السابِعُ: أنَّ الأصْلَ فيهِ أنْ يَتَّصِلَ بفعلِه، ثم يَجِئَ المفعولُ, وقَدْ يُعْكَسُ, وقَدْ يَتَقَدَّمُهما المفعولُ, وكلٌّ مِن ذلك جَائِزٌ وواجِبٌ.
فأمَّا جوازُ الأصْلِ فنحوُ: {ووَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}([1]).
وأمَّا وُجوبُه ففي مَسْأَلَتَيْنِ:
إحْدَاهما: أنْ يُخْشَى اللَّبْسُ كـ (ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى).([2]) قاله أبو بَكْرٍ([3]) والمُتأخِّرونَ؛ كالجُزُولِيِّ وابنِ عُصفورٍ وابنِ مالكٍ, وخَالَفَهم ابنُ الحاجِّ, مُحْتَجًّا بأنَّ العَرَبَ تُجِيزُ تَصْغِيرَ عُمَرَ وعَمْرٍو, وبأنَّ الإجمالَ من مَقاصدِ العُقلاءِ, وبأنَّه يَجُوزُ: (ضَرَبَ أَحَدُهُما الآخَرَ), وبأنَّ تَأْخِيرَ البيانِ لوَقْتِ الحاجةِ جَائِزٌ عَقْلاً باتفاقٍ, وشَرْعاً على الأصَحِّ, وبأنَّ الزجَّاجَ نَقَلَ أنَّه لا خِلافَ في أنَّه يَجوزُ في نحوِ: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ}([4]) كَوْنُ {تِلْكَ} اسْمَها و{دَعْوَاهُمْ} الخَبَرَ, والعَكْسُ([5]).
الثانيةُ: أنْ يُحصَرَ المَفْعولُ بإِنَّما نحوَ: (إِنَّمَا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً) وكذا الحَصْرُ بإِلاَّ عندَ الجُزُولِيِّ وجماعةٍ, وأجازَ البَصْرِيونَ والكِسائيُّ والفَرَّاءُ وابنُ الأنْبَارِيِّ تَقْدِيمَه على الفاعِلِ؛ كقولِه:
216- وَلَمَّا أَبَى إِلاَّ جِمَاحاً فُؤَادُهُ([6]) وقولِه:
217- فَمَا زَادَ إِلاَّ ضِعْفَ مَا بِي كَلامُهَا([7]) وقولِه:
218- وتُغْرَسُ إِلاَّ فِي مَنَابِتِهَا النَّخْلُ([8]) وأمَّا تَوَسُّطُ المَفْعولِ جوازاً فنَحْوُ: {ولَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ}([9])، وقولِكَ: (خَافَ رَبَّهُ عُمَرُ). وقالَ:
219- كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ([10]) وأمَّا وُجُوبُه ففي مَسْألتَيْنِ:
إحداهما: أنْ يَتَّصِلَ بالفاعلِ ضميرُ المفعولِ نحوُ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}([11]) {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ}([12])، ولا يُجِيزُ أكثرُ النحْويِّينَ نحوَ: (زَانَ نُورُهُ الشَّجَرَ), لا في نَثْرٍ ولا في شِعْرٍ, وأجازَهُ فيهما الأخْفَشُ وابنُ جِنِّي والطُّوَالُ وابنُ مَالِكٍ؛ احتجاجاً بنحوِ قولِه:
220- جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ([13]) والصحيحُ جَوازُه في الشِّعْرِ فقَطْ.
والثانيةُ: أنْ يُحْصَرَ الفاعلُ بإِنَّمَا نحوُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}([14])، وكذا الحَصْرُ بإلاَّ عِنْدَ غيرِ الكِسائِيِّ, واحْتَجَّ بقولِه:
221- مَا عَابَ إِلاَّ لَئِيمٌ فِعْلَ ذِي كَرَمٍ وَلاَ جَفَا قَطُّ إِلاَّ جُبَّأٌ بَطَلاَ([15]) وقولِه:
222- وَهَلْ يُعَذِّبُ إلاَّ اللهُ بالنَّارِ([16]) وقولِه:
223- فَلَمْ يَدْرِ إلاَّ اللهُ مَا هَيَّجَتْ لَنَا([17]) وأمَّا تَقدُّمُ المفعولِ جوازاً فنحوُ: {فَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}([18]).
وأمَّا وُجوباً ففي مَسْأَلَتَيْنِ:
إحداهما: أنْ يَكُونَ مِمَّا له الصَّدْرُ نحوَ: {فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ}([19]) {أَيًّا مَا تَدْعُوا}([20]).
الثانيةُ: أنْ يَقَعَ عَامِلُه بعدَ الفاءِ, وليسَ له مَنْصوبٌ غَيْرُه مُقَدَّمٌ عليها نحوَ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}([21]) ونحوَ: {فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ}([22]) بخلافِ: (أَمَّا اليَوْمَ فَاضْرِبْ زَيْداً)([23]).
تنبيهٌ: إذا كانَ الفاعلُ والمفعولُ ضَميريْنِ ولا حَصْرَ في أحدِهما, وَجَبَ تقديمُ الفاعلِ؛ كضَرَبْتُه, وإذا كانَ المُضْمَرُ أحَدَهما, فإنْ كَانَ مَفْعولاً وجَبَ وَصْلُه وتأخيرُ الفاعلِ؛ كضَرَبَنِي زَيْدٌ, وإِنْ كَانَ فَاعِلاً وَجَبَ وَصْلُه وتأخيرُ المفعولِ، أو تَقْديمُه على الفعلِ؛ كضَرَبْتُ زَيْداً وزَيْداً ضَرَبْتُ. وكلامُ الناظمِ يُوهِمُ امتناعَ التقديمِ؛ لأنَّه سَوَّى بينَ هذهِ المسألةِ ومسألةِ (ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى), والصوابُ ما ذَكَرْنَا.
([1]) سورة النمْلِ، الآية: 16.
([2]) خَشْيَةُ اللَّبْسِ لها صُورتانِ: إحْدَاهُما: أنْ يَكُونَ إعرابُ الفاعلِ والمفعولِ تَقْدِيريًّا كمثالِ المُؤلِّفِ، والثانيةُ: أنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ نحوَ: (نَصَحَ هَذَا ذَاكَ) ويَزُولُ اللَّبْسُ معَ ذلك في صُوَرٍ:
الأُولَى: أنْ يَكُونَ أحَدُهما مُؤنَّثاً, فإنْ لَحِقَتْ تاءُ التأنيثِ الفِعْلَ عَلِمْتَ أنَّ المُؤنَّثَ هو الفَاعِلُ نَحْوُ: ( ضَرَبَتْ هذهِ هَذَا).
والثانيةُ: أَنْ يُتْبَعَ أحَدُهما بنَعْتٍ أو عَطْفٍ أو تَوْكيدٍ ظاهرِ الإعرابِ نحوَ: ( ضَرَبَ يَحْيَى العَاقِلُ مُوسَى) أو ( ضَرَبَ يَحْيَى نَفْسُه مُوسَى) فإِنْ رَفَعْتَ التابِعَ عَلِمْتَ أنَّ مَتْبوعَه هو الفاعِلُ.
والثالثةُ: أَنْ يَتعيَّنَ بالمعنَى نحوَ: ( أكَلَ الكُمَّثْرَى مُوسَى) وفي نحوِ: ( أَرْضَعَتْ سَلْمَى مُوسَى), دَليلانِ يُمَيِّزانِ الفاعلَ من المَفْعولِ، فتَفَطَّنْ.
([3]) هو أبو بَكْرٍ: مُحمدُ بنُ السَّرِيِّ، المعروفُ بابنِ السِّراجِ، وهو من تلاميذِ أبي العَبَّاسِ المُبَرِّدِ، وهو من شُيوخِ أبي القَاسِمِ الزجاجِيِّ وأَبِي سَعِيدٍ السِّيرافِيِّ وأبي عَلِيٍّ الفَارِسِيِّ وعَلِيِّ بنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ، وتُوُفِّيَ ابنُ السِّراجِ في ذِي الحِجَّةِ من سَنَةِ 316 من الهِجْرَةِ.
