682- وبَيْنَ "لَا" ولامِ جَرًّ الْتُزِمْ = إَظْهَارُ "أَنْ" نَاصِبَةً وَإِنْ عُدِمْ
683- "لَا" فَأَنَ اعْمِلْ مُظْهِرًا أوْ مُضْمِرَا = وبَعْدَ نَفْيٍ كَانَ حَتْمًا أُضْمِرَا
(وبينَ لَا ولامِ جَرٍ الْتُزِمَ إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً) نحوُ: {لِئَلَّا يكونَ للناسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ} لَا فِي الآيةِ الأُوْلَى نافيةٌ، وفِي الثانيةِ مُؤَكِّدَةٌ، زَائِدَةٌ (وإِنْ عُدِمَ لَا فَأَنِ اعُلمْ مُظْهِرًا أو مُضْمِرًا) "لَا" فِي موضعِ الرفعِ بـ"عُدِمَ" و"أَنْ" فِي موضعِ النصبِ بـ"اعْمِلْ" ومُظْهِرًا ومُضْمِرًا: نُصِبَ عَلَى الحَالِ إِمَّا مِنْ "أَنْ" إِنْ كَانَا اسْمَي مفعولٍ أو مِنْ فَاعِلِ "أَعْمِلْ" المُسْتَتِرِ إِنْ كَانَا اسْمَيْ فَاعِلٍ.
أيْ: يَجُوزُ إظهارُ "أَنْ" وإضمارُهَا بعدَ اللامِ إذَا لَمْ يَسْبِقْهَا كونٌ ناقصٌ ماضٍ مَنْفِيٍ، ولمْ يقترنِ الفعلُ بـ"لَا"، فَالإِضْمَارُ، نَحْوُ: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِيْنَ} والإظهارُ، نحوُ: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِيْنَ} فإنْ سَبَقَهَا كونٌ ناقصٌ ماضٍ مَنفِيٍّ؛ وَجَبَ إضمارُ أَنْ بعدَهَا، وهَذَا أَشَارَ إليهِ بقولِهِ (وَبَعْدَ نَفْيٍ كَانَ حَتْمًا أُضْمِرَا) أيْ: نحوُ: {وَمَا كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ} {لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}، وتُسَمَّى هذِهِ اللامُ لامَ الجُحُودِ، وسَمْاَهَا النَّحَّاسُ لامَ النَّفِيِ، وهو الصوابُ والتِي قَبْلَهَا لامُ "كَي" لأنَّها للسببِ كَمَا أَنَّ "كَي" للسببِ.
وحاصلُ كلامِهِ أَنَّ لـ "أَنْ" بَعْدَ لامِ الجَرِّ ثلاثةُ أحوالٍ، وجوبُ إظهارِهَا مَعَ المَقْرُونِ بـ"لَا"، ووجوبُ إضمارِهَا بَعْدَ نَفْيِ "كانَ"، وجَوَازُ الأمرينِ فِيْمَا عَدَا ذلكَ، ولا يجبُ الإضمارُ بَعْدَ "كانَ" التامةِ؛ لأَنَّ اللامَ بعدَهَا ليستُ لامَ الجُحُودِ، وإنَّمَا لمَ ْيُقَيِّدْ كلامَهَ بالناقصةِ؛ اكتفاءً بأنَّها المفهومةُ عندَ إطلاقِ "كانَ" لشُهْرَتِهَا وكثرَتِهَا فِي أبوابِ النَّحْوِ.
ودَخَلَ فِي قولِهِ: "نَفْيٍ كانَ" نحوُ: "لَمْ يَكُنْ" أيْ: المضارعُ المنفيُّ بـ"لمْ" كَمَا رَأَيْتَ لِأَنَّ "لمْ" تَنْفِي المضارعَ وقدْ فُهِمَ مِنَ النَّظْمِ قَصْرُ ذلكَ عَلَى "كانَ"، خِلافًا لِمَنْ أجَازَهُ فِي أَخَوَاتِهَا قِيَاسًا، ولِمَنْ أجَازَهُ فِي "ظَنَنْتُ".
تنبيهاتٌ: الأوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ اللامَ التِي يُنْصَبُ الفعلُ بَعْدَهَا هِيَ لامُ الجَرِّ، والنصبُ بـ"أَنْ" مُضْمَرةٍ، وهو مذهبُ البصريينَ وذَهَبَ الكوفيونَ إلى أنَّ اللامَ ناصبةٌ بِنَفْسِهَا، وَذَهَبَ ثَعْلَبُ إلى أَنَّ اللامَ ناصِبَةٌ بِنَفْسِهَا؛ لِقِيَامِهَا مَقَامَ "أَنْ" والخلافُ في اللامينِ، أَعنِي لامَ الجُحُودِ ولامَ "كَيْ".
