِ الفتحةُ نِيَابَةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه ممنوعٌ مِن الصرفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وزيادةِ الألفِ والنونِ، (فَنَسْتَرِيحَا) الفاءُ حرفٌ دالٌّ على السَّبَبِيَّةِ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، نَسْتَرِيحَ: فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأنِ المُضْمرة وُجُوباً بعدَ فاءِ السببيَّةِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه نحنُ، والألفُ للإطلاقِ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (فَنَسْتَرِيحَا)؛ حيثُ نَصَبَ الفعلَ المضارِعَ – الذي هو نَسْتَرِيحَ – بأنْ مُضْمَرَةً وُجُوباً بعدَ فاءِ السببيَّةِ في جوابِ الأمرِ.

([19]) 502- هذا الشاهِدُ من كلامِ دَثَارِ بنِ شَيْبَانَ، ونَسَبَه سِيبَوَيْهِ (ج1 ص426) إلى الأعشى، وقالَ الأعلَمُ في شرحِه: (ويُرْوَى للحَطِيئَةِ)، ونَسَبَه قومٌ إلى رَبِيعَةَ بنِ جُشَمَ، ونَسَبَه القالِيُّ إلى الفَرَزْدَقِ، وهو موجودٌ في زِيَادَاتِ دِيوَانِ الأَعْشَى (ص260) بيتاً مفرداً، والذي أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ ههنا صَدْرَ بَيْتٍ من الوافِرِ، وعَجُزُهُ قولُه:
*لِصَوْتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ*

ويُرْوَى في بعضِ الأُمَّهاتِ قبلَ البيتِ المُسْتَشْهَدِ بصَدْرِهِ بيتانِ، وهما قولُه:
تقولُ حَلِيلَتِي لَمَّا اشْتَكَيْنَا = سَيُدْرِكُنَا بَنُو الْقَرْمِ الْهِجَانِ
سَيُدْرِكُنَا بَنُو الْقَمَرِ ابْنِ بَدْرٍ = سِرَاج الليلِ للشَّمْسِ الحَصَانِ
اللغةُ: (ادْعِي) أمرٌ مِن الدعاءِ، وهو هنا بمعى النداءِ، وأرادَ ارْفَعِي صَوْتَكِ للنداءِ، (أَنْدَى) أفعلُ تَفْضِيلٍ مِن النَّدَى، وهو بعدَ ذَهَابِ الصوتِ، وقد قالُوا منه: (فلانٌ أَنْدَى صَوْتاً مِن فلانٍ) إذا كانَ بعيدَ الصوتِ.
الإعرابُ: (فَقُلْتُ) الفاءُ حرفُ عطفٍ، قالَ: فعلٌ ماضٍ، وتاءُ المتكلِّمِ فاعلُه، (ادْعِي) فِعْلُ أمرٍ مَبْنِيٌّ على حذفِ النونِ، وياءُ المؤنَّثَةِ المخاطَبةِ فاعلُه، مَبْنِيٌّ على السكون في مَحَلِّ رفعٍ ، (وأَدْعُو) الواوُ واوُ المَعِيَّةِ، أَدْعُو: فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأنِ المضمَرَةِ وجوباً بعدَ واوِ المعيَّةِ، وعلامةُ نَصْبِه الفتحةُ الظاهرةُ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنا، (إنَّ) حَرْفُ توكيدٍ ونصبٍ، (أَنْدَى) اسمُ إنَّ منصوبٌ بفتحةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألفِ، (لِصَوْتٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بأَنْدَى، (أَنْ) حرفٌ مصدريٌّ ونَصْبٌ، (يُنَادِيَ) فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأنْ، وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ، (دَاعِيَانِ) فاعلٌ يُنَادِي مرفوعٌ بالألِفِ نيابةً عن الضَّمَّةِ؛ لأنَّه مُثَنًّى، والنونُ عِوَضٌ عن التنوينِ في الاسمِ المفردِ، وأنِ المصدريَّةُ معَ ما دَخَلَتْ عليه في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ خبرِ إنَّ، والتقديرُ: إنَّ أَنْدَى لِصَوْتِ نِدَاءِ داعييْنِ؛ أي: إنَّ أجهرَ وأرفعَ... إلخ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (وأَدْعُو)؛ حيثُ نَصَبَ الفعلَ المضارعَ الذي هو أَدْعُو بأنِ المُضْمَرَةِ وُجُوباً بعدَ واوِ المَعِيَّةِ في جوابِ الأمرِ، ومن النحاةِ مَن يَرْوِيهِ:
*فَقُلْتُ ادْعِي وَأَدْعُ فَإِنَّ...*

على أنَّ لامَ الأمرِ مُقَدَّرَةٌ، والأصلُ: ادْعِي ولأَدْعُ... إلخ، وسيأتي بحثُ ذلك في مباحثِ جوازمِ المضارِعِ، إنْ شاءَ اللهُ.

([20]) سورةُ الأنعامِ، الآيةُ: 52

([21]) ذَكَرَ المؤلِّفُ ثلاثةَ أمثلةٍ خَرَجَتْ بتقييدِ النفيِ بكونِه مَحْضاً:
الأوَّلُ: ما كانَ النفيُ واقعاً بعدَ همزةِ الاستفهامِ المرادِ بها التقريرُ، وقد مَضَى قَوْلُنا في هذا الموضوعِ، وذَكَرْنَا اختلافَ العلماءِ فيه.
والثاني: ما وَقَعَ بعدَ أداةِ النفيِ فيه ما يَدُلُّ على النفيِ، نحوُ: (مَا تَزَالُ تَأْتِينَا فَتُحَدِّثُنَا)؛ وهذا لأنَّ (زَالَ) وأَخَوَاتِها تَدُلُّ على النفيِ، ونفيُ النفيِ إثباتٌ، فكأنَّ قائلَ ذلكَ قد قالَ: أنتَ تَأْتِينَا فتُحَدِّثُنَا.
والثالثُ: ما انْتَقَضَ فيه النفيُ بإلاَّ، نحوُ: (ما تَأْتِينَا إلاَّ وتُحَدَّثُنَا)؛ وذلك لأنَّ (إلاَّ) الاستثنائيَّةَ تُثْبِتُ لِمَا بَعْدَهَا نَقِيضَ حُكْمِ ما قبلَها، وما قَبْلَها مَنْفِيٌّ بما، فيكونُ ما بَعْدَهَا مُثْبَتاً، والمرادُ انتقاضُ النفيِ بإلاَّ قبلَ الواوِ أو الفاءِ، كما رأَيْتَ في المثالِ، فإذا كانَ انتقاضُ النفيِ بعدَ الفاءِ لم يُؤَثِّرْ، وكانَ المضارِعُ منصوباً في جوابِ النفيِ، كقولِهِ:
وما قامَ مِنَّا قائمٌ في نَدِيِّنَا = فَيَنْطِقَ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَعْرَفُ
وقد مَثَّلَ ابنُ مَالِكٍ لِمَا خَرَجَ بتقييدِ النفيِ بكونِه مَحْضاً بأربعةِ أمثلةٍ، وقد تَبِعَه وَلَدُه عليها، فزادَ: أنْ =يتنقض [لعلها: يَنْتَقِضَ] النفيُ في أوَّلِ الكلامِ بإلاَّ، نحوُ قولِكَ: (ما أنتَ إلاَّ تَأْتِينَا فتُحَدِّثُنَا)؛ لأنَّ الكلامَ إثباتٌ، ويُمْكِنُ أنْ يَدْخُلَ هذا المثالُ في قولِ المؤلِّفِ: (وَالمُنْتَقَضِ بإلاَّ)؛ لأنَّ المَدَارَ على كونِ إلاَّ واقعةً قبلَ الفاءِ أو الواوِ، سواءٌ أَكَانَتْ في الجملةِ السابقةِ أم كانَتْ بَعْدَها.

([22]) ذَكَرَ المؤلِّفُ شيئيْنِ خَرَجَا بِتَقْيِيدِ الطلبِ بكونِه مَحْضاً، ومعنى كونِ الطلبِ مَحْضاً أنْ يكونَ بصريحِ الفعلِ الدالِّ على الطلبِ بِوَضْعِهِ، فإنْ كانَ الطلبُ بالمصدرِ، نحوُ قولِكَ: (ضَرْباً زَيْداً فَيَسْتَقِيمُ أَمْرِهِ)، أو كانَ الطلبُ باسمِ الفعلِ، نحوُ (صَهْ فَيَسْتَرِيحُ القومُ)، أو كانَ الطلبُ بما وَقَعَ للدَّلالةِ على الخبرِ، نحوُ (حَسْبُكَ الحديثُ فَيَنَامُ الناسُ) لم يَجُزِ النصبُ.
وقدْ أجازَ الكِسَائِيُّ النصبَ بعدَ الطلبِ باسمِ الفعلِ أو بما وُضِعَ للدَّلالةِ على الخبرِ، وذَهَبَ ابنُ جِنِّيٍّ وابنُ عُصْفُورٍ إلى جَوَازِ النصبِ بعدَ اسمِ الفعلِ المشتَقِّ؛ كَنَزَالِ ودَرَاكِ، ولم يَسْتَنِدْ هؤلاء إلى سَمَاعٍ عن العربِ، وإنما قالُوا ما قَالُوهُ قِيَاساً على فِعْلِ الأمرِ، وهذا القياسُ مَرْدُودٌ، وسَنَتَعَرَّضُ لهذا مَرَّةً أُخْرَى عندَ كلامِ المؤلِّفِ.

([23]) سورةُ المُرْسَلاَتِ، الآيةُ: 36

([24]) 503- هذا الشاهدُ مِن كلامِ جَمِيلِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مَعْمَرٍ العُذْرِيِّ، وهو من شواهدِ سِيبَوَيْهِ (ج1 ص422)، والذي أَنْشَدَهُ المؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ مِن الطويلِ، وعَجُزُهُ قولُه:
*وهل تُخْبِرَنْكَ الْيَوْمَ بَيْدَاءُ سَمْلَُق*

اللغةُ: (القَوَاءَ) بفتحِ القافِ، بزِنَةِ السَّحَابِ – الخالي الذي لا أَنِيسَ به، (فَيَنْطِقُ) يُخْبِرُ عَمَّا فَعَلَ الدهرُ بأَهْلِهِ وسُكَّانِهِ، (بَيْدَاءُ) صَحَرَاءُ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ سَالِكَها يَبِيدُ فيها؛ أي: يَهْلِكُ، (سَمْلَقُ) بِزِنَةِ جَعْفَرٍ – الأرضُ التي لا تُنْبِتُ شيئاً.
الإعرابُ: (أَلَمِ) الهمزةُ للاستفهامِ الإنكاريِّ، لم: حرفُ نفيٍ وجزمٍ وقلبٍ، (تَسْأَلِ) فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بلم، وعلامةُ جزمِه السكونُ، وحُرِّكَ بالكسرِ للتخلُّصِ من الْتِقاءِ الساكنيْنِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، (الرَّبْعَ) مفعولٌ به لِتَسْأَلِ، (القَوَاءَ) نعتٌ لِلرَّبْعَ، (فيَنْطِقُ) الفاءُ للاستئنافِ، يَنْطِقُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو يعودُ إلى الرَّبْعَ، (وهل) الواوُ عاطفةٌ، هل: حرفُ استفهامٍ، (تُخْبِرَنْكَ) تُخْبِرَ: فعلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لاتِّصَالِهِ بنونِ التوكيدِ الخفيفةِ، ونونُ التوكيدِ حرفٌ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، وضميرُ المخاطَبِ مفعولٌ به لِتُخْبِرَ مَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ نصبٍ، (بَيْدَاءُ) فاعلُ تُخْبِرَ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، (سَمْلَقُ) نعتٌ لِبَيْدَاءُ، مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (فَيَنْطِقُ)؛ حيثُ رَفَعَ الفعلَ المضارعَ الذي هو يَنْطِقُ بعدَ الفاءِ، معَ أنه مسبوقٌ باستفهامٍ؛ وذلك لأنَّ هذه الفاءَ ليسَتْ عاطفةً، ولا هي للسببيَّةِ، وإنما هي للاستئنافِ.