([4]) سورة الأنبياءِ، الآية: 15.
([5])اعْلَمْ أنَّ أهَمَّ ما في استدلالِ ابنِ الحاجِّ على ما ادَّعاهُ دَلِيلانِ؛ أَوَّلُهما: أَنَّ الإجمالَ مِن مَقاصِدِ البُلغاءِ، وثانيهِما: أنَّ بعضَ النُّحاةِ أجازَ في قولِه تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} كَونَ (تِلْكَ) اسْمَ زَالَتْ، ودَعْوَاهُمْ خَبَرَها, وأجازَ العَكْسَ، وهذهِ الصورةُ في المُبْتدأِ والخَبَرِ تُشْبِهُ الصورةَ المُتنازَعَ عليها في الفاعلِ والمَفْعولِ، وهذا الاستدلالُ خالٍ عن التحقيقِ، جَارٍ معَ ظَواهِرَ لَوْ وُضِعَتْ في مَوْضِعِ البَحْثِ لم تَثْبُتْ.
أمَّا أنَّه جَعَلَ كَوْنَ الإجمالِ مِن مَقَاصِدِ البُلغاءِ دَلِيلاً؛ فإِنَّ هذا لا يُفِيدُه شيئاً؛ لأنَّ الإجمالَ الذي هو مِن مَقاصِدِ البُلغاءِ غَيْرُ اللَّبْسِ الذي لا يُقِرُّه أحَدٌ منهم، وبيانُ ذلكَ أنَّ الكلامَ المُحْتَمِلَ لمَعْنييْنِ أو أكْثَرَ إِمَّا أَنْ يَسْبِقَ إلى الذِّهْنِ أحَدُ هذيْنِ المَعْنيَيْنِ أو أَحَدُ المعاني المُحْتَمَلَةِ، وإِمَّا أَلاَّ يَسْبِقَ أحَدُهما إلى الذهْنِ, بل تَكُونُ المَعانِي كُلُّها أمَامَ الذِّهْنِ سَواءً, فيُتَوَقَّفُ في الحُكْمِ بأنَّ هذا المعنَى أو ذاكَ هو مَقْصودُ المُتكَلِّمِ من كلامِه، فإنْ تَبادَرَ أحَدُ المَعْنييْنِ، وكانَ هو غَيْرَ مرادِ المُتكلِّمِ فهو الإلباسُ، وإنْ لم يَتبادَرْ أحَدُ المعاني، وكانَ جَمِيعُها سواءً, فهذا هو الإجمالُ، وهذا الذي معَنا الآنَ من قَبِيلِ الإلباسِ، وليسَ من قَبِيلِ الإجمالِ، ألاَ تَرَى أنَّكَ لو قُلْتَ: (ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى)؛ لتَبَادَرَ إلى ذِهْنِ سَامِعِكَ أنَّ مُوسَى ضَارِبٌ؛ بسَبَبِ كَوْنِ الأصْلِ في الفاعلِ أَنْ يَجِيءَ قبلَ المَفْعولِ، فلو كُنْتَ تُرِيدُ أَنَّ مُوسَى مَضْروبٌ فقَدْ أَوْقَعْتَ السامعَ في اللَّبْسِ، بخِلافِ ما لو قُلْتَ: (عُمَيْرٌ). فإِنَّ السامِعَ سَيتَرَدَّدُ في أنَّ هذا اللفظَ تَصْغِيرُ عُمَرَ أو تَصْغِيرُ عَمْرٍو، وليسَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على أحَدِ الوجهَيْنِ، فلا تَحْكُمْ بأحَدِهما، بل تَبْقَى مُتوَقِّفاً إلى أَنْ يُبَيِّنَ لكَ المُتكَلِّمُ ما أرادَ.
وأمَّا تَشْبِيهُهُ صُورةَ الفاعلِ والمفعولِ بصُورةِ المُبْتدأِ والخَبَرِ, وقِياسُه الصورةَ الأُولَى على الصُّورةِ الثانيةِ فمِمَّا لا يُقْضَى العَجَبُ منه؛ لوجودِ الفَرْقِ البَيِّنِ بينَهما، فإنَّ المبتدأَ عينُ الخَبَرِ في المَاصَدَقِ، فلو حَكَمْتَ بأنَّ الثانِيَ عَيْنُ الأوَّلِ يَكونُ كما لو حَكَمْتَ بأنَّ الأوَّلَ عينُ الثاني، والفاعِلُ غَيْرُ المَفْعولِ, طَبْعاً فإذا جَعَلْتَ أحَدَهما الآخَرَ لَمْ يَصِحَّ الكلامُ.
([6])216-هذا صَدْرُ بَيْتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*ولَمْ يَسْلُ عَنْ لَيْلَى بِمَالٍ وَلاَ أَهْلِ*
وقدْ ذَكَرَ العَينِيُّ وصاحِبُ التصريحِ أنَّ البيتَ لدِعْبِلٍ الخُزاعِيِّ، وذكََرَ العَينِيُّ بعدَه بيتاً ثَانياً، وهو قولُه:
تَسَلَّى بأُخْرَى غَيْرِهَا فَإِذَا الَّتِي = تَسَلَّى بِهَا تُغْرِي بِلَيْلَى وَلاَ تُسْلِي
ودِعْبِلٌ الخُزاعِيُّ ليسَ من الطَّبَقةِ التي يُسْتَشْهَدُ بكلامِها على قَواعِدِ النحوِ والتصريفِ، فإذا صَحَّ أنَّ البيتَ من كلامِه, كانَ ذِكْرُ العلماءِ له في هذا المَوْضِعِ مِن قَبِيلِ التمثيلِ، لا مِن قَبِيلِ الاستشهادِ.
اللغةُ: (جِمَاحاً) مَصْدَرُ قَوْلِكَ: جَمَحَ الفَرَسُ يَجْمَحُ – مِثْلُ فَتَحَ يَفْتَحُ – إذا جَرَى جَرْياً عَالِياً، وقالَ ابنُ فَارِسٍ: جَمَحَ الفرسُ جِمَاحاً، إِذَا أعْثَرَ فَارِسَهُ حَتَّى يَغْلِبَهُ، وقالَ ابنُ فَارِسٍ أَيْضاً: جَمَحَ؛ أي: أسْرَعَ إسراعاً لا يَرُدُّه شَيْءٌ، وكُلُّ شَيْءٍ مَضَى لوَجْهِهِ على شَيْءٍ فقَدْ جَمَحَ، والجَمُوحُ من الرِّجالِ: الذي يَرْكَبُ هَواهُ فلا يُمْكِنُ رَدُّه، والمعنَى ههنا على هذا: ( لَمْ يَسْلُ) مُضارِعُ سَلاَ بمعنَى تَعَزَّى وصَبَرَ, ( تُغْرِي) تُحَرِّضُ وتَحُضُّ.
الإعرابُ: ( لَمَّا) ظَرْفٌ بمعنَى (حِينَ)، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، وناصِبُه قولُه: ( تَسَلَّى) في البيتِ التالي له, (أَبَى) فعلٌ ماضٍ (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغاةٌ, (جِمَاحاً) مفعولٌ بهِ لأَبَى, (فُؤَادُهُ) فُؤَادُ: فاعلُ أَبَى، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائبِ مُضافٌ إليهِ, (ولَمْ) الواوُ عَاطِفَةٌ، لَمْ: حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ, (يَسْلُ) فعلٌ مُضارِعٌ مجزومٌ بلَمْ، وعَلامَةُ جَزْمِه حذفُ الواوِ, والضمَّةُ قبلَها دليلٌ عليها، وفاعِلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيهِ جَوازاً تقديرُه: هو, ( عَنْ لَيْلَى بِمَالٍ) كُلٌّ منهما جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بقولِه: ( يَسْلُ). وقولُه: ( وَلاَ أهَلِ) الواوُ عَاطِفَةٌ، ولا: زَائِدَةٌ لتأكيدِ النفْيِ، وهو مَجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (أَبَى إِلاَّ جِمَاحاً فُؤَادُهُ) حيثُ قَدَّمَ المفعولَ المَحْصورَ بإِلاَّ – وهو قولُه: (جِمَاحاً) – على الفاعلِ الذي هو قولُه: (فُؤَادُهُ).
