دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > الأربعون النووية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 1 ذو القعدة 1429هـ/30-10-2008م, 02:51 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي ح31: حديث سهل بن سعد: (ازهد في الدنيا يحبك الله...) ج

31- عن أبي العبَّاسِ -سَهْلِ بنِ سَعْدٍ الساعديِّ- رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: (جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقالَ: يا رسولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللهُ وأَحبَّنِيَ النَّاسُ.

فَقَالَ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)). حديثٌ حَسَنٌ رواهُ ابنُ ماجَه وغيرُهُ بأسانيدَ حَسنةٍ.


  #2  
قديم 1 ذو القعدة 1429هـ/30-10-2008م, 02:51 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين

الحديث الحادي والثلاثون
عَنْ أَبي العَباس سَعدِ بنِ سَهلٍ السَّاعِدي رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله: دُلَّني عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمَلتُهُ أَحَبَّني اللهُ، وَأَحبَّني النَاسُ ؟ فَقَالَ: (ازهَد في الدُّنيَا يُحِبَّكَ اللهُ ، وازهَد فيمَا عِندَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)(1) حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة.

الشرح
قوله "جَاءَ رَجُلٌ" لم يعين اسمه، ومثل هذا لا حاجة إليه، ولاينبغي أن نتكلف بإضاعة الوقت في معرفة هذا الرجل، وهذا يأتي في أحاديث كثيرة، إلا إذا كان يترتب على معرفته بعينه اختلاف الحكم فلابد من معرفته.
وقوله: "دُلني عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَملتُهُ أَحَبَّني الله، وَأَحبَّني النَّاس" هذا الرجل طلب حاجتين عظيمتين، أولهما محبة الله عزّ وجل والثانية محبة الناس.
فدله النبي صلى الله عليه وسلم على عمل معين محدد، فقال:"ازهَد في الدُّنيَا" والزهد في الدنيا الرغبة عنها، وأن لا يتناول الإنسان منها إلا ما ينفعه في الآخرة، وهو أعلى من الورع، لأن الورع: ترك ما يضر من أمور الدنيا ، والزهد: ترك مالا ينفع في الآخرة، وترك ما لا ينفع أعلى من ترك ما يضر، لأنه يدخل في الزهد الطبقة الوسطى التي ليس فيها ضرر ولا نفع، فالزهد يتجنب مالا نفع فيه، وأما الوَرَع فيفعل ما أبيح له،لكن يترك ما يضره.
وقوله: "يُحِبكَ الله" هو بالجزم على أنه جواب : ازهَد
والدنيا: هي هذه الدار التي نحن فيها، وسميت بذلك لوجهين:
الوجه الأول: دنيا في الزمن.
الوجه الثاني: دنيا في المرتبة.
فهي دنيا في الزمن لأنها قبل الآخرة، ودنيا في المرتبة لأنها دون الآخرة بكثير جداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَمَوضِعُ سوطِ أَحَدِكُم في الجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فيهَا"(2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ركعَتَا الفَجرِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فيهَا"(3) إذاً الدنيا ليست بشيء.
ولذلك لا تكاد تجد أنه يمر عليك شهر أو شهران أو أكثر إلا وقد أصبت بالسرور ثم أعقبه حزن، وما أصدق وصف الدنيا في قول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
وقوله: "وازهَد فيمَا عِندَ النَاس يُحِبكَ النَّاس" أي لا تتطلع لما في أيديهم، ارغب عما في أيدي الناس يحبك الناس، وهذا يتضمن ترك سؤال الناس أي أن لا تسأل الناس شيئاً، لأنك إذا سألت أثقلت عليهم، وكنت دانياً سافلاً بالنسبة لهم، فإن اليد العليا المعطية خير من اليد السفلى الآخذة.