الثانِي: اخْتُلِفَ فِي الفعلِ بعدَ اللامِ، فذهبَ الكوفيونَ إلَى أنَّهُ خَبَرُ "كانَ" واللامُ للتوكيدِ، وذَهَبَ البصريونَ إِلَى أنَّ الخبرَ محذوفٌ، واللامُ مُتَعَلِّقَةٌ بذلكَ الخَبَرِ المحذوفِ، وقَدَّرَهُ "مَا كَانَ زَيْدٌ مُرِيْدًا لِيَفْعَلَ"، وإنَّمَا ذَهَبُوا إِلَى ذلكَ؛ لأنَّ اللامَ جارةٌ عِنْدَهُم، ومَا بَعْدَهُ فِي تَأْوِيْلِ مَصْدَرٍ، وصَرَّحَ المصنفُ بِأَنَّها مؤكِّدَةٌ لنفْيِ الخبرِ، إلا أنَّ الناصِبَ عندَهُ، "أَنْ" مُضْمَرَةٌ، فَهُو قولٌ ثالثٌ:
قالَ الشيخُ أبُو حَيَّانَ: ليسَ بقولٍ بَصْرِيٍّ ولا كُوفِيٍّ، ومُقْتَضَى قولِهِ: مُؤَكِّدَةٌ أنَّهَا زائدةٌ، وبِهِ صَرَّحَ الشَّارِحُ، لكِنْ قَالَ فِي شَرْحِهِ لهَذَا الموضعِ مِنَ (التَّسْهِيْلِ)، سُمِّيَتْ مُؤَكِّدَةً؛ لِصَحَّةِ الكلامِ بِدُونِهَا، لَا لأَنَّها زائدةٌ، إذْ لَوْ كَانَتْ زائدةً؛ لمْ يَكُنْ لنصبِ الفعلِ بعدَهَا وَجْهٌ صحيحٌ، وإنَّمَا هِيَ لامُ اختصاصٍ دخَلَتْ عَلَى الفعلِ لِقَصْدِ مَا كانَ زِيْدَ مُقَدَّرًا أو هَامًّا أو مُسْتَعِدًّا لأَنْ يَفْعَلَ.
الثالثُ: قَدْ تُحْذَفُ "كانَ" قَبْلَ لامِ الجُحُودِ كقولِهِ [مِنَ الوَافِرِ]:
1022- فَمَا جَمْعٌ لِيَغْلِبَ جَمْعَ قَوْمِي = مُقَاوَمَةً وَلَا فَرْدٌ لِفَرْدِ
أيْ: فَمَا كَانَ جَمْعٌ، ومنهُ قولُ أبِي الدَّرْدَاءِ فِي الركعتينِ بعدَ العَصْرِ: "مَا أَنَا لِأَدَعَهُمَا".
الرابعُ: أَطْلَقَ النَّافِيَ: ومُرَادُهُ مَا يَنْفِي المَاضِي، وذلكَ "مَا" و"لمْ" دُوْنَ "لَنْ" لأنَّها تَخْتَصُّ بالمستقبلِ، وكذلكَ "لَا" لِأَنَّ نَفْيَ غيرِ المستقبلِ بِهَا قليلٌ، وأَمَّا "لَمَّا" فَإِنَّها وإنْ كَانَتْ تَنْفِي الماضِيَ، لكِنْ تَدُلُّ عَلَى اتِّصَالِ نَفْيِهِ بالحالِ، وَأَمَّا "إِنْ" فَهِيَ بِمَعْنَى "مَا" وإِطْلَاقُهُ يَشْمَلُهَا، وزَعَمَ كثيرٌ مِنَ الناسِ فِي قولِهِ تَعالَى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُوْلَ مِنْهُ الجِبَالُ} فِي قِرَاءَةِ غيرِ الكِسَائِيِّ أَنَّهَا لامُ الجُحُودِ، لكِنْ يُبَعِّدُهُ أَنَّ الفعلَ بَعْدَ لامِ الجُحُودِ لَا يَرْفَعُ إلا ضَمِيْرَ الاسمِ السابقِ، والذِي يَظْهَرُ أَنَّها لامُ "كَيْ" وأَنَّ "إِنْ" شَرْطِيَّةٌ أَيْ: وعندَ اللهِ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ، وهُو مَكْرٌ أَعْظَمُ مِنْهُ، وإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِشِدَّتِهِ مُعَدًّا لِأَجْلِ زَوَالِ الأمورِ العِظَامِ المُشَبًّهَةِ فِي عِظَمِهَا بالجبالِ، كمَا يُقَالُ: أنَا أَشْجَعُ مِنْ فُلَانٍ، وإنْ كَانَ مُعَدًّا للنَّوَازِلِ.
الخامسُ: أَجَازَ بعضُ النحويينَ حذفَ لامِ الجُحُودِ وإظهارَ "أَنْ" مُسْتَدِلًّا بقولِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى}، والصحيحُ المَنْعُ، ولا حُجَّةَ فِي الآيةِ، لأَنَّ "أَنْ يُفْتَرَى" فِي تَأْوِيْلِ مَصْدَرٍ هو الخَبَرُ.