وقدِ اسْتَدَلَّ بهذا البيتِ ونَحْوِه جمهورُ البَصْريِّينَ والفَرَّاءُ وابنُ الأنْبَارِيِّ والكِسائِيُّ، فقالوا: يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ المَفْعولُ المَحْصورُ بإِلاَّ على الفاعلِ؛ لأنَّ المَفْعولَ - وإنْ تَقَدَّمَ - في مَنْزِلَةِ التأخيرِ، وأكْثَرُ هؤلاءِ لا يُجِيزُ تَقْدِيمَ الفاعلِ المَحْصورِ بإِلاَّ؛ لانتفاءِ العِلَّةِ التي أَجَازُوا من أجْلِها تَقْدِيمَ المَفْعولِ المَحْصورِ بإِلاَّ.
وذهَبَ بعضُ البَصْريِّينَ إلى أنَّه لا يَجوزُ تَقْدِيمُ المحصورِ بإِلاَّ مُطْلقاً، فَاعِلاً كانَ هذا المَحْصُورُ أو مَفْعولاً، وهؤلاءِ قَاسُوا الحَصْرَ بإِلاَّ على الحَصْرِ بإِنَّما.
والذينَ أجازوا تقديمَ المفعولِ المحصورِ بإلاَّ فرَّقُوا بينَ الحَصْرِ بإِلاَّ والحَصْرِ بإنَّما فقالوا: أَنْتَ لَوْ قُلْتَ: (إِنَّمَا ضَرَبَ بَكْراً خَالِدٌ). لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ على أنَّ المَحْصورَ هو تَالِي إِنَّما، ولَكِنَّكَ لو قُلْتَ: (مَا ضَرَبَ إِلاَّ بَكْراً خَالِدٌ) وقَدَّمْتَ إِلاَّ معَ المَفْعولِ فقَدْ وَضَحَ مَقْصودُكَ، فلَمَّا كَانَ اللَّبْسُ في (إِنَّمَا) مَوْجوداً البَتَّةَ. وكانَ اللَّبْسُ معَ إلاَّ غيرَ مَوْجودٍ حِينَ تُقَدِّمُ إِلاَّ قُلْنَا بالجوازِ في هذا الموضِعِ الذي لا لَبْسَ فيه.
([7])217-هذا عَجُزُ بَيْتٍ من الطويلِ، وصَدْرُه قَوْلُه:
*تَزَوَّدْتُ مِنْ لَيْلَى بتَكْلِيمِ سَاعَةٍ*
ونَسَبَ كثيرٌ من العلماءِ البيتَ لمَجْنونِ بَنِي عامرٍ قَيْسِ بنِ المُلَوَّحِ، ولَمْ أعْثُرْ عليه في دِيوانِه، ولعلَّ السرَّ في نِسْبَتِهم البيتَ له ذِكْرُ (لَيْلَى) فيه.
الإعرابُ: (تَزَوَّدْتُ) فِعْلٌ وفاعلٌ, (مِنْ لَيْلَى بتَكْلِيمِ) مُتعلِّقانِ بتَزَوَّدَ، و(تَكْلِيمِ) مُضافٌ, و(سَاعَةٍ) مُضافٌ إليهِ, (فَمَا) نَافِيَةٌ, (زَادَ) فِعْلٌ ماضٍ, (إِلاَّ) أداةُ استنثاءٍ مُلْغاةٌ, (ضِعْفَ) مفعولٌ بهِ لزَادَ، وهو مُضافٌ, و(ما) اسمٌ موصولٌ, مُضافٌ إليهِ, (بِي) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ, صِلَةِ الموصولِ, (كَلامُهَا) كلامُ: فَاعِلُ زَادَ، وكلامُ مضافٌ، وضميرُ الغائبةِ العائدُ إلى لَيْلَى مُضافٌ إليهِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (فَمَا زَادَ إِلاَّ ضِعْفَ مَا بِي كَلامُهَا) حيثُ قَدَّمَ المفعولَ بهِ, وهو (ضِعْفَ) على الفاعِلِ، وهو (كَلامُها) معَ كونِ المفعولِ مُنحصِراً (بإِلاَّ), وهذا جائِزٌ عندَ الكِسائِيِّ.
وأكْثَرُ البَصْريِّينَ يَتأوَّلونَ ذلك البيتَ ونَحْوَه بأنَّ في (زَادَ) ضَمِيراً مُستتِراً َيعودُ على تَكْليمِ سَاعِةٍ، وهو فَاعِلُه، وقولُه: (كَلامُها) فاعلٌ بفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: فما زَادَ (هو) إِلاَّ ضِعْفَ مَا بِي زَادَهُ كَلامُهَا، وهو تأويلٌ مُتكَلَّفٌ مُستبعَدٌ، لا مُقْتَضِيَ لَهُ.
([8])218-هذا عَجُزُ بَيْتٍ من الطويلِ، وصَدْرُه قَوْلُه:
*وهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّيَّ إِلاَّ وَشِيجُهُ*
وهذا البيتُ من قصيدةٍ لزُهَيْرِ بنِ أَبِي سُلْمَى المُزَنِيِّ، يَمْدَحُ فيها هَرَمَ بنَ سِنَانِ بنِ أَبِي حَارِثَةَ, والحارِثَ بنَ عَوْفِ بنِ أَبِي حَارِثَةَ المُرِّيَّيْنِ.
اللغةُ: (الخَطِّيَّ) أَرَادَ بهِ الرِّماحَ، نَسَبَها إلى الخَطِّ، والخَطُّ: جَزِيرَةٌ بالبَحْرَيْنِ تَرْفَأُ إليها سُفُنُ الرِّماحِ؛ أي: تَرْسُو فيها, (وَشِيجُهُ) الوَشِيجُ: القَنَا المُلْتَفُّ في مَنْبَتِه، واحِدُه وَشِيجَةٌ، وأصْلُه مِن الوُشُوجِ – بضمِّ الواوِ – وهو تَداخُلُ الشيءِ بَعْضِه في بعضٍ, يُرِيدُ لا تُنْبِتُ القَنَاةَ إِلاَّ القَنَاةُ، وفي أمثالِ العَرَبِ: لا تُنْبِتُ البَقْلَةَ إلاَّ الحَقْلَةُ، والحَقْلَةُ – بفتحِ الحاءِ وسُكونِ القافِ –: الأرضُ الطَّيِّبَةُ.
المعنَى: يَمْدَحُ هَرَماً والحارِثَ بأنَّهما كَرِيمانِ مِن قَوْمٍ كِرَامٍ، ولا يُولَدُ الكِرَامُ إلاَّ في الموضِعِ الكَرِيمِ، وضَرَبَ نَبْتَةَ الخَطِّيِّ وغِرَاسَ النَّخْلِ مَثَلاً.
الإعرابُ: ( هَلْ) حَرْفُ استفهامٍ بمعنَى النفْيِ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له, ( يُنْبِتُ) فعلٌ مضارعٌ مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, ( الخَطِّيَّ) مَفْعولٌ بهِ ليُنْبِتُ, ( إِلاَّ) أداةُ حَصْرٍ, ( وَشِيجُهُ) وَشِيجُ: فَاعِلٌ ليُنْبِتُ مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائبِ مُضافٌ إليه, (وتُغرَسُ) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ. تُغرَسُ فعلٌ مضارِعٌ مَبْنِيٌّ للمجهولِ مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (إِلاَّ) أداةُ حَصْرٍ, (في مَنَابِتِهَا) الجَارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بتُغْرَسُ، و(مَنَابِتِ) مضافٌ, وضميرُ الغائبةِ مُضافٌ إليهِ, (النَّخْلُ) نائبُ فَاعِلٍ لتُغْرَسَ, مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (تُغْرَسُ إِلاَّ فِي مَنَابِتِهَا النَّخْلُ) حَيْثُ قدَّمَ الجارَّ والمجرورَ – وهو قولُه: (فِي مَنَابِتِهَا) – على نَائِبِ الفاعلِ, وهو قولُه: (النَّخْلُ). معَ أنَّ الجارَّ والمجرورَ مَحْصورٌ بإِلاَّ, ولمَّا كانَ الجَارُّ والمَجْرورُ بمَنْزِلَةِ المفعولِ، وكانَ النائبُ عن الفاعِلِ بمَنْزلةِ الفاعِلِ – صَحَّ الاستدلالُ بهذا الشاهدِ على جَوازِ تَقْدِيمِ المَفْعولِ المَحْصورِ بإِلاَّ على الفَاعِلِ، وقدِ اسْتَشْهَدَ بهذا البَيْتِ مَن ذَكَرْنا في شَرْحِ الشاهدِ (216) على جوازِ ذلكَ التقديمِ.
