الحديثُ التاسعُ وَالثلاثونَ
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) حديثٌ حسَنٌ.
موضوعُ الحديثِ : موانعُ التَّكليفِ
المفرداتُ: (1) ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ)): أيْ عَفَا وَرَفَعَ وَلمْ يُؤَاخِذْ، وَالمُرَادُ أَنَّهُ غَفَرَ لهم وَعَفَا عَنْهُمْ. وَهذا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَمَنِّهِ؛ لِعِلْمِهِ بِضَعْفِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَنَقْصِهِمْ.
((لِي)): أيْ لأَجْلِي وَتَعْظِيمِ أَمْرِي وَرِفْعَةِ قَدْرِي، وَقدْ قَالَ تَعَالَى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4].
وَمِنْ رِفْعَةِ قَدْرِهِ الشفاعةُ العُظْمَى، وَهوَ أَوَّلُ مَنْ يُفْتَحُ لهُ بابُ الجنَّةِ، وَأُعْطِيَ خَمْساً لمْ يُعْطَهُنَّ غَيْرُهُ، وَصَلَّى بالأنبياءِ، وَعُرِجَ بهِ إِلى مكانٍ لمْ يَصِلْ إِليهِ مخلوقٌ غيرُهُ، وَخَصَائِصُهُ كَثِيرَةٌ.
(2) ((أُمَّتِي)) الأُمَّةُ؛ أي: الجماعةُ، وَهم جماعةُ الإِجابةِ الذينَ سَمِعُوا الأمرَ فَقَامُوا بهِ، وَتَرَكُوا النَّهْيَ وَحَذِرُوا مِنْهُ وَاتَّبَعُوا الصِّرَاطَ المستقيمَ، وَكانَ لهم في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
وَأُمَّةُ الإِجابةِ أَفْضَلُ الأُمَمِ؛ إِذْ هيَ وَسَطٌ بينَ الأنبياءِ وَبينَ الأُمَمِ، وَهم عُدُولٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143].
(3) ((الخَطَأُ)): ضِدُّ العَمْدِ، وَهوَ أنْ يَفْعَلَ الشيءَ يَظُنُّ صَوَابَهُ فَيَتَبَيَّنُ ضِدُّ قَصْدِهِ، كَأَنْ يُرِيدَ قَتْلَ كَافِرٍ فَيَقْتُلَ مُسْلِماً، فهذا لا حَرَجَ لهُ عَلَيْهِ فيهِ، وَلكنْ يُؤَدِّي الدِّيَةَ وَالكَفَّارَةَ، وَرُفِعَ الحَرَجُ؛ لقولِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
قَالَ تَعَالَى: ((قَدْ فَعَلْتُ)).
وَمِن الخَطَأِ: قَتْلُ النفسِ المعصومةِ خَطَأً، فَلا يُقْتَلُ بذلكَ؛ لأنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذلكَ، وَلوْ قَصَدَ ذلكَ لكانَت النفسُ بالنَّفْسِ، وَكذلكَ مَن اجْتَهَدَ في القِبْلَةِ وَأَخْطَأَ لم يُعِدْ، وَمَنْ أَخْطَأَ في الصلاةِ لِجَهْلِهِ لَمْ يُعِدْ، وَحَدِيثُ المُسِيءِ، وَهوَ خَلاَّدُ بنُ رَافِعٍ الذي أَعَادَ الصلاةَ ثلاثَ مَرَّاتٍ، ثمَّ عَلَّمَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّةَ الصلاةِ كَامِلَةً، وَلمْ يَأْمُرْهُ بإِعادةِ الصلواتِ المَاضِيَةِ.
(4) ((النِّسْيَانُ)): (النسيانُ) يُطْلَقُ على مَعْنَيَيْنِ:
الأوَّلُ: الذُّهُولُ عَن الشيءِ.
الثاني: التركُ للشيءِ.
والمرادُ بهِ هنا: الذُّهُولُ عَن الشيءِ، أيْ: غَفْلَةُ القلبِ، فهذا لا يُؤَاخَذُ بهِ؛ لأنَّهُ لا قَصْدَ فيهِ. وَمِنْ ذلكَ مَنْ نَسِيَ وَاجباً مِن الصلاةِ سَجَدَ للسَّهْوِ وَصَحَّتْ صَلاتُهُ، وَمَنْ نَسِيَ سُنَّةً فَصَلاتُهُ صَحيحةٌ، وَمَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِياً في رمضانَ فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، وَمَنْ نَسِيَ صلاةً فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا.
(5) ((ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)): الإِكراهُ: هوَ إِلْزَامُ الشخصِ بما لا يُرِيدُ، وَهوَ مِنْ مَوَانِعِ التكليفِ.
فمَنْ أُكْرِهَ على الكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِيمانِ فلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمنْ أُكْرِهَ على تَرْكِ وَاجِبٍ فلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَقْضِي إِذا زَالَ الإِكراهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ الحَجَّاجِ بنِ عِلاطٍ الذي قَدِمَ مَكَّةَ عَامَ خَيْبَرَ، وَقالَ لأهلِ مَكَّةَ: إِنَّ اليهودَ انْتَصَرُوا على الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَرَادَ بذلكَ أَخْذَ مَالِهِ فَأَخَذَ مَالَهُ كُلَّهُ، وَأَخْبَرَ العبَّاسَ بِنَصْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبَ منهُ ألاَّ يُخْبِرَ بذلكَ إِلاَّ بَعْدَ عِدَّةِ أَيَّامٍ.
فَائِدَةٌ:
مَوانِعُ التَّكْلِيفِ ثلاثةٌ:
1- الجهلُ، وَضِدُّهُ العِلْمُ. وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ المُسِيءِ صَلاتَهُ.
2- النِّسْيَانُ، وَضِدُّهُ التَّذْكِيرُ وَالقصدُ. وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ: ((مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا)).
3- الإِكْرَاهُ، وَضِدُّهُ الاختيارُ، وَدَلِيلُهُ قولُ اللهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
الفوائِدُ:
1- تَكْرِيمُ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- شَرَفُ الأُمَّةِ بشَرَفِ نَبِيِّهَا.
3- تَفْضِيلُ هذهِ الأُمَّةِ على غَيْرِهَا.
4- رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ.
5- فَضْلُ أُمَّةِ الإِجابةِ.
6- رَفْعُ الحَرَجِ حالَ الخَطَأِ.
7- ضَعْفُ الإِنسانِ وَنَقْصُهُ.
8- لا عِصْمَةَ لِبَشَرٍ إِلاَّ الرُّسُلَ.
9- المُؤَاخَذَةُ في العملِ بالقصدِ.
10- عَفْوُ اللهِ تَعَالَى عَن الناسِ.
11- النِّسْيَانُ مِنْ صفاتِ الإِنسانِ.
12- النسيانُ مِنْ موانعِ التكليفِ.
13- عدمُ مُؤَاخَذَةِ المُكْرَهِ.
14- الإِكراهُ مَانِعٌ مِنْ موانعِ التكليفِ عندَ طُمَأْنِينَةِ القلبِ.
15- أهَمِّيَّةُ القلبِ في العملِ.
16- طَلاقُ المُكْرَهِ لا يَقَعُ.