هذا بَابُ المَفْعولِ المُطْلَقِ
أي: الذي يَصْدُقُ عليهِ قَوْلُنا: (مَفْعولٌ). صِدْقاً غَيْرَ مُقَيَّدٍ بالجارِّ.
وهو: اسْمٌ يُؤَكِّدُ عَامِلَه أو يُبَيِّنُ نَوْعَه أو عَدَدَه([1])، وليسَ خَبراً، ولا حَالاً، نحوَ: (ضَرَبْتُ ضَرْباً)، أو (ضَرْبَ الأَمِيرِ), أو (ضَرْبَتَيْنِ) بخِلافِ نحوِ: (ضَرْبُكَ ضَرْبٌ أَلِيمٌ).
ونحوِ: {وَلَّى مُدْبِراً}([2]).
وأكثرُ ما يَكونُ المفعولُ المُطْلَقُ مَصْدراً.
والمَصْدَرُ: اسْمُ الحَدَثِ الجاري على الفِعْلِ.
وخَرَجَ بهذا القيدِ نحوُ: (اغْتَسَلَ غُسْلاً), و(تَوَضَّأَ وُضوءاً), و(أعْطَى عَطَاءً) فإِنَّ هذهِ أسماءُ مَصادِرَ([3]).
وعاملُه إمَّا مَصْدَرٌ مثلُه نحوُ: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفوراً}([4]) أو مَا اشْتُقَّ منه: مِن فِعْلٍ نَحْوِ: {وكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً}([5]).
أو وَصْفٍ نحوِ: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}([6]).
وزعَمَ بعضُ البَصْرِيِّينَ أَنَّ الفِعْلَ أصْلٌ للوَصْفِ, وزَعَمَ الكُوفِيُّونَ أَنَّ الفِعْلَ أصْلٌ لهما([7]).
فصلٌ: يَنوبُ عن المصدرِ في الانتصابِ على المفعولِ المُطْلَقِ ما يَدُلُّ على المَصْدَرِ من صِفَةٍ؛ كـ (سِرْتُ أَحْسَنَ السَّيْرِ), و: (اشْتَمَلَ الصَّمَّاءَ), و: (ضَرَبْتُهُ ضَربَ الأَمِيرِ اللِّصَّ)؛ إذِ الأصلُ: (ضَرْباً مِثْلَ ضَرْبِ الأميرِ اللِّصَّ), فحذَفَ الموصوفَ، ثم المُضافَ, أو ضَمِيرَه، نَحْوَ: (عَبْدَ اللهِ أَظُنُّهُ جَالِساً), ونحوَ: {لاَ أُعَذِّبُهُ أَحَداً}([8]).أو إشارةٍ إليهِ؛كـ(ضَرَبْتُهُ ذَلِكَ الضَّرْبَ), أو مُرادِفٍ له نَحْوَ: (شَنَأْتُهُ بُغْضاً), و(أحْبَبْتُهُ مِقَةً), و(فَرِحْتُ جَذَلاً), وهو بالذَّالِ المُعْجمَةِ, مَصْدَرُ جَذِلَ بالكَسْرِ. أو مُشارِكٍ له في مَادَّتِه, وهو ثَلاثَةُ أقْسَامٍ: اسْمُ مَصْدَرٍ, كما تَقدَّمَ, واسْمُ عَيْنٍ ومَصْدَرٍ لفِعْلٍ آخَرَ نحوِ: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً}([9])،{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}([10])،والأَصْلُ: إنباتاً, وتَبَتُّلاً. أو دَالٍّ على نَوْعٍ منه؛كـ(قَعَدَ القُرْفُصَاءَ), و(رَجَعَ القَهْقَرَى). أو دَالٍّ على عَدَدِه؛ كـ (ضَرَبْتُهُ عَشْرَ ضَرَباتٍ), {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}([11])،أو على آلتِه؛ كـ (ضَرَبْتُهُ سَوْطاً) أو: (عَصاً), أو: (كُلّ) نَحْوَ: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ}([12])
وقولِه:
246- يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أَنْلاَ تَلاقِيَا([13])
أو (بَعْض)؛ كـ (ضَرَبْتُهُ بَعْضَ الضَّرْبِ).
مسألةٌ: المَصْدَرُ المُؤَكِّدُ لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ باتِّفاقٍ, فلا يُقالُ: ضَرْبَيْنِ ولا ضُرُوباً؛ لأنَّهُ كماءٍ وعَسَلٍ, والمختومُ بتاءِ الوَحْدةِ- كضَرْبَةٍ- بعِكْسِه باتِّفاقٍ, فيُقالُ: ضَرْبَتَيْنِ وضَرَباتٍ؛ لأنَّهُ كتَمْرَةٍ وكِلْمَةٍ, واخْتُلِفَ في النوعِيِّ: فالمَشهورُ الجوازُ وظَاهِرُ مذهبِ سِيبَوَيْهِ المنعُ, واختارَهُ الشَّلَوْبِينُ([14]).
فَصْلٌ:
اتَّفَقُوا على أنَّه يَجوزُ لدليلٍ مَقالِيٍّ أو حاليٍّ حَذْفُ عامِلِ المصدرِ غيرِ المُؤَكِّدِ؛ كأنْ يُقالَ: (مَا جَلَسْتَ). فتَقولُ: (بَلَى جُلُوساً طَوِيلاً), أو: (بَلَى جَلْستَيْنِ). وكقَوْلِكَ لمَن قَدِمَ من سَفَرٍ: (قُدُوماً مُبارَكاً).
وأمَّا المُؤَكِّدُ فزَعَمَ ابنُ مَالِكٍ أنَّه لا يُحْذَفُ عَامِلُه؛ لأنَّهُ إِنَّما جِيءَ بِهِ لتقويتِه وتقريرِ معناهُ, والحذفُ مُنافٍ لهما, ورَدَّهُ ابْنُه بأنَّه قَدْ حُذِفَ([15]) جوازاً في نحوِ: (أَنْتَ سَيْراً), ووجوباً في (أَنتَ سَيْراً سَيْراً) وفي نحوِ: (سَقْياً ورَعْياً).
وقدْ يُقامُ المَصدَرُ مُقامَ فِعْلِه فيَمْتَنِعُ ذِكْرُه معَه, وهو نوعانِ:
(1) مالا فِعْلَ له نحوُ: (وَيْلَ زَيْدٍ), و(وَيْحَهُ).
247- و* بَلْهَ الأكُفِّ............ *([16])
فيُقَدَّرُ له عَامِلٌ من معناهُ على حَدِّ:(قَعَدْتُ جُلُوساً).
(2) وما له فعلٌ, وهو نوعانِ: وَاقِعٌ في الطَّلَبِ وهوالواردُ دُعاءً, كـ (سَقْياًورَعْياًوجَدْعاً), أو أمْراً أو نَهْياً نَحْوَ: (قِياماً لا قُعوداً), ونحوَ: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}([1]) وقولِه:
248- فَنَدْلاً زُرَيْقُ المَالَ نَدْلَ الثَّعَالِبِ([2]) كذا أطلَقَ ابنُ مَالِكٍ وخَصَّ ابنُ عُصفورٍ الوُجوبَ بالتَّكْرارِ؛ كقَولِهِ:
249- فَصَبْراً فِي مَجَالِ المَوْتِ صَبْراً([3]) أو مَقْروناً باستفهامٍ تَوْبيخِيٍّ نحوَ: (أَتَوَانِياً وَقَدْ جَدَّ قُرَنَاؤُكَ؟)
وقولِه:
250- * أَلُؤْماً لاَ أَبَا لَكَ وَاغْتِرَابَا *؟([4]) وواقِعٌ في الخَبَرِ, وذلك في مَسائِلَ:
إحداها: مَصَادِرُ مسموعةٌ كَثُرَ استعمالُها، ودَلَّتِ القرائنُ على عاملِها؛ كقولِهم عندَ تَذَكُّرِ نعمةٍ وشِدَّةٍ: (حَمْداً وشُكْراً لا كُفْراً), و(صَبْراً لا جَزَعاً). وعندَ ظُهورِ أمْرٍ مُعْجِبٍ:(عَجَباً). وعندَ خطابٍ مَرْضِيٍّ عنه أو مَغْضوبٍ عليهِ:(أفْعَلُهُ وكَرَامَةً ومَسَرَّةً), و(لاَ أَفعَلُهُ وَلاَ كَيْداً ولاَ هَمًّا).
الثانيةُ: أنْ يَكُونَ تَفْصيلاً لعَاقبةِ ما قبلَه نحوَ: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وإِمَّا فِدَاءً}([5]).
الثالثةُ: أنْ يَكُونَ مُكَرَّراً أو مَحْصوراً أو مُسْتَفْهَماً عنه, وعاملُه خَبَرٌ عن اسْمِ عينٍ، نَحْوَ: (أَنْتَ سَيْراً سَيْراً), و: (مَا أنتَ إِلاَّ سَيْراً), و: (إِنَّمَا أنتَ سيرَ البَرِيدِ), و: (أأنتَ سَيْراً؟).
الرابعةُ: أنْ يَكُونَ مُؤكِّداً لنَفْسِه أو لغيرِه, فالأَوَّلُ الوَاقِعُ بعدَ جُملةٍ هي نَصٌّ في معناهُ، نحوَ: (لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ عُرْفاً)؛ أي: اعترافاً. والثاني: الواقِعُ بعدَ جُملةٍ تَحْتَمِلُ معناهُ وغيرَه، نَحْوَ: (زَيْدٌ ابْنِي حَقًّا), و: (هذا زَيْدٌ الحَقَّ لاَ البَاطِلَ), و: (لا أفْعَلُ كَذَا البَتَّةَ)([6]).