([9]) سورة القَمَرِ، الآية:41.
([10])219-هذا عَجُزُ بَيْتٍ مِنَ البَسِيطِ، وصَدْرُه قَوْلُه:
*جَاءَ الخِلافَةَ أو كَانَتْ لَهُ قَدَراً*
وهذا البيتُ مِن كَلامِ جَرِيرِ بنِ عَطِيَّةَ، من قَصيدةٍ يَمْدَحُ فيها أمِيرَ المُؤْمِنينَ الخليفةَ العادِلَ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العزيزِ.
اللغةُ: ( أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراً), (أو) في هذا البيتِ عندَ الكُوفِيِّينَ بمعنَى الواوِ، دَالَّةٌ على الجمعِ المُطْلَقِ، وقالَ ابنُ هِشَامٍ في (مُغْنِي اللَّبِيبِ) (وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي دِيَوانِ جَرِيرٍ: إِذْ كَانَتْ). اهـ.
والمرادُ أنَّها كانَتْ مُقَدَّرَةً له في الأزَلِ فلَمْ يَحْصُلْ له تَعَبٌ ولا مُعاناةٌ, كما أنَّ مُوسَى عليهِ السلامُ قدْ حَصَلَتْ له النُّبُوَّةُ واللُّقِيُّ بتقديرِ العزيزِ العليمِ من غيرِ مَشَقَّةٍ ولا مُعاناةٍ، وأخَذَ قولَه: (كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ) من قولِه تعالَى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}.
الإعرابُ: ( جَاءَ) فِعْلٌ ماضٍ، وفَاعِلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيهِ جَوازاً تقديرُه: هو, يَعودُ إلى المَمْدوحِ, ( الخِلافَةَ) مَفْعولٌ بهِ, ( أَوْ) حَرْفُ عَطْفٍ, (كانَتْ) كانَ: فعلٌ ماضٍ نَاقِصٌ، والتاءُ عَلامَةُ التأنيثِ، واسْمُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيهِ جَوازاً تقديرُه: هي, يعودُ إلى الخلافةِ, ( لَهُ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بـ(قَدَرِ)، أو بمحذوفٍ, حالٌ منه, ( قَدَراً) خَبَرُ كَانَ, (كَمَا) الكَافُ حَرْفُ جَرٍّ، ما: مَصدَرِيَّةٌ, (أَتَى) فِعْلٌ مَاضٍ, (رَبَّهُ) رَبَّ: مَفْعولٌ بهِ تَقدَّمَ على الفاعلِ، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائبِ العائِدُ إلى الفاعلِ المتأخِّرِ مُضافٌ إليهِ, (مُوسَى) فَاعِلُ أتَى، مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ, (عَلَى قَدَرِ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بأتَى، و(ما) المَصْدرِيَّةُ وما دَخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بالكافِ، والجَارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ, صِفَةٌ لموصوفٍ مَحْذوفٍ يَقَعُ مفعولاً مُطْلقاً، عَامِلُه جَاءَ، وتقديرُ الكلامِ: جاءَ الخِلافَةَ إِتْياناً مِثْلَ إتيانِ مُوسَى – إلخ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (أَتَى رَبَّهُ مُوسَى) حَيْثُ قَدَّمَ المفعولَ على الفاعلِ، وأعادَ الضميرَ المُتَّصِلَ بالمفعولِ المُتقَدِّمِ – وهو قولُه: (رَبَّهُ) – على الفاعِلِ المتأخِّرِ الذي هو قَوْلُه: مُوسَى، وأصْلُ الكلامِ: كما أتَى مُوسَى رَبَّهُ، فقَدَّمَ المفعولَ على الفاعلِ؛ فصارَ كما في البيتِ.
ومِثْلُ هذا مِمَّا شاعَ في لسانِ العربِ، ولم يَسْتَأْثِرْ به قومٌ دونَ قَوْمٍ، ولهذا لم يَختَلِفِ النحاةُ في جوازِه، وهذا الضميرُ – وإنْ عادَ على متأخِّرٍ في اللفظِ – عَائِدٌ على مُتقَدِّمٍ في الرُّتْبَةِ؛ لأنَّ مَرْتَبَةَ الفاعلِ من الفعلِ سَابِقَةٌ على مَرْتَبَةِ المفعولِ منه. فَافْهَمْ هذا, واللهُ يَنْفَعُكَ بهِ.
([11]) سورة البقرةِ، الآية:124.
([12]) سورة غافِرٍ، الآية:52.
([13])220-هذا صَدْرُ بَيْتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*جَزَاءَ الكِلابِ العَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ*
والبيتُ لأبي الأسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، يَهْجُو عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ، وقدْ نَسَبَهُ ابنُ جِنِّي إلى النابغةِ الذُّبْيانِيِّ، وهو انتقالُ ذِهْنٍ مِن أَبِي الفَتْحِ، وسَبَبُه أنَّ للنابغةِ الذُّبْيانِيِّ قَصِيدَةَ هِجاءٍ على هذا الرَّوِيِّ.
اللغةُ: ( جَزَاءَ الكِلابِ العَاوِيَاتِ) هذا مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ، والمعنَى: جَزَاهُ اللهُ جَزَاءً مِثْلَ جَزَاءِ الكِلابِ العَاوِيَاتِ، ويُرْوَى: ( الكِلابِ العَادِيَاتِ) – بالدالِ بَدَلَ الوَاوِ- وهو جَمْعُ عَادٍ، والعَادِي: اسْمُ فاعلٍ مِن عَدَا يَعْدُو؛ إذا ظَلَمَ وتَجَاوَزَ قَدْرَه, ( وقَدْ فَعَلْ) يُرِيدُ أنَّه تَعالَى قَدِ استجابَ فيه دُعاءَه وحَقَّقَ فيهِ رَجَاءَهُ.
الإعرابُ: (جَزَى) فعلٌ ماضٍ, (رَبُّهُ) فَاعِلٌ، ومُضافٌ إليهِ, (عَنِّي) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بجَزَى, (عَدِيَّ) مَفْعولٌ بهِ لجَزَى, (ابْنَ) صِفَةٌ لـ(عَدِيَّ)، وهو مُضافٌ، و(حَاتِمٍ) مُضافٌ إليهِ, (جَزَاءَ) مَفْعولٌ مُطلَقٌ مُبَيِّنٌ لنُوعِ عاملِه الذي هو جَزَى، وهو مُضافٌ, و (الكِلابِ) مُضافٌ إليهِ, (العَاوِيَاتِ) صِفَةٌ للكلابِ, (وقَدْ) الواوُ للحالِ، قَدْ: حَرْفُ تَحْقيقٍ, (فَعَلْ) فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ علَى الفَتْحِ لا مَحَلَّ له، وسُكِّنَ لأجْلِ الوَقْفِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيهِ، والجملةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (جَزَى رَبُّهُ... عَدِيَّ) حيثُ أخَّرَ المفعولَ، وهو (عَدِيَّ) وقَدَّمَ الفاعِلَ، وهو (رَبُّهُ) معَ اتصالِ الفاعلِ بضميرٍ يَعودُ على المفعولِ.