([25]) أنتَ تَعْلَمُ أنَّ فاءَ العطفِ تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ ما بعدَها لِمَا قبلَها في إعرابِه، وفي معنى العاملِ، أمَّا اشتراكُهما في الإعرابِ فواضِحٌ أنَّ المرادَ به أنَّ ما قبلَها إنْ كانَ مرفوعاً كانَ ما بعدَها مرفوعاً أيضاً، وإنْ كانَ ما قبلَها مجزوماً كانَ ما بعدَها مجزوماً مِثْلَه، وأمَّا اشْتِرَاكُهما في المعنَى فالمرادُ به أنَّ ما قَبْلَها إنْ كانَ مَنْفِيًّا كانَ ما بعدَها مَنْفِيًّا أَيضاً، وإنْ كانَ ما قبلَها مُثْبَتاً كانَ ما بعدَها مُثْبَتاً مِثْلَه، وأنتَ تَعْلَمُ أنَّ فاءَ السببيَّةَ – مِن حيثُ هي دالَّةٌ على السببيَّةِ – تَقْتَضِي من حيثُ الإعرابُ نَصْبَ الفعلِ المضارِعِ المقترِنِ بها، ولو كانَ ما قبلَها فعلاً مضارعاً مرفوعاً أو مجزوماً، وتَقْتَضِي من حيثُ المعنى أنَّ حُصُولَ ما قبلَها سببٌ في حُصُولِ ما بعدَها، وأنَّ ما بعدَها نتيجةُ ما قبلَها ومُتَرَتِّبٌ عليه، ولا تَقْتَضِي اشتراكَ ما قَبْلَها وما بعدَها في النفيِ ولا في الإثباتِ.
وتَعْلَمُ أيضاً أنَّ الفاءَ التي يُقْصَدُ بها الاستئنافُ تَقْتَضِي مِن حيثُ الإعرابُ رَفْعَ المضارِعِ المقترنِ بها؛ لأنَّ المفروضَ أنه لم يَتَّصِلْ به ناصبٌ ولا جازمٌ، وتَقْتَضِي من حيثُ المعنى انقطاعَ ما بعدَها عمَّا قبلَها وبِنَاءَه على مبتدأٍ محذوفٍ تكونُ جملةُ المضارعِ معَ فاعلِه المُسْتَتِرِ فيه في مَحَلِّ رفعٍ خبراً عنه.
وإنما قُلْنَا في فاءِ السببيَّةِ: (من حيثُ دَلاَلَتُها على السببيَّةِ)؛ لأنَّها معَ دَلالتِها على السببيَّةِ عاطفةٌ عندَ البَصْرِيِّينَ، والمعطوفُ هو المصدرُ المسبوكُ بواسطةِ أنِ المصدريَّةِ المُضْمَرَةِ، والمعطوفُ عليه مصدرٌ مُتَصَيَّدٌ ممَّا قَبْلَها.
إذا عَلِمْتَ كلَّ هذا فاعْلَمْ أَنَّكَ إذا قُلْتَ: (لا تَزُورُنَا فَنُكْرِمَكَ) فتَطْبِيقُها لِمَا ذَكَرْنَا إنْ جَعَلْتَ الفاءَ لمجرَّدِ العطفِ كانَ معنى هذه العبارةِ هي نفسَ المعنى الذي يُؤَدِّيهِ قولُكَ: لا تَزُورُنَا فلا نُكْرِمُكَ، فنُكْرِمُكَ: مرفوعٌ؛ لأنَّه معطوفٌ على مرفوعٍ، وهو منفيٌّ؛ لأنَّه معطوفٌ على منفيٍّ، ونظيرُه في ذلك الآيةُ الكريمةُ: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}؛ أي: لا يُؤْذَنُ لهم فلا يَعْتَذِرُونَ.
وإنْ جَعَلْتَ الفاءَ لمجرَّدِ السببيَّةِ كانَ معنى هذا المثالِ: أنَّ إِكْرَامَنا إيَّاكَ مُتَرَتِّبٌ على عدمِ زِيَارَتِكَ ومُتَسَبِّبٌ عنه، وذلك إذا كُنْتَ كَارِهاً لِزِيَارَتِهِ غيرَ رَاغِبٍ فيها، وهذا لا يجوزُ في الآيةِ الكريمةِ التي تَلَوْنَاهَا؛ لأنَّ الاعتذارَ لا يَتَسَبَّبُ عن عدمِ الإذنِ، بل يَتَرَتَّبُ على الإذنِ نفسِه، فما بعدَ الفاءِ لا يُشَارِكُ ما قَبْلَها في الانتفاءِ كما كانَ في الوجهِ الأوَّلِ.
وإنْ جَعَلْتَ الفاءَ للاستئنافِ كانَ معنى المثالِ هو معنى قولك: لا تَزُورُنا فنحنُ نُكْرِمُكَ، فما بعدَ الفاءِ مرفوعٌ وغيرُ منفيٍّ، وهو مَبْنِيٌّ على مبتدأٍ محذوفٍ.
هذا هو الحقُّ في هذه المسألةِ؛ فاعْرِفْهُ واحْرِصْ عليه، ولا تَلْتَفِتْ إلى ما عَدَاهُ.



  #4  
قديم 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م, 07:03 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح ألفية ابن مالك للشيخ: علي بن محمد الأشموني