من فوائد هذا الحديث:
1-علو-همم الصحابة رضي الله عنهم، فلا تكاد تجد أسئلتهم إلا لما فيه خير في الدنيا أو الآخرة أو فيهما جميعاً.
وهنا السؤال : هل الصحابة رضي الله عنهم إذا سألوا مثل هذا السؤال يريدون أن يطلعوا فقط، أو يريدون أن يطلعوا ويعملوا؟
الجواب: الثاني، بخلاف كثير من الناس اليوم-نسأل الله أن لايجعلنا منهم- يسألون ليطلعوا على الحكم فقط لا ليعملوا به، ولذلك تجدهم يسألون عالماً ثم عالماً ثم عالماً حتى يستقروا على فتوى العالم التي توافق أهواءهم، ومع ذلك قد يستقبلونها بنشاط وقد يستقبلونها بفتور.
2. إثبات محبة الله عزّ وجل،أي أن الله تعالى يحب محبة حقيقية.
ولكن هل هي كمحبتنا للشيء؟
الجواب: لا، حتى محبة الله لنا ليست كمحبتنا لله، بل هي أعلى وأعظم، وإذا كنا الآن نشعر بأن أسباب المحبة متنوعة، وأن المحبة تتبع تلك الأسباب وتتكيف بكيفيتها فكيف بمحبة الخالق؟!! لا يمكن إدراكها.
الآن نحب الأكل، ونحب من الأكل نوعاً نقدمه على نوع، وكذلك يقال في الشرب، ونحب الجلوس إلى الأصحاب، ونحب الوالدين،ونحب النساء، فهل هذه المحبات في كيفيتها وحقيقتها واحدة؟
الجواب: لا، تختلف.
فمحبة الخالق عزّ وجل لنا-ليست كمحبتنا إياه، بل هي أعظم وأعظم، لكنها حقيقية.
زعم أهل التعطيل الذين حكموا على الله بعقولهم وقالوا:ما وافق عقولنا من صفات الله تعالى أثبتناه وما لا فلا، ولهذا قاعدتهم في هذا، يقولون: ما أقرته عقولنا من صفات الله أقررناه، وما خالف عقولنا نفيناه، وما لم توافقه ولم تخالفه فأكثرهم نفاه وقالوا: لا يمكن أن نثبته حتى يشهد العقل بثبوته، وبعضهم توقف فيه.
وأقربهم إلى الورع الذين توقفوا ومع ذلك فلم يسلكوا سبيل الورع، إذ سبيل الورع أن نثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه مطلقاً، سواء أدركته عقولنا أم لا، وأن ننفي ما نفاه الله تعالى عن نفسه مطلقاً، سواء أثبتته عقولنا أو لا، وما لم ترد عقولنا بإثباته أو نفيه نثبته إن أثبته الله تعالى لنفسه، وننفيه إن نفاه الله تعالى عن نفسه.وعلى هذا فمحبة الله تعالى للعباد ثابتة بالقرآن والسنة وإجماع السلف الصالح، قال الله تعالى: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) [المائدة: الآية54] وقال عزّ وجل: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: الآية4] (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً) [الصف:4] وآيات متعددة.
فيقول أهل العقل الذين حكموا على الله بعقولهم:محبة الله يعني إثابته على العمل.
فنقول:الإثابة على العمل أليس من لازمها المحبة؟ لأنه لا يمكن أن يثيب على عمل إلا وهو يحبه، إذ العقل لا يمكن أن يحكم بأن أحداً يثيب على عمل وهو لا يحب العمل، العقل ينفي هذا، فإذا رجعنا إلى العقل صار العقل دليلاً عليه.
وحينئذ يجب أن نثبت المحبة بدون واسطة، فنقول: هي محبة حقيقية.
فلو أنكروا المحبة وقالوا: إن الله لا يحب فقد كذبوا القرآن، ولذلك نقول: إنكار حقيقة الصفات إن كان إنكار تكذيب وجحد فهو كفر، وإن كان إنكار تأويل فهذا فيه تفصيل:
1-إن كان للتأويل مساغ لم يكفر، لكنه خالف طريق السلف، فيكون بهذا الاعتبار فاسقاً مبتدعاً.
2-وإن كان التأويل لا مساغ له لم يقبل منه أبداً، ولهذا قال العلماء في الأيمان لو قال شخص: والله لا أشتري الخبز، وذهب واشترى خبزاً، فقلنا له: عليك كفارة، فقال: لا، أنا أردت بالخبز الثوب، فلا يقبل منه، لأن هذا ليس له مساغ في اللغة.