684- (كَذَاكَ بَعْدَ "أَوْ" إِذَا يَصْلُحُ فِي = مَوْضِعِهَا "حَتَّى" أَوِ "الَّا" أَنْ خَفِي)
"أَنْ" مُبْتَدَأٌ، و"خَفِي": خبرٌ، و"كذَاكَ" و"بَعْدَ" مُتَعَلِّقَانِ بـ"خَفِي"، و"حتَّى" فَاعِلُ "يَصْلُحُ" و"الَّا" عَطْفٌ عليهِ.
أيْ: كَذَا يَجِبُ إضْمَارُ "أَنْ" بَعْدَ "أَوْ" إِذَا صَلُحَ فِي مَوْضِعِهَا "حَتَّى" نَحْوُ: "لَأَلْزَمَنَّكَ أَنْ تَقْضِيَنِي حَقِّي" وقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1023- لَأَسْتَسْلِهَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ المُنَى = فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلَّا لِصَابِرِ
أو إلا كقولِكَ: "لَأَقْتُلَنَّ الكَافِرَ أَوْ يُسْلِمَ" وقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1024- وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ = كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيْمَا
يَحْتَمِلُ الوجهينِ قولُهُ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1025- فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ، إِنَّمَا = نُحَاوِلُ مُلْكًا أوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
واحْتُرِزَ بقولِهِ إِذَا يَصْلُحُ فِي "مَوْضِعِهَا حتَّى أَوْ إِلَّا" مِنَ التِي لَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا أَحَدُ الحَرْفَيِنِ، فإنَّ المضارعَ إذَا وَرَدَ بَعْدَهَا مَنصوبًا جَازَ إظهارَ "أَنْ" كقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1026- ولَوْلَا رِجَالٌ مِنْ رُزَامِ أَعِزَّةٌ = وآلُ سَبِيْعَ أوْ أَسُوْءَكَ عَلْقَمَا
تنبيهاتٌ: الأوَّلُ: قَالَ فِي (شَرْحِ الكَافِيَةِ): وتقديرُ "إِلَّا" و"حتَّى" فِي موضعِ "أوْ"، تقديرٌ لُحِظَ فيهِ المعنَى دُوْنَ الإعرابِ، والتقديرُ الإعرابِيُّ المُرَتَّبُ علَى اللفظِ أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَ "أَوْ" مَصْدَرٌ، وبَعْدَهَا "أَنْ" نَاْصِبَةٌ للفعلِ، وهُمَا فِي تَأْوِيْلِ مَصْدَرٍ معطوفٍ بـ"أوْ" عَلَى المُقَدَّرِ قَبْلَهَا، فتقديرُ "لَأَنْتَظِرَنَّهُ أو يَقْدُمَ" لَيَكُونَنَّ انتظارٌ أو قُدُومٌ، وتقديرُ "لأقْتُلَنَّ الكافرَ أو يُسْلِمَ" ليَكُونَنَّ قَتْلُهُ أَوْ إِسْلَامُهُ، وكَذَا العَمَلُ فِي غيرِهِمَا.
الثانِي: ذَهَبَ الكِسَائِيُّ إلَى أَنَّ "أَوْ" المذكورةَ ناصبةٌ بنَفْسِهَا، وذَهَبَ الفَرَّاءُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الكُوْفِيِّيْنَ إِلَى أَنَّ الفعلَ انْتَصَبَ بالمُخَالَفَةِ، والصحيحُ أنَّ النصبَ بـ"أَنْ" مُضْمَرٌ بَعْدَهَا. لأنَّ "أَوْ" حَرْفُ عَطْفٍ فَلَا عَمَلَ لَهَا، ولكِنَّهَا عَطَفَتْ مَصْدَرًا مُقَدَّرًا عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، ومِنْ ثَمَّ لَزِمَ إضمارُ "أنْ" بعدَهَا.
الثالثُ: قولُهُ "إِذَا يَصْلُحُ فِي موضِعِهَا حتَّى، أَوْ إِلَّا" أَحْسَنُ مِنْ قولِهِ فِي (التَّسْهِيْلِ): بَعْدَ "أَوْ" الواقعةِ مَوْقِعَ "إلى أَنْ" أَوْ "إِلَّا أَنْ" لِأَنَّ لـ"حتَّى" معنيينِ، كِلَاهُمَا يَصِحُّ هُنَا،ـ الأوَّلُ: الغايةُ مِثْلُ "إلى"، والثانِي التعليلُ مِثْلُ "كَي" فَيَشْمَلُ كلامُهُ هُنَا نحوَ: "لَأُرْضِيَنَّ اللهَ أَوْ يَغْفِرَ لِي" بِخِلَافِ كلامِ (التَّسْهِيْلِ)، لأنَّ المعنَى حَتَّى يغفرَ لِي، بمعنَى كَي يَغْفِرَ لِي.
وقَدْ بَانَ لكَ أَنَّ قولَ الشارحِ "يُرِيْدُ حَتَّى بمعنَى إلَى، لَا التِي بِمَعنَى كَيْ" لَا وَجْهَ لَهْ، وكِلْتَا العِبَارَتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ قولِ الشارحِ، "بعدَ أَوْ بِمَعْنَى إِلَى أَوْ إِلَّا" فإنَّهُ يُوْهِمُ أَنَّ "أوْ" تُرَادِفُ الحرفينِ، وليسَ كذلكَ، بَلْ هِي أَوْ العاطفةُ كمَا مَرَّ.