682- وبَيْنَ "لَا" ولامِ جَرًّ الْتُزِمْ = إَظْهَارُ "أَنْ" نَاصِبَةً وَإِنْ عُدِمْ
683- "لَا" فَأَنَ اعْمِلْ مُظْهِرًا أوْ مُضْمِرَا = وبَعْدَ نَفْيٍ كَانَ حَتْمًا أُضْمِرَا
(وبينَ لَا ولامِ جَرٍ الْتُزِمَ إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً) نحوُ: {لِئَلَّا يكونَ للناسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ} لَا فِي الآيةِ الأُوْلَى نافيةٌ، وفِي الثانيةِ مُؤَكِّدَةٌ، زَائِدَةٌ (وإِنْ عُدِمَ لَا فَأَنِ اعُلمْ مُظْهِرًا أو مُضْمِرًا) "لَا" فِي موضعِ الرفعِ بـ"عُدِمَ" و"أَنْ" فِي موضعِ النصبِ بـ"اعْمِلْ" ومُظْهِرًا ومُضْمِرًا: نُصِبَ عَلَى الحَالِ إِمَّا مِنْ "أَنْ" إِنْ كَانَا اسْمَي مفعولٍ أو مِنْ فَاعِلِ "أَعْمِلْ" المُسْتَتِرِ إِنْ كَانَا اسْمَيْ فَاعِلٍ.
أيْ: يَجُوزُ إظهارُ "أَنْ" وإضمارُهَا بعدَ اللامِ إذَا لَمْ يَسْبِقْهَا كونٌ ناقصٌ ماضٍ مَنْفِيٍ، ولمْ يقترنِ الفعلُ بـ"لَا"، فَالإِضْمَارُ، نَحْوُ: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِيْنَ} والإظهارُ، نحوُ: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِيْنَ} فإنْ سَبَقَهَا كونٌ ناقصٌ ماضٍ مَنفِيٍّ؛ وَجَبَ إضمارُ أَنْ بعدَهَا، وهَذَا أَشَارَ إليهِ بقولِهِ (وَبَعْدَ نَفْيٍ كَانَ حَتْمًا أُضْمِرَا) أيْ: نحوُ: {وَمَا كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ} {لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}، وتُسَمَّى هذِهِ اللامُ لامَ الجُحُودِ، وسَمْاَهَا النَّحَّاسُ لامَ النَّفِيِ، وهو الصوابُ والتِي قَبْلَهَا لامُ "كَي" لأنَّها للسببِ كَمَا أَنَّ "كَي" للسببِ.
وحاصلُ كلامِهِ أَنَّ لـ "أَنْ" بَعْدَ لامِ الجَرِّ ثلاثةُ أحوالٍ، وجوبُ إظهارِهَا مَعَ المَقْرُونِ بـ"لَا"، ووجوبُ إضمارِهَا بَعْدَ نَفْيِ "كانَ"، وجَوَازُ الأمرينِ فِيْمَا عَدَا ذلكَ، ولا يجبُ الإضمارُ بَعْدَ "كانَ" التامةِ؛ لأَنَّ اللامَ بعدَهَا ليستُ لامَ الجُحُودِ، وإنَّمَا لمَ ْيُقَيِّدْ كلامَهَ بالناقصةِ؛ اكتفاءً بأنَّها المفهومةُ عندَ إطلاقِ "كانَ" لشُهْرَتِهَا وكثرَتِهَا فِي أبوابِ النَّحْوِ.
ودَخَلَ فِي قولِهِ: "نَفْيٍ كانَ" نحوُ: "لَمْ يَكُنْ" أيْ: المضارعُ المنفيُّ بـ"لمْ" كَمَا رَأَيْتَ لِأَنَّ "لمْ" تَنْفِي المضارعَ وقدْ فُهِمَ مِنَ النَّظْمِ قَصْرُ ذلكَ عَلَى "كانَ"، خِلافًا لِمَنْ أجَازَهُ فِي أَخَوَاتِهَا قِيَاسًا، ولِمَنْ أجَازَهُ فِي "ظَنَنْتُ".
تنبيهاتٌ: الأوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ اللامَ التِي يُنْصَبُ الفعلُ بَعْدَهَا هِيَ لامُ الجَرِّ، والنصبُ بـ"أَنْ" مُضْمَرةٍ، وهو مذهبُ البصريينَ وذَهَبَ الكوفيونَ إلى أنَّ اللامَ ناصبةٌ بِنَفْسِهَا، وَذَهَبَ ثَعْلَبُ إلى أَنَّ اللامَ ناصِبَةٌ بِنَفْسِهَا؛ لِقِيَامِهَا مَقَامَ "أَنْ" والخلافُ في اللامينِ، أَعنِي لامَ الجُحُودِ ولامَ "كَيْ".
الثانِي: اخْتُلِفَ فِي الفعلِ بعدَ اللامِ، فذهبَ الكوفيونَ إلَى أنَّهُ خَبَرُ "كانَ" واللامُ للتوكيدِ، وذَهَبَ البصريونَ إِلَى أنَّ الخبرَ محذوفٌ، واللامُ مُتَعَلِّقَةٌ بذلكَ الخَبَرِ المحذوفِ، وقَدَّرَهُ "مَا كَانَ زَيْدٌ مُرِيْدًا لِيَفْعَلَ"، وإنَّمَا ذَهَبُوا إِلَى ذلكَ؛ لأنَّ اللامَ جارةٌ عِنْدَهُم، ومَا بَعْدَهُ فِي تَأْوِيْلِ مَصْدَرٍ، وصَرَّحَ المصنفُ بِأَنَّها مؤكِّدَةٌ لنفْيِ الخبرِ، إلا أنَّ الناصِبَ عندَهُ، "أَنْ" مُضْمَرَةٌ، فَهُو قولٌ ثالثٌ:
قالَ الشيخُ أبُو حَيَّانَ: ليسَ بقولٍ بَصْرِيٍّ ولا كُوفِيٍّ، ومُقْتَضَى قولِهِ: مُؤَكِّدَةٌ أنَّهَا زائدةٌ، وبِهِ صَرَّحَ الشَّارِحُ، لكِنْ قَالَ فِي شَرْحِهِ لهَذَا الموضعِ مِنَ (التَّسْهِيْلِ)، سُمِّيَتْ مُؤَكِّدَةً؛ لِصَحَّةِ الكلامِ بِدُونِهَا، لَا لأَنَّها زائدةٌ، إذْ لَوْ كَانَتْ زائدةً؛ لمْ يَكُنْ لنصبِ الفعلِ بعدَهَا وَجْهٌ صحيحٌ، وإنَّمَا هِيَ لامُ اختصاصٍ دخَلَتْ عَلَى الفعلِ لِقَصْدِ مَا كانَ زِيْدَ مُقَدَّرًا أو هَامًّا أو مُسْتَعِدًّا لأَنْ يَفْعَلَ.
الثالثُ: قَدْ تُحْذَفُ "كانَ" قَبْلَ لامِ الجُحُودِ كقولِهِ [مِنَ الوَافِرِ]:
1022- فَمَا جَمْعٌ لِيَغْلِبَ جَمْعَ قَوْمِي = مُقَاوَمَةً وَلَا فَرْدٌ لِفَرْدِ
أيْ: فَمَا كَانَ جَمْعٌ، ومنهُ قولُ أبِي الدَّرْدَاءِ فِي الركعتينِ بعدَ العَصْرِ: "مَا أَنَا لِأَدَعَهُمَا".
الرابعُ: أَطْلَقَ النَّافِيَ: ومُرَادُهُ مَا يَنْفِي المَاضِي، وذلكَ "مَا" و"لمْ" دُوْنَ "لَنْ" لأنَّها تَخْتَصُّ بالمستقبلِ، وكذلكَ "لَا" لِأَنَّ نَفْيَ غيرِ المستقبلِ بِهَا قليلٌ، وأَمَّا "لَمَّا" فَإِنَّها وإنْ كَانَتْ تَنْفِي الماضِيَ، لكِنْ تَدُلُّ عَلَى اتِّصَالِ نَفْيِهِ بالحالِ، وَأَمَّا "إِنْ" فَهِيَ بِمَعْنَى "مَا" وإِطْلَاقُهُ يَشْمَلُهَا، وزَعَمَ كثيرٌ مِنَ الناسِ فِي قولِهِ تَعالَى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُوْلَ مِنْهُ الجِبَالُ} فِي قِرَاءَةِ غيرِ الكِسَائِيِّ أَنَّهَا لامُ الجُحُودِ، لكِنْ يُبَعِّدُهُ أَنَّ الفعلَ بَعْدَ لامِ الجُحُودِ لَا يَرْفَعُ إلا ضَمِيْرَ الاسمِ السابقِ، والذِي يَظْهَرُ أَنَّها لامُ "كَيْ" وأَنَّ "إِنْ" شَرْطِيَّةٌ أَيْ: وعندَ اللهِ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ، وهُو مَكْرٌ أَعْظَمُ مِنْهُ، وإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِشِدَّتِهِ مُعَدًّا لِأَجْلِ زَوَالِ الأمورِ العِظَامِ المُشَبًّهَةِ فِي عِظَمِهَا بالجبالِ، كمَا يُقَالُ: أنَا أَشْجَعُ مِنْ فُلَانٍ، وإنْ كَانَ مُعَدًّا للنَّوَازِلِ.
الخامسُ: أَجَازَ بعضُ النحويينَ حذفَ لامِ الجُحُودِ وإظهارَ "أَنْ" مُسْتَدِلًّا بقولِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى}، والصحيحُ المَنْعُ، ولا حُجَّةَ فِي الآيةِ، لأَنَّ "أَنْ يُفْتَرَى" فِي تَأْوِيْلِ مَصْدَرٍ هو الخَبَرُ.
684- (كَذَاكَ بَعْدَ "أَوْ" إِذَا يَصْلُحُ فِي = مَوْضِعِهَا "حَتَّى" أَوِ "الَّا" أَنْ خَفِي)
"أَنْ" مُبْتَدَأٌ، و"خَفِي": خبرٌ، و"كذَاكَ" و"بَعْدَ" مُتَعَلِّقَانِ بـ"خَفِي"، و"حتَّى" فَاعِلُ "يَصْلُحُ" و"الَّا" عَطْفٌ عليهِ.
أيْ: كَذَا يَجِبُ إضْمَارُ "أَنْ" بَعْدَ "أَوْ" إِذَا صَلُحَ فِي مَوْضِعِهَا "حَتَّى" نَحْوُ: "لَأَلْزَمَنَّكَ أَنْ تَقْضِيَنِي حَقِّي" وقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1023- لَأَسْتَسْلِهَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ المُنَى = فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلَّا لِصَابِرِ
أو إلا كقولِكَ: "لَأَقْتُلَنَّ الكَافِرَ أَوْ يُسْلِمَ" وقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1024- وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ = كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيْمَا
يَحْتَمِلُ الوجهينِ قولُهُ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1025- فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ، إِنَّمَا = نُحَاوِلُ مُلْكًا أوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
واحْتُرِزَ بقولِهِ إِذَا يَصْلُحُ فِي "مَوْضِعِهَا حتَّى أَوْ إِلَّا" مِنَ التِي لَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا أَحَدُ الحَرْفَيِنِ، فإنَّ المضارعَ إذَا وَرَدَ بَعْدَهَا مَنصوبًا جَازَ إظهارَ "أَنْ" كقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1026- ولَوْلَا رِجَالٌ مِنْ رُزَامِ أَعِزَّةٌ = وآلُ سَبِيْعَ أوْ أَسُوْءَكَ عَلْقَمَا
تنبيهاتٌ: الأوَّلُ: قَالَ فِي (شَرْحِ الكَافِيَةِ): وتقديرُ "إِلَّا" و"حتَّى" فِي موضعِ "أوْ"، تقديرٌ لُحِظَ فيهِ المعنَى دُوْنَ الإعرابِ، والتقديرُ الإعرابِيُّ المُرَتَّبُ علَى اللفظِ أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَ "أَوْ" مَصْدَرٌ، وبَعْدَهَا "أَنْ" نَاْصِبَةٌ للفعلِ، وهُمَا فِي تَأْوِيْلِ مَصْدَرٍ معطوفٍ بـ"أوْ" عَلَى المُقَدَّرِ قَبْلَهَا، فتقديرُ "لَأَنْتَظِرَنَّهُ أو يَقْدُمَ" لَيَكُونَنَّ انتظارٌ أو قُدُومٌ، وتقديرُ "لأقْتُلَنَّ الكافرَ أو يُسْلِمَ" ليَكُونَنَّ قَتْلُهُ أَوْ إِسْلَامُهُ، وكَذَا العَمَلُ فِي غيرِهِمَا.
الثانِي: ذَهَبَ الكِسَائِيُّ إلَى أَنَّ "أَوْ" المذكورةَ ناصبةٌ بنَفْسِهَا، وذَهَبَ الفَرَّاءُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الكُوْفِيِّيْنَ إِلَى أَنَّ الفعلَ انْتَصَبَ بالمُخَالَفَةِ، والصحيحُ أنَّ النصبَ بـ"أَنْ" مُضْمَرٌ بَعْدَهَا. لأنَّ "أَوْ" حَرْفُ عَطْفٍ فَلَا عَمَلَ لَهَا، ولكِنَّهَا عَطَفَتْ مَصْدَرًا مُقَدَّرًا عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، ومِنْ ثَمَّ لَزِمَ إضمارُ "أنْ" بعدَهَا.