لكن لو قال: والله لا أنام إلا على فراش ثم خرج إلى الصحراء ونام عليها، وقلنا له:حنثت لأنك لم تنم على فراش، قال:أردت بالفراش الأرض كما قال الله عزّ وجل: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً ) [البقرة: الآية22] فإنه يقبل، لأن هذا سائغ.
وعلى كل حال: طريق السلامة، وطريق الأدب مع الله، وطريق الحكمة أن نثبت لله ما أثبته لنفسه، سواء أدركته عقولنا أم لم تدركه، وأن ننفي ما نفاه الله عن نفسه سواء أدركته عقولنا أم لم تدركه، وأن نسكت عما سكت الله عنه.
3. أن الإنسان لا حرج عليه أن يطلب محبة الناس،أي أن يحبوه، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً حتى نقول:لا حرج عليه أن يطلب محبة الكفار له، لأن الله عزّ وجل قال: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ )[الممتحنة: الآية8] ومن المعلوم أنه إذا برهم بالهدايا أو الصدقات فسوف يحبونه، أو عدل فيهم فسوف يحبونه، والمحذور أن تحبهم أنت، ولهذا جاء في الحديث وإن كان ضعيفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل على البلد قال: "اللَّهمَّ حَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحبَب صَالِحي أَهْلِهَا إِلَينَا" ، فلما أراد المحبة الصادرة منه قال: "صَالِحي أَهْلِهَا" ولما أراد المحبة الصادرة من الناس قال: حَبِّبنَا إِلَى أَهْلِهَا مطلقاً.
4. فضيلة الزهد في الدنيا، ومعنى الزهد: أن يترك مالا ينفعه في الآخرة.
وليس الزهد أنه لا يلبس الثياب الجميلة، ولا يركب السيارات الفخمة، وإنما يتقشف ويأكل الخبز بلا إدام وما أشبه ذلك، ولكن يتمتع بما أنعم الله عليه،لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وإذا تمتع بالملاذ على هذا الوجه صار نافعاً له في الآخرة، ولهذا لا تغتر بتقشف الرجل ولبسه رديء الثياب، فربَّ حية تحت القش، ولكن عليك بعمله وأحواله.
5. أن الزهد مرتبته أعلى من الورع، لأن الورع ترك ما يضر ، والزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة.
6. أن الزهد من أسباب محبة الله عزّ وجل لقوله: "ازهَد في الدنيَا يُحِبكَ اللهُ" ومن أسباب محبة الله للعبد وهو أعظم الأسباب: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران: 31]
7. الحث والترغيب في الزهد فيما عند الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله سبباً لمحبة الناس لك، وهذا يشمل أن لا تسأل الناس شيئاً، وأن لاتتطلع وتعرِّض بأنك تريد كذا.
مثال الأول: أن ترى مع شخص من الناس ما يعجبك من قلم أوساعة، وتقول يا فلان : هذه ساعة طيبة، ألا تهديها عليَّ، فإن الهدية تذهب السخيمة، وتهادوا تحابوا، وأتى بالمواعظ من أجل أن يأخذ الساعة ، لكن إذا كان هذا ذكياً قال: وأنت أيضاً أهد عليَّ ساعتك ويأتي له بالنصوص.
أقول:إن سؤال الناس ما عندهم لا شك أنه من أسباب إزالة المحبة والمودة، لأن الناس يستثقلون هذا ويستهجنون الرجل ويستذلونه، واليد العليا خير من اليد السفلى.
مثال ثان: أن تعرض بأنك تريده كأن تقول:ما شاء الله هذا القلم الذي معك ممتاز، ليتني أحصل على مثله، وهذا كأنك تقول له:أعطني إياه.
فمثل هذا عليك أن تردعه، إذا طلب منك هذا فقل له: ابحث عنه في السوق، لأنني لا أحب أن الناس تدنو أنفسهم إلى هذا الحد، دع نفسك عزيزة ولا تستذل.
ولكن هنا مسألة: إذا علمت أن صاحبك لو سألته لسره ذلك، فهل تسأله؟
الجواب:نعم،لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى اللحم على النار قال:"ألم أرَ البرمة على النار" قالوا:يا رسول الله: هذا لحم تصدق به على بريرة، فقال: "هو لها صدقة، ولنا هدية"(4)،لأننا نعلم علم اليقين أن بريرة رضي الله عنها سوف تسر، فإذا علمت أن سؤالك يسر صاحبك فلا حرج والله الموفق.

____________________________________________________________________
(1) أخرجه ابن ماجه – كتاب: الزهد، باب: الزهد في الدنيا، (4102)
(2) أخرجه الإمام أحمد – ج5/ص330، في مسند الأنصار عن أبي مالك سهل بن سعد، (23183). والبخاري – بلفظ " خير من الدنيا وما عليها"، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل رباط يوم في سبيل الله، (2892). والترمذي – بلفظ" وموضع سوط.." كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط، (1664).
(3) أخرجه مسلم- كتاب: صلاةالمسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما، وتخفيفهما، والمحافظةعليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما، (725)،(96)
(4) أخرجه البخاري – كتاب: الهبة، باب: قبول الهدية، (2578). ومسلم – كتاب: العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق، (1504)، (1)


  #3  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 02:48 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي

(1) تَرْجَمَةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحديثِ:

سَهْلُ بنُ سَعْدِ بنِ مالِكِ بنِ خالدٍ الأَنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ السَّاعِدِيُّ، لَهُ وَلأَِبِيهِ صُحْبَةٌ، وكانَ اسْمُهُ حَزْنًا فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ سَهْلاً، مَاتَ بالمدنيةِ سنةَ ثمانٍ وثمانينَ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا، وقَدْ جَاوَزَ المائَةَ، وهُوَ آخِرُ الصَّحَابةِ وَفَاةً في المدينةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الشَّرحُ:
(عَنْ أبي العَبَّاسِ سَهْلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يَا رسولَ اللهِ دُلَّنِي على عَمَلٍ) جليلِ المقْدَارِ (إذا عَمِلْتُهُ) وَأَخَذْتُ بهِ (أَحَبَّنِي اللهُ) تَعَالَى، وَحُبُّهُ العَبْدَ هُوَ الفَوزُ الكَبيرُ، (وَأَحَبَّنِي الناسُ) وَحُبُّهُمُ للهِ مِنْ أَجَلِّ المَقَاصِدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ علَيْهِ مِنَ الفوائدِ.
(فقَالَ) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((ازْهَدْ)) كُنْ زَاهِدًا ((في الدُّنْيَا)) بِقَلْبِكَ، ولاَ تَأْخُذْ مِنْهَا إلاَّ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، وَأَنْزِلْهَا في فُؤَادِكَ مَنْزِلَهَا الذي جَعَلَهُ رَبُّها لَهَا، وهيَ أَنَّها مَبْغُوضَةٌ عِنْدَهُ مَلْعُونَةٌ لَدَيْهِ، لا تَعْدِلُ عِنْدَهُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، ولذَا جَعَلَهَا سِجْنًا لأَِحْبَابِهِ، وَجَنَّةً لأَِعْدَائِهِ ((يُحِبَّكَ اللهُ)) فَمَنْ رَامَ تَحْصِيلَ حُبِّهِ تَعَالَى؛ وَلَمْ يُخْرِجْ حُبَّ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِهِ، ولم يُنْزِلْهَا مَنْزِلَهَا، وَلَمْ يَحْتَقِرْهَا فَقَدْ رَامَ المُحَالَ، وَكَيْفَ يُحِبُّ الرَّبُّ الجَلِيلُ عَبْدًا مُتَنَجِّسًا بِنَجَاسَةِ مَا لَعَنَهُ وَأَبْغَضَهُ؟
{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[سورة القيامة: 14 - 15]، وكلُّ مَا شَغَلَكَ عَنْ مَوْلاَكَ فَهُوَ دُنْيَاكَ.
((وَازْهَدْ)) بِقَلْبِكَ وَقَالِبِكَ ((فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ)) الذينَ جُبِلُوا على حُبِّ الدُّنْيَا حُبًّا شَدِيدًا، والبُخْلِ بمَا عِنْدَهمُ، وكراهَةِ السُّؤالِ مِمَّا في أَيْدِيهِم ((يُحِبَّكَ النَّاسُ))؛ لأنَّ مَنْ زَهِدَ في مَحْبُوبِهِم وَتَرَكَهُ لَهُمْ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ إِعْرَاضًا صَادِقًا أَحَبُّوهُ، وَبَذَلُوا لَهُ مَا عِنْدَهُم، وَمَنْ طَمِعَ في مَحْبُوبِهم أَبْغَضُوهُ وَأَذَلُّوهُ، ولم يُعْطُوهُ مِمَّا في أَيْدِيهِم إلاَّ كُرْهًا.
فالفائزُ مَن فازَ بالزُّهْدِ في الدنيا الدَّنِيَّةِ. اللهُمَّ أَخْرِجْ حُبَّهَا مِنْ قُلُوبِنَا.
قالَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عنهُ-:

وَمـاهـِيَ إِلاَّ جـِيـفَةٌ مـُسْتَحِيــلَةٌ = عـَلـَيـْهـَاكِلاَبٌ هـَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا
فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سَلْمًا لأَِهْلِهَا = وَإِنْ تـَجـْتـَذِبْهَانـَازَعَتـْكَ كِلاَبُهَا


  #4  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 02:52 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post المنن الربانية لفضيلة الشيخ :سعد بن سعيد الحجري

الحديثُ الحادي وَالثلاثونَ
عنْ أبي العَبَّاسِ سَهْلِ بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ فَقَالَ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)). حَدِيثٌ صحيحٌ.
(1) الرَّاوِي: هوَ أبو العَبَّاسِ سَهْلُ بنُ سعدٍ السَّاعِدِيُّ، كانَ اسْمُهُ حَزْناً، فَسَمَّاهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلاً، هوَ وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ، وَتُوُفِّيَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، تُوُفِّيَ سَنَةَ (88) هجريَّةً.
موضوعُ الحديثِ: الزُّهْدُ في الدُّنيا.
المفرداتُ:
((جَاءَ رَجُلٌ)): أيْ دَخَلَ رجلٌ عَلَيْهِ يَسْأَلُ وَيَطْلُبُ العلمَ، وَيَرْغَبُ في النَّجَاةِ، وَلا يَعْرِفُونَ اسْمَهُ.
(2) ((دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ)): أيْ أَرْشِدْنِي وَوَجِّهْنِي عَلَى عملٍ مِن الأعمالِ التي تَكْفُلُ لي مَحَبَّةَ اللَّهِ أَوَّلاً وَمَحَبَّةَ الناسِ ثَانِياً. وَكأنَّهُ أَرَادَ إِشغالَ وَقْتِهِ بالنَّافِعِ عِنْدَ الخَلْوةِ معَ اللَّهِ، وَعندَ مُعَاشَرَةِ وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ.
(3) (إِذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ): قولُهُ: (أَحَبَّنِي اللَّهُ) فيهِ إِثباتُ المحبَّةِ للَّهِ تَعَالَى على الوجهِ اللائقِ.
وَمَعْنَاهُ: أيْ إِذا قُمْتُ بهِ وَأَدَّيْتُهُ كَانَت الثَّمَرَةُ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ وَمَحَبَّتَهُ لِي؛ لأَسْعَدَ في الدُّنيا وَالآخرةِ، وَالمرادُ أنَّ العملَ سَبَبٌ في محبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
قولُهُ: (أَحَبَّنِي النَّاسُ) ؛ أيْ: يَرْضَى عنِّي الناسُ وَيُحِبُّونَنِي لأسْعَدَ في الدُّنيا بِتَقْدِيرِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ، وَفي الآخرةِ بِشَهَادَتِهِمْ.
وَمَحَبَّةُ الناسِ مَيْلُ قُلُوبِهِمْ مَيْلاً طَبِيعِيًّا.
وَيَجِبُ تَقْدِيمُ محبَّةِ اللَّهِ على محبَّةِ النفسِ وَالأهلِ وَالمالِ وَمحبَّةِ الناسِ أَجْمَعِينَ. وَالمطلوبُ هوَ إِرضاءُ اللَّهِ وَلوْ بِسَخَطِ الناسِ لِيَرْضَى اللَّهُ عَن العبدِ وَيُرْضِيَ عنهُ الناسَ.

(4) (ازْهَدْ في الدُّنيا): هذهِ الوَصِيَّةُ الأُولَى، وَهيَ الزُّهْدُ في الدُّنيا، وَثَمَرَتُهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِن الأعمالِ التي تُثْمِرُ محبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى الإِحسانُ وَالتَّوَكُّلُ وَالقِسْطُ وَالصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَالتَّطَهُّرُ وَالقِتَالُ في سبيلِ اللَّهِ وَالتوبةُ وَنَحْوُهَا.
وَقدْ فُسِّرَ الزهدُ بِتَفْسِيرَاتٍ كثيرةٍ، أَحْسَنُهَا تَفْسِيرُ ابنِ تَيْمِيَّةَ، وَهوَ قولُهُ: (تَرْكُ مَا لا يَنْفَعُ في الآخِرَةِ، وَالوَرَعُ: تَرْكُ ما يَضُرُّ في الآخرةِ).
وَقدْ قَسَّمَ الإِمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللَّهُ الزهدَ إِلى ثلاثةِ أقسامٍ، وَهيَ:
1- زُهْدُ العَوَامِّ، وَهوَ تَرْكُ الحَرَامِ.
2- زُهْدُ الخَوَاصِّ، وَهوَ تَرْكُ الفُضُولِ مِن الحَلالِ.
3- زُهْدُ العَارِفِينَ، وَهوَ تَرْكُ مَا يَشْغَلُ عَن اللَّهِ تَعَالَى.
وَقدْ ذَمَّ اللَّهُ الدُّنيا في قولِهِ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأَعْلَى: 16].
وَقولِهِ: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}[النساء: 77].
وَفي الحديثِ: ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)).
وَقال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الدُّنْيَا سِتَّةٌ: مَطْعُومٌ، وَمَشْرُوبٌ، وَمَشْمُومٌ، وَمَلْبُوسٌ، وَمَنْكُوحٌ، وَمَرْكُوبٌ).
وَقالَ العَلاءُ بنُ زِيَادٍ: (الدُّنْيَا كَعَجُوزٍ شَمْطَاءَ، وَالدُّنْيَا كَمَاءِ البحرِ لا يَزِيدُ صَاحِبَهُ إِلاَّ عَطَشاً).
وَيَنْبَغِي أَنْ يُكِبَّهَا الإِنسانُ وَيَرْكَبَ على ظَهْرِهَا، وَهيَ كالأرضِ المُخْضَرَّةِ التي يَبِسَتْ، وَكالسَّرَابِ وَكاللَّعِبِ، وَما هِيَ في الآخرةِ إِلاَّ كَنِسْبَةِ صِفْرٍ إِلى ما لا نِهَايَةَ.
وَيَنْقَسِمُ الناسُ في الدُّنْيَا إِلى قِسْمَيْنِ:
1-مَنْ يُنْكِرُ الآخرةَ وَهَمُّهُ الدُّنيا، وَهُم الكفَّارُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}[مُحَمَّد: 12]. وَهؤلاءِ عِبَادُ الدُّنيا الذينَ عَبَدُوهَا وَاشْتَغَلُوا بِهَا.
2- مَنْ يُقِرُّ بالآخِرَةِ، وَهُم أَهْلُ الإِسلامِ، فَيَعْمَلُ للآخرةِ وَلا يَنْسَى نَصِيبَهُ مِن الدُّنيا، وَلا يَجْعَلُهَا هَمَّهُ.
وَقدْ مَضَى أَنَّهُ ثلاثةُ