الخامسةُ: أنْ يَكُونَ فِعْلاً عِلاجِيًّا تَشْبِيهيًّا بعدَ جُملةٍ مُشتمِلَةٍ عليه وعلى صاحبِه؛ كـ (مَرَرْتُ بزَيْدٍ, فإِذَا له صَوْتٌ صَوْتَ حِمَارٍ وبُكَاءٌ بُكَاءَ ذَاتِ دَاهِيَةٍ)([7]).
ويَجِبُ الرفعُ في نحوِ: (لَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الحُكَمَاءِ)؛ لأنَّهُ مَعْنَوِيٌّ, لا عِلاجِيٍّ، وفي نحوِ: (صَوْتُهُ صَوْتُ حِمارٍ)؛ لعَدَمِ تَقَدُّمِ جُمْلَةٍ، وفي نحوِ: (فإِذَا في الدَّارِ صَوْتٌ صَوْتُ حِمَارٍ), ونحوِ: (فَإِذَا عَلَيْهِ نَوْحٌ نَوْحُ الحَمامِ)؛ لعَدَمِ تَقدُّمِ صَاحِبِه, ورُبَّما نُصِبَ نَحْوُ هَذَيْنِ, لكنْ على الحالِ.
تَنْبيهٌ: مِثْلُ(لَهُ صَوْتٌ صَوْتَ حِمَارٍ,) قولُه:
251- مَا إِنْ يَمَسُّ الأَرْضَ إِلاَّ مَنْكِبٌ = مِنْهُ وحَرْفُ السَّاقِ طَيَّ المِحْمَلِ([8]) لأنَّ ما قبلَه بمنزلةِ:(لَهُ طَيٌّ), قالَه سِيبَوَيْهِ.
([1]) أوْمَأَ المُؤَلِّفُ بهذا الكلامِإلى أنَّ المفعولَ المُطْلَقَ يُؤْتَى به في الكلامِ لواحدٍ من ثلاثةِ أغراضٍ: أَوَّلُها: توكيدُ معنَى عاملِه، والثاني: بيانُ نوعِ عاملِه، والثالثُ: بيانُ عَدَدِ مرَّاتِ وُقوعِ عاملِه.
فإنْ قُلْتَ: فهل لكلِّ غرضٍ من هذه الأغراضِ صورةٌ أو صورٌ، أم أنَّ مرجِعَ ذلك إلى القرائنِ؟
فالجوابُ عن هذا أنَّ لكلِّ غرضٍ من هذهِ الأغراضِ صورةً أو صوراً تَخُصُّه، وبها يَتمَيَّزُ عن أخَوَيْهِ.
فأمَّا المُؤَكِّدُ فصورتُه أنْ يَكُونَ مصدراً مُنكَّراً غيرَ مُضافٍ ولا موصوفٍ، سواءٌ أكانَ عاملُه فعلاً نحوَ قولِكَ: (ضَرَبْتُ ضَرْباً). أم كانَ عاملُه وصْفاً نحوَ قولِكَ: (أنَا ضَارِبٌ زَيْداً ضَرْباً). ومنه قولُه تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً}. ونحوَ قولِه سبحانَه: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}. وقولِه: {وَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً}. وسواءٌ أكانَ عاملُه من مادَّتِه؛ كهذيْنِ المثاليْنِ، أم كانَ العاملُ من مَادَّةٍ مرادفةٍ لمادَّتِه، نحوَ قولِكَ: (قَعَدْتُ جُلوساً). وقولِكَ: (أنا قاعدٌ جلوساً).
فإنْ قلْتَ: أنتم تُقرِّرونَ أنَّ المصدرَ يَدُلُّ على الحَدَثِ وحدَه، وأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على الحدَثِ والزمانِ والذاتِ، والوَصْفَ يَدُلُّ على الحدَثِ والذاتِ، ثم أنتم تُقرِّرونَ أنَّ التوكيدَ يَجِبُ فيه اتحادُ معنَى المُؤَكِّدِ والمُؤَكَّدِ، فكيفَ يكونُ المصدرُ توكيداً للفعلِ أو للوصفِ، والمعنَى ليسَ مُتَّحِداً؟.
فالجوابُ عن ذلك: أنَّا لا نريدُ أنه يُبيِّنُ كلَّ معنَى الفعلِ أو الوصْفِ، وإنَّما نريدُ أنه يُبيِّنُ أصلَ المعنَى، ويَدُلُّ على حدوثِه حقيقةً؛ لأنَّك حينَ تقولُ: (ضَرَبْتُ زَيْداً). قد يَفْهَمُ السامعُ أنَّكَ أوْقَعْتَ به أذًى، فإذا أردْتَ أنْ تُبَيِّنَ له أنَّكَ ضَربْتَه على وجْهِ الحقيقةِ: (ضَرَبْتُ زَيْداً ضَرْباً), وكأنَّكَ قُلْتَ: أحدَثْتُ ضرباً ضرباً.
وأما المفعولُ المُطْلقُ المُبيِّنُ لنوعِ عاملِه فله ثمانُ صورٍ:
الصورةُ الأولى: أنْ يَكُونَ المصدرُ مُضافاً، نحوَ قولِكَ: (صَنَعْتُ صُنْعَ الحُكماءِ) ومنه مثالُ الناظمِ: (سِرْتُ سَيْرَ ذِي رَشَدْ).
الصورةُ الثانية: أنْ يَكُونَ المصدرُ مَقْروناً (بأل) الدالَّةِ على العهدِ، أو (أل) الجنسيَّةِ الدالَّةِ على الكمالِ، نحوَ قولِكَ: (دَافَعْتُ عن عَلِيٍّ الدِّفَاعَ). تريدُ أنَّكَ دافَعْتَ عنه الدفاعَ المعهودَ بينَكَ وبينَ المخاطَبِ، وذلك إذا كانَ بينَكَ وبينَ المُخاطَبِ عهدٌ في دِفاعٍ مُعيَّنٍ، أو تُرِيدُ أنَّكَ دافعْتَ عنه الدفاعَ الكاملَ الخليقَ بأنْ يَنتصِفَ له.
الصورةُ الثالثةُ: أنْ يَكُونَ المصدرُ مَوصوفاً، نحوَ قولِكَ: (ضَرَبْتُ زيداً ضَرْباً شديداً).
الصورةُ الرابعةُ: أنْ يَكُونَ المفعولُ المُطلَقُ وصفاً مُضافاً إلى المصدرِ، نحوَ قولِكَ: (رَضِيتُ عن عليٍّ أجْمَلَ الرِّضَا).
الصورةُ الخامسةُ: أنْ يَكُونَ المفعولُ المطلقُ اسمَ إشارةٍ مَنْعوتاً بمصدرٍ مُحلًّى بأل، نحوَ: (أكْرَمْتُ عَلِيًّا ذلك الإكرامَ).
الصورةُ السادسةُ: أنْ يَكُونَ المصدرُ نَفْسُه دَالاًّ على نوعٍ من أنواعِ عاملِه، نحوَ قولِكَ: (سِرْتُ الخَبَبَ), و: (رَجَعْتُ القَهْقَرَى).
الصورةُ السابعةُ: أنْ يَكُونَ المفعولُ المُطْلَقُ لفظَ (كُلٍّ) أو (بَعْضٍ) مُضافاً إلى المصدرِ، نحوَ قولِكَ: (أحْبَبْتُه كلَّ الحبِّ). ومنه مثالُ الناظمِ: (جِدَّ كُلَّ الجِدِّ) ومنه بيتُ المجنونِ وهو الشاهدُ 246 الآتي.
الصورةُ الثامنةُ: أنْ يَكُونَ المفعولُ اسمَ آلةٍ للعاملِ فيه، نحوَ قولِكَ: (ضَرَبْتُه سَوْطاً), أو: (ضَرَبْتُه عَصًا).
وأمَّا المفعولُ المُطْلَقُ المُبَيِّنُ للعددِ فله ثلاثُ صُورٍ:
الصورةُ الأُولَى: أنْ يَكُونَ مصدراً مَختوماً بتاءِ الوَحْدةِ، نحوَ قولِكَ: (ضَرَبْتُه ضَرْبَةً), و: (جَلَدْتُه جَلْدَةً).
الصورةُ الثانيةُ: أنْ يَكُونَ مصدراً مَخْتوماً بعلامةِ تثنيةٍ أو علامةِ جمعٍ، نحوَ قولِكَ: (ضَرَبْتُه ضربتيْنِ). أو قولِكَ: (ضَرَبْتُه ضَرَباتٍ). ومنه مثالُ الناظِمِ (سِرْتُ سَيْرَتيْنِ).
الصورةُ الثالثةُ: أنْ يَكُونَ المفعولُ المُطْلَقُ اسمَ عددٍ مُميَّزاً بمصدرٍ، نحوَ قولِكَ: (أشَرْتُ إليهِ عَشْرَ إشاراتٍ). ومنه قولُه سبحانَه: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.
وقدْ يَجْتَمِعُ في المفعولِ المُطْلَقِ صورتانِ, فيكونُدَالاًّ على ما تدُلُّ عليه كلُّ صورةٍ منهما، فنحوُ: (سِرْتُ سَيْرَيْ زَيْدٍ), يَدُلُّ على النوعِ وعلى توكيدِ العاملِ جميعاً.
والمصدرُ المُؤكِّدُ لا يَدُلُّ إلا على التوكيدِ على النحوِ الذي ذكَرْناه في بيانِه، أمَّا الدالُّ على النوعِ والدالُّ على العَدَدِ؛ فإنَّ كُلاًّ منهما يَدُلُّ على التوكيدِ زِيادةً على ما تدُلُّ عليه صورتُه، إلاَّ أنَّ النحاةَ نظَروا إلى الصورةِ فأعْطَوُا الاسمَ الذي تدُلُّ عليه، ولم ينظُروا إلى دَلالتِه على التوكيدِ؛ لأنه أمرٌ عامٌّ يكونُ فيهِ، ويكونُ في غيرِه.