685- وبَعْدَ حَتَّى هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ" = حَتْمٌ، كَـ"جُدْ حَتَّى تَسُرْ ذَا حَزَنْ"
(وبَعْدَ حتَّى هَكَذَا إضْمَارُ أَنْ حَتْمٌ) أيْ: وَاجِبٌ، والغالبُ فِي "حَتَّى" حينئذٍ أَنْ تكونَ للغايةِ نَحْوُ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِيْنَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوْسَى} وعَلَامَتُهُا أَنْ يَصْلُحَ فِي مَوْضِعِهَا "إِلَى" وقدْ تكونُ للتعليلِ (كَجُدْ حتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ)، وعَلامَتُهَا أَنْ يَصْلُحَ فِي مَوْضِعِهَا "كَيْ" وزادَ فِي (التَّسْهِيْلِ) أَنَّها تكونُ بمعنَى إِلَّا كقولِهِ [مِنَ الكَامِلِ]:
1027- لَيْسَ العَطَاءُ مِنَ الفَضُولِ سَمَاحَةً = حتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيْلُ.
وهَذَا المعنَى علَى غَرَابَتِهِ ظاهرٌ مِنْ قولِ سِيْبَوَيْهَ فِي تفسيرِ قولِهِمْ: "واللهِ لَا أَفْعَلُ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ" المعنَى حتَّى أَنْ تَفْعَلَ، وصَرَّحَ بِهِ ابْنُ هِشَامٍ الخَضْرِاوِيِّ، ونقلَهُ أبُو البَقَاءِ عَنْ بعضِهِمْ فِي {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا} والظاهرُ فِي هذِهِ الآيةِ خلافُهُ، وأنَّ المُرَادَ مَعْنَى الغايةِ: نَعَمْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ [مِنَ الرَّجَزِ]:
1028- واللهِ لا يَذْهَبُ شَيْخِي بَاطِلَا = حَتَّى أُبِيْرَ مَالِكًا وَكَاهِلًا
لأنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ غَايَة ًلِمَا قبلَهَا وَلا مُسَبَّبًا عنْهُ.
تنبيهٌ: ذَهَبَ الكوفيونَ إِلَى أنَّ "حتَّى" ناصبةٌ بِنَفْسِهَا، وأَجَازُوا إِظْهَارَ "أَنْ" بَعْدَهَا توكيدًا، كَمَا أَجَازُوا ذلكَ بعدَ لامِ الجُحُودِ.
686- وتِلْوَ حَتَّى حَالًا أو مُؤَوَّلَا = بِهِ ارْفَعَنَّ، وانْصِبِ المُسْتَقْبَلَا
(وتِلْوَ حَتَّى حَالًا أَوْ مُؤَوَّلَا * بِهِ) أَيْ: بالحالِ (ارْفَعَنَّ) حَتْمًا (وانُصِبِ المستقبلَا) أيْ: لا يُنْصَبُ الفعلُ بَعْدَ "حتَّى" إلا إذَا كانَ مُسْتَقبلًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ استقبالُهُ حَقِيقيًا، بأنْ كانَ بالنسبةِ إلَى زمنِ المُتَكَلِّمِ؛ فالنصبُ واجِبٌ، نحوُ: "لَأَسِيْرَنَّ حتَّى أَدْخُلَ المدينةَ" وكالآيةِ السابقةِ، وإِنْ كانَ غيرَ حَقِيْقٍ؛ بِأَنْ كَانَ بالنسبةِ إلى مَا قَبْلَها خَاصًّة؛ فالنصبُ جَائِزٌ، لَا وَاجِبٌ، نحوُ: {وزُلْزِلُوا حتَّى يَقُولَ الرَّسُوْلُ} فإنَّ قولَهُم إنَّما هُو مُسْتَقْبَلٌ بالنظرِ إِلَى الزِّلُزَالِ، لا بالنظرِ إِلَى زَمَنِ قَصِّ ذلكَ علينَا، فالرفعُ وبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ، علَى تأويلِهِ بالحَالِ، والنصبُ، وبِهِ قَرَأَ غيرُهُ، عَلَى تأويلِهِ بالمستقبلِ، فالأوَّلُ يُقَدِّرُ اتِّصَافَ المُخْبَرِ عَنْهُ، وهو الرسولُ والذينَ آمَنُوا مَعَهُ بالدخولِ فِي القولِ، فهو حالٌ بالنسبةِ إلى تلكَ الحالِ،ـ والثانِي يُقَدِّرُ اتصافَهُ بالعَزْمِ عليهِ، فهو مُسْتَقْبَلٌ بالنسبةِ إلى تلكَ الحالِ.
