(1) مَنْزِلَةُ الحديثِ:
تَكْمُنُ مَنْزِلَةُ الحديثِ في بيانِ سببِ محبَّةِ اللهِ، وهي مِن أعظمِ ما يوفَّقُ إليهِ الإنسانُ، فمَنْ أحبَّهُ اللهُ أكرمَهُ ووضعَ له القبولَ في الأرضِ، ومن أبغضَهُ وضعَ له البغضاءَ في الأرضِ.
كما بَيَّنَ الحديثُ سببَ محبَّةِ النَّاسِ للعبدِ، ومعلومٌ أنَّ الإنسانَ يشعرُ بسعادةٍ عظيمةٍ إذا كانَ يَحْيَا في مُجْتَمَعٍ يُحِبُّهُ، ومَن أحبَّهُ النَّاسُ ألِفُوهُ، وما أحوجَ الدَّاعي إلَى هذا؛ لأنَّ النَّاسَ إذا أحبُّوا إنسانًا أخذُوا عنْهُ.
تعريفُ الزُّهدِ:
الزُّهْدُ: (ضدُّ الرَّغبةِ والحرصِ علَى الدُّنيَا)
وقالَ ابنُ القيِّمِ: (إنَّ الزُّهدَ في الشَّيءِ في لغةِ العربِ - الَّتي هي لغةُ الإسلامِ - الانصرافُ عنه احتقارًا له وتصغيرًا لشأنِهِ للاستغناءِ عنه بخيرٍ منهُ).
وقد كثرَتْ مقالاَتُ السَّلفِ في تعريفِهِم للزُّهدِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ: سمعْتُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ - قدَّسَ اللهُ روحَهُ - يقولُ:
(الزُّهدُ: تركُ ما لا يَنفعُ في الآخرةِ، والورعُ: تركُ ما تخافُ مِن ضررِهِ في الآخرةِ).
قالَ ابنُ القيِّمِ: (وهذه العبارةُ مِن أَحْسَنِ ما قيلَ في الزُّهدِ والوَرَعِ وأَجْمَعـِهـَا).
وقالَ سفيانُ الثَّوريُّ: (الزُّهدُ في الدُّنيَا قِصَرُ الأملِ، ليسَ بِأَكلِ الغليظِ ولا لُبْسِ العباءِ).
وقالَ الزُّهريُّ: (هو أن لا يغلبَ الحلالُ شكرَهُ ولا الحرامُ صبرَهُ).
قالَ صاحبُ اللسانِ معقـِّبًا علَى كلامِ الزُّهريِّ: (أرادَ أن لا يعجزَ ويقصرَ شكرَهُ علَى ما رزقَهُ اللهُ مِن الحلالِ ولا صبرَهُ علَى تركِ الحرامِ).
وقالَ الحسنُ أو غيرُهُ: ليسَ الزُّهدُ في الدُّنيا بتحريمِ الحلالِ، ولا إضاعةِ المالِ، ولكنْ أنْ تكونَ بما في يدِ اللهِ أوثقَ منك بما في يدِكَ، وأن تكونَ في ثوابِ المصيبةِ - إذا أُصِبْتَ بها - أرغبَ منك فيها لو لم تُصِبْكَ.
فهذا مِن أجمعِ الكلامِ في الزُّهدِ وأحسنِهِ، هذا بإيجازٍ تعريفُ السَّلفِ للزُّهْدِ.
وحقيقةُ الزُّهدِ في القلبِ، بأن يخرجَ حبُّ الدُّنيَا والحرصُ عليها والرَّغبةُ إليها مِن قلبِ العبدِ، فتصبحَ الدُّنيا في اليدِ وحبُّ اللهِ والآخرةِ في القلبِ، وليس معنَى الزُّهدِ رفضَ الدُّنيَا بالكلِّيَّةِ والابتعادَ عنها.
كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمامَ الزَّاهدينَ ولهُ تسعُ نسوةٍ، وكانَ داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ مِن الزُّهَّادِ ولهما مِن الملكِ ما ذكرَ اللهُ، والصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنْهُم أيضًا كانُوا مِن الزُّهَّادِ ولهم مِن المالِ والنِّساءِ والبنينَ ما هو معروفٌ.
وقسَّمَ الإمامُ أحمدُ الزُّهدَ إلَى:
1 - تركِ الحرامِ، وهذا عندَهُ زهدُ العوامِّ، ويرَى ابنُ القيِّمِ أنَّ هذا فرضُ عينٍ.
2 - تركِ الفضولِ مِن الحلالِ، وهذا عندَهُ زهدُ الخَواصِّ.
3 - تركِ ما يشغلُ عنِ اللهِ، وهذا عندَهُ زهدُ العارفينَ.
التَّقليلُ مِن شأنِ الدُّنيَا:
(2) قولُهُ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا)) وَرَدَتْ نصوصٌ كثيرةٌ في كتابِ اللهِ وفي سنَّةِ رسولِ اللهِ تُزَّهِدُ في الدُّنيا، وَتُبَيِّنُ حقارتَهَا وقلَّتَهَا وسرعةَ انقضائِهَا، وترغِّبُ في نعيمِ الآخرةِ الدَّائمِ الَّذي لا يَنْقَطِعُ.
قالَ تَعالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ}
وقالَ تَعالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
فالدُّنيا مُنقضِيَةٌ زائلةٌ فلا يَنْبَغِي للعبدِ أن يَشتغلَ بالفاني الزَّائلِ عن الباقِي.
فالآيَةُ دلَّتْ علَى أنَّ الحياةَ الدُّنيا غرورٌ وباطلٌ ولعبٌ، وحقيقةُ اللعبِ: ما لا يُنتفعُ به، واللهوُ: ما يُتلهَّى بهِ، كما دلَّتْ علَى أنَّها زينةٌ: والزِّينَةُ: ما يُتَزَيَّنُ به، والمفتونُ بها يتزيَّنُ ولا يعملُ لآخرتِهِ، كما دلَّتْ علَى أنَّها تفاخرٌ، والنَّاسُ يَفخرُ بعضُهُم علَى بعضٍ بنعيمِهَا الزَّائلِ مِن مالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرِهَا، ثمَّ شبَّهَ ربُّنَا انقضاءَ الدُّنيَا وسرعةَ زوالِهَا بالغيثِ الَّذِي ينزلُ علَى الأرضِ فتَهتزُّ بهِ وتخضرُّ، ثمَّ ما تلبثُ أن تعودَ إلَى ما كانَتْ عليهِ مِن جفافٍ ومواتٍ.
وهذا حالُ نعيمِ الدُّنيا زائلٌ مُنْقَضٍ.
دوافعُ الزُّهدِ:
الَّذي يَدفعُ العبدَ للزُّهدِ بالدُّنيا أمورٌ منها:
- قوَّةُ إيمانِ العبدِ واستحضارُ وقوفِهِ بينَ يَدَي اللهِ عزَّ وجلَّ، واستحضارُ أهوالِ يومِ القيامةِ، هذا يَجعلُ حبَّ الدُّنيا ونعيمَهَا يَتضاءَلُ في قلبِ العبدِ فيَنصرفَ عن لذائذِهَا وشهواتِهَا ويَقنعَ بالقليلِ منها.
- شعورُ العبدِ بأنَّ الدُّنيا تَشغلُ القلوبَ عن التَّعلُّقِ باللهِ، وتؤخِّرُ الإنسانَ مِن الرُّقيِّ بدرجاتِ الآخرةِ، وإنَّ الإنسانَ سوفَ يُسْأَلُ عن نعيمِهَا، قالَ تعالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، هذا الشُّعورُ يدفعُ العبدَ للعزوفِ عنهَا.
- الدُّنيا لا تحصلُ للعبدِ حتَّى يَتعبَ ويَنصَبَ في جمعِهَا، ويبذلَ مِن الجهدِ البدنيِّ والذِّهنيِّ الكثيرَ، وقد يضطرُّ لمخالطةِ الأراذلِ ومزاحمَتِهِم، وهذا يكونُ علَى حسابِ طلبِ علمِ الدِّينِ، والدَّعوةِ والجهادِ والعبادةِ، فشعورُ العبدِ النَّيِّرِ القلبِ بهذا يجعلُهُ يعزفُ عنها، ويُقْبِلُ علَى ما هو خيرٌ وأبقَى.
- تحقيرُ القرآنِ لشأنِ الدُّنيا ونعيمِها وإنَّهَا غرورٌ وباطلٌ ولعبٌ ولهوٌ، وذمَّ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن آثارِهَا علَى الآخرةِ، كلُّ هذه النُّصوصِ الواردةِ في الكتابِ الكريمِ والسُّنَّةِ، تجعلُ المؤمنَ يعزِفُ عنها، ويَتعلَّقُ بما هو باقٍ.
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ: (أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بالسُّوقِ داخلاً مِن بعضِ العاليَةِ والنَّاسُ عن كَنفَيهِ فمرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فتناولَهُ فأخذَ بأذنِهِ )ثمَّ قالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟)) قالُوا: واللهِ لو كانَ حَيًّا كانَ عَيبًا فيهِ لأنَّهُ أَسَكُّ، فكيفَ وهو ميتٌ؟ فقالَ: ((فَوَاللهِ لَلدُّنَيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ)).
وروَى أيضًا عن الْمُسْتَوْرِدِ الْفِهْرِيِّ، عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ)).
الزُّهدُ المبتَدَعُ: الزُّهدُ المُخالِفُ للسُّنَّةِ لا خيرَ فيهِ، يظلمُ القلوبَ ويُعمِيهَا، ويشوِّهُ جمالَ الدِّينِ الَّذي ارتضاهُ اللهُ لعبادِهِ، وينفِّرُ العبادَ مِن دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويهدمُ الحضارةَ، ويمكِّنُ أعداءَ اللهِ مِن أمَّةِ الإسلامِ، ويهدرُ كرامةَ الإنسانِ، ويجعلُ العبدَ مستعبَدًا لغيرِ اللهِ، وينشرُ الجهلَ، وإليكَ بعضَ مقالاَتِ دعاةِ الزُّهدِ المبتدَعِ المخالِفِ لِهَدْيِ السَّماءِ:
1 - قالَ الْجُنَيْدُ: (أُحبُّ للمبتدئِ ألاَّ يَشغلَ قلبَهُ بهذه الثَّلاثِ وإلا تغيَّرَتْ حالُهُ: التَّكسُّبِ، وطلبِ الحديثِ، والتَّزوُّجِ، وأحبُّ للصُّوفيِّ أنْ لا يقرأَ، ولا يكتبَ، لأنَّهُ أجمعُ لهمِّهِ).
2 - وقالَ أبو سليمانَ الدَّارانيُّ: (إذا طلبَ الرَّجلُ الحديثَ، أو سافرَ في طلبِ المعاشِ، أو تزوَّجَ فقدْ ركنَ إلَى الدُّنْيا).
ومعلومٌ أنَّ كلَّ الحضاراتِ لا تقومُ إلاَّ علَى العلمِ والكسبِ والزَّواجِ، وحضارةُ الإسلامِ ما قامَتْ إلاَّ علَى هذا، أَمرَتْ بالكسبِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).
وأَمَرَ بالزَّواجِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءُ)).
وأمرَ بالعلْمِ الدِّينيِّ والدُّنيويِّ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ))، هذا مِن حيثُ العلمُ الدِّينيُّ، أمَّا العلمُ الدُّنيويُّ فلا يَختلِفُ اثنانِ سَليمَا الفطرةِ في ضرورةِ علومِ الدُّنيا مِن طبٍّ، وهندسةٍ، وصناعةٍ، وأسلحةٍ، وآلاتٍ، الَّتي لا غِنَى للعِبادِ عنها في هذا الزَّمَنِ.
وما تَدَهْوَرَ واقعُ المسلمينَ في هذه الأيَّامِ، إلاَّ بسببِ تقصيرِهِم بطَلَبِ عِلْمِ الدِّينِ والدُّنيا، واكْتَفَوا بأخذِ القشورِ مِن علومِ الدُّنيا مِن أعدائِهِم، بينَما أَخَذُوا عنهُمْ كثيرًا مِن أمورِ هذه الحضارةِ الزَّائفةِ الزَّائلةِ الَّتي تُودِي بأهلِهَا إلَى الهلاكِ وضَياعِ الدِّينِ والْخُلُقِ والفضيلةِ.
طريقةُ محبَّةِ اللهِ:
قولُهُ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ)) الزُّهدُ بالدُّنيا هو مِن طرقِ محبَّةِ اللهِ جلَّ وعلا، وأعنِي بالزُّهدِ الَّذي كانَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ لا الزُّهدَ المبتَدَعَ الَّذي جعلَ المسلمينَ في مؤخرَةِ الأممِ، ومحبَّةُ اللهِ للعبدِ شيءٌ عظيمٌ، مَن أحبَّهُ اللهُ وفَّقَهُ لما يحبُّ، وأغدقَ عليهِ نعمَهُ الظَّاهرةَ والباطنةَ.