([2]) سورة النمْلِ، الآية:10.
([3]) اسمُ المصدرِ: اسمٌ يَدُلُّ على المعنَى الذي يَدُلُّ عليه المصدرُ – وهو الحَدَثُ – ولكنَّ حُروفَه تَنْقُصُ عن حروفِ مصدرِ الفعلِ المُستعمَلِ معَه، ومن أمثلتِه قولُهم: كَلَّمْتُه كَلاماً، وسَلَّمْتُ عليه سَلاماً، وقَبَّلْتُه قُبْلةً، وتَوضَّأْتُ وُضوءاً، واغْتَسَلتُ غُسْلاً، وأعْطَيْتُه عطاءً، وأجَبْتُه إجابةً، وأوقَدْتُ النارَ وُقوداً، وصَلَّيْتُ عليه صلاةً، وراقَبْتُه رِقْبَةً، ورَاعَيْتُه رِعْيَةً، وهو يَعْمَلُ عمَلَ المصدرِ.
ومن إعمالِه قولُه عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((مِنْ قُبْلَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ الوُضُوءُ)) فقُبْلَةُ في هذا الحديثِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وقد أُضِيفَ إلى فاعلِه، وهو (الرَّجُلِ)، ثم نَصَبَ المفعولَ به، وهو قَوْلُه: (امْرَأَتَهُ). كما تفعَلُ لو وضَعْتَ المصدرَ في موضِعِه، فقُلْتَ: (مِن تَقْبِيلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ الوُضُوءُ)، وقد مضَى التمثيلُ بهذا الحديثِ في بابِ الفاعلِ (ص76 من هذا الجزءِ)، وسيأتي مزيدُ بيانٍ لهذا الكلامِ في بابِ إعمالِ المصدرِ, فارْتَقِبْهُ.
([4]) سورة الإسراءِ، الآية:63.
([5]) سورة النساءِ، الآية: 164.
([6]) سورة الصافَّاتِ، الآية: 1.
([7]) اخْتَلَفَ النحاةُ في أصْلِ المُشْتَقَّاتِ أهو الفِعْلُ، أم هو المَصْدَرُ، أم أنَّ كُلاًّ من الفعلِ والمصدرِ أصْلٌ قائمٌ بنفسِه, وليسَ أحَدُهما أصلاً للآخَرِ؟ ولهم في ذلكَ أربعةُ مذاهِبَ:
الأوَّلُ: مذهَبُ نحاةِ الكوفةِ, وحاصلُه: أنَّ الفعلَ أصْلُ المُشتقَّاتِ كُلِّها، ومنها المصدرُ.
وثانيها: مذهَبُ نحاةِ البَصْرةِ, وحاصلُه: أنَّ المصدرَ أصْلُ المُشتقَّاتِ كُلِّها، ومنها الفعلُ.
وثالثُها: مذهَبُ ابنِ طَلْحَةَ, وحاصلُه: أنَّ كُلاًّ من الفعلِ والمصدرِ أصْلٌ قائمٌ بنفسِه, وليسَ أحَدُهما أصلاً للآخَرِ.
ورابعُها: مذهَبُ جماعةٍ من النحاةِ, وحاصلُه: أنَّ المصدرَ أصْلٌ للفعلِ وَحْدَه، وأنَّ الفعلَ أصْلٌ لسائرِ المُشتقَّاتِ.
والذي يَعْنِينَا من هذهِ المذاهبِ هو مذهَبُ الكُوفِيِّينَ ومذهبُ البَصْريِّينَ:
فأمَّا الكوفيونَ فقدْ ذكَرَ كلُّ واحدٍ من أئمَّتِهم دَلِيلاً على ما ذَهَبوا إليه، وعِمادُ هذه الأدلَّةِ وقُطْبُها الذي تَدُورُ عليه أربعةُ أدلَّةٍ:
الدليلُ الأولُ: أنَّ المصدرَ يَعتَلُّ إذا اعْتلَّ الفعلُ, ويَصِحُّ إذا صَحَّ الفعلُ، وبيانُ ذلك أنَّكَ تَقولُ: قامَ يَقُومُ قِياماً، وصامَ يَصومُ صِياماً، ولاذَ يَلُوذُ لِياذاً.
وأصْلُ الماضي في هذا المثلِ: قَوَمَ وصَوَمَ ولَوَذَ – بفتحِ أَوَّلِهِنَّ وثانيهِنَّ – فلَمَّا تَحرَّكَتِ الواوُ وانفتَحَ ما قبلَها انقلَبَتْ ألِفاً، وأصْلُ المضارِعِ يَقْوُمُ ويَصْوُمُ ويَلْوُذُ– بسكونِ الفاءِ وضَمِّ العينِ على مثالِ يَكْتُبُ – فنُقِلَتْ ضَمَّةُ الواوِ إلى الساكنِ الصحيحِ قبلَها، فاعتلالُ الماضي بالقلبِ، واعتلالُ المضارعِ بالنقْلِ، فلَمَّا اعتَلَّ الفعلُ اعتَلَّ المصدرُ, فقيلَ: قِيامٌ وصِيامٌ ولِياذٌ.
والأصلُ قِوَامٌ وصِوامٌ ولِواذٌ، بكسرِ أَوَّلِهِنَّ، فلمَّا وقَعَتِ الواوُ بعدَ كسرةٍ في مصدرِ فعلٍ أُعِلَّ ماضيهِ ومضارعُه, قُلِبتِ الواوُ ياءً؛ لمُناسبةِ الكسرةِ التي قبلَها، وتَقولُ: قَاوَمَ فلانٌ فُلاناً قِواماً، وَلاوَذَ لِواذاً، فلا يَعْتَلُّ المصدرُ؛ لأنَّ الفعلَ لم يَعتَلَّ، وإنَّما لم يعتَلَّ الفعلُ في هذا المَثَلِ؛ لأنَّ الواوَ وإنْ كانَتْ مُتحرِّكةً ليسَ ما قبلَها مفتوحاً، وإذا كانَ الأمرُ كذلك, كانَ المصدرُ تَابِعاً للفعلِ في الصِّحَّةِ والاعتلالِ، فيَكُونُ فَرْعاً عليه.
الدليلُ الثاني: أنَّا وجَدْنا الفعلَ يَعْمَلُ في المصدرِ، فإِنَّكَ إذا قُلْتَ: (قَعَدَ قُعُوداً). كانَ (قُعُوداً) منصوباً بقَعَدَ، وقد عَلِمْنا أنَّ رُتبةَ العاملِ قبلَ رُتْبةِ المعمولِ، فتكونُ رُتْبةُ الفعلِ قبلَ رُتبةِ المصدرِ، فيَكُونُ المصدرُ فَرْعاً عليه.
الدليلُ الثالثُ: أنَّا وجَدْنا المصدرَ يُذْكَرُ توكيداً للفعلِ؛ فإنَّكَ إذا قُلْتَ: (ضَرَبْتُ ضَرْباً). كانَ (ضَرْباً) مُؤكِّداً لضَرَبَ، ولا شَكَّ أنَّ رُتْبةَ المُؤكَّدِ – بفتحِ الكافِ– قبلَ رُتْبةِ المؤكِّدِ – بكسرِ الكافِ– فتكونُ رُتْبةُ الفعلِ قبلَ رتبةِ المصدرِ، فيكونُ الفعلُ أصلاً للمصدرِ.
الدليلُ الرابعُ: أنا وَجَدْنا كثيراً من الأفعالِ وليسَ لها مَصادِرُ، خصوصاً على مذهبِكم مَعْشَرَ البَصْرِيِّينَ، وذلك نحوُ: عَسَى, وليسَ, ونِعْمَ, وبِئْسَ, وفعلِ التعَجُّبِ، فلو قُلْنَا: إنَّ المَصْدَرَ أصْلٌ, والفعلَ فرعٌ. كانتْ هذه الأفعالُ فُروعاً لا أصْلَ لها، وهو أمرٌ مُحالٌ أنْ يُوجَدَ فَرْعٌ لا أصْلَ له، فأمَّا إذا قُلْنا: إنَّ الفعلَ هو الأصْلُ. كانتْ هذه الأفعالُ أصولاً، لا فُروعَ لها، ولا غَرابةَ في ذلك.
وأما البَصريُّونَ فاستدَلُّوا على ما ذَهَبوا إليه من أنَّ المصدَرَ أصلٌ للفعلِ وغيرِه من المُشتقَّاتِ بأربعةِ أدلَّةٍ، ونحنُ نُلَخِّصُها لك فيما يلي:
الدليلُ الأولُ: أنَّ المصدرَ يَدُلُّ على زمانٍ مُطلَقٍ، بدَلالةِ الالتزامِ، والفعلَ يَدُلُّ على زمانٍ مُعيَّنٍ، بدَلالةِ المطابقةِ، وبيانُ ذلك أنَّ العَرَبَ لمَّا أرادوا أنْ يَسْتَعْمِلُوا المصدرَ اسْتَشْعَروا صلاحِيَتَه للأزمانِ الثلاثةِ، وأنَّه لا اختصاصَ له بزمانٍ دونَ زمانٍ, فلمَّا لم يَتعيَّنْ لهم زمانُ حدوثِه؛ لعَدَمِ اختصاصِه بأحدِ الأزمنةِ, اشْتَقُّوا له من لَفْظِه أمثلةً يَخْتَصُّ كلُّ مثالٍ منها بزَمَنٍ، ولهذا كانَتْ أمثلةُ كلِّ فعلٍ منها تَختَصُّ بزمنٍ منها، وكما أنَّ المُطْلَقَ يكونُ أصلاً للمُقيَّدِ, يكونُ المصدرُ الدالُّ على الزمانِ المُطْلَقِ أصلاً للفعلِ الدالِّ على زمانٍ مُقيَّدٍ.