الثالثُ: قولُهُ "إِذَا يَصْلُحُ فِي موضِعِهَا حتَّى، أَوْ إِلَّا" أَحْسَنُ مِنْ قولِهِ فِي (التَّسْهِيْلِ): بَعْدَ "أَوْ" الواقعةِ مَوْقِعَ "إلى أَنْ" أَوْ "إِلَّا أَنْ" لِأَنَّ لـ"حتَّى" معنيينِ، كِلَاهُمَا يَصِحُّ هُنَا،ـ الأوَّلُ: الغايةُ مِثْلُ "إلى"، والثانِي التعليلُ مِثْلُ "كَي" فَيَشْمَلُ كلامُهُ هُنَا نحوَ: "لَأُرْضِيَنَّ اللهَ أَوْ يَغْفِرَ لِي" بِخِلَافِ كلامِ (التَّسْهِيْلِ)، لأنَّ المعنَى حَتَّى يغفرَ لِي، بمعنَى كَي يَغْفِرَ لِي.
وقَدْ بَانَ لكَ أَنَّ قولَ الشارحِ "يُرِيْدُ حَتَّى بمعنَى إلَى، لَا التِي بِمَعنَى كَيْ" لَا وَجْهَ لَهْ، وكِلْتَا العِبَارَتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ قولِ الشارحِ، "بعدَ أَوْ بِمَعْنَى إِلَى أَوْ إِلَّا" فإنَّهُ يُوْهِمُ أَنَّ "أوْ" تُرَادِفُ الحرفينِ، وليسَ كذلكَ، بَلْ هِي أَوْ العاطفةُ كمَا مَرَّ.
685- وبَعْدَ حَتَّى هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ" = حَتْمٌ، كَـ"جُدْ حَتَّى تَسُرْ ذَا حَزَنْ"
(وبَعْدَ حتَّى هَكَذَا إضْمَارُ أَنْ حَتْمٌ) أيْ: وَاجِبٌ، والغالبُ فِي "حَتَّى" حينئذٍ أَنْ تكونَ للغايةِ نَحْوُ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِيْنَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوْسَى} وعَلَامَتُهُا أَنْ يَصْلُحَ فِي مَوْضِعِهَا "إِلَى" وقدْ تكونُ للتعليلِ (كَجُدْ حتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ)، وعَلامَتُهَا أَنْ يَصْلُحَ فِي مَوْضِعِهَا "كَيْ" وزادَ فِي (التَّسْهِيْلِ) أَنَّها تكونُ بمعنَى إِلَّا كقولِهِ [مِنَ الكَامِلِ]:
1027- لَيْسَ العَطَاءُ مِنَ الفَضُولِ سَمَاحَةً = حتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيْلُ.
وهَذَا المعنَى علَى غَرَابَتِهِ ظاهرٌ مِنْ قولِ سِيْبَوَيْهَ فِي تفسيرِ قولِهِمْ: "واللهِ لَا أَفْعَلُ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ" المعنَى حتَّى أَنْ تَفْعَلَ، وصَرَّحَ بِهِ ابْنُ هِشَامٍ الخَضْرِاوِيِّ، ونقلَهُ أبُو البَقَاءِ عَنْ بعضِهِمْ فِي {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا} والظاهرُ فِي هذِهِ الآيةِ خلافُهُ، وأنَّ المُرَادَ مَعْنَى الغايةِ: نَعَمْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ [مِنَ الرَّجَزِ]:
1028- واللهِ لا يَذْهَبُ شَيْخِي بَاطِلَا = حَتَّى أُبِيْرَ مَالِكًا وَكَاهِلًا
لأنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ غَايَة ًلِمَا قبلَهَا وَلا مُسَبَّبًا عنْهُ.
تنبيهٌ: ذَهَبَ الكوفيونَ إِلَى أنَّ "حتَّى" ناصبةٌ بِنَفْسِهَا، وأَجَازُوا إِظْهَارَ "أَنْ" بَعْدَهَا توكيدًا، كَمَا أَجَازُوا ذلكَ بعدَ لامِ الجُحُودِ.
686- وتِلْوَ حَتَّى حَالًا أو مُؤَوَّلَا = بِهِ ارْفَعَنَّ، وانْصِبِ المُسْتَقْبَلَا
(وتِلْوَ حَتَّى حَالًا أَوْ مُؤَوَّلَا * بِهِ) أَيْ: بالحالِ (ارْفَعَنَّ) حَتْمًا (وانُصِبِ المستقبلَا) أيْ: لا يُنْصَبُ الفعلُ بَعْدَ "حتَّى" إلا إذَا كانَ مُسْتَقبلًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ استقبالُهُ حَقِيقيًا، بأنْ كانَ بالنسبةِ إلَى زمنِ المُتَكَلِّمِ؛ فالنصبُ واجِبٌ، نحوُ: "لَأَسِيْرَنَّ حتَّى أَدْخُلَ المدينةَ" وكالآيةِ السابقةِ، وإِنْ كانَ غيرَ حَقِيْقٍ؛ بِأَنْ كَانَ بالنسبةِ إلى مَا قَبْلَها خَاصًّة؛ فالنصبُ جَائِزٌ، لَا وَاجِبٌ، نحوُ: {وزُلْزِلُوا حتَّى يَقُولَ الرَّسُوْلُ} فإنَّ قولَهُم إنَّما هُو مُسْتَقْبَلٌ بالنظرِ إِلَى الزِّلُزَالِ، لا بالنظرِ إِلَى زَمَنِ قَصِّ ذلكَ علينَا، فالرفعُ وبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ، علَى تأويلِهِ بالحَالِ، والنصبُ، وبِهِ قَرَأَ غيرُهُ، عَلَى تأويلِهِ بالمستقبلِ، فالأوَّلُ يُقَدِّرُ اتِّصَافَ المُخْبَرِ عَنْهُ، وهو الرسولُ والذينَ آمَنُوا مَعَهُ بالدخولِ فِي القولِ، فهو حالٌ بالنسبةِ إلى تلكَ الحالِ،ـ والثانِي يُقَدِّرُ اتصافَهُ بالعَزْمِ عليهِ، فهو مُسْتَقْبَلٌ بالنسبةِ إلى تلكَ الحالِ.
ولا يَرْتَفِعُ الفعلُ بَعْدَ "حتَّى" إلا بثلاثةِ شُرُوْطٍ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ حَالًا، إِمَّا حقيقةً، نَحوُ: "سِرْتُ حتَّى أَدْخُلُهَا" إِذَا قُلْتَ ذلكَ، وَأَنْتَ فِي حالةِ الدخولِ، والرفعُ حينئذٍ واجبٌ، أو تَأْوِيلًا، نحوُ: (حتَّى يقولُ الرسولُ) في قِرَاءَةِ نَافِعٍ، والرفعُ حينئذٍ جائزٌ كَمَا مَرَّ.
الثانِي: أَنْ يكونَ مُسَبَّبًا عَمَّا قَبْلَهَا، فيمتَنِعُ الرفعُ فِي نَحوِ: "لأَسِيْرَنَّ حتَّى تَطْلُعَ الشمسُ" و"مَا سِرْتُ حتَّى أَدْخُلَهَا"، و"أَسِرْتَ حتَّى تَدْخُلَهَا"؟ لانتفاءِ السَّبَبِيَّةِ، أَمَّا الأوَّلُ فَلِأَنَّ طلوعَ الشمسِ، لا يُتَسَبَّبُ عَنِ السيرِ، وأمَّا الثانِي فَلِأَنَّ الدخولَ لا يُتَسَبَّبُ عَنِ عَدَمِ السيرِ، وأمَّا الثالث ُفَلِأَنَّ السببَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، ويجوزُ الرفعُ فِي "أَيُّهُمْ سَارَ حتَّى يَدْخُلُهَا، ومَتَى سِرْتَ حَتَّى تَدْخُلُهَا"؟ لأنَّ السيرَ مُحَقَّقٌ، وإنَّمَا الشَّكُّ فِي عَيْنِ الفاعِلِ، أو فِي عَيْنِ الزمانِ. وأِجازِ الأَخْفَشُ الرفعَ بعدَ النفيِ، علَى أَنْ يكونَ أصلُ الكلامِ إِيْجَابًا، ثُمَّ أُدْخِلَتْ أداةُ النفيِ عَلَى الكلامِ بأَسْرِهِ لا عَلَى مَا قَبْلَ "حتَّى" خاصًّة، ولو عُرِضَتْ هذِهِ المَسْألةُ بهذَا المعنَى عَلَى سِيْبَويْهِ لَمْ يَمْنَعِ الرفعَ فيها، وإنَّما مَنَعَهُ إِذَا كانَ النفيُ مُسَلَّطًا عَلَى السَّبَبِ خاصًّة، وكُلُّ أَحَدٍ يَمْنَعُ ذَلكَ.
الثالثُ: أَنْ يَكُونَ فَضْلَةً؛ فيجبُ النصبُ في نحوِ: "سِيْري حَتَّى أَدْخُلَهَا" وَكَذا فِي "كانَ سَيْرِي أَمْسِ حتَّى أدخُلَهَا، إِنْ قَدَّرْتَ كانَ" نَاقِصَةً ولم تُقَدِّرِ الظرفَ خَبَرًا ا هـ.
تنبيهاتٌّ: الأوَّلُ: تجَيِءُ "حتَّى" فِي الكلامِ علَى ثلاثةِ أَضْرُبٍ، جَارَّةٍ، وعاطفةٍ، وقدْ مَرَّتَا، وابتدائِيَّةٍ، أيْ: حرفٌ تُبْدأُ بعدَهُ الجُمَلُ، أيْ: تُسْتَأْنَفُ، فتدخُلُ عَلَى الجُمَلِ الاسْمِيَّةِ، كقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1029- فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا = بِدِجْلَةَ حتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ
وعَلَى الفعليةِ التي فِعْلُهَا مضارعٌ كقولِهِ [مِنَ الكَامِلِ]:
1030- يُغْشَونَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلابُهُم = لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوادِ المُقْبِلِ
وقراءةِ نافعٍ (حَتَّى يقولُ الرَّسُولُ)، وعَلَى الفِعْلِيَّةِ التي فِعْلُهَا ماضٍ، نحوُ: {حتَّى عَفَوْا وقَالُوا} وزَعَمَ المصنفُ أنَّ حتَّى هَذِهِ جَارَّةٌ، ونُوْزِعَ فِي ذلكَ.
الثانِي: إذا كانَ الفعلُ حَالًا، أو مُؤَوَّلًا بِهِ فـ "حتَّى" ابتدائيةٌ، وإذَا كانَ مُسْتقَبلًا، أو مُؤَوَّلًا بِهِ؛ فهي الجارَّةُ، و"أَنْ" مُضْمَرَةٌ بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
الثالثُ: عَلَامَةُ كَوْنِهِ حَالًا أو مُؤَوَّلًا بِهِ صلاحيةُ جَعْلِ الفاءِ فِي موضعِ "حتَّى"، ويجبُ حينئذٍ أَنْ يكونَ مَا بعدَهَا فَضْلَةً مُسَبَّبًا عَمَّا قبلَهَا، انتهى.
687- (وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ = مَحْضَيْنِ "أَنْ" وسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ)
"أَنْ" مُبْتَدَأٌ و"نَصَبْ" خَبَرُهَا، و"سَتْرُهَا حَتْمٌ" مبتدأٌ، وخبرٌ فِي موضعِ الحالِ مِنْ فَاعِلِ نَصَبْ، وبَعْدَ مُتَعَلِّقٌ "بِنَصَبْ" يعنِي أَنَّ "أَنْ" تَنْصِبُ الفِعْلَ مُضْمَرَةً بَعْدَ فَاءِ جَوَابِ نَفْيٍ، نحوُ: {لَا يُقْضَي عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} أو جوابِ طَلَبٍ، وهو إِمَّا أَمْرٌ، أَوْ نَهْيٌ،أَوْ دُعَاءٌ،أو استفهامٌ، أو عَرْضٌ، أو تَحْضِيْضٌ، أو تَمَنٍّ، فالأمرُ نحوُ قولِهِ [مِنَ الرَّجَزِ]:
1031- يَا نَاقُ سِيْرِي عَنَقًا فَسِيْحَا = إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيْحَا
والنهيُ: نحوُ: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} وقولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1032- لَا يَخْدَعَنَّكَ مَأْثُورٌ وَإِنْ قَدِمَتْ = تِرَاتُهُ فَيَحِقَّ الحُزْنُ والنَّدَمُ
والدعاءُ: نحوُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِم واشْدُدْ عَلَى قُلُوْبِهِم فَلَا يُؤْمِنُوا حتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيْمَ} وقولِهِ [مِنَ الرَّمَلِ]:
1033- رَبِّ وَفِّقْنِي فَلَا أَعْدِلَ عَنْ = سَنَنِ السَّاعِيْنَ فِي خَيْر سَنَنِ
وقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1034- فَيَا رَبِّ عَجِّلْ مَا أُؤَمِّلُ مِنْهُمُ = فَيَدْفَأَ مَقْرُورٌ، وَيَشْبَعَ مُرْمِلُ