ومحبَّةُ اللهِ لها طرقٌ أخرَى أخبرَ اللهُ بها في كتابِهِ منها:
- الإحسانُ، قالَ تَعالَى: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
- التَّوكُّلُ، قالَ تَعالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
- إقامةُ العدلِ، قالَ تَعالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
- الصَّبرُ، قالَ تَعالَى: {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
- التَّقوَى، قالَ تَعالَى: {فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
- التَّطهُّرُ الْحِسِّيُّ والمعنويُّ: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.
- القتالُ في سبيلِ اللهِ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}.
- التَّوبةُ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}.
إلَى غيرِهَا مِن الآياتِ، والْخُلاصةُ أنَّ طريقَ محبَّةِ اللهِ طاعتُهُ بصدقٍ واجتنابُ نواهِيهِ.
محبَّةُ اللهِ:
قالَ صاحبَ (الوافي في شرحِ الأربعينَ النَّوويَّةِ): ومحبَّةُ اللهِ للعبدِ رضاهُ عنه وإحسانُهُ إليهِ؛ لأنَّ المحبَّةَ ميلٌ طبيعيٌّ، وهو في حقِّ اللهِ محَالٌ، فالمُرادُ غايتُهَا.
أقولُ: هذا الكلامُ مخالفٌ لما عليهِ سلفُ الأمَّةِ مِن إثباتِ الصِّفاتِ للهِ عزَّ وجلَّ دونَ تأويلٍ أو تعطيلٍ أو تشبيهٍ، ففي هذا الكلامِ الَّذِي تقدَّم به المؤلِّفانِ تأويلٌ دونَ وجهِ حقٍّ، فاللهُ عزَّ وجلَّ أثبتَ لنفسِهِ هذه الصِّفةَ في أكثرَ منْ موضعٍ، قالَ تعالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
وقالَ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وقالَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}، فأخبرَنَا سبحانَهُ بأنَّهُ يحبُّ أقوالاً وأعمالاً معيَّنةً، كما يحبُّ بعضًا مِن خلقِهِ اتَّصفُوا بصفاتٍ معيَّنةٍ، وفائدةُ الإخبارِ حتَّى نبادرَ إلَى ما يحبُ فنفوزَ برضاهُ ومحبَّتِهِ.
فيَجبُ علَى العبدِ أن يَصفَ اللهَ عزَّ وجلَّ بما وصفَ به نفسَهُ دونَ تأويلٍ للصِّفةِ، أو تعطيلٍ، أو تشبيهٍ لها بصفةِ الخلقِ، وهذا هو منهجُ السَّلفِ، فهو الأسلمُ والأحكمُ والأعلمُ، وبه النَّجاةُ.
طريقُ محبَّةِ النَّاسِ:
(3) قولُهُ: ((وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)) يعلِّمُنَا صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ طريقَ محبَّةِ النَّاسِ، وذلك بالزُّهدِ بما في أيديهِمْ مِن حُطَامِ الدُّنيا الفانيَةِ.
قالَ الشَّافعيُّ: (فإنْ تجتَنِبْها كنْتَ سِلْمًا لأهلِهَا وإن تـَجْتـَذِبْهَا نازعَتْكَ كِلابُهَاومعلومٌ أنَّ مَن نازعَ إنسانًا علَى محبوبِهِ كرهَهُ وقلاهُ).
والإنسانُ بحاجةٍ إلَى محبَّةِ النَّاسِ إليهِ لأنَّهُ يشعرُ بسعادةٍ وانشراحٍ عندَما يعيشُ بين ظهرانيْ أناسٍ يحبُّونَهُ، ويشعرُ بضيقٍ وانقباضٍ عندما يحيَا بينَ قومٍ يَكرهونَهُ.
والدَّاعي إلَى اللهِ أحوجُ ما يكونُ إلَى محبَّةِ النَّاسِ له، لأنَّهُم إذا أحبُّوهُ أحبُّوا بضاعَتَهُ وقبلُوهَا، ولكن يَنْبَغِي ألا يكونَ السَّعيُ لكسبِ محبَّةِ النَّاسِ علَى حسابِ الحقِّ والعدلِ، فإنَّ هذا لا يجوزُ في دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إلَى النَّاسِ، وَمَنْ أَسْخَطَ النَّاسَ بِرِضَا اللهِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ)).