الدليلُ الثاني: أنَّ المَصْدَرَ اسمٌ، والاسمُ يَقومُ بنفسِه ويَسْتَغْنِي عن الفعلِ؛ بدليلِ أنَّ الكلامَ المُفِيدَ قدْ يَتركَّبُ من الأسماءِ وحدَها، كقَولِكَ: (زَيْدٌ قَائِمٌ). فأمَّا الفعلُفلا يقومُ بنفسِه, وإنَّما يقومُ بالاسمِ، ولا يَستغنِي عن الاسمِ؛ بدليلِ أنَّ الكلامَ المُفِيدَ لا يَتركَّبُ من الأفعالِ وحدَها، ولا شَكَّ أنَّ ما يَقومُ بنفسِه ويستغني عَمَّا عَدَاهُ يَكونُ أصْلاً لِمَا لا يَقومُ بنفسِه ولا يستغني عن غيرِه، فيكونُ المصدرُأصْلاً للفعلِ.
الدليلُ الثالثُ: أنَّ المصدرَ يَدُلُّ بدلالةِ المطابقةِ على شيءٍ واحدٍ, وهو الحدَثُ، والفعلَ يَدُلُّ بدلالةِ المطابقةِ أيضاً على شيئيْنِ؛ وهما الحدَثُ والزمانُ، ولا شَكَّ أنَّ الواحِدَ قبلَ الاثنيْنِ، فيكونُ ما دَلَّ على واحدٍ قبلَ ما دَلَ على الاثنيْنِ، فيكونُ المصدرُ قبلَ الفعلِ.
الدليلُ الرابعُ: أنَّ المصدرَ لو كانَ مُشتقًّا من الفعلِ لكانَ يَنبغِي أنْ يَكُونَ له صِيغةٌ واحدةٌ، وكانَ يجرِي على سَنَنٍ واحدٍ، كما أنَّ المُشتقَّاتِ؛ كاسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ, لمَّا كانَتْ مُشتقَّاتٍ, كانَلكلٍّ منها صيغةٌ واحدةٌ، وجرَى كلُّ واحدٍ منها على سَنَنٍ واحدٍ، ألسْتَ ترَى أنَّنا نقولُ: كلُّ اسمِ فاعلٍ فعلُه ثلاثيٌّ يكونُ على زِنَةِ فاعِلٍ، وكلُّ اسمِ مفعولٍ فعلُه ثُلاثِيٌّ يكونُ على زنةِ مفعولٍ. وهَلُمَّ جَرًّا، والمصدرُ تَختلِفُ صيغتُه معَ استواءِ الأفعالِ في عِدَّةِ الحروفِ، فلَمَّا رَأَيْنا اختلافَ صِيَغِ المصادرِ معَ اتحادِ الأفعالِ في عِدَّةِ الحروفِ, عَلِمْنا أنَّ الفعلَ ليسَ أصْلاً للمصدرِ.
فأمَّا قولُ الكُوفيِّينَ: (إنَّ المصدرَ يَعتَلُّ لاعتلالِ الفعلِ ويُصَحَّحُ لصِحَّتِه). فإنَّا لا نُسلِّمُ أنَّ الاعتلالَ في المصدرِ بسببِ اعتلالِ الفعلِ، وإنَّما الاعتلالُ لطلبِ المناسبةِ والمشاكلةِ في المادَّةِ الواحدةِ، وكم من صِيَغٍ أُعِلَّتْ لاعتلالِ صيغةٍ أخْرَى، وليسَ إحْدَى الصيغتيْنِ أصْلاً للأُخْرَى! ألاَ ترَى أنَّ (يَعِدُ، ويَصِفُ) قد أُعِلاَّ بحذفِ الواوِ؛ لوقوعِ هذهِ الواوِ بينَ ياءٍ مفتوحةٍ وكسرةٍ، وقد أُعِلَّ (أَعِدُ، وتَعِدُ، ونَعِدُ)؛ طلباً لمشاكلةِ (يَعِدُ), ولم يَقُلْ أحَدٌ: إنَّ (يَعِدُ) أصْلٌ لنحوِ: (أعِدُ، ونَعِدُ، وتَعِدُ).
ثم ألاَ تَرَى أنَّ (أُكْرِمُ) الفعلَ المضارعَ الذي مَاضِيهِ (أكْرَمَ) قدْ أُعِلَّ بحذفِ الهمزةِ؛ لاستثقالِ اجتماعِ همزتَيْنِ في أولِ الكلمةِ, إذا قُلْتَ: (أُأَكْرِمُ). وقد أُعِلَّ بحذفِ الهمزةِ أيضاً، (يُكْرِمُ، ونُكْرِمُ، وتُكْرِمُ)؛ طلباً لمجانسةِ (أُكْرِمُ)؛ إذ ليسَ في مجيئِها على الأصلِ ما يُسْتَكْرَهُ، ولم يَقُلْ أحدٌ: إِنَّ (أُكْرِمُ) أصْلٌ ليُكْرِمُ ونُكْرِمُ وتُكْرِمُ. فدلَّ ذلك وما أشْبَهَه على أنَّ اعتلالَ كلمةٍ لمجانسةِ كلمةٍ لا يَدُلُّ على أنَّ إحْدَى الكلمتيْنِ أصْلٌ للأُخْرَى.
وأمَّا قَوْلُ الكُوفيِّينَ: (إنَّ الفعلَ يعمَلُ في المصدرِ, فيجِبُ أنْ يَكُونَ الفعلُ أصْلاً. فكلامٌ لا يُقْضَى العَجَبُ منه؛ فإنَّ كونَ الكلمةِ عاملةً في كلمةٍ أخْرَى لا يَدُلُّ على أنَّ الكلمةَ العاملةَ أصْلٌ للكلمةِ المعمولِ فيها، وانظُرْ فيما نُلْفِتُ نظرَكَ إليه، فقَدْ عَمِلَ اسمُ الفاعلِ في المصدرِ نحوَ قولِه تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً}. وقولِه سبحانَه: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}. ولم يقُلْ أحدٌ: إنَّ اسمَ الفاعلِ أصلٌ للمصدرِ. وقد عَمِلَ اسمُ المفعولِ في المصدرِ نحوَ قولِكَ: (أنتَ مَطلوبٌ طَلَباً شديداً). وقولِكَ: (زيدٌ مَمْدوحٌ مَدْحاً). ولم يقُلْ أحدٌ: إنَّ اسمَ المفعولِ أصلٌ للمصدرِ. وقد عَمِلَ الفعلُ في الأسماءِ الجامدةِ كثيراً نحوَ قولِكَ: (قالَ رَجُلٌ). وقولِكَ: (جاءَ رجُلٌ). وقولِكَ: (رَكِبْتُ فَرَساً). ولم يقُلْ أحدٌ: إنَّ الفعلَ أصلٌ للأسماءِ الجامدةِ التي تقَعُ معمولةً له. وقدْ عَمِلَتْ حروفٌ في أسماءٍ مثلَ (إِنَّ) وأخواتِها و(لا) النافيةِ للجِنْسِ، ولم يقُلْ أحدٌ: إنَّ الحروفَ أصلٌ للأسماءِ. وقد عَمِلَتْ حروفٌ في أفعالٍ مثلَ نواصِبِ المضارعِ, ومثلَ (إنِ) الشرطيَّةِ الجازمةِ، ولم يقُلْ أحَدٌ: إنَّ هذه الحروفَ أصلٌ لهذه الأفعالِ. فالعملُ له أسبابٌ غيرَ الأصليَّةِ والفرعيَّةِ.
وأمَّا قولُهم: (إنَّ المصدرَ يُذْكَرُ تأكيداً للفعلِ. فيَدُلُّ ذلك على أنَّ الفعلَ أصلٌ للمصدرِ؛ لأنَّ رُتْبةَ المُؤكِّدِ – بكسرِ الكافِ– بعدَ رُتبةِ المؤكَّدِ – بفتحِ الكافِ -) فهذا أيضاً كلامٌ عجيبٌ غايةٌ في العجَبِ؛ لأنَّ كونَ الكلمةِ مُؤكِّدَةً لكلمةٍ أخْرَى لا يَدُلُّ على أصالةٍ ولا فرعيَّةٍ، ونحنُ نَعْلَمُ أنَّ التوكيدَ على ضَرْبيْنِ: توكيدٌ لفظيٌّ بتكرارِ اللفظِ بعينِه أو بمُرادفِه، ويقَعُ في الأسماءِ نحوَ: (جاءَ زَيْدٌ زَيْدٌ), وفي الأفعالِ نحوَ: (جَاءَ جَاءَ زَيْدٌ), وفي الحروفِ: (نَعَمْ نَعَمْ فَعَلْتُ كَذَا), وفي الجُمَلِ نحوَ قولِه تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. ولم يقُلْ أحدٌ: إنَّ اللفظَ الأولَ أصلُ اللفظِ الثاني. ولا عَكْسَه، وإلاَّ كانَ اللفظُ أصْلاً لنفسِه أو لمرادفِه، وهذا مِمَّا لا يَتصوَّرُه أحدٌ.
وأما قولُهم: (إنَّا وجَدْنا كثيراً من الأفعالِ ليسَ لها مصادِرُ... إلخ). فإنَّ وجودَ هذه الأفعالِ– معَ كونِها فُروعاً عن المصادرِ؛ كما نقولُ نحنُ مَعْشَرَ البَصْريِّينَ– لا غَرابةَ فيهِ، ولا يَدُلُّ على أنَّ الفعلَ أصلٌ, والمصدرَ فَرْعٌ؛ لأنَّ الفرعَ قدْ يُستعمَلُ ويَكْثُرُ استعمالُه، ويُهْجَرُ الأصلُ ويُهْمَلُ, فلا يكونُ له ذِكْرٌ، ولا يَخْرُجُ الأصْلُ بذلك عن كونِه أصلاً، ولا الفرعُ عن كونِه فرعاً؛ فإنَّا نعلَمُ أنَّ الجمعَ فرعٌ عن المفردِ، وكم مِن الجُموعِ قد استُعمِلَتْ ولم تُسْتعمَلْ مفرداتُها، نحوَ: أبَابِيلَ، وعَبَادِيدَ، وشَمَاطِيطَ، ومَحَاسِنَ، ومَلامِحَ، فهذه جُموعٌ لم نجِدْ في كلامِ العربِ لواحدٍ منها مُفرداً.