ولا يَرْتَفِعُ الفعلُ بَعْدَ "حتَّى" إلا بثلاثةِ شُرُوْطٍ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ حَالًا، إِمَّا حقيقةً، نَحوُ: "سِرْتُ حتَّى أَدْخُلُهَا" إِذَا قُلْتَ ذلكَ، وَأَنْتَ فِي حالةِ الدخولِ، والرفعُ حينئذٍ واجبٌ، أو تَأْوِيلًا، نحوُ: (حتَّى يقولُ الرسولُ) في قِرَاءَةِ نَافِعٍ، والرفعُ حينئذٍ جائزٌ كَمَا مَرَّ.
الثانِي: أَنْ يكونَ مُسَبَّبًا عَمَّا قَبْلَهَا، فيمتَنِعُ الرفعُ فِي نَحوِ: "لأَسِيْرَنَّ حتَّى تَطْلُعَ الشمسُ" و"مَا سِرْتُ حتَّى أَدْخُلَهَا"، و"أَسِرْتَ حتَّى تَدْخُلَهَا"؟ لانتفاءِ السَّبَبِيَّةِ، أَمَّا الأوَّلُ فَلِأَنَّ طلوعَ الشمسِ، لا يُتَسَبَّبُ عَنِ السيرِ، وأمَّا الثانِي فَلِأَنَّ الدخولَ لا يُتَسَبَّبُ عَنِ عَدَمِ السيرِ، وأمَّا الثالث ُفَلِأَنَّ السببَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، ويجوزُ الرفعُ فِي "أَيُّهُمْ سَارَ حتَّى يَدْخُلُهَا، ومَتَى سِرْتَ حَتَّى تَدْخُلُهَا"؟ لأنَّ السيرَ مُحَقَّقٌ، وإنَّمَا الشَّكُّ فِي عَيْنِ الفاعِلِ، أو فِي عَيْنِ الزمانِ. وأِجازِ الأَخْفَشُ الرفعَ بعدَ النفيِ، علَى أَنْ يكونَ أصلُ الكلامِ إِيْجَابًا، ثُمَّ أُدْخِلَتْ أداةُ النفيِ عَلَى الكلامِ بأَسْرِهِ لا عَلَى مَا قَبْلَ "حتَّى" خاصًّة، ولو عُرِضَتْ هذِهِ المَسْألةُ بهذَا المعنَى عَلَى سِيْبَويْهِ لَمْ يَمْنَعِ الرفعَ فيها، وإنَّما مَنَعَهُ إِذَا كانَ النفيُ مُسَلَّطًا عَلَى السَّبَبِ خاصًّة، وكُلُّ أَحَدٍ يَمْنَعُ ذَلكَ.
الثالثُ: أَنْ يَكُونَ فَضْلَةً؛ فيجبُ النصبُ في نحوِ: "سِيْري حَتَّى أَدْخُلَهَا" وَكَذا فِي "كانَ سَيْرِي أَمْسِ حتَّى أدخُلَهَا، إِنْ قَدَّرْتَ كانَ" نَاقِصَةً ولم تُقَدِّرِ الظرفَ خَبَرًا ا هـ.
تنبيهاتٌّ: الأوَّلُ: تجَيِءُ "حتَّى" فِي الكلامِ علَى ثلاثةِ أَضْرُبٍ، جَارَّةٍ، وعاطفةٍ، وقدْ مَرَّتَا، وابتدائِيَّةٍ، أيْ: حرفٌ تُبْدأُ بعدَهُ الجُمَلُ، أيْ: تُسْتَأْنَفُ، فتدخُلُ عَلَى الجُمَلِ الاسْمِيَّةِ، كقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1029- فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا = بِدِجْلَةَ حتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ
وعَلَى الفعليةِ التي فِعْلُهَا مضارعٌ كقولِهِ [مِنَ الكَامِلِ]:
1030- يُغْشَونَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلابُهُم = لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوادِ المُقْبِلِ
وقراءةِ نافعٍ (حَتَّى يقولُ الرَّسُولُ)، وعَلَى الفِعْلِيَّةِ التي فِعْلُهَا ماضٍ، نحوُ: {حتَّى عَفَوْا وقَالُوا} وزَعَمَ المصنفُ أنَّ حتَّى هَذِهِ جَارَّةٌ، ونُوْزِعَ فِي ذلكَ.
الثانِي: إذا كانَ الفعلُ حَالًا، أو مُؤَوَّلًا بِهِ فـ "حتَّى" ابتدائيةٌ، وإذَا كانَ مُسْتقَبلًا، أو مُؤَوَّلًا بِهِ؛ فهي الجارَّةُ، و"أَنْ" مُضْمَرَةٌ بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
الثالثُ: عَلَامَةُ كَوْنِهِ حَالًا أو مُؤَوَّلًا بِهِ صلاحيةُ جَعْلِ الفاءِ فِي موضعِ "حتَّى"، ويجبُ حينئذٍ أَنْ يكونَ مَا بعدَهَا فَضْلَةً مُسَبَّبًا عَمَّا قبلَهَا، انتهى.