والاستفهامُ نحوُ: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} وقولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1035- هَلْ تَعْرِفُونَ لُبَانَاتِي فَأَرْجُوَ أَنْ = تُقْضَي فَيَرْتَدَّ بَعْضُ الرُّوْحِ للْجَسَدِ.
والعَرْضُ: نحوُ قولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1036- يَا ابْنَ الكِرَامِ أَلَا تَدْنُوا فَتُبْصِرَ مَا = قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا
والتحضيضُ: نحوُ: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيْبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِيْنَ} وقولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1037- لَوْلَا تَعُوْجِيْنَ يَا سَلْمَى عَلَى دَنِفٍ = فَتُمْخِدِي نَارَ وَجْدٍ كَادَ يُفْنِيْهِ
والتمنِّي: نحوُ: {يَا ليَتْنَيِ كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيْمًا} وقولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1038- يَا لَيْتَ أُمَّ خُلَيْدٍ وَاعَدَتْ فَوَفَتْ = ودَامَ لِي وَلَهَا عُمْرٌ فَنَصْطَحِبَا
واحْتُرِزَ بقاءُ الجوابِ عَنِ الفاءِ التِي لمُجَرَّدِ العطفِ نحوُ: "مَا تَأْتِيَنَا فَتُحَدِّثُنَا": بمعنَى: مَا تَأْتِيَنَا فَمَا تُحَدِّثُنَا، فيكونَ الفعلانِ مَقْصُودًا نَفْيُهُمَا، وبمعنَى مَا تَأْتِيْنَا فَأَنْتَ تُحَدِّثُنَا، عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، فيكونَ المقصودُ: نَفْيَ الأوَّلِ وإثباتَ الثانِي، وإذَا قُصِدَ الجوابُ لَمْ يَكُنْ الفِعْلُ إلا منصوبًا عَلَى مَعْنَى: مَا تَأْتِيَنَا مُحَدِّثًا؛ فيكونُ المقصودُ نفيَ اجتماعِهِمَا، أو عَلَى معنَى مَا تَأْتِيَنَا فَكَيْفَ تُحَدِّثُنَا، فيكونُ المقصودُ نفيَ الثانِي لانتفاءِ الأوَّلِ.
واحْتُرِزَ بِمَحْضَيْنِ عَنِ النفيِ الذِي ليسَ بِمَحْضٍ، وهو المُنْتَقِضُ بـ"إِلَّا" والمتلوُّ بِنَفْيٍ، نحوُ: "مَا أَنْتَ تَأْتِيْنَا إِلَّا فَتُحَدِّثُنَا"، ونحوُ: "مَا تَزَالُ تَأْتِيْنَا فَتُحَدِّثُنَا" ومِنَ الطَّلَبِ الذِي ليسَ بِمَحْضٍ، وهُو الطلبُ باسمِ الفِعْلِ أو بالمصدرِ أو بِمَا لفظُهُ خَبَرٌ، نحوُ: "صَهْ فَأُكْرِمْكَ" و"حَسْبُكَ الحَدِيْثُ فَيَنَامُ الناسُ" ونحوُ: "سُكُوتًا فينامُ الناسُ" ونحوُ: "رَزَقَنِي اللهُ مَالًا فَأُنْفِقُهُ فِي الخيرِ" فَلا يكونُ لشيءٍ مِنْ ذلكَ جوابُ منصوبٍ، وسيأتِي التنبيهُ عَلَى خِلَافٍ فِي بعضِ ذلكَ.
تنبيهاتٌ: الأوَّلُ: مِمَّا مُثِّلَ بِهِ فِي (شَرْحِ الكَافِيَةِ) لجوابِ النفيِ المُنْتَقِضِ "مَا قَامَ فَيَأْكُلُ إلا طَعَامَهُ" قَالَ: ومِنْهُ قولُ الشاعِرِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1039- وَمَا قَامَ مِنَّا قَائِمٌ فِي نَدِيِّنَا = فَيَنْطِقُ إلا بالتِي هِيَ أَعْرَفُ
وتَبِعَهُ الشارحُ فِي التمثيلِ بذلكَ، واعترضَهُمَا المُرَادِيُّ، وقَالَ: إنَّ النفيَ إذَا انْتَقَضَ بـ "إِلَّا" بَعْدَ الفاءِ، جَازَ النصبُ نَصَّ عَلَى ذلكَ سِيْبَويْهِ وعَلَى النصبِ أَنْشَدَ:
* فَيَنْطِقَ إلا بالتِي هِي أَعْرَفُ *
الثانِي: قَدْ تُضْمَرُ "أَنْ" بَعْدَ الفاءِ الواقعةِ بينَ مَجْزُومَيِ أَدَاةِ شَرْطٍ، أو بَعْدَهُمَا، أَوْ بَعْدَ حَصْرٍ بـ"إِنَّمَا" اختيارًا، نحوُ: "إِنْ تَأْتِنِي فَتُحْسِنَ إِلَىَّ أَكَافِئْكَ" ونحوُ: "مَتَى زُرْتَنِي أُحْسِنْ إليكَ فَأُكْرِمَكَ" ونحوُ: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يقولُ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنَ) فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، وبَعْدَ الحَصْرِ بـ"إِلَّا" والخبرِ المُثْبَتِ الخَالِي مِنَ الشرطِ اضْطِرَارًا، نحوُ: "مَا أَنْتَ إِلَّا تَأْتِيْنَا فَتُحَدِّثَنَا" ونحوُ قولِهِ [مِنَ الوَافِرِ]:
1040- سَأَتُرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيْمٍ = وَأَلْحَقُ بالحِجَازِ فَاسَتْرَيْحَا
الثالثُ: يَلْحَقُ بالنفيِ التشبيهُ الواقعُ مَوْقِعَهُ، نحوُ: "كَأَنَّكَ وَالٍ عَلَيْنَا فَتَشْتُمَنَا"، أيْ: مَا أَنْتَ وَالٍ عَلَيْنَا، ذَكَرَهُ فِي (التَّسْهِيْلِ) وقَالَ فِي (شَرْحِ الكَافِيَةِ) إنَّ "غَيْرًا" قَدْ تُفِيْدُ نَفيًا؛ فيكونُ لَهَا جوابٌ منصوبٌ كالنفيِ الصريحِ؛ فيقالُ "غَيْرُ قَائِمٍ الزيدانِ فَتُكْرِمَهُمَا" أَشَارَ إِلى ذَلِكَ ابْنُ السَّرَّاجِ، ثُمَّ قَالَ: ولا يجوزُ هَذَا عِنْدِي قُلْتُ: وهُو عِنْدِيَ جَائِزٌ، واللهُ أَعْلَمُ، هَذَا كَلامُهُ بِحُرُوفِهِ.
الرابعُ: ذَهَبَ بعضُ الكوفيينَ إِلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الفاءِ مَنْصوبٌ بالمُخَالَفَةِ، وبعضُهُمْ إِلَى أَنَّ الفاءَ هِي الناصبةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي "أَوْ"، والصحيحُ مذهبُ البصريينَ لأنَّ الفاءَ عَاطِفَة؛ ٌ فَلا عَمَلَ لَهَا، لكِنَّهَا عَطَفَتْ مَصْدَرًا مُقَدَّرًا عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، والتقديرُ فِي نَحْوِ: "مَا تَأْتِيْنَا فَتُحَدِّثَنَا" مَا يكونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فَتَحْدِيْثٌ, وكَذَا يُقَدَّرُ فِي جَمِيعِ المَواضِعِ.
الخامسُ: شَرَطَ فِي (التَّسْهِيْلِ) فِي نَصْبِ جَوَابِ الاستفهامِ، أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ وقوعَ الفعلِ احْتِرَازًا مِنْ نَحْوِ: "لِمَ ضَرَبْتَ زَيْدًا فَيُجَازِيَكَ"، لِأَنَّ الضربَ قَدْ وَقَعَ فَلَمْ يُمْكِنْ سَبْكُ مَصْدَرٍ مُسْتَقْبَلٍ مِنْهُ، وهُو مذهبُ أبِي عَلِيٍّ، ولمْ يَشْتَرِطْ ذَلكَ المَغَارِبَةُ.
وحَكَى ابْنُ كَيْسَانَ "أَيْنَ ذَهَبَ زَيْدٌ فَنَتْبَعَهُ"؟. بالنصبِ مَعَ أَنَّ الفعلَ فِي ذلكَ مُحَقَّقُ الوقوعِ، وإذَا لمْ يُمْكِنْ سَبْكُ مَصْدَرٍ مستقبلٍ مِنَ الجُمْلَةِ سَبَكْنَاهُ مِنْ لَازِمِهَا، فالتقديرُ، لِيَكُنْ مِنْكَ إِعْلَامٌ بِذَهَابِ زَيْدٍ فَاتِّبَاعٌ مِنَّا.
688- والوَاوُ كالفَا إِنْ تُفِدْ مَفْهُومَ مَعْ = كـ "لَا تَكُنْ جَلْدًا وتُظْهِرَ الجَزَعْ"
(والوَاوُ كالفَا) فِي جميعِ مَا تَقَدّ َمَ (إِنْ تُفِدْ مفهومَ مَعْ) أيْ: يُقْصَدُ بِهَا المُصَاحَبَةَ (كَلَا تَكُنْ جَلْدًا وتُظْهِرَ الجَزَعْ) أيْ: لا تَجْمَعْ بَيْنَ هذَينِ، وقَدْ سُمِعَ النصبُ مَعَ الواوِ فِي خمسةٍ مِمَّا سُمِعَ مَعَ الفَاءِ.
الأوَّلُ: النفيُ، نحوُ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الذينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِيْنَ}.
الثانِي: الأَمْرُ، نحوُ قولِهِ [مِنَ الوَافِرِ]:
1041- فَقُلْتُ ادْعِي وأَدْعُو، إِنَّ أَنْدَى = لَصُوتٍ أَنْ يُنَادِي دَاعِيَانِ
الثالثُ: النَّهْيُ نحوُ قولِهِ [مِنَ الكَامِلِ]:
1042- يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ = هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التعليمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا = فَإِذَا انْتَهَيْتَ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيْمُ
فَهْنَاكَ يُسْمَعُ مَا تَقُولُ ويُشْتَفَى = بالقولِ مِنْكَ ويَنْفَعُ التعليمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلِقٍ وتَأَتْيَ مِثْلَهُ = عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيْمُ
الرابعُ: الاستفهامُ نحوُ قولِهِ [مِنَ الكَامِلِ]:
1043- أَتَبِيْتَ رَيَّانَ الجُفُونِ مِنَ الكَرَى = وَأَبِيْتُ مِنْكَ بِلَيْلَةِ المَلْسُوعِ
وقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1044- أَلَمْ أَكُ جَارَكُمُ وَيَكُونَ بَيْنِي = وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإِخَاءُ
الخامسُ: التَّمَنِّي، نحوُ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا ونَكُونَ مِنَ المُؤْمِنَيْنَ} فِي قراءةِ حَمْزَةَ وحَفْصٍ، وقَيْسَ البَاقِي.
قالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: الواوُ يُنْصَبُ مَا بَعْدَهَا فِي غيرِ المُوْجَبِ، مِنْ حَيْثُ انْتَصَبَ مَا بَعْدَ الفاءِ، وَإِنَّمَا يَكونُ كذلكَ إِذَا لَمْ تُرِدِ الاشْتِرَاكَ بَيْنَ الفعلِ والفعلِ، وأردْتَ عطفَ الفعلِ عَلَى مَصْدَرِ الفعلِ الذِي قَبْلَهَا، كَمَا كانَ فِي الفاءِ، وَأَضْمَرْتَ "أَنْ" وتكونُ الواوُ فِي هذَا بمعنَى "مَعَ" فَقَطْ.
وَلا بُدَّ "مَعَ" هذَا الذِي ذَكَرَهُ، مِنْ رِعَايَةِ أَنْ لا يكونَ الفعلُ بعدَ الواوِ مَبْنِيًّا عَلَى مُبْتدأٍ مَحْذوفٍ؛ لأنَّهُ مَتَى كانَ كَذَلِكَ وَجَبَ رفعُهُ، ومِنْ ثَمَّ جَازَ فِيْمَا بَعْدَ الواوِ، مِنْ نَحوِ: "لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ ِاللبنَ" ثلاثةِ أوْجُهٍ: الجزمُ عَلَى التَّشْرِيْكِ بَيْنَ الفعلينِ فِي النهيِ، والنصبُ علَى النهيِ عَنِ الجَمْعِ، والرفعُ عَلَى ذَلكَ المعنَى، ولَكِنْ عَلَى تقديرِ، وأنْتَ تَشْرَبُ اللبنَ.
تنبيهٌ: الخِلَافُ فِي الواوِ كالخِلافِ فِي الفاءِ، وقد تَقَدَّمَ.