ومَن ذكَرَ من النحاةِ لواحدٍ منها مُفْرداً فإنَّما ذكَرَه على قياسِ نظائرِه في الزِّنَةِ، ولم يذكُرْه على أنَّه سَمِعَه من العربِ المُحتَجِّ بكلامِهم، ولم يَمْنَعْ وجودُ هذه الجموعِ من غيرِ وُجودِ مفرداتٍ لها من أنْ يَظَلَّ المفردُ أصلاً والجمعُ فرعاً عليه، وأيضاً قد وجَدْنا مصادِرَ لا أفعالَ لها, مثلَ قولِهم: وَيْحَهُ، ووَيْلَهُ، ووَيْبَهُ، ووَيْسَهُ، وأهْلاً، وسَهْلاً، وأفَّةٌ، وتُفَّةٌ، فما كانَ جواباً لكم على وجودِ هذهِ المصادرِ بدُونِ أفعالٍ فهو جوابٌ لنا على تلك الأفعالِ من غيرِ وُجودِ مصادِرَ لها.
وبعدُ، فقدْ أطَلْتُ عليكَ هذهِ المسألةَ؛ ليَكُونَ هذا البَحْثُ تَدرِيباً لك على المُناقشةِ واستخراجِ الأدِلَّةِ ورَدِّ ما ترَى رَدَّه منها، على أنْ يَكُونَ أخْذُكَ وردُّكَ راجعاً إلى دِراسةٍ دقيقةٍ وتَتبُّعٍ للأدلَّةِ وإقرارٍ للصحيحِ منها.
([8]) سورة المائدةِ، الآية: 115.
([9]) سورة نوحٍ، الآية: 17.
([10]) سورة المزَّمِّلِِ، الآية:8.
([11]) سورة النورِ، الآية: 4.
([12]) سورة النساءِ، الآية:129.
([13]) 246-هذا عَجُزُ بيتٍ من الطويلِ، وصَدْرُه قولُه:
*وقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَ مَا*
وهذا البيتُ يُنْسَبُ إلى قيسِ بنِ المُلوَّحِ، المعروفِ بمجنونِ لَيْلَى، من قصيدةٍ له, أوَّلُها قولُه:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى والسِّنِينَ الخَوَالِيَا = وأَيَّامَ لا نَخْشَى عَلَى اللَّهْوِ نَاهِيَا
اللغةُ: (الشَّتيتيْنِ) المُتفرِّقيْنِ اللذَيْنِ تباعَدَ ما بينَهما وتَفرَّقَ ائتلافُهما، ومن الناسِ من يَرْويهِ: (وقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الألِيفَيْنِ)؛ أي: المُتحابَّيْنِ اللذَيْنِ يَأْلَفُ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه، والمشهورُ في الروايةِ هو ما ذَكَرْناه أولاً.
المعنَى: لسْتُ بيائسٍ من لقاءِ ليلى معَ تَباعُدِ دِيارِنا وتَشَتُّتِ شَمْلِنا، وبعدَ ما قامَ الوُشاةُ بإقامةِ الحوائلِ بينَنا؛ فإنَّ اللهَ تعالى قادِرٌ على أنْ يَجْمَعَ الشمْلَ المُشتَّتَ, ويَضُمَّ الآلافَ الذينَباعَدَ بينَهم النَّوَى، بعدَ ما قَنَطُوا من اللقاءِ، وقَطَعوا الطَّماعِيَةَ من التدانِي.
الإعرابُ: (قد) حرفُ تحقيقٍ مَبْنِيٌّ علَى السكونِ, لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (يَجْمَعُ) فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (اللهُ) فاعلُ يَجْمَعُ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (الشَّتِيتيْنِ) مفعولٌ بهِ ليَجْمَعُ, منصوبٌ بالياءِ نيابةً عن الفتحةِ؛ لأنَّه مُثَنًّى, (بَعْدَ مَا) بعدَ: ظرفُ زمانٍ متعلِّقٌ بيَجْمَعُ, مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وما: حرفٌ مَصْدريٌّ مَبْنِيٌّ علَى السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (يَظُنَّانِ) فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ بثُبوتِ النونِ، وألِفُ الاثنيْنِ فَاعلُه, (كُلَّ) مفعولٌ مُطلَقٌ، منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، و(كلَّ) مُضافٌ, و(الظنِّ) مُضافٌ إليه مَجْرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، و(ما) المصدريَّةُ وما دخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ بإضافةِ (بعدَ) إليه، والتقديرُ: بعدَ ظَنِّهِما كلَّ الظنِّ, (أنْ) حرفُ توكيدٍ مُخفَّفٌ من الثقيلِ مَبْنِيٌّ علَى السكونِ, لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، واسمُه ضميرُ شَأْنٍ محذوفٌ، وتقديرُ الكلامِ: أنَّه؛ أي: الحالَ والشَّأْنَ, (لا) نافيةٌ للجنسِ, حرفٌ مَبْنِيٌّ علَى السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (تَلاقِيَا) اسمُ (لا) النافيةِ للجنسِ مَبْنِيٌّ علَى الفتحِ, في مَحَلِّ نصْبٍ، والألِفُ للإطلاقِ، وخبرُ (لا) محذوفٌ، والتقديرُ: لا تَلاقِيَ لهما، والجملةُ من (لا) واسمِها وخَبرِها في مَحَلِّ رفعٍ, خَبَرُ (أَنْ)، و(أنْ) المُؤَكِّدَةُ المُخفَّفةُ من الثقيلةِ وما دخلَتْ عليهِ سَدَّتْ مَسَدَّ مفعولَيْ ظَنَّ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (يَظُنَّانِ كُلَّ الظنِّ). حيثُ نصَبَ (كُلَّ) على أنَّه مفعولٌ مُطلَقٌ نائبٌ عن المصدرِ، وإنَّما يُنْصَبُ (كلّ) و(بَعْض) نيابةً عن المصدرِ في المفعوليَّةِ المُطلَقةِ, إذا أُضِيفَ كلُّ واحدٍ منهما إلى المصدرِ؛ كما في هذا البيتِ، وكما في قولِه تعالى: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}.
([14]) أنتَ تعلَمُ أنَّ المَصْدَرَ من قَبيلِ اسمِ الجنسِ المُبْهَمِ كالماءِ والعَسَلِ والتُّرابِ، وأنَّ اسْمَ الجنسِ المُبْهَمَ يَدُلُّ على القليلِ والكثيرِ من ذلك الجنسِ؛ بسببِ كونِه موضوعاً لحقيقةِ هذا الجنسِ، والحقيقةُ تدُلُّ على الكثيرِ والقليلِ، فالماءُ مثلاً يَدُلُّ على القَطْرَةِ الواحدةِ من هذا الجنسِ, ويَدُلُّ على أكثرِ قَدْرٍ يُمْكِنُ أنْ تَتصوَّرَه من الجنسِ، ثم أنتَ تعلَمُ أنَّ التثنيةَ معناها: ضَمُّ شيءٍ إلى مثلِه، وأنَّ الجَمْعَ معناهُ: ضَمُّ شيئيْنِ أو أكثرَ إلى مثلِهما، فإذا كانَ لفظُ الماءِ يَدُلُّ على مالا زيادةَ عليه لمُستزِيدٍ من هذا الجنسِ؛ فإنَّكَ لو ثَنَّيْتَه لم يَكُنْ في الوجودِ فردٌ آخرُ تَضُمُّه إلى فردٍ حتى يُصْبِحَ عندَكَ اثنانِ.
وإذا عَلِمْتَ هذا, فاعْلَمْ أنَّ المصدرَ على نوعيْنِ:
أحدُهما: مُبْهَمٌ يَدُلُّ على الحقيقةِ, وهذا هو المصدرُ المُؤكِّدُ لعاملِه، نحوُ: (ضَرَبْتُ ضَرْباً), وهذا النوعُ لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ لسببيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ لفظَه يَدُلُّ على الحقيقةِ، والحقيقةُ تدُلُّ على القليلِ والكثيرِ، فلا يُمكِنُ أنْ يُوجَدَ فردٌ لم يشمَلْه لفظُ ضَرَبَ حتَّى تَضُمَّه إليهِ, فيَصِيرَ عندَك فردانِ تدُلُّ بعلامةِ التثنيةِ عليهما، كالذي قُلْناه في لفظِ الماءِ.
والثاني: أنَّ لفظَ المصدرِ في هذهِ الحالةِ بمنزلةِ تكريرِ الفعلِ؛ ولذلك قُلْنا: إنَّه مُؤكِّدٌ له، ولَمَّا كانَ الفعلُ لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ, كانَ ما هو بمنزلتِه كذلك، وهذا مِمَّا لا خلافَ فيهِ.
والثاني: من نوعَيِ المصدرِ المختصِّ، وهو ضَرْبانِ: مُبيِّنٌ للعددِ، و مُبيِّنٌ للنوعِ، وإِنَّما كانَ مُختَصًّا في هذيْنِ الضربيْنِ؛ لأنَّه دلَّ على شيءٍ زَائِدٍ عَمَّا يَدُلُّ عليه الفعلُ، فأمَّا المُبيِّنُ للعددِ فلا خِلافَ في أنَّه تَجوزُ تَثْنيتُه وجمعُه، وأمَّا المُبيِّنُ للنوعِ, فذهَبَ سِيبَوَيْهِ إلى أنَّه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ, واختارَه الشَّلَوْبِينُ، وذهَبَ ابنُ مالكٍ إلى أنَّه يُثَنَّى ويُجْمَعُ، واستدَلَّ على ذلك بوُرودِه في فصيحِ الكلامِ، نحوَ قولِه تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ونحوَ قولِ الشاعرِ:
ثَلاثَةُ أحْبَابٍ: فحُبُّ عَلاقَةٍ = وحُبٌّ تِمِلاَّقٌ، وحُبٌّ هو القَتْلُ
وهذا الرأيُ هو الحَريُّ بالقبولِ؛ لأنَّ معنَى كونِه دَالاًّ على النوعِ أنَّ لَفْظَه دَالٌّ على فردٍ، وأنَّ له مَثَلاً أو أمثالاً تُضَمُّ إليه، فليسَ ثَمَّةَ ما يمنَعُ من تثنيتِه أو جَمْعِه.
([15]) إنَّما يُحْذَفُ العاملُ في المصدرِ في الكلامِ الخَبريِّ؛ حيثُ يقَعُ المصدرُ خَبراً عن اسمِ ذاتٍ، وإنَّما يكونُ حَذْفُه جائزاً حينَذاكَ إذا لم يُكَرَّرْ أو يُحْصَرْ أو يَقَعْ بعدَ استفهمامٍ تَوبيخِيٍّ، فمثالُ ما حُذِفَ جَوازاً: (أنتَ سَيْراً), وقد ذكَرَه المُؤَلِّفُ، ومثالُ ما تَكَرَّرَ: (أنتَ سَيْراً سَيْراً), ومثالُ ما حُصِرَ: (إنَّما أنتَ سَيْراً), و: (مَا أنتَ إِلاَّ سَيْراً), وكانَ الحذفُ وَاجِباً؛ لأنَّ تكريرَ المصدرِ والحصرَ قامَا مَقامِ العاملِ, فكانَ التَّكرارُ أو الحصْرُ عِوَضاً عنه، وقد عُلِمَ أنَّه لا يُجْمَعُ بينَ العِوَضِ والمُعوَّضِ منه، ويُحْذَفُ عاملُه وُجوباً في الكلامِ الطَّلَبِيِّ، ومنه الدُّعاءُ، ومثالُه: (سَقْياً ورَعْياً) الذي ذكَرَه المُؤَلِّفُ، وسيَنُصُّ على كلِّ ذلك قريباً.
([16]) 247-هذهِ قطعةٌ من بيتٍ من الكاملِ لكَعْبِ بنِ مالكٍ الصحابيِّ، من كلمةٍ يَقولُها في غَزْوةِ الخَندقِ، وهذا البيتُبتمامِه معَ بيتٍ سابقٍ عليه:
نَصِلُ السُّيوفَ إِذَا قَصُرْنَ بخَطْوِنَا = قُدُماً ونُلْحِقُها إِذَا لَمْ تَلْحَقِ
تَذَرُ الجَمَاجِمَ ضَاحِياً هَاماتُها = بَلْهَ الأكُفِّ كأنَّها لم تُخْلَقِ
اللغةُ: (تَذَرُ) أي: تَتْرُكُ، و(الجَماجِمَ)جمعُ جُمْجُمةٍ، وهي عَظْمُ الرأسِ المُشتمِلُ على الدِّماغِ، و(ضَاحِياً) أي: بَارزاً للشمسِ، و(الهَاماتُ) جمعُ هَامَةٍ, وهي الرأْسُ، و(بَلْهَ) يكونُ اسمَ فعلٍ بمعنَى اتْرُكْ, فيَنْتَصِبُ ما بعدَه، ويكونُ مصدراً بمعنَى الترْكِ فيُخْفَضُ ما بعدَه بإضافتِه إليه، وبالنصْبِ والخفضِ جميعاً تُرْوَى هذهِ العبارةُ في البيتِ الذي ذكَرْناه.
المعنَى: وصَفَ سُيوفَهم بأنَّها شديدةُ الفَتْكِ بأعدائِهم، عظيمةُ النَّيْلِ منهم، وذكَرَ أنَّ السُّيوفَ تَفْصِلُ رقاباً كثيرةً من رقابِ أعدائِهم, فتَتْرُكُها على أرضِ المعركةِ بارزةً ظاهرةً للشمسِ، فأمَّا الأكُفُّ التي تُنْدِرُها سيوفُهم فيقولُ: لا تَذْكُرْها، ولا تَتَعرَّضْ للبَحْثِ عنها؛ فإنَّا نَعْتَبِرُها كأنْ لم تُخْلَقْ؛ وذلك لأنَّهم أكْثَرُوا من قَطْعِها.
الإعرابُ: (تَذَرُ) فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وفَاعِلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيه جَوازاً تَقْديرُه: هي, يعودُ إلى السُّيوفِ المذكورةِ في البيتِ السابقِ على بيتِ الشاهدِ, (الجَماجِمَ) مفعولٌ بهِ لتَذَرُ, (ضَاحِياً) حالٌ من الجماجمِ, منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (هَامَاتُها) هاماتُ: فاعلٌ بضاحٍ, مرفوعٌ بالضمَّةِ، والضميرُ الذي للغَيْبَةِ العائدُ إلى الجماجِمِ مُضافٌ إليه, (بَلْهَ) مفعولٌ مطلقٌ لفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: اتْرُكْ بَلْهَ الأكُفِّ، و(بَلْهَ) على هذا الوجْهِ مصدرٌ لا فعلَ له من لفظِه، وله فعلٌ من معناه, وهو تَرَكَ، وكأنَّه قالَ: اتْرُكْ تَرْكاً، و(بَلْهَ) مُضافٌ, و(الأَكُفِّ) مُضافٌ إليه مَجْرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، ويَجوزُ أنْ تَجْعَلَ بَلْهَ اسمَ فعلِ أمرٍ بمعنَى اتْرُكْ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيه وُجوباً تَقْديرُه: أنتَ، فيكونُ (الأكُفَّ) منصوباً على أنَّه مفعولٌ بهِ لـ(بَلْهَ), (كأنَّها) كأنَّ: حرفُ تشبيهٍ ونصْبٍ، وضميرُ الغائبةِ العائدُ إلى الأَكُفِّ اسمُ كأنَّ مَبْنِيٌّ علَى السكونِ في مَحَلِّ نصبٍ, (لَمْ) حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ, (تُخْلَقِ) فعلٌ مُضارعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ مجزومٌ بلَمْ, وعلامةُ جَزْمِه السكونُ، وحُرِّكَ بالكسرِ؛ لأجلِ الرَّوِيِّ، ونائِبُ فاعلِه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيه جَوازاً تَقْديرُه: هي, يعودُ إلى الأكُفِّ، والجملةُ من الفعلِ ونائبِ فاعلِه في مَحَلِّ رفعٍ, خَبَرُ كأنَّ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (بَلْهَ الأكُفِّ) فقد رُوِيَتْ هذهِ العبارةُ بروايتيْنِ:
إحداهما: بجرِّ الأكُفِّ، وتُخَرَّجُ على أنَّ (بَلْهَ) مصدرٌ، ليسَ له فعلٌ من لفظِه، و(الأكُفِّ) مَجرورٌ بإضافةِ هذا المصدرِ إليه، على مثالِ قولِه تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}. ولا فَرْقَ إلاَّ أنَّ (ضَرْبَ) له فعلٌ من لفظِه، و(بَلْهَ) ليسَ له فعلٌ من لفظِه.
الروايةُ الثانيةُ بنَصْبِ (الأكُفَّ)، وتُخَرَّجُ على أنَّ بَلْهَ اسمُ فعلِ أمْرٍ, له فاعلٌ, هو ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيه وُجوباً تَقْديرُه: أنتَ، و(الأكُفَّ) مفعولٌ به، وانتصابُه كانتصابِ الكتابِ في قولِكَ: (دُونَكَ الكِتَابَ). وانتصابِ{أنْفُسَكُمْ}, في قولِه جَلَّ ذِكْرُه: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}.
ويَتَّضِحُ من هذا أنَّ لـ(بَلْهَ) استعماليْنِ:
أَوَّلُهما: أنْ تَكُونَ فيه مصدراً فيُجَرَّ ما بعدَها بالإضافةِ، والثاني: أنْ تَكُونَ فعلَ أمْرٍ فيَنْتَصِبَ ما بعدَها, على أنَّه مفعولٌ به، ولهذا الكلامِ مزيدُ تفصيلٍ يأتي في بابِ أسماءِ الأفعالِ إنْ شَاءَ اللهُ.
([1]) سورة محمدٍ (القتالِ)، الآية: 4.
([2]) 248-لم أقِفْ لهذا الشاهدِ على نِسْبةٍ إلى قائلٍ مُعيَّنٍ، وهذا الذي ذكَرَه المُؤَلِّفُ عَجُزُ بيتٍ من الطويلِ، ونحن نذكُرُ لك صدْرَه معَ بيتٍ سابقٍ عليه، وذلكَ قولُه:
يَمُرُّونَ بالدَّهْنَا خِفافاً عِيابُهُمْ = ويَرْجِعْنَ مِن دَارِينَ بُجْرَ الحَقَائِبِ
عَلَى حِينَ ألْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمورِهِمْ = فنَدْلاً...................إلخ
اللغةُ: (الدَّهْنَا) اسمُ موضِعٍ، وأصلُه ممدودٌ فقَصَرَه، وكذلكَ (دَارِينَ) اسمُ موضِعٍ مشهورٍ بالمِسْكِ، ويُقالُ: مِسْكٌ دَارِيٌّ. و(العِيَابُ) جمعُ عَيْبَةٍ، وهي ما يَجعَلُ فيه المسافرُ مَتاعَه, (بُجْرَ) بضمِّ الباءِ وسُكونِ الجيمِ– جمعُ بَجْرَاءَ، وهي صِفَةٌ من البَجَرِ، والبَجْرَاءُ: المُنْتفِخَةُ، وإضافةُ (بُجْرَ) إلى الحقائبِ من إضافةِ الصفةِ للمَوْصوفِ، يُرِيدُ امتلاءَها، و(الحَقَائبِ) جمعُ حَقيبةٍ؛ وهي العَيْبَةُ، و(نَدْلاً) مصدرُ نَدَلَ المالَ، إذا خَطَفَه بسُرعةٍ، و(زُرَيْقُ) اسمُ رجُلٍ.
الإعرابُ: (عَلَى) حرفُ جرٍّ مَبْنِيٌّ علَى السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (حِينَ) يُرْوَى بالفتحِ وبالجرِّ، فعلى روايةِ الجرِّ, هو مجرورٌ بـ(علَى)، وعلامةُ جَرِّه الكسرةُ الظاهرةُ, وعلى روايةِ الفتحِ, هو مَبْنِيٌّ علَى الفتحِ في مَحَلِّ جَرٍّ بـ(عَلَى)، والجارُّ والمَجْرورُ مُتعَلِّقٌ بقولِه: يَمُرُّونَ في البيتِ السابقِ, (ألْهَى) فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ علَى فتحٍ مقدَّرٍ على الألفِ, لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (الناسَ) مفعولٌ بهِ لألْهَى، منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (جُلُّ) فاعلُ ألْهَى، مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، و(جُلُّ) مُضافٌ, وأُمورِ مِن (أُمورِهم) مُضافٌ إليه، مَجْرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، وهو مُضافٌ, وضميرُ الغائِبِينَ العائدُ إلى الناسِ مُضافٌ إليه، وجملةُ ألْهَى وفاعلِه ومفعولِه في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ (حِينَ) إليها, (نَدْلاً) مفعولٌ مُطْلَقٌ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: فانْدُلْ نَدْلاً (زُرَيْقُ) مُنادًى بحرفِ نداءٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: يا زُرَيْقُ, (المالَ) مفعولٌ بهِ لنَدْلاً, (نَدْلَ) مفعولٌ مُطْلَقٌ مُبيِّنٌ للنوعِ, يقَعُ بدَلاً من قولِه: ندْلاً. السابقِ، وهو مُضافٌ, و(الثعالبِ) مُضافٌ إليه، مَجْرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ.
ورجَّحَ الدنوشريُّ أنَّ قولَه: (نَدْلَ الثعالبِ) نعتٌ لنَدْلاً السابقِ، قالَ: ولا يَضُرُّ كونُه معرفةً, ونَدْلاً السابقُ نكرةً؛ لأنَّه على حذفِ مُضافٍ, والتقديرُ: مِثْلَ نَدْلِ الثعالبِ، ومثلُ لا تَتعرَّفُ بالإضافةِ إلى معرفةٍ. وقالَ بعضُهم: إنَّ المُعرَّفَ بأل الجنسيَّةِ يقَعُ صفةً للنكرةِ. وجعَلَ هذا منه، ونحن لا نُقِرُّ ذلك.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (نَدْلاً زُرَيْقُ المالَ) فإنَّ في هذهِ العبارةِ مَصْدراً قائماً مقامَ فعلِه – وهو قولُه: (نَدْلاً) – وهو واقعٌ في الطلبِ؛ لأنَّ المقصودَ به معنَى انْدُلْ؛ أي: اخْطَفْ، وقد ذهَبَ ابنُ مالكٍ إلى أنَّ المصدرَ القائمَ مقامَ فعلِ الأمرِ ينتصِبُ بفعلٍ محذوفٍ وُجوباً، من غيرِ تَفرِقةٍ بينَ أنْ يَكُونَ هذا المصدرُ مُكرَّراً أو محصوراً أو واقعاً بعدَ استفهامٍ توبيخيٍّ, وألاَّ يكونَ كذلك، وقدْ نَاقَشَه في هذا الإطلاقِ جماعةٌ من النحاةِ تَبَعاً لابنِ عُصفورٍ, الذي قَيَّدَ الوجوبَ بما ذكَرَه المُؤَلِّفُ هنا، فتَدَبَّرْ ذلك.
([3]) 249-هذا الشاهدُ من كلامِ أبي نَعامَةَ قَطَرِيِّ بنِ الفُجاءَةِ الخارجِيِّ التَّميمِيِّ, وما ذكَرَه المُؤَلِّفُ صدرُ بيتٍ من الوافرِ، وعَجُزُه قولُه:
*فمَا نَيْلُ الخُلُودِ بمُسْتَطَاعِ*
وأولُ القطعةِ التي مِنها هذا البيتُ قولُه:
أَقُولُ لَهَا وقَدْ طَارَتْ شَعَاعاً = مِنَ الأبْطَالِ: وَيْحَكِ لَنْ تُرَاعِي
فَإِنَّكِ لَوْ سَأَلْتِ بَقَاءَ يَوْمٍ = عَلَى الأجَلِ الَّذِي لَكِ لَمْ تُطَاعِي
اللغة: (أقولُ لَهَا) الضميرُ المُؤنَّثُ راجِعٌ إلى النفسِ, وإنْ لم يَكُنْ قد جَرَى ذِكْرُها؛ لأنَّها مَفْهومةٌ من سياقِ الكلامِ, (طَارَتْ شَعاعاً) الشَّعاعُ– بفتحِ الشينِ بزِنَةِ سَحابٍ -: المُتفَرِّقُ، وقد ضَرَبَ هذا مَثَلاً، والمرادُ المُبالغةُ في الجَزَعِ والفَزَعِ والرَّوْعِ, (لَنْ تُرَاعِي) يُرْوَى في مكانِه: (لا تُراعِي) بلا الناهيةِ، والمعنَى: لا تَخافِي ولا تَفْزَعِي, (مَجالِ الموتِ) المرادُ به مكانُ المعركةِ الذي يَجُولُ فيهِ الفُرْسانُ ويَعْدُو فيهِ بعضُهم على بعضٍ بما يكونُ سَبباً للموتِ, (الخُلُودِ) البقاءُ المستمرُّ الذي لا انْقِطاعَ له.
الإعرابُ: (صَبْراً) مفعولٌ مُطْلَقٌ معمولٌ لفعلٍ محذوفٍ وُجوباً، والتقديرُ: اصْبِرِي صَبْراً، وهو مَنْصوبٌ, وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ, (في مَجالِ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بقولِه: صَبْراً. و(مجالِ) مُضافٌ, و(الموتِ) مُضافٌ إليه مَجْرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ, (صَبْراً) توكيدٌ للمصدرِ السابقِ, (فمَا) الفاءُ حرفٌ دالٌّ على التفْريعِ، وما: نافيةٌ, (نَيْلُ) مبتدأٌ، أو اسمُ (ما) مرفوعٌ, وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، وهو مُضافٌ, و(الخلودِ) مُضافٌ إليهِ, (بمُستَطاعِ) الباءُ حرفُ جرٍّ زائدٌ، و(مُسْتَطاعِ) خبرُ المبتدأِ, أو خَبَرُ (ما) إنْ جَعَلْتَها عاملةً، مرفوعٌ على الأوَّلِ بضمَّةٍ مقدَّرةٍ على آخرِه، ومنصوبٌ على الثاني بفتحةٍ مقدَّرةٍ على آخرِه, منَعَ من ظهورِها اشتغالُ المحلِّ بحركةِ حرفِ الجرِّ الزائدِ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (صَبْراً في مَجَالِ الموتِ صَبْراً). فإنَّ هذهِ العبارةَ مُشتمِلَةٌ على مصدرٍ قائمٍ مقامَ فعلِ الأمرِ– وهو قولُه: (صَبْراً). الذي يُرادُ منه معنَى اصْبِرِي – وقد تَكرَّرَ هذا المصدرُ في هذهِ العبارةِ؛ كما هو ظاهِرٌ، وهذا مِمَّا أجْمَعَ العلماءُ فيه على أنَّ عاملَ هذا المصدرِ وَاجِبُ الحذفِ، فلا يَجوزُ ذِكْرُه بحالٍ من الأحوالِ؛ لأنَّ ابنَ عصفورٍ ومَن حَذَا حَذْوَه جَعَلوا وجوبَ الحذفِ قاصراً على الموضعِ الذي يَتكرَّرُ فيهِ المصدرُ, أو يَكونُ مَحْصوراً, أو يَقَعُ قبلَه حرفُ استفهامٍ مقصودٌ به التوبيخُ، وغيرُ هذا الفريقِ يذهَبُ إلى أنَّه متى كانَ المصدرُ وَاقعاً موقِعَ فعلِ الأمرِ وجَبَ حذفُ عاملِه بدونِ قَيْدٍ، فهذا المصدرُ واقعٌ موقعَ فعلِ الأمرِ، ومُشتمِلٌ على أحدِ القُيودِ التي قَيَّدَ بها مَن قَيَّدَ وجوبَ الحَذْفِ، فيكونُ الحَذْفُ في هذا البيتِ وَاجِباً بالإجماعِ، وهذا في غايةِ الظُّهورِ، إنْ شَاءَ اللهُ.
([4]) 250- هذا الشاهدُ من كلامِ جريرِ بنِ عَطِيَّةَ بنِ الخَطَفِيِّ، يَهْجُو خالدَ بنَ يَزِيدَ الكِنْدِيَّ، وهذا الذي ذكَرَه المُؤَلِّفُ عَجُزُ بيتٍ من الوافرِ، وصَدْرُه:
*أَعَبْداً حَلَّ فِي شُعَبَى غَرِيباً*
اللغةُ: الهمزةُ من قولِه: (أعَبْداً) للنداءِ، و(شُعَبَى) - بضمٍّ ففتحٍ, وآخرُه ألفٌ مقصورةٌ–: جبالٌ مَنِيعةٌ مُتدانِيَةٌ، تقَعُ من ضَرِيَّةَ على قريبٍ من ثمانيةِ أميالٍ، وقيلَ: هي جَبَلٌ أسودُ, وفيهِ شِعابٌ فيها أوشالٌ تَحْبِسُ الماءَ من سَنَةٍ إلى سَنَةٍ، وقالَ البَكْرِيُّ: شُعَبَى جُبَيْلاتٌ مُتَشَعِّبَةٌ؛ فلذلكَ سُمِّيَتْ شُعَبَى.
(أَلُؤْماً) اللُّؤْمُ – بالضمِّ– ضِدُّ الكرمِ، وهو فعلٌ من الأفعالِ الخَسيسةِ الدنيئةِ, وفعلُه من بابِ ضِدِّه، وهو كَرُمَ, (لا أبَا لَكَ) هذهِ عبارةٌ تُستعمَلُ في الذمِّ, بأنْ يُرادَ أنَّه مَجهولُ النسبِ؛ كما هو المرادُ هنا، وقدْ يُرادُ بها المدحُ, بأنْ يُرادَ نفيُ نظيرِ الممدوحِ بنفْيِ أبيهِ، وقدْ تُستعمَلُ هذه العبارةُ في معنَى التعَجُّبِ؛ كما فِي: (للهِ دَرُّهُ)! وقدْ تستعمَلُ في الحثِّ على الجِدِّ والتَّشْميرِ؛ لأنَّ مَن له أبٌ يَتَّكِلُ عليه في شُؤونِه كُلِّها عَادَةً.
الإعرابُ: (أعَبْداً) الهمزةُ للنداءِ، عَبْداً: مُنادًى شبيهٌ بالمُضافِ؛ لكونِه مَوْصوفاً، منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (حَلَّ) فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ علَى الفتحِ, لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيه جَوازاً تَقْديرُه: هو، وجملةُ الفعلِ وفاعلِه في مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لعَبْداً, (في شُعَبَى) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بحَلَّ, (غَرِيباً) حالٌ من فاعلِ حَلَّ, (ألُؤْماً) الهمزةُ للاستفهامِ التوبيخيِّ، لُؤْماً: مفعولٌ مُطْلَقٌ لفعلٍ محذوفٍ وُجوباً، وتقديرُ الكلامِ: أتَلْؤُمُ لُؤْماً؟ (لا) نافيةٌ للجنسِ, (أبَا) اسمُ لا منصوبٌ بالألفِ نيابةً عن الفتحةِ؛ لأنَّه من الأسماءِ السِّتَّةِ, (لكَ) اللامُ زائدةٌ لتأكيدِ الإضافةِ، وكافُ المخاطَبِ في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ (أَبَا) إليها, (واغتراباً) الواوُ حرفُ عطفٍ مَبْنِيٌّ علَى الفتحِ لا مَحلَّ له، اغتراباً: منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ مطلَقٌ, عاملُه محذوفٌ، والتقديرُ: وتَغْتَرِبُ اغتراباً، وجملةُ الفعلِ المحذوفِ معطوفةٌ على جملةِ ألُؤْماً.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (ألُؤْماً واغتراباً) فقدِ اشْتَمَلَتْ هذهِ العبارةُ على مصدرٍ واقِعٍ بعدَ همزةِ استفهامٍ دالَّةٍ على التوبيخِ، والعامِلُ في هذا المصدرِ محذوفٌ وُجوباً عندَ جميعِ العلماءِ، على نحوِ ما بَيَّنَّاهُ في شرحِ الشاهدِ السابقِ، ونظيرُه قولُ العَجَّاجِ:
أطَرَباً وأَنْتَ قِنَّسْرِيُّ = والدَّهْرُ بالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ؟
([5]) سورة محمدٍ (القتالِ)، الآية: 4.
([6]) إنما كانتْ جملةُ (لَه عَلَيَّ ألْفٌ) نَصًّا في المعنَى الذي يَدُلُّ عليه المصدرُ الواقِعُ بعدَها – وهو قولُه: (عُرْفاً) – لأنَّ مدلولَ هذهِ الجملةِ اعترافُ المُتكَلِّمِ بها على أنَّ المُحَدَّثِ عنه له عليهِ ألْفٌ، ومعنَى قولِه: عُرْفاً: اعترافٌ، فكانَ مدلولُ الجملةِ هو مدلولَ المصدرِ.
وإنَّما كانتْ جملةُ (زَيْدٌ ابْنِي) تَحتمِلُ معنَى المصدرِ الذي هو قولُ القائلِ: (حَقًّا). وتَحتمِلُ غيرَه؛ لأنَّ قولَه: (أنتَ ابْنِي) تَحتمِلُ أنْ يَكُونَ المخاطَبُ ابنَ المُتكَلِّمِ حقيقةً، كما تَحتمِلُ أنَّ المُتكَلِّمَ يُرِيدُ أنَّ المخاطَبَ مثلُ ابنِ المُتكَلِّمِ في عَطْفِه عليه، وحَدَبِه على إيصالِ الخيرِ إليهِ، فإذا قالَ: حَقًّا. فقد أكَّدَ أحدَ المعنييْنِ اللذيْنِ تدُلُّ عليهما الجملةُ.
([7]) ويجوزُ في هذيْنِ المثاليْنِ – معَ استيفاءِ كلِّ الشروطِ التي ذكَرَها المُؤَلِّفُ كغيرِه من النحاةِ– الرفْعُ، على أنَّ المصدرَ الثانِيَ بدَلٌ من المصدرِ الأولِ، أو على أنَّ الثانِيَ نعتٌ للأولِ؛ لأنَّه تَخصَّصَ بإضافتِه إلى ما بعدَه.
([8]) 251-هذا الشاهدُ من كلامِ أبي كَبيرٍ– عامرِ بنِ الحُلَيْسِ – الهُذَلِيِّ، يَصِفُ تأبَّطَ شَرًّا ابنَ امرأتِه.
اللغةُ: (ما إِنْ يَمَسُّ) إنْ: حرفٌ زائدٌ لتأكيدِ النفْيِ، وزيادتُها تُبْطِلُ عمَلَ (ما) النافيةِ في لغةِ مَن يُعمِلُها، وهم أهلُ الحجازِ، فأمَّا بنو تميمٍ فإنَّهم يُهمِلونَها بكلِّ حالٍ, (المِحْمَلِ) هو حَمَّالَةُ السيفِ، شَبَّهَ ضُمورَه به.
المعنَى: إنَّ هذا الفتَى مُضْمَرٌ قد بلَغَ به التضميرُ إلى حدِّ أنَّ بَطْنَه لا يَصِلُ إلى الأرضِ إذا اضْطَجَعَ، وإنَّما يَمَسُّ الأرضَ منه مَنْكِبُهُ وحَرْفُ سَاقِه، ومعنَى قولِه: (طَيَّ المِحْمَلِ) أنَّه مُدْمَجُ الخَلْقِ كطَيِّ المِحْمَلِ، وأنَّ له تَجَافِياً كتَجافِي المِحْمَلِ، وهو عِلاقةُ السيفِ.
الإعرابُ: (ما) نافيةٌ، و(إنْ) زائدةٌ, (يَمَسُّ) فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ (الأرضَ) مفعولٌ به ليَمَسُّ تقدَّمَ على الفاعلِ, منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (إِلاَّ) أداةُ حَصْرٍ، حرفٌ مَبْنِيٌّ علَى السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ, (مَنْكِبٌ) فاعِلُ يَمَسُّ, مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (منه) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بمَحْذوفٍ صفةٌ لـ(مَنْكِبٌ) (وحَرْفُ) الواوُ حرفُ عطفٍ، حرفُ: معطوفٌ على (مَنْكِبٌ)، وحرفُ مُضافٌ و(الساقِ) مُضافٌ إليه، مَجْرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ, (طَيَّ المِحْمَلِ) مُركَّبٌ إضافيٌّ منصوبٌ على أنَّه مصدرٌ تَشبيهِيٌّ, على ما قرَّرَه سِيبَوَيْهِ، وذكَرَه المُؤَلِّفُ عنه.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (طَيَّ المِحْمَلِ). فإنَّه مصدرٌ نُصِبَ بفعلٍ محذوفٍ وُجوباً, مثلُ ذلك الفعلُ المحذوفُ في قولِهم: له صَوْتٌ صَوْتَ حِمَارٍ.
فإنْ قُلْتَ: فكيفَ حَمَلْتُم هذا البيتَ على هذا المثالِ، وجَعَلْتُم شأنَهما واحداً، معَ أنَّكم تُقَرِّرونَ أنَّ ضابطَ هذا المثالِ أنْ تَتقدَّمَ على المصدرِ جُملةٌ بشروطٍ عَيَّنْتُموها، وأنا لا أجِدُ في هذا البيتِ جملةً سبَسقَتْ هذا المصدرَ قدِ اجتمَعَتْ فيها هذهِ الشروطُ؟
فالجوابُ عن هذا أنْ نَقولَ لكَ: إنَّ هذا المصدرَ في هذا البيتِ– وإنْ لم يَتقدَّمْ عليه في ظاهرِ الأمرِ جملةٌ مُستكمِلَةٌ لِمَا ذكَرَه المُؤَلِّفُ من الشروطِ– بمنزلةِ ما تَقدَّمَ فيه ذلك، والسرُّ في هذا الكلامِ السابقِ على المصدرِ يَدُلُّ على المعنَى الذي تدُلُّ عليه هذه الجملةُ؛ لأنَّ الشاعرَ لَمَّا قالَ: (إِنَّ هذا الغلامَ إذا نامَ على الأرضِ تَجَافَى جِسْمُه كُلُّه عنها إِلاَّ مَنْكِبَهُ وحَرْفَ سَاقِهِ). صارَ كأنَّه قدْ قالَ: إنَّ له طَيًّا وضُمُوراً.