ونَظِيرُ هذا البيتِ قَوْلُ حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ:
ولَوْ أَنَّ مَجْداً أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِداً = مِن النَّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعِمَا
الشاهدُ فيهِ: قولُه: ( أَبْقَى مَجْدُهُ مُطْعِمَا) حيثُ قَدَّمَ الفَاعِلَ، وهو قولُه: مَجْدُهُ، على المفعولِ به, وهو قولُه: مُطْعِماً. معَ أنَّ الفاعِلَ مُتَّصِلٌ بضَميرٍ يَعودُ على المَفْعولِ.
ونظيرُه قولُ الآخَرِ:
ومَا نَفَعَتْ أَعْمَالُهُ المَرْءَ رَاجِياً = عَلَيْهَا ثَوَاباً مِن سِوَى مَن لَهُ الأمْرُ
وقَوْلُ سَلِيطِ بنِ سَعْدٍ:
جَزَى بَنُوهُ أَبَا الغِيلاَنِ عَنْ كِبَرٍ = وحُسْنِ فِعْلٍ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقولُ الآخَرِ:
كَسَا حِلْمُهُ ذَا الحِلْمِ أثْوَابَ سُؤْدَدٍ = وَرَقَّى نَدَاهُ ذَا النَّدَى في ذُرَى المَجْدِ
وقولُ الآخَرِ:
لَمَّا عَصَى أصْحَابُهُ مُصْعَباً = أَدَّى إِلَيْهِ الْكَيْلَ صَاعاً بصاعِ
وقَوْلُ الآخرِ:
ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَلُومَنَّ قَوْمُهُ = زُهَيْراً على ما جَرَّ مِن كُلِّ جَانِبِ
واعْلَمْ أوَّلاً أنَّ سِرَّ الاختلافِ بينَ النحاةِ في جوازِ هذهِ المسألةِ – وهي تقديمُ الفاعلِ المُتَّصِلِ بضميرِ غَيْبَةٍ يَعودُ إلى المفعولِ المتأخِّرِ في اللفظِ – يَرْجِعُ إلى اختلافِهم في مَرْتَبَةِ المفعولِ.
فأَمَّا جُمهورُ النحاةِ فيُقَرِّرُونَ أنَّ الأصلَ أنَ يَقَعَ الفِعْلُ أوَّلاً، ثم يَلِيهِ الفاعِلُ؛ لأنَّه أحَدُ جُزْأَيِ الجملةِ، وما عداهما فَضْلَةٌ، وإذا وَجَبَ تقديمُ الفعلِ فإِنَّه يَجِبُ أَنْ يقَعَ الفاعلُ بعدَه؛ لِئَلاَّ يُفْصَلَ بينَ الجُزْأَيْنِ اللذَيْنِ يَتِمُّ بهما الكلامُ، ولأنَّ الفاعِلَ مُحتاجٌ إليه، وما عَداهُ من مُتعلَّقاتِ الفعلِ غيرُ مُحتاجٍ إليه، والمحتاجُ إليهِ أَوْلَى بالتقديمِ من غيرِه، فإنْ تقَدَّمَ المفعولُ في اللفظِ كانَ في النيَّةِ مُؤخَّراً.
ونازَعَ في هذا الكلامِ الأخْفَشُ ومَن رأَى رأيَهُ فقالوا: إنْ كانَ مُرادُكم مِن أنَّ رُتْبةَ الفاعلِ التَّقَدُّمُ ورُتْبَةَ المَفْعولِ التأخُّرُ، اقْتِضاءَ الفِعْلِ لكُلٍّ منهما؛ فإِنَّا نُسَلِّمُ أنَّ اقتضاءَ الفعلِ للفاعلِ سَابِقٌ على اقتضائِه للمَفْعولِ؛ لأنَّ الفعلَ يَقْتَضِي الفاعِلَ ضَرُورةً، ثم قد يَقْتَضِي المفعولَ وقدْ لا يَقْتضِيهِ، فدَرَجَةُ اقتضاءِ الفعلِ للمَفْعولِ مُتراخِيَةٌ عن دَرَجَةِ اقتضائِه للفاعلِ، ولَكِنَّا نَمْنَعُ أنْ يَكُونَ هذا هو مُرادَ العُلماءِ عندَ قولِهم: (إِنَّ الضَّمِيرَ لا يَعودُ على مُتأخِّرٍ لَفْظاً ورُتْبَةً).
بَلْ إِنَّ مُرادَهم من الرُّتْبَةِ في هذهِ العبارةِ مَوْقِعُه من الكلامِ، ونحنُ نَدَّعِي أنَّ المفعولَ قَدْ كَثُرَ في الكلامِ الفصيحِ مَجِيئُه تالياً للفعلِ وبعَقِيبِه, حتَّى إِنَّه لَيُعْتَبَرُ كأنَّ مَوْقِعَه في الكلامِ هو هذا المَوْقِعُ, وإنْ كانَ اقتضاءُ الفعلِ إِيَّاهُ مُتراخِياً، فإذا تأخَّرَ في الكلامِ عن مُجاورةِ الفِعْلِ فكأنَّه زُحْزِحَ عن مَوْضِعِه الذي أصْبَحَ؛ بسَبَبِ كثرةِ تَقَدُّمِه, كأنَّه الموضِعُ الطَّبيعِيُّ، فلو اتَّصَلَ الفاعِلُ حِينَئذٍ بضميرِ المفعولِ المُتأخِّرِ عنه لَفْظاً لم يَكُنِ الضميرُ عائداً على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةً، بل هو رَاجِعٌ إلى مُتأخِّرٍ لفظاً مُتَقَدِّمٍ رُتْبَةً، كما تَقولُونَ أنتم في عودِ الضميرِ المُتَّصلِ بالمفعولِ المُتقدِّمِ على الفاعلِ المُتَأخِّرِ عنه.
قالَ أبو رَجَاءٍ: ونحنُ نَرَى ما ذهَبَ إليهِ الأخْفَشُ في هذهِ المسألةِ مَذْهباً مُستقِيماً حَرِيًّا بأنْ نَأْخُذَ به؛ لكَثْرَةِ الشواهدِ التي رَوَاها العُلماءُ لهذهِ المسألةِ، وليسَ لهذهِ العِلَّةِ التي ذَكَرْنَاها عنه، وإنْ كانَتْ وَجِيهةً.
ثم اعْلَمْ ثانياً أنَّ الضَّمِيرَ الموضوعَ للغَيْبَةِ يَعودُ على مُتأَخِّرٍ لَفْظاً ورُتْبَةً – على تَفْسيرِ الجُمهورِ – في سِتَّةِ مَواضِعَ غيرَ المَوْضِعِ الذي الذي قَدَّمْنا بيانَهُ، وهي:
الموضِعُ الأوَّلِ: الضَّمِيرُ المرفوعُ بنِعْمَ أو بِئْسَ، المُفَسَّرُ بتَمْيِيزٍ، نحوُ: ( نِعْمَ رَجُلاً زَيْدٌ، وبِئْسَ رَجُلاً عَمْرٌو), إذا قَدَّرْتَ المَخْصوصَ مُبْتَدَأً خَبَرُه مَحْذوفٌ، أو قَدَّرْتَه خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، أمَّا إذا قَدَّرْتَهُ مُبْتَدَأً خَبَرُه جَمْلةُ (نِعْمَ) معَ فاعلِه المُستتِرِ فيه وُجوباً فإِنَّ مَرْجِعَ الضميرِ المُسْتتِرِ في (نِعْمَ) يَكُونُ حِينَئذٍ مُتَقدِّماً رُتْبَةً.
الموضِعُ الثاني: أنْ يَكُونَ الضميرُ مَرْفوعاً بأوَّلِ الفعليْنِ المتنازعَيْنِ، نحوَ قولِ الشاعرِ:
جَفَوْنِي وَلَمْ أَجْفُ الأَخِلاَّءَ إِنَّنِي = لِغَيْرِ جَمِيلٍ مِنْ خَلِيلِيَ مُهْمِلُ
الموضِعُ الثالِثُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مُبْتَدَأً يُفَسِّرُه خَبَرُه، نحوَ قولِه تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}.