  #5  
قديم 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م, 07:04 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي دليل السالك للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان


أحوالُ (أَن) المَصدريَّةِ
682- وَبَيْنَ لا وَلامِ جَرٍّ الْتُزِمْ = إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً وَإِنْ عُدِمْ
683- لا فَأَنَ اعْمِلْ مُظْهِراً أَوْ مُضْمِرَا = وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ حَتْماً أُضْمِرا
684- كَذَاكَ بَعْدَ أَوْ إذَا يَصْلُحُ في = مَوْضِعِهَا حَتَّى أَوِ الاَّ أَنْ خَفِي
اخْتُصَّتْ (أَن) المَصْدَرِيَّةُ بأنَّها تَنْصِبُ المُضَارِعَ ظاهرةً ومُضْمَرَةً، ولها بهذا الاعتبارِ ثلاثُ حالاتٍ:
الأُولَى: أنْ تَظْهَرَ وُجوباً.
الثانيَةُ: أنْ تَظْهَرَ جَوازاً.
الثالثةُ: أنْ تُضْمَرَ وُجوباً.
1- إظهارُها وُجوباً:
فتَظْهَرُ وُجوباً إذا وَقَعَتْ بينَ (لامِ) الجَرِّ و(لا)، سَوَاءٌ كانتْ (لا) نافيَةً أمْ زائدةً.
فمِثالُ النافيَةِ: أَحْضُرُ مُبَكِّراً لِئَلاَّ يَفُوتَني الصفُّ الأوَّلُ.
قالَ تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، فَـ(لِئَلاَّ): اللامُ حرْفُ تعليلٍ وَجَرٍّ، و(أَنْ): حرْفٌ مَصْدَرِيٌّ ونَصْبٍ، و(لا): نافيَةٌ، والهمزةُ في (لِئَلاَّ) هيَ هَمزةُ (أَنْ)، وأمَّا نُونُها فمُدْغَمَةٌ في (لا)، فلا تَظْهَرُ لا لَفْظاً ولا خَطًّا، و(يَكُونَ): فعْلٌ مُضارِعٌ ناقصٌ مَنصوبٌ بـ(أَنْ)، و(لِلنَّاسِ): خبرٌ مُقَدَّمٌ، وَ(حُجَّةٌ): اسْمُهُ مُؤَخَّرٌ.
ومثالُ الزائدةِ: قولُهُ تعالى: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}؛ أيْ: لِيَعْلَمَ أهلُ الكتابِ، فـ(لا) صِلَةٌ للتوكيدِ؛ إذْ لوْ كانتْ نافيَةً لفَسَدَ المعنى.
2- جوازُ إظهارِها وإضمارِها:
الحالةُ الثانيَةُ: جوازُ إظهارِها وإضمارِها، وذلكَ في مَوْضِعَيْنِ:
الأوَّلُ: إذا وَقَعَتْ (أنْ) بعدَ (لامِ) الجَرِّ، ويَقَعُ المُضَارِعُ بعدَها مُباشَرَةً، سَوَاءٌ كانت اللامُ للتعليلِ، وهيَ أنْ يكونَ ما بعدَها عِلَّةً لِمَا قَبْلَها، نحوُ: حَضَرْتُ لأَسْتَفِيدَ، قالَ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}، فـ(تُبَيِّنَ): فعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أَنْ) مُضْمَرَةٍ جوازاً بعدَ (لامِ) التعليلِ.
أوْ كانت اللامُ لِبَيَانِ العاقبةِ، وتُسَمَّى (لامَ الصَّيْرُورَةِ)، وهيَ أنْ يكونَ ما بعدَها نتيجةً مُتَرَتِّبَةً على ما قبلَها؛ كقولِهِ تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}، فاللامُ هنا لَيْسَتْ للتعليلِ؛ لأنَّهُم لم يَلْتَقِطُوهُ لذلكَ، وإنَّما الْتَقَطُوهُ لِيَكُونَ لهم قُرَّةَ عَيْنٍ، فكانَ عَاقِبَتُهُ أنْ صارَ لهم عَدُوًّا وحَزَناً.
أو كَانَت اللامُ زائدةً، وهيَ الواقعةُ بعدَ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، وفائدتُها التوكيدُ؛ كقولِهِ تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}، فالفعلُ (يُريدُ) مُتَعَدٍّ، ومفعولُهُ هوَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ (أَن) الْمُضْمَرَةِ جوازاً بعدَ اللامِ، ومِن المُضَارِعِ بعدَها. وهذهِ اللامُ زائدةٌ بَيْنَ الفعلِ ومفعولِهِ، والتقديرُ: إِنَّمَا يُريدُ اللَّهُ إِذْهَابَ الرِّجْسِ عنْكُم.
الْمَوْضِعُ الثاني: سيَأْتِي ذِكْرُهُ في آخِرِ البابِ إنْ شاءَ اللَّهُ.
3- وُجوبُ إضمارِ (أنْ):
الحالةُ الثالثةُ: وُجوبُ إضمارِ (أنْ)، وذلكَ في خمسةِ مَواضِعَ:

الْمَوْضِعُ الأوَّلُ:
الأوَّلُ: بعدَ (لامِ الْجُحودِ)، ومعنى الْجُحودِ: النفيُ، وهيَ اللامُ المَسْبُوقَةُ بِكَوْنٍ ماضٍ مَنْفِيٍّ، نحوُ: ما كانَ الصَّدِيقُ لِيَخُونَ صديقَهُ، لم يَكُن الْغِنَى لِيُطْغِيَ كِرَامَ النُّفُوسِ.
فَـ(اللامُ) في (لِيَخُونَ) وَ(لِيُطْغِيَ) لامُ الْجُحودِ، وتُفِيدُ توكيدَ النفيِ؛ لأنَّ الأَصْلَ: ما كانَ يَفْعَلُ، ثمَّ أُدْخِلَتِ اللامُ زيادةً في تقويَةِ النفيِ، وسُمِّيَتْ (لامَ الْجُحودِ)؛ لِمُلازَمَتِها الْجَحْدَ، وهوَ النَّفْيُ. وهذا اصْطِلاحٌ، وإلاَّ فالجَحْدُ هوَ الإنكارُ. ومِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، وقولُهُ تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}.
فَـ(لِيُعَذِّبَهُمْ): اللامُ لامُ الْجُحودِ، و(يُعَذِّبَ): فعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أَن) المُضْمَرَةِ وُجوباً بعدَ (لامِ) الْجُحودِ، والفاعلُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ، والهاءُ: مفعولٌ بهِ، والميمُ: علامةُ الْجَمْعِ، والجملةُ صِلَةُ الموصولِ الْحَرْفِيِّ (أنْ)، والْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ مَجرورٌ باللامِ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرِ (كانَ)، والتقديرُ واللَّهُ أَعْلَمُ: وما كانَ اللَّهُ مُرِيداً لِتَعْذِيبِهم.
المَوْضِعُ الثاني:
الثاني: بعدَ (أَو) العاطِفَةِ التي بمعنى (حَتَّى)، أوْ بمعنى (إِلاَّ) الاستثنائِيَّةِ.
فتكونُ (أَوْ) بمعنى (حَتَّى) إذا كانَ المعنى قبلَها يَنْقَضِي شيئاً فشيئاً، نحوُ: لأَلْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي.
فالفعْلُ (تَقْضِيَ) مَنصوبٌ بـ(أَن) المُضْمَرَةِ وُجوباً بعدَ (أَوْ)، وهيَ بمعنى (حَتَّى)؛ إذْ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: لأَلْزَمَنَّكَ حتَّى تَقْضِيَنِي حَقِّي، ومنهُ قَوْلُ الشاعرِ:
لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أوْ أُدْرِكَ الْمُنَى = فما انْقَادَتِ الآمالُ إلاَّ لصَابِرِ
فالفعلُ (أُدْرِكَ) مَنصوبٌ بـ(أَن) المُضْمَرَةِ وُجوباً بعدَ (أَوْ)، وهيَ بمعنى (حَتَّى)؛ لأنَّ إدراكَ الْمُنَى يَحْصُلُ شيئاً بعدَ شيءٍ.
وتكونُ (أَوْ) بمعنى (إِلاَّ) إذا لم يَصِحَّ وُقوعُ (حتَّى) مَوْقِعَهَا، نحوُ: يُعَاقَبُ الْمُسِيءُ أوْ يَعْتَذِرَ، فالفعلُ (يَعْتَذِرَ) مَنصوبٌ بـ(أَن) المُضْمَرَةِ وُجوباً بَعْدَ (أَوْ)، وهيَ بمعنى (إِلاَّ)؛ إذْ يَصِحُّ أنْ يُقَالَ: يُعَاقَبُ المُسِيءِ إلاَّ أنْ يَعْتَذِرَ. ولا يَصِحُّ وُقوعُ (حَتَّى) مَوْقِعَها لفسادِ المعنى؛ لأنَّ الاعتذارَ لا يكونُ غايَةً للعِقابِ، ومنهُ قولُ الشاعرِ:
وكُنْتُ إذا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ = كَسَرْتُ كُعُوبَها أوْ تَسْتَقِيمَا
فالفعلُ (تَستقيمَ) مَنصوبٌ بـ(أَن) المُضْمَرَةِ وُجوباً بعدَ (أَوْ)، وهيَ بِمَعْنَى (إِلاَّ)؛ أيْ: إلاَّ أَنْ تَستقيمَ فلا أَكْسِرَ كُعُوبَهَا. ولا يَصِحُّ أنْ تكونَ بمعنى (إِلَى)؛ لأنَّ الاستقامةَ لا تكونُ غايَةً للكَسْرِ.
وإلى ما تَقَدَّمَ أشارَ بقولِهِ: (وبَيْنَ لا ولامِ جَرٍّ الْتَزِمْ.. إلخ).
أيْ: يَلْزَمُ إظهارُ (أَن) الناصبةِ للمُضَارِعِ إذا وَقَعَتْ متوَسِّطَةً بَيْنَ (لا) بنَوْعَيْهَا ولامِ الْجَرِّ. وهذهِ الحالةُ الأُولَى مِنْ أحوالِ (أنْ) وهيَ وُجوبُ إظهارِها، فإنْ عُدِمَ الحرفُ (لا) فأَعْمِلْ (أنْ) ظاهراً أوْ مُضْمَراً؛ لأنَّ الأمرَيْنِ جائزانِ.
وهذا الْمَوْضِعُ الأوَّلُ مِن الحالةِ الثانيَةِ، وهيَ جَوازُ إضمارِها.
وقولُهُ: (أَعْمِلْ) بكَسْرِ الميمِ، فِعْلُ أمْرٍ مِنْ (أَعْمَلَ)، نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ فيهِ إلى النُّونِ قبلَها، ثمَّ حُذِفَتْ.
ثمَّ انْتَقَلَ إلى الحالةِ الثالثةِ، وهيَ وُجوبُ إضمارِها، فذَكَرَ الْمَوْضِعَ الأوَّلَ بقولِهِ: (وبَعْدَ نَفْيِ كانَ حَتْماً أُضْمِرَا)؛ أيْ: أُضْمِرَ الحرفُ الناصبُ، وهوَ (أنْ)، إذا وَقَعَ بعدَ (كانَ) الْمَنْفِيَّةِ.
وذَكَرَ المَوْضِعَ الثانيَ في قولِهِ: (كَذَاكَ بعدَ أوْ.. إلخ)، فـ(أنْ) مُبْتَدَأٌ قُصِدَ لَفْظُهُ، و(خَفِيَ): خَبَرٌ.
وقولُهُ: (كَذَاكَ) مُتَعَلِّقٌ بـ(خَفِيَ)، أوْ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحذوفٍ يَقَعُ مَفعولاً مُطْلَقاً لـ(خَفِيَ)، والمعنى: أنَّ الحرفَ الْمَصْدَرِيَّ (أَنْ) خَفِيَ خَفاءً، بمعنى أُضْمِرَ ولم يَظْهَرْ بَعْدَ (أَوْ) مِثْلَ ذاكَ الخَفَاءِ الذي وَقَعَ بعدَ (لامِ الْجُحودِ)، يُريدُ أنَّهُ خَفاءٌ وَاجِبٌ. بشَرْطِ أنْ تكونَ (أَوْ) بمعنى (حَتَّى) أوْ (إِلاَّ)، بحيثُ يَصِحُّ إحلالُ أحَدِ هذَيْنِ الحرفَيْنِ في مَوْضِعِها.
685- وَبَعْدَ حَتَّى هكَذَا إضْمَارُ أَنْ = حَتْمٌ كَجُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ
686- وَتِلْوَ حَتَّى حَالاً أوْ مُؤَؤَّلا = بِهِ ارْفَعَنَّ وانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلا
الموضِعُ الثالثُ لوجوبِ إضمارِ (أنْ):
3- الموضِعُ الثالثُ لإضمارِ (أَن) المَصْدَرِيَّةِ وُجوباً بعد (حَتَّى)، وهيَ (حَتَّى) الجارَّةُ للمَصْدَرِ الْمُؤَوَّلِ مِنْ (أن) المُضْمَرَةِ والمُضَارِعِ بعدَها.
ومعناها: إمَّا الدِّلالةُ على الغايَةِ، فتكونُ بمعنى (إِلَى أنْ)؛ كقولِهِ تعالى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}.
أو الدَّلالةُ على التعليلِ، فتكونُ بمعنى (كَيْ)؛ كقولِهِ تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}.
أو الدَّلالةُ على الاستثناءِ، فتكونُ بمعنى (إِلاَّ أَنْ)، نحوُ: ((لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ))، قالَ تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}.
وشَرْطُ نَصْبِ المُضَارِعِ بـ(أَن) بعدَ (حَتَّى) أنْ يكونَ الفعْلُ مُسْتَقْبَلاً، نحوُ: لا يُمْدَحُ الولَدُ حتَّى يَنَالَ رِضَا وَالِدَيْهِ.
ومنهُ قولُهُ تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.
فـ (حتَّى): حَرْفُ غايَةٍ وَجَرٍّ، وَ(يَبْلُغَ): فعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أنْ) مُضْمَرَةٍ وُجُوباً بعدَ (حَتَّى)، و(أنْ) وما دَخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مَصْدَرٍ مجرورٍ بـ(حتَّى)؛ أيْ: حتَّى بُلُوغِ الهدْيِ مَحِلَّهُ، وَ(الْهَدْيُ): فاعلٌ، وَ(مَحِلَّهُ): مفعولٌ بهِ، والهاءُ: مُضافٌ إليهِ.
فإنْ كانَ الفعْلُ بعدَها غيرَ مُسْتَقْبَلٍ، بأنْ كانَ زَمَنُ الفعلِ هوَ زَمَنَ النُّطْقِ، لم يُنْصَبِ المُضَارِعُ بعدَها، بلْ يُرْفَعُ، وتكونُ (حتَّى) ابتدائيَّةً، وما بعدَها مُستأنَفٌ.
نحوُ: يَجْرِي الماءُ بَيْنَ النَّخْلِ حتَّى تَشْرَبُ، فالفعلُ (تَشْرَبُ) مرفوعٌ وُجوباً؛ لأنَّ معناهُ - وهوَ الشُّرْبُ- حاصلٌ الآنَ في وَقْتِ التكَلُّمِ، فزَمَنُ الشُّرْبِ والنُّطْقِ واحدٌ.
ومنهُ قولُهُ تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}؛ فقَدْ قَرَأَ نافعٌ الْمَدَنِيُّ - مِن السَّبْعَةِ - برَفْعِ (يَقُولُ)؛ لبيانِ الحالِ التي كانَ عليها الرسولُ ومَنْ معهُ، و(حتَّى) لا تَعْمَلُ في حَالٍ.
والتقديرُ: وزُلْزِلُوا فيما مَضَى حتَّى إنَّ الرسولَ يقولُ: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ فيكونُ قَوْلُهم مُقَدَّراً وقُوُعهُ في الحالِ، وهوَ زَمَنُ التكَلُّمِ؛ لاستحضارِ صُورتِهِ العَجِيبَةِ.
وقرأَ الباقونَ مِن السبعةِ بنَصْبِ (يَقُولَ)، وعليهِ الاختيارُ؛ لأنَّ عليهِ جماعةَ القُرَّاءِ، وتكونُ (حتَّى) غايَةً للزَّلْزَلَةِ؛ لأنَّهُم زُلْزِلُوا ثمَّ جاءَ القولُ، فيكونُ مُسْتَقْبَلاً بالنظَرِ إلى الزِّلْزَالِ، لا بالنظَرِ إلى زَمَنِ نزولِ الآيَةِ، فهوَ ماضٍ.
ومعنى (زُلْزِلُوا): خُوِّفُوا وأُزْعِجُوا إزْعَاجاً شَديداً.
وفيما يَتَعَلَّقُ بـ(حتَّى) يقولُ ابنُ مالِكٍ: (وبعدَ حتَّى هكذا إِضْمَارُ أنْ): أيْ أنَّ إضمارَ (أنْ) بعدَ (حتَّى) واجبٌ كالإضمارِ السابقِ، ثمَّ ذَكَرَ الْمِثالَ: (جُدْ حتَّى تَسُرَّ ذا حَزَنْ)، وجُدْ بضَمِّ الجيمِ أَمْرٌ مِنْ: جَادَ يَجُودُ، والْجُودُ ضِدُّ البُخْلِ.
و(تَسُرَّ): بضَمِّ السينِ الْمُهْمَلَةِ مِن السُّرُورِ ضِدِّ الحَزَنِ؛ بفَتْحِ الحاءِ الْمُهْمَلَةِ والزايِ. ثمَّ قالَ: ارْفَع المُضَارِعَ التالي (حتَّى) حالَ كَوْنِهِ (حالاً) أوْ مُؤَوَّلاً بالحالِ؛ لأنَّ نَصْبَهُ بتقديرِ (أنْ)، وهيَ للاستقبالِ، والحالُ يُنَافِيهِ.
وانْصِبِ المُضَارِعَ المُستَقْبَلَ الذي لم يُؤَوَّلْ بالحالِ.
687- وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ = مَحْضَيْنِ أَنْ وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ
الْمَوْضِعُ الرابعُ لوُجُوبِ إضمارِ (أنْ):
4- الْمَوْضِعُ الرابعُ لإضمارِ (أنْ) وُجوباً أنْ تَقَعَ بعدَ (فاءِ) السَّبَبِيَّةِ إذا كانتْ مَسبوقةً بنَفْيٍ مَحْضٍ أوْ طَلَبٍ مَحْضٍ. فَهُمَا شَرْطَانِ:
الأوَّلُ: أنْ تَكُونَ الفاءُ للسَّبَبِيَّةِ، وهيَ التي يكونُ ما قبلَها سبباً في حُصُولِ ما بعدَها.
الثاني: أنْ تكونَ مَسبوقةً بنفْيٍ مَحْضٍ، وهوَ الخالِصُ مِنْ معنى الإثباتِ، لم يَنْتَقِضْ نفْيُهُ بـ(إلاَّ) ولا بنَفْيٍ آخَرَ يُزيلُ أثَرَهُ ويَجْعَلُ الكلامَ مُثْبَتاً.
أو مَسبوقةً بطَلَبٍ مَحْضٍ: وهوَ أنْ يكونَ الطلَبُ بفِعْلٍ صريحٍ، وهوَ الأمْرُ والدعاءُ والنهيُ؛ لأنَّ صِيَغَها اللَّفْظِيَّةَ تَدُلُّ نَصًّا وأَصَالةً على الطَّلَبِ بدُونِ وَاسِطَةٍ.
ويَلْحَقُ بذلكَ: الاستفهامُ، والعَرْضُ، والتَّحْضِيضُ، والتَّمَنِّي، وكذا التَّرَجِّي على الصحيحِ؛ فإنَّها تُفيدُ الطلَبَ، ولكنَّها تَدُلُّ عليهِ دَلالةً غيرَ مَحْضَةٍ؛ لِكَوْنِ الطلَبِ فيها يَأْتِي تابِعاً لمعنى آخَرَ يَتَضَمَّنُهُ، فالتَّمَنِّي مَثَلاً لا يَدُلُّ على الطَّلَبِ مُباشَرَةً، بلْ لأنَّ تَمَنِّيَ الشيءِ المحبوبِ يَلْزَمُ منهُ طَلَبُ مَجيئِهِ، وهكذا الباقي.