687- (وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ = مَحْضَيْنِ "أَنْ" وسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ)
"أَنْ" مُبْتَدَأٌ و"نَصَبْ" خَبَرُهَا، و"سَتْرُهَا حَتْمٌ" مبتدأٌ، وخبرٌ فِي موضعِ الحالِ مِنْ فَاعِلِ نَصَبْ، وبَعْدَ مُتَعَلِّقٌ "بِنَصَبْ" يعنِي أَنَّ "أَنْ" تَنْصِبُ الفِعْلَ مُضْمَرَةً بَعْدَ فَاءِ جَوَابِ نَفْيٍ، نحوُ: {لَا يُقْضَي عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} أو جوابِ طَلَبٍ، وهو إِمَّا أَمْرٌ، أَوْ نَهْيٌ،أَوْ دُعَاءٌ،أو استفهامٌ، أو عَرْضٌ، أو تَحْضِيْضٌ، أو تَمَنٍّ، فالأمرُ نحوُ قولِهِ [مِنَ الرَّجَزِ]:
1031- يَا نَاقُ سِيْرِي عَنَقًا فَسِيْحَا = إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيْحَا
والنهيُ: نحوُ: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} وقولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1032- لَا يَخْدَعَنَّكَ مَأْثُورٌ وَإِنْ قَدِمَتْ = تِرَاتُهُ فَيَحِقَّ الحُزْنُ والنَّدَمُ
والدعاءُ: نحوُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِم واشْدُدْ عَلَى قُلُوْبِهِم فَلَا يُؤْمِنُوا حتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيْمَ} وقولِهِ [مِنَ الرَّمَلِ]:
1033- رَبِّ وَفِّقْنِي فَلَا أَعْدِلَ عَنْ = سَنَنِ السَّاعِيْنَ فِي خَيْر سَنَنِ
وقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1034- فَيَا رَبِّ عَجِّلْ مَا أُؤَمِّلُ مِنْهُمُ = فَيَدْفَأَ مَقْرُورٌ، وَيَشْبَعَ مُرْمِلُ
والاستفهامُ نحوُ: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} وقولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1035- هَلْ تَعْرِفُونَ لُبَانَاتِي فَأَرْجُوَ أَنْ = تُقْضَي فَيَرْتَدَّ بَعْضُ الرُّوْحِ للْجَسَدِ.
والعَرْضُ: نحوُ قولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1036- يَا ابْنَ الكِرَامِ أَلَا تَدْنُوا فَتُبْصِرَ مَا = قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا
والتحضيضُ: نحوُ: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيْبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِيْنَ} وقولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1037- لَوْلَا تَعُوْجِيْنَ يَا سَلْمَى عَلَى دَنِفٍ = فَتُمْخِدِي نَارَ وَجْدٍ كَادَ يُفْنِيْهِ
والتمنِّي: نحوُ: {يَا ليَتْنَيِ كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيْمًا} وقولِهِ [مِنَ البَسِيْطِ]:
1038- يَا لَيْتَ أُمَّ خُلَيْدٍ وَاعَدَتْ فَوَفَتْ = ودَامَ لِي وَلَهَا عُمْرٌ فَنَصْطَحِبَا
واحْتُرِزَ بقاءُ الجوابِ عَنِ الفاءِ التِي لمُجَرَّدِ العطفِ نحوُ: "مَا تَأْتِيَنَا فَتُحَدِّثُنَا": بمعنَى: مَا تَأْتِيَنَا فَمَا تُحَدِّثُنَا، فيكونَ الفعلانِ مَقْصُودًا نَفْيُهُمَا، وبمعنَى مَا تَأْتِيْنَا فَأَنْتَ تُحَدِّثُنَا، عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، فيكونَ المقصودُ: نَفْيَ الأوَّلِ وإثباتَ الثانِي، وإذَا قُصِدَ الجوابُ لَمْ يَكُنْ الفِعْلُ إلا منصوبًا عَلَى مَعْنَى: مَا تَأْتِيَنَا مُحَدِّثًا؛ فيكونُ المقصودُ نفيَ اجتماعِهِمَا، أو عَلَى معنَى مَا تَأْتِيَنَا فَكَيْفَ تُحَدِّثُنَا، فيكونُ المقصودُ نفيَ الثانِي لانتفاءِ الأوَّلِ.
واحْتُرِزَ بِمَحْضَيْنِ عَنِ النفيِ الذِي ليسَ بِمَحْضٍ، وهو المُنْتَقِضُ بـ"إِلَّا" والمتلوُّ بِنَفْيٍ، نحوُ: "مَا أَنْتَ تَأْتِيْنَا إِلَّا فَتُحَدِّثُنَا"، ونحوُ: "مَا تَزَالُ تَأْتِيْنَا فَتُحَدِّثُنَا" ومِنَ الطَّلَبِ الذِي ليسَ بِمَحْضٍ، وهُو الطلبُ باسمِ الفِعْلِ أو بالمصدرِ أو بِمَا لفظُهُ خَبَرٌ، نحوُ: "صَهْ فَأُكْرِمْكَ" و"حَسْبُكَ الحَدِيْثُ فَيَنَامُ الناسُ" ونحوُ: "سُكُوتًا فينامُ الناسُ" ونحوُ: "رَزَقَنِي اللهُ مَالًا فَأُنْفِقُهُ فِي الخيرِ" فَلا يكونُ لشيءٍ مِنْ ذلكَ جوابُ منصوبٍ، وسيأتِي التنبيهُ عَلَى خِلَافٍ فِي بعضِ ذلكَ.
تنبيهاتٌ: الأوَّلُ: مِمَّا مُثِّلَ بِهِ فِي (شَرْحِ الكَافِيَةِ) لجوابِ النفيِ المُنْتَقِضِ "مَا قَامَ فَيَأْكُلُ إلا طَعَامَهُ" قَالَ: ومِنْهُ قولُ الشاعِرِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1039- وَمَا قَامَ مِنَّا قَائِمٌ فِي نَدِيِّنَا = فَيَنْطِقُ إلا بالتِي هِيَ أَعْرَفُ
وتَبِعَهُ الشارحُ فِي التمثيلِ بذلكَ، واعترضَهُمَا المُرَادِيُّ، وقَالَ: إنَّ النفيَ إذَا انْتَقَضَ بـ "إِلَّا" بَعْدَ الفاءِ، جَازَ النصبُ نَصَّ عَلَى ذلكَ سِيْبَويْهِ وعَلَى النصبِ أَنْشَدَ:
* فَيَنْطِقَ إلا بالتِي هِي أَعْرَفُ *
الثانِي: قَدْ تُضْمَرُ "أَنْ" بَعْدَ الفاءِ الواقعةِ بينَ مَجْزُومَيِ أَدَاةِ شَرْطٍ، أو بَعْدَهُمَا، أَوْ بَعْدَ حَصْرٍ بـ"إِنَّمَا" اختيارًا، نحوُ: "إِنْ تَأْتِنِي فَتُحْسِنَ إِلَىَّ أَكَافِئْكَ" ونحوُ: "مَتَى زُرْتَنِي أُحْسِنْ إليكَ فَأُكْرِمَكَ" ونحوُ: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يقولُ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنَ) فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، وبَعْدَ الحَصْرِ بـ"إِلَّا" والخبرِ المُثْبَتِ الخَالِي مِنَ الشرطِ اضْطِرَارًا، نحوُ: "مَا أَنْتَ إِلَّا تَأْتِيْنَا فَتُحَدِّثَنَا" ونحوُ قولِهِ [مِنَ الوَافِرِ]:
1040- سَأَتُرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيْمٍ = وَأَلْحَقُ بالحِجَازِ فَاسَتْرَيْحَا
الثالثُ: يَلْحَقُ بالنفيِ التشبيهُ الواقعُ مَوْقِعَهُ، نحوُ: "كَأَنَّكَ وَالٍ عَلَيْنَا فَتَشْتُمَنَا"، أيْ: مَا أَنْتَ وَالٍ عَلَيْنَا، ذَكَرَهُ فِي (التَّسْهِيْلِ) وقَالَ فِي (شَرْحِ الكَافِيَةِ) إنَّ "غَيْرًا" قَدْ تُفِيْدُ نَفيًا؛ فيكونُ لَهَا جوابٌ منصوبٌ كالنفيِ الصريحِ؛ فيقالُ "غَيْرُ قَائِمٍ الزيدانِ فَتُكْرِمَهُمَا" أَشَارَ إِلى ذَلِكَ ابْنُ السَّرَّاجِ، ثُمَّ قَالَ: ولا يجوزُ هَذَا عِنْدِي قُلْتُ: وهُو عِنْدِيَ جَائِزٌ، واللهُ أَعْلَمُ، هَذَا كَلامُهُ بِحُرُوفِهِ.
الرابعُ: ذَهَبَ بعضُ الكوفيينَ إِلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الفاءِ مَنْصوبٌ بالمُخَالَفَةِ، وبعضُهُمْ إِلَى أَنَّ الفاءَ هِي الناصبةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي "أَوْ"، والصحيحُ مذهبُ البصريينَ لأنَّ الفاءَ عَاطِفَة؛ ٌ فَلا عَمَلَ لَهَا، لكِنَّهَا عَطَفَتْ مَصْدَرًا مُقَدَّرًا عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، والتقديرُ فِي نَحْوِ: "مَا تَأْتِيْنَا فَتُحَدِّثَنَا" مَا يكونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فَتَحْدِيْثٌ, وكَذَا يُقَدَّرُ فِي جَمِيعِ المَواضِعِ.
الخامسُ: شَرَطَ فِي (التَّسْهِيْلِ) فِي نَصْبِ جَوَابِ الاستفهامِ، أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ وقوعَ الفعلِ احْتِرَازًا مِنْ نَحْوِ: "لِمَ ضَرَبْتَ زَيْدًا فَيُجَازِيَكَ"، لِأَنَّ الضربَ قَدْ وَقَعَ فَلَمْ يُمْكِنْ سَبْكُ مَصْدَرٍ مُسْتَقْبَلٍ مِنْهُ، وهُو مذهبُ أبِي عَلِيٍّ، ولمْ يَشْتَرِطْ ذَلكَ المَغَارِبَةُ.
وحَكَى ابْنُ كَيْسَانَ "أَيْنَ ذَهَبَ زَيْدٌ فَنَتْبَعَهُ"؟. بالنصبِ مَعَ أَنَّ الفعلَ فِي ذلكَ مُحَقَّقُ الوقوعِ، وإذَا لمْ يُمْكِنْ سَبْكُ مَصْدَرٍ مستقبلٍ مِنَ الجُمْلَةِ سَبَكْنَاهُ مِنْ لَازِمِهَا، فالتقديرُ، لِيَكُنْ مِنْكَ إِعْلَامٌ بِذَهَابِ زَيْدٍ فَاتِّبَاعٌ مِنَّا.
688- والوَاوُ كالفَا إِنْ تُفِدْ مَفْهُومَ مَعْ = كـ "لَا تَكُنْ جَلْدًا وتُظْهِرَ الجَزَعْ"
(والوَاوُ كالفَا) فِي جميعِ مَا تَقَدّ َمَ (إِنْ تُفِدْ مفهومَ مَعْ) أيْ: يُقْصَدُ بِهَا المُصَاحَبَةَ (كَلَا تَكُنْ جَلْدًا وتُظْهِرَ الجَزَعْ) أيْ: لا تَجْمَعْ بَيْنَ هذَينِ، وقَدْ سُمِعَ النصبُ مَعَ الواوِ فِي خمسةٍ مِمَّا سُمِعَ مَعَ الفَاءِ.
الأوَّلُ: النفيُ، نحوُ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الذينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِيْنَ}.
الثانِي: الأَمْرُ، نحوُ قولِهِ [مِنَ الوَافِرِ]:
1041- فَقُلْتُ ادْعِي وأَدْعُو، إِنَّ أَنْدَى = لَصُوتٍ أَنْ يُنَادِي دَاعِيَانِ
الثالثُ: النَّهْيُ نحوُ قولِهِ [مِنَ الكَامِلِ]:
1042- يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ = هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التعليمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا = فَإِذَا انْتَهَيْتَ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيْمُ
فَهْنَاكَ يُسْمَعُ مَا تَقُولُ ويُشْتَفَى = بالقولِ مِنْكَ ويَنْفَعُ التعليمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلِقٍ وتَأَتْيَ مِثْلَهُ = عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيْمُ
الرابعُ: الاستفهامُ نحوُ قولِهِ [مِنَ الكَامِلِ]:
1043- أَتَبِيْتَ رَيَّانَ الجُفُونِ مِنَ الكَرَى = وَأَبِيْتُ مِنْكَ بِلَيْلَةِ المَلْسُوعِ
وقولِهِ [مِنَ الطَّوِيْلِ]:
1044- أَلَمْ أَكُ جَارَكُمُ وَيَكُونَ بَيْنِي = وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإِخَاءُ
الخامسُ: التَّمَنِّي، نحوُ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا ونَكُونَ مِنَ المُؤْمِنَيْنَ} فِي قراءةِ حَمْزَةَ وحَفْصٍ، وقَيْسَ البَاقِي.
قالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: الواوُ يُنْصَبُ مَا بَعْدَهَا فِي غيرِ المُوْجَبِ، مِنْ حَيْثُ انْتَصَبَ مَا بَعْدَ الفاءِ، وَإِنَّمَا يَكونُ كذلكَ إِذَا لَمْ تُرِدِ الاشْتِرَاكَ بَيْنَ الفعلِ والفعلِ، وأردْتَ عطفَ الفعلِ عَلَى مَصْدَرِ الفعلِ الذِي قَبْلَهَا، كَمَا كانَ فِي الفاءِ، وَأَضْمَرْتَ "أَنْ" وتكونُ الواوُ فِي هذَا بمعنَى "مَعَ" فَقَطْ.
وَلا بُدَّ "مَعَ" هذَا الذِي ذَكَرَهُ، مِنْ رِعَايَةِ أَنْ لا يكونَ الفعلُ بعدَ الواوِ مَبْنِيًّا عَلَى مُبْتدأٍ مَحْذوفٍ؛ لأنَّهُ مَتَى كانَ كَذَلِكَ وَجَبَ رفعُهُ، ومِنْ ثَمَّ جَازَ فِيْمَا بَعْدَ الواوِ، مِنْ نَحوِ: "لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ ِاللبنَ" ثلاثةِ أوْجُهٍ: الجزمُ عَلَى التَّشْرِيْكِ بَيْنَ الفعلينِ فِي النهيِ، والنصبُ علَى النهيِ عَنِ الجَمْعِ، والرفعُ عَلَى ذَلكَ المعنَى، ولَكِنْ عَلَى تقديرِ، وأنْتَ تَشْرَبُ اللبنَ.
تنبيهٌ: الخِلَافُ فِي الواوِ كالخِلافِ فِي الفاءِ، وقد تَقَدَّمَ.