الموضِعُ الرابِعُ: ضميرُ الشأْنِ والقِصَّةِ، نحوَ قولِه تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. وقولِه: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
الموضِعُ الخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مَجْروراً برُبَّ، وهذا يُوافِقُ الضميرَ المرفوعَ بنِعْمَ في أمْريْنِ: أحَدُهما: أنَّه يَجِبُ في كُلٍّ منهما أنْ يَكُونَ مُفْرداً، وثانيهما: أَنَّه يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُفَسِّرُه تَمْيِيزاً، ومن ذلك قولُ الشاعرِ:
رُبَّهُ فِتْيَةً دَعَوْتُ إِلَى مَا = يُورِثُ المَجْدَ دَائِباً فَأَجَابُوا
ويُفارِقُ الضميرُ المَجْرورُ برُبَّ الضميرَ المَرْفوعَ بنِعْمَ أو بِئْسَ, بأَنَّ مَجْرورَ رُبَّ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُذَكَّراً, ولَوْ كَانَ مُفَسِّرُه مُؤنَّثاً، تَقولُ: (رُبَّهُ امْرَأَةً) ولا تَقُولُ: (رُبَّهَا امْرَأَةً), أمَّا الضميرُ المرفوعُ بنِعْمَ أو بِئْسَ فيَكُونُ مُؤَنَّثاً إِنْ كانَ مُفَسِّرُه مُؤنَّثاً، نحوَ قَوْلِكَ: (نِعْمَتِ امْرَأَةً زَيْنَبُ) و(بِئْسَتِ امْرَأَةً هِنْدُ).
الموضِعُ السادِسُ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ مُبْدَلاً منه اسْمٌ ظَاهِرٌ مُفَسِّرٌ له، نحوَ قولِكَ: (ضَرَبْتُهُ زَيْداً) وقدِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عن سِيبَوَيْهِ في جوازِ هذا الموضعِ، فقالَ ابنُ عُصْفُورٍ: أجازَهُ الأخْفَشُ، ومنَعَه سِيبَوَيْهِ. وقالَ ابنُ كَيْسانَ: هو جَائِزٌ بالإجماعِ.
([14]) سورة فاطرٍ، الآية: 28.
([15])221-هذا بَيْتٌ من البسيطِ، ولَمْ أَقِفْ على نِسْبَتِه إلى قائِلٍ مُعيَّنٍ، ولا عَثَرْتُ له على سَابِقٍ أو لاحِقٍ يَتَّصِلُ به.
اللغةُ: (عَابَ) بالعينِ المُهملَةِ – من العَيْبِ، وهو أنْ تَذْكُرَ المُتكَلِّمَ فيه بالذمِّ والثَّلْبِ, (لَئِيمٌ) المرادُ بهِ البخيلُ؛ بدَلالةِ مُقابلتِه بذِي الكَرَمِ, (جَفَا) من الجَفَا، وهو فِعْلُ مَا يَسوءُ, (جُبَّأٌ) - بضَمِّ الجيمِ وفتْحِ المُوحَّدةِ مُشدَّدَةً، بزِنَةِ سُكَّرٍ – هو الجَبَانُ, (بَطَلاَ) البَطَلُ – بفتحِ الباءِ والطاءِ جَمِيعاً – هو الشُّجاعُ.
الإعرابُ: (ما) حَرْفُ نَفْيٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (عَابَ) فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ علَى الفَتْحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (إلاَّ) أَدَاةُ حَصْرٍ, (لَئِيمٌ) فَاعِلُ (عابَ) مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (فِعْلَ) مَفْعولٌ بهِ لعَابَ, مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، و(فِعْلَ) مُضافٌ, و(ذِي) مُضافٌ إليهِ مجرورٌ بالياءِ نِيَابَةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه من الأسماءِ السِّتَّةِ، وهو مُضافٌ, و(كَرَمٍ) مُضافٌ إليهِ, (ولا) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، لا: زَائِدَةٌ لتأكيدِ النفْيِ, (جَفَا) فِعْلٌ ماضٍ, مَبْنِيٌّ على فَتْحةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ للتعَذُّرِ, (قَطُّ) ظَرْفُ زمانٍ مَبْنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ بجَفَا, (إِلاَّ) أداةُ حَصْرٍ، حَرْفٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (جُبَّأٌ) فَاعِلُ جَفَا مَرْفوعٌ وعلامةُ رَفْعِه الضمَّةُ الظاهرةُ, (بَطَلاَ) مَفْعولٌ بهِ لجَفَا، مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ.
الشاهدُ فيه: في هذا البيتِ شَاهدانِ للمَسألةِ التي ذَكَرَهُ المُؤلِّفُ من أجْلِها: أحَدُهما: في قولِه: (مَا عَابَ إِلاَّ لَئِيمٌ فِعْلَ) وثانيهما: في قولِه: (وَلاَ جَفَا إِلاَّ جُبَّأٌ بَطَلاَ) حيثُ قَدَّمَ في كلِّ واحدٍ من المَوْضعيْنِ الفاعِلَ المحصورَ بإِلاَّ – وهو قولُه: (لَئِيمٌ) في العبارةِ الأُولَى، وقولُه: (جُبَّأٌ) في العبارةِ الثانيةِ – على المفعولِ بهِ المحصورِ فيه – وهو قولُه: (فِعْلَ ذِي كَرَمٍ) في العبارةِ الأولى، وقولُه: (بَطَلاَ) في العبارةِ الثانيةِ – وهذا البيتُ من الأبياتِ التي اسْتَدَلَّ بها الكِسَائِيُّ على جوازِ تَقْديمِ المحصورِ بإِلاَّ إذا كانَ فَاعِلاً.
وجُمهورُ البَصْريِّينَ لا يَرَوْنَ جوازَ تقديمِ المحصورِ بإِلاَّ إذا كانَ فاعِلاً، ويُجِيزُونَ تَقْدِيمَه إذا كانَ مَفْعولاً، على ما عَرَفْتَ في شرحِ الشاهِدِ السابِقِ (رَقْمِ 216).
وهم يَرُدُّونَ استشهادَ الكِسَائِيِّ بهذا البَيْتِ، ويَقُولُونَ: إِنَّ قولَ الشاعِرِ: (فِعْلَ ذِي كَرَمٍ). ليسَ مَفْعولاً بِهِ لِعَابَ المذكورِ في البيتِ، وقولَه: (بَطَلاَ). لَيْسَ مفعولاً بهِ لجَفَا المذكورِ فيه، بل كُلُّ واحدٍ منهما مَفْعولٌ بهِ لفِعْلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه المذكورُ، وتقديرُ الكلامِ: ما عَابَ إِلاَّ لَئِيمٌ، عَابَ فِعْلَ ذِي كَرَمٍ، ولا جَفَا قَطُّ إِلاَّ جُبَّأٌ، جَفَا بَطَلاً، فالفَاعِلُ في كلٍّ مِنَ العِبارتَيْنِ من جُملةٍ غَيْرِ الجملةِ التي مِنها المفعولُ المذكورُ. فاحْفَظْ ذلك.
([16])222-هذا عَجُزُ بَيْتٍ من البَسيطِ، وصَدْرُه قولُه:
*نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارَتَهُمْ*
وقَدْ نَسَبَ أبو الفَرَجِ (الأغاني 7/118 بولاق) هذا البيتَ إلى يَزِيدَ بنِ الطَّثْرِيَّةِ، ورَوَى قَبْلَه بيتاً آخَرَ، وهو قولُه:
يَا سَخْنَةَ العَيْنِ لِلْجَرْمِيِّ إِذْ جَمَعَتْ = بَيْنِي وبَيْنَ نَوَارِ وَحْشَةُ الدَّارِ
اللغةُ: ( نُبِّئْتُهُمْ) فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمجهولِ, أصْلُه نَبَّأَ – بتشديدِ الباءِ – بمعنَى أعْلَمَ, ( جَارَتَهُمْ) ويُرْوَى في مَكانِه: (جَارَهُمْ), والجارُ: الذي دارُه لَصِيقَةٌ لدَارِكَ أو قَرِيبٌ منها، أو هو المُسْتجِيرُ بك، وإرادةُ الثاني هنا أَوْلَى, (هَلْ) بمعنى حَرْفِ النفْيِ، وكأنَّه قدْ قالَ: ولا يُعَذِّبُ أحَدٌ أحَداً بالنَّارِ غَيْرُ اللهِ تعالى.
المعنى: يَهْجُو قوماً بأنَّه عَلِمَ أنَّهم يُعذِّبُونَ بالنارِ مَن استجارَ بهم واستغاثَهم، وأنَّهم جَعَلُوا ذلكَ العذابَ مكانَ إغاثَتِه وإبلاغِه مَأْرَبَهُ، ويُنْكِرُ عليهم ذلك.
الإعرابُ: (نُبِّئْتُهُمْ) نُبِّئَ: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمجهولِ، وتاءُ المُتكلِّمِ نائبُ فاعِلٍ مَبْنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ رَفْعٍ، وهو المفعولُ الأوَّلُ، وضَمِيرُ الغَائِبِينَ مَفْعولٌ ثانٍ, (عَذَّبُوا) فعلٌ ماضٍ وفاعلُه, (بالنارِ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بعَذَّبُوا, (جَارَتَهُمْ) جَارَةَ: مَفْعولٌ بهِ لعَذَّبُوا، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائِبِينَ مُضافٌ إليه، وجُملةُ الفعلِ الماضي وفَاعِلِه ومفعولِه في مَحَلِّ نَصْبٍ, مَفْعولٌ ثَالِثٌ لنُبِّئَ, (وهَلْ) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، أو للاستئنافِ، هل: حَرْفُ استفهامٍ إنكاريٍّ بمعنَى النَّفْيِ، مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (يُعَذِّبُ) فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ؛ لتَجَرُّدِه من الناصبِ و الجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِه الضمَّةُ الظَّاهِرَةُ, (إِلاَّ) أَداةُ حَصْرٍ, حَرْفٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (اللهُ) فاعِلُ يُعَذِّبُ مَرْفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (بالنارِ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بيُعَذِّبُ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (هَلْ يُعَذِّبُ إلاَّ اللهُ بالنَّارِ) حَيْثُ قَدَّمَ الفاعِلَ المحصورَ بإِلاَّ – وهو قولُه: (اللهُ) – على ما هو بمَنْزلةِ المفعولِ به؛ وهو الجارُّ والمجرورُ, الذي هو قولُه: (بالنَّارِ). وقدْ طَوَى ذِكْرَ المفعولِ به، ولو أنَّه جاءَ بهِ وجاءَ بالكلامِ على وَجْهِهِ لَقالَ: وهل يُعَذِّبُ أحداً بالنارِ إلاَّ اللهُ، وقدْ بَيَّنَّا في شَرْحِ الشاهدِ السابقِ أَنَّ هذا التقديمَ مِمَّا يُجِيزُه الكِسَائِيُّ، وأنَّ جَمْهرةَ البَصْريِّينَ لا يُجِيزُونَه، ولهم تَوْجِيهٌ لمَوْضِعِ الاستدلالِ, يَرُدُّونَ بهِ استدلالَ الكِسَائِيِّ بهذا البيتِ، وخُلاصَتُه أنَّ قَوْلَ الشاعرِ: (بالنَّارِ). ليسَ مُتَعَلِّقاً بقولِه: (يُعَذِّبُ). المذكورِ قبلَه، ولكنَّه مُتعَلِّقٌ بفِعْلٍ محذوفٍ مُماثِلٍ له, يَدُلُّ المذكورُ عليهِ، وكأنَّه قالَ: لا يُعَذِّبُ إلاَّ اللهُ يُعَذِّبُ بالنَّارِ. وهذا نظيرُ ما ذَكَرْنَاهُ في تخريجِ الشاهدِ السابقِ، وهو تَكَلٌّفٌ لا مُقْتَضَيَ له.
([17])223-هذا صَدْرُ بَيْتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*عَشِيَّةَ آنَاءُ الدِّيارِ وَشَامُهَا*
وهذا البيتُ مِن الشواهدِ التي لم يَنْسُبْها أحَدٌ مِمَّن احَتَجَّ به من أئمَّةِ النحوِ، وهو من شواهدِ سِيبَوَيْهِ (1/370)، وقدْ عَثَرْتُ بعدَ طويلِ البَحْثِ على أنَّه من قصيدةٍ طويلةٍ لذي الرُّمَّةِ غَيْلانَ بنِ عُقْبَةَ، وأوَّلُها قولُه:
مَرَرْنَا عَلَى دَارٍ لِمَيَّةَ مَرَّةً = وجَارَاتِها، قَدْ كَادَ يَعْفُو مَقامُهَا
وبعدَه بيتُ الشاهِدِ، ثم بعدَه قولُه:
وقَدْ زَوَّدَتْ مَيٌّ عَلَى النَّأْيِ قَلْبَهُ = عَلاَقاتِ حَاجَاتٍ طَوِيلٌ سَقَامُها
فأَصْبَحْتُ كالهَيْمَاءِ، لا المَاءُ مُبْرِدٌ = صَدَاهَا، وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هُيامُهَا
اللغةُ: ( آناءُ) مِن الناسِ مَن يَرْويهِ بهَمْزةٍ مَمْدودةٍ كآبَارٍ وآرَامٍ، ومِنهم مَن يَرْويهِ بهَمزةِ أَوَّلِه غيرِ ممدودةٍ وهَمْزَةٍ بعدَ النونِ مُمْدودةٍ على مِثالِ أقْفالٍ وأعمالٍ، وقدْ جَعَلُه العَيْنيُّ جَمْعَ نَأْيٍ – بفتحِ النونِ – ومعناهُ: البُعْدُ، وعندي أنَّه جَمْعُ نُؤْيٍ – بزِنَةِ قُفْلٍ أو صُرَدٍ أو ذِئْبٍ أو كَلْبٍ – وهو: الحَفِيرَةُ تُحْفَرُ حولَ الخِبَاءِ؛ لتَمْنَعَ عنه المَطَرَ، ويَجوزُ أنْ تَكُونَ الهمزةُ أوَّلَه ممدودةً على أنَّه قَدَّمَ الهمزةَ التي هي العَيْنُ على النونِ، فاجْتَمَعَ في أوَّلِ الجمعِ همزتانِ مُتجاوِرتانِ، وثَانِيَتُهما سَاكِنَةٌ, فقَلَبَها ألِفاً مِن جنسِ حركةِ الأُولَى؛ كما فَعَلُوا بآبارٍ وآراءٍ وآرامٍ، جَمْعِ بِئْرٍ ورَأْيٍ ورِئْمٍ، ويجوزُ أنْ تَكُونَ الهمزةُ أَوَّلَه غيرَ مَمْدودةٍ, والمَدَّةُ في الهمزةِ الثانيةِ على الأصْلِ، وقدْ جَعَلَهُ الشيخُ خالِدٌ بكَسْرِ الهمزةِ الأولى على أنَّه مصدرٌ بزِنَةِ الإبعادِ، ومعناهُ: وهو بَعِيدٌ, فلا تَلْتَفِتْ إليه.
(وَشَامُهَا) ضَبَطَهُ غيرُ واحدٍ بكَسْرِ الوَاوِ بزِنَةِ جِبَالٍ على أنَّه جَمْعُ وَشْمٍ، وهو ما تَجْعَلُه المرأةُ على ذِرَاعِها ونحوِه، تَغْرِزُ ذَراعَها بالإبرةِ ثم تَحْشُوه بدُخانِ الشَّحْمِ، وليسَ ذلك بصوابٍ أصْلاً، وقدْ تَحَرَّفَ الكلامُ عليهم فانْطَلَقُوا يُخَرِّجُونَه ويَتَمحَّلُونَ له، والواوُ مَفْتوحةٌ, وهي واوُ العَطْفِ، والشَّامُ: جَمْعُ شَامَةٍ، وهي العلامةُ، وهو مَعْطوفٌ على (عَشِيَّةَ)، هذا وروايةُ البيتِ في الديوانِ هكذا:
فلَمْ يَدْرِ إلاَّ اللهُ مَا هَيَّجَتْ لَنَا = أَهِلَّةَ آنَاءِ الدِّيارِ وَشَامُهَا
الإعرابُ: (فلَمْ) الفَاءُ حَرْفُ عَطْفٍ، لَمْ: حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ, (يَدْرِ) فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بحذفِ الياءِ, (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغاةٌ, (اللهُ) فَاعِلٌ, (مَا) اسمٌ موصولٌ مفعولٌ بهِ ليَدْرِي، وجُمْلَةُ (هَيَّجَتْ) معَ فاعلِه الآتي لا مَحَلَّ لها, صِلَةُ الموصولِ, (لنا) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بهَيَّجَتْ, ( عَشِيَّةُ) أعَرَبَهُ كثيرٌ على أنَّه فَاعِلٌ لهَيَّجَتْ، وهو مُضافٌ، و(آنَاءِ) مُضافٌ إليهِ، وآناءِ مُضافٌ، و(الدِّيارِ) مُضافٌ إليهِ, (وَشَامُهَا) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، شَامُ: مَعْطوفٌ على (عَشِيَّةُ)، وهو مُضافٌ وضَمِيرُ الغائبةِ العَائِدُ على الديارِ مُضافٌ إليه، ويَجُوزُ عندِي نَصْبُ ( عَشِيَّةَ) على الظرفيَّةِ، ويَكُونُ آنَاءُ فَاعِلاً لهَيَّجَتْ، وقَدْ وُصِلَ فيهِ هَمْزَةُ القَطْعِ, وهي هَمْزَتُه الأولى، بل هذا الإعرابُ عندي هو الصوابُ؛ فإنَّ الشُّعَراءَ اعتادوا أنْ يَتحدَّثوا عمَّا تُثِيرُه في أنفُسِهم آثارُ دِيارِ الأَحِبَّةِ ورُسومُها وما خَلَّفُوا فيها من علاماتٍ تدُلُّ عليهم.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (فَلَمْ يَدْرِ إلاَّ اللهُ ما..إلخ) حيثُ قَدَّمَ الفاعِلَ المحصورَ بإلاَّ على المفعولِ، وقدْ ذهَبَ الكِسائِيُّ إلى تجويزِ ذلك؛ استشهاداً بمثلِ هذا البيتِ، والجمهورُ على أنَّه مَمْنوعٌ، وعندَهم أنَّ (مَا) اسمٌ موصولٌ مفعولٌ بهِ لفعلٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: فلَمْ يَدْرِ إلاَّ اللهُ، دَرَى ما هَيَّجَتْ لَنَا.
([18]) سورة البقرةِ، الآية:87.
([19]) سورة غافرٍ، الآية:81.
([20]) سورة الإسراءِ، الآية:110.
([21]) سورة المُدَّثِّرِ، الآية: 3.
([22]) سورة الضُّحَى، الآية:9.
([23])فإنْ قُلْتَ: فإِنَّكُمْ تُقرِّرونَ في قواعِدِكم أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ لا يَعْمَلُ فيما قبلَها، وجَعَلْتُمْ بمُقْتَضَى هذهِ القاعدةِ لهذهِ الفاءِ حُكْمَ التصَدُّرِ في أَوَّلِ الكلامِ، فكيفَ جَعَلْتُم الاسْمَ المنصوبَ الواقِعَ بعدَ (أمَّا) الملفوظِ بها أو المُقدَّرَةِ مَنْصوباً بالفعلِ الواقِعِ بعدَ فاءِ الجزاءِ؟ بل زِدْتُمْ على ذلكَ فجَعَلْتُمْ تَقَدُّمَهُ على العاملِ المُقْتَرِنِ بالفاءِ وَاجِباً؟
فالجوابُ عن ذلك أنْ نَقولَ لكَ: إنَّا نَلْتَزِمُ أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ لا يَعْمَلُ فيما قَبْلَها، لكنَّ مَحَلَّ ذلك إذا كانَ ما بعدَ الفاءِ وَاقعاً في مَوْقِعِه ومركزِه الطبيعيِّ، أمَّا إذا لم يكنْ وَاقعاً في موقعِه ومركزِه الطبيعيِّ – بل كانَ مُؤخَّراً عن مَوْقِعِه ومركزِه الطبيعيِّ – فإنَّه يَجوزُ أنْ يَعْمَلَ فيما قَبْلَه، ونحنُ نُقَرِّرُ هنا أنَّ ما بعدَ الفاءِ الواقعةِ في جَوابِ (أَمَّا) الملفوظِ بها أو المُقدَّرَةِ ليسَ واقعاً في مَوْقِعِه ومَرْكَزِه الطبيعيِّ، فلهذا جَازَ أَنْ يَعْمَلَ في المفعولِ المُتقَدِّمِ عليهِ في اللفظِ، ولهذا التأخُّرِ في هذا الموضِعِ سرٌّ نحنُ نُبَيِّنُه لكَ حتى تَكُونَ من الأمرِ على يَقِينٍ.
أنتَ تَعْلَمُ أنَّ (أمَّا) نَائِبَةٌ عن أداةِ الشرطِ وعن فِعْلِ الشرطِ جميعاً، ومن أجْلِ ذلكَ يُفَسِّرُونها بـ مَهْمَا يَكُنْ مِن شَيْءٍ، فمَهْمَا هي أداةُ الشرطِ، وقولُهم: (يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ) هو فعلُ الشرطِ، وقدْ نَابَتْ (أمَّا) مَنابَهما جميعاً، وما يلي (أمَّا) في اللفظِ هو جوابُ الشرطِ، والتَزَموا فيهِ الفاءَ ليَدُلُّوا من أَوَّلِ وَهْلَةٍ على أنَّه جوابٌ، حتى لا يَقَعَ في وَهْمِ وَاهِمٍ أنَّه الشرطُ؛ لأنَّ من المعلومِ أنَّ الشرطَ لا يَقْتَرِنُ بالفاءِ.
والتَزَمُوا أنْ يُفْصَلَ بينَ (أَمَّا) والفاءِ بفَاصِلٍ، والْتَزَموا أنْ يَكُونَ هذا الفاصِلُ مُفْرداً لا جُمْلةً، أمَّا التزامُهم الفَصْلَ بينَ (أمَّا) والفاءِ, فلِكَرَاهِيَتِهم أَنْ يَقَعَ جوابُ الشرطِ مُتَّصِلاً بأداةِ الشرطِ، وأمَّا التزامُهم أَنْ يَكُونَ هذا الفاصِلُ مُفْرداً؛ فلأنَّهم لو أجَازُوا وُقوعَ الجملةِ فَاصِلاً لوَقَعَ في وَهْمِ مَن لا يَعْرِفُ حقيقةَ الأمْرِ أنَّ هذهِ الجملةَ هي جُمْلَةُ الشرطِ، وإذنْ فهذا الاسْمُ المفردُ الذي التَزَموهُ بعدَ (أمَّا) جُزْءٌ من أجزاءِ جُمْلَةِ الجوابِ تَقَدَّمَ على مَوضِعِه ومركزِه الطبيعيِّ لسَبَبٍ صِناعِيٍّ، وهذهِ الفاءُ التي تَليهِ مُؤخَّرَةٌ عن مَوْضِعِها ومَرْكَزِها لسَبَبٍ صِناعِيٍّ أيضاً, ولو أَنَّ العامِلَ المُقْتَرِنَ بالفاءِ وقَعَ في مَوْضعِه الطبيعيِّ لَكانَ مُتَقَدِّماً في اللفظِ على الاسْمِ المنصوبِ، وهذا معنَى قَوْلِنا في أَوَّلِ جوابِ هذا السؤالِ: (إِنَّ مَا بعدَ فاءِ الجزاءِ لا يَعْمَلُ فيما قَبْلَها إذا كَانَتِ الفاءُ وَاقِعَةً في مَوْقِعِها الطبيعيِّ). فتَأَمَّلْ هَذَا الكَلامَ، وسيأتي له مَزِيدُ بَحْثٍ في فَصْلِ (أمَّا).