فمِثالُ النفيِ: لم يُسْأَلْ فَيُجِيبَ، فالفعلُ (يُجيبَ) مَنصوبٌ بـ(أنْ) مُضْمَرَةٍ وُجوباً بعدَ (فاءِ) السببيَّةِ؛ لأنَّ السُّؤَالَ سَبَبُ الإجابةِ، وقدْ تَقَدَّمَ عليها نَفْيٌ لم يُنْتَقَضْ.
ومنهُ قولُهُ تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}، فـ(يَمُوتُوا): فعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أَنْ) مُضْمَرَةٍ وُجوباً، وعلامةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النُّونِ، والواوُ: فاعلٌ.
وأمَّا الطلَبُ فيَشْمَلُ الأمرَ، نحوُ: احْتَرِمِ الصديقَ فَتَدُومَ لكَ صَداقتُهُ، ومنهُ قولُهُ تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فقدْ قَرَأَ ابنُ عامرٍ - مِن السَّبْعَةِ - بنَصْبِ (يَكُونَ) جواباً لقولِهِ: (كُنْ)، وهوَ أمْرٌ أوْ شبيهٌ بالأمْرِ، وقرأَ الباقونَ برَفْعِ (يَكُونُ) على الاستئنافِ، أوْ بالعطْفِ على (يَقُولُ).
ويَشْمَلُ النهيَ، نَحْوُ: لا تَغِشَّ في البيعِ فتُنْزَعَ البَرَكَةُ.
قالَ تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} فَـ(تَقْعُدَ): فعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أنْ) مُضْمَرَةٍ وُجوباً في جوابِ النهيِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ.
والتحضيضَ، نحوُ: هلاَّ تَزُورُنا فتُحَدِّثَنا.
ومنهُ قولُهُ تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}، فـ(أَصَّدَّقَ): مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أنْ) مُضْمَرَةٍ وُجوباً في جوابِ التحضيضِ.
والتمَنِّيَ، نحوُ: لَيْتَ لِي مَالاً فأَتَصَدَّقَ منهُ، ومنهُ قولُهُ تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} فـ(أَفُوزَ): فعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أنْ) مُضْمَرَةٍ وُجوباً في جوابِ التَّمَنِّي. وقولُهُ تعالى: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}، فـ(نَتَبَرَّأَ): فعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أَن) الْمُضْمَرَةِ وُجوباً بعدَ الفاءِ في جوابِ التَّمَنِّي، وهوَ (لَوْ).
والعرْضَ، نحوُ: أَلا تَزُورُنا فتُحَدِّثَنا.
والاستفهامَ، نحوُ: هلْ تَزُورُنا فتُحَدِّثَنا؟ ومنهُ قولُهُ تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا}، فـ(يَشْفَعوا): فعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أَنْ) مُضْمَرَةٍ وُجوباً في جوابِ الاستفهامِ، وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النُّونِ، والواوُ: فاعلٌ.
والدعاءَ، نحوُ: رَبِّ وَفِّقْنِي فلا أَنْحَرِفَ.
والترَجِّيَ، وسَيَذْكُرُهُ ابنُ مالكٍ، نحوُ: لعَلَّكَ تَتَّقِي اللَّهَ فَتَفُوزَ بِرِضَاهُ. ومنهُ قولُهُ تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} بنَصْبِ (أَطَّلِعَ) على قراءةِ حَفْصٍ عنْ عاصِمٍ، وهوَ مَنصوبٌ؛ لأنَّهُ وَقَعَ بعْدَ (فاءِ) السببيَّةِ في جوابِ الترَجِّي، وقرأَ بَقِيَّةُ السبعةِ بالرفْعِ عَطْفاً على (أَبْلُغُ).
وقولُنا: (بعدَ فاءِ السببيَّةِ) احترازٌ مِن العاطفةِ على صريحِ الفِعْلِ، كقولِهِ تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}، فالفعلُ (يَعْتَذِرُونَ) معطوفٌ على (لا يُؤْذَنُ)، فهوَ مَرفوعٌ مِثْلُهُ؛ لِيَدُلَّ على نفْيِ الإذْنِ والاعتذارِ عَقِبَهُ مُطْلَقاً؛ أيْ: لا يُؤْذَنُ لهم فلا يَعْتَذِرُونَ.
واحترازٌ مِن الاستئنافيَّةِ، نحوُ: أَلَمْ تَسْأَلْ عَلِيًّا فَيُخْبِرُكَ، برَفْعِ (يُخْبِرُكَ) على الاستئنافِ.
وقولُنا: (بنَفْيٍ مَحْضٍ) احترازٌ مِن النفيِ غيرِ الْمَحْضِ، وهوَ ما انْتَقَضَ بـ(إلاَّ)، نحوُ: ما تَأْتِينَا إِلاَّ فَتُحَدِّثُنا. أوْ كانَ النفيُ بعدَ تقريرٍ، نحوُ: أَلَمْ تَأْتِنِي فأُحْسِنُ إليكَ. أوْ كانَ النفيُ بعدَهُ نفيٌ، نحوُ: ما تَزالُ تَأْتِينَا فتُحَدِّثُنَا؛ لأنَّ نَفْيَ النفيِ إثباتٌ، فيَجِبُ رفْعُ المُضَارِعِ بعدَ الفاءِ في هذهِ الْمُثُلِ.
وقولُنا: (بطَلَبٍ مَحْضٍ) احترازٌ مِن الطلَبِ غيرِ الْمَحْضِ، وهوَ ما كانَ باسمِ فعْلٍ أوْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ.
فالأوَّلُ نحوُ: صَهْ فَأُحَدِّثُكَ، برَفْعِ المُضَارِعِ بعدَ (الفاءِ).
والثاني نحوُ: حَسْبُكَ الحَدِيثُ فَيَنَامُ الناسُ، برَفْعِ المُضَارِعِ بعدَ (الفاءِ). وسَيَذْكُرُ ابنُ مالكٍ هذا فيما بَعْدُ.
وهذا معنى قولِهِ: (وبعدَ فاءِ جوابِ نفيٍ.. إلخ) فـ(أَنْ) قُصِدَ لَفْظُهُ مبتدأٌ، (وسَتْرُها حَتْمٌ): الْجُملةُ حالٌ، وقولُهُ: (نَصَبْ) خَبَرُ الْمُبتدأِ (أَنْ)، والتقديرُ: أنَّ نَصْبَ المُضَارِعِ في حالِ كَوْنِ سَتْرِها - أيْ: إِضْمَارِها – حَتْماً؛ أيْ: وَاجِباً، بعدَ (فاءِ) السببيَّةِ التي في صَدْرِ كلامٍ يَقَعُ جَوَاباً لنفْيٍ مَحْضٍ أوْ طَلَبٍ مَحْضٍ.
ولم يَتَعَرَّضْ للتفصيلِ، وقد استَعْمَلَ ابنُ مالكٍ لفْظَ (أنْ) بمعنى الْحَرْفِ، فأعادَ الضميرَ عليهِ مُذَكَّراً في قولِهِ: (نَصَبْ)، واستَعْمَلَها بمعنى الكلمةِ، فأعادَ الضميرَ عليها مُؤَنَّثاً في قولِهِ: (وسَتْرُهَا)، وهذا جائزٌ.
688- وَالْوَاوُ كَالْفَا إِنْ تُفِدْ مَفْهُومَ مَعْ = كَلا تكُنْ جَلْداً وَتُظْهِرَ الْجَزَعْ
الْمَوْضِعُ الخامسُ لوجوبِ إضمارِ (أنْ):
5- الْمَوْضِعُ الخامسُ مِنْ مَواضِعِ إضمارِ (أنْ) وُجوباً أنْ تَقَعَ بعدَ (واوِ) الْمَعِيَّةِ إذا كانتْ مَسبوقةً بنَفْيٍ مَحْضٍ أوْ طَلَبٍ مَحْضٍ. فهما شَرطانِ:
الأوَّلُ: أنْ تكونَ الواوُ للمَعِيَّةِ، وهيَ التي تُفيدُ مُصاحَبَةَ ما قَبْلَها لِمَا بَعْدَها، بمعنى أَنَّهُمَا يَحْصُلانِ معاً في زَمَنٍ واحدٍ يَجْمَعُهما.
الثاني: أنْ تكونَ مَسبوقةً بنَفْيٍ مَحْضٍ أوْ طَلَبٍ مَحْضٍ.
فمِثالُ النفيِ: لا آمُرُكَ بالمعروفِ وأُعْرِضَ عنهُ.
فالفعلُ (أُعْرِضَ) مَنصوبٌ بـ(أنْ) مُضْمَرَةٍ وُجوباً بعدَ (واوِ) الْمَعِيَّةِ؛ لأنَّ الْمَنْفِيَّ هوَ مُصاحَبَةُ الإعراضِ عن المعروفِ معَ الأَمْرِ بهِ، وقدْ تَقَدَّمَ على (الواوِ) نَفْيٌ مَحْضٌ لم يُنْتَقَضْ.
ومنهُ قولُهُ تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}، فـ(يَعْلَمَ) الثاني فعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ(أنْ) مُضْمَرَةٍ وُجُوباً بعدَ (واوِ) الْمَعِيَّةِ، وقدْ سُبِقَتْ بالنفيِ: (وَلَمَّا يَعْلَمْ)، والفعْلُ بعدَ النفْيِ مجزومٌ بِـ(لَمَّا)، وعلامةُ جَزْمِهِ السكونُ، وحُرِّكَ بالكسْرِ لالتقاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وأمَّا الطَّلَبُ فمِنه الأمْرُ، نحوُ: زُرْنِي وأُكْرِمَكَ. ومنهُ قولُ الشاعرِ:
فَقُلْتُ ادْعِي وأَدْعُوَ إِنَّ أَنْدَى = لِصَوْتٍ أنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ
فنَصَبَ الشاعِرُ الْمُضَارِعُ (أَدْعُوَ) بأنْ مُضْمَرَةٍ وُجوباً بعدَ واوِ الْمَعِيَّةِ في جوابِ الأمْرِ.
والنهيُ، نحوُ: لا تَأْمُرْ بالصدْقِ وتَكْذِبَ، ومنهُ قولُ الشاعرِ:
لا تَنْهَ عنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ = عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ
فنَصَبَ المُضَارِعَ (تَأْتِيَ) بأنْ مُضْمَرَةٍ وُجوباً بعدَ واوِ الْمَعِيَّةِ في جوابِ النهيِ.
والاستفهامُ، نحوُ: هلْ حَفِظْتَ الأحاديثَ وأَسْمَعَها منكَ؟ ومنهُ قولُ الشاعِرِ:
أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ ويَكُونَ بَيْنِي = وبيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ والإخاءُ؟
فنَصَبَ المُضَارِعَ (يَكُونَ) بأنْ مُضْمَرَةٍ وُجوباً بعدَ واوِ الْمَعِيَّةِ في جوابِ الاستفهامِ.
التَّمَنِّي، نحوُ: لَيْتَ لي مالاً وأَتَصَدَّقَ منهُ.
ومنهُ قولُهُ تعالى عن الكُفَّارِ: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ فقدْ قَرَأَ حفْصٌ وحَمزةُ: (وَلا نُكَذِّبَ) بالنصْبِ جَواباً للتَّمَنِّي بعدَ واوِ الْمَعِيَّةِ، وقرأَ ابنُ عامرٍ وحمزةُ وحفْصٌ: (وَنَكُونَ) بالنصْبِ عَطْفاً عليهِ، ورَفَعَهما الباقونَ عَطْفاً على (نُرَدُّ).
وأمَّا العرْضُ والتحضيضُ والترَجِّي مِنْ أنواعِ الطلَبِ الْمُتَقَدَّمَةِ، فمِن النَّحْوِيِّينَ مَنْ يَقِيسُها على ما ذُكِرَ ويَنْصُبُ المُضَارِعَ بعدَها، ومنهم مَنْ يَرَى أنَّ وُقُوعَها قبلَ الواوِ لا يُوجِبُ نصْبَ المُضَارِعِ، ولا تكونُ الواوُ للمَعِيَّةِ بِحُجَّةِ عدَمِ وُرُودِ السَّمَاعِ.
وقَوْلُنا: بعدَ (واوِ الْمَعِيَّةِ)، احترازٌ مِن العاطفةِ والاستئنافيَّةِ؛ فإنَّهُ لا يُنْصَبُ المُضَارِعُ بعدَهما بعدَ النفيِ أو الطلَبِ؛ لأنَّ العاطفةَ تَقْتَضِي التشريكَ بَيْنَ الفِعْلِ والفِعْلِ، والاستئنافيَّةَ تَقْتَضِي أنْ يكونَ ما بعدَها خبراً لِمُبتدأٍ محذوفٍ؛ ولهذا جازَ في الفعْلِ بعدَ الواوِ في نَحْوِ: لا تأْكُلْ وتَتكلَّم، ثلاثةُ أَوْجُهٍ:
1- الجزْمُ على التشريكِ بَيْنَ الفعلَيْنِ، ويكونُ النهيُ مُسَلَّطاً على الأمرَيْنِ معاً، وهما: الأكلُ والكلامُ، والمرادُ النهيُ عنْ كُلٍّ منهما على حِدَتِهِ.
2- الرَّفْعُ على إضمارِ مُبتدأٍ، وتكونُ الواوُ استئنافيَّةً، ويكونُ النهيُ عن الأوَّلِ فقطْ؛ أيْ: لا تأْكُلْ، ولكَ الكلامُ. أوْ تكونُ للحالِ، فيكونُ النهيُ عن الْمُصَاحَبَةِ؛ أيْ: لا تأْكُلْ وأنتَ تَتَكَلَّمُ.
3- النَّصْبُ على معنى النهيِ عن الْجَمْعِ بينَهما، فتكونُ الواوُ للمَعِيَّةِ؛ أيْ: لا يَكُنْ مِنْكَ أنْ تَأْكُلَ وأنْ تَتَكَلَّمَ.
وقدْ أشارَ ابنُ مالِكٍ للمَوْضِعِ الخامسِ بقولِهِ: (وَالْوَاوُ كَالْفَا.. إلخ): أيْ أنَّ الواوَ كفاءِ السببيَّةِ في وُقُوعِها بعدَ النفيِ والطلَبِ الْمَحْضَيْنِ، ونَصْبُ المُضَارِعِ بعدَها بأن المُضْمَرَةِ وُجوباً، بشَرْطِ أنْ تُفِيدَ (مَفْهُومَ مَعَ)؛ أيْ: دالَّةٌ على الْمَعِيَّةِ، ثمَّ ساقَ الْمِثالَ: (لا تَكُنْ جَلْداً وتُظْهِرَ الْجَزَعَ)؛ أيْ: لا تَكُنْ جَلْداً في وَقْتِ إظهارِ الْجَزَعِ، وفي المثالِ عَيْبٌ مَعْنَوِيٌّ؛ إذْ كيفَ يَكُونُ جَلْداً معَ إظهارِهِ الْجَزَعَ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أحوال, النصب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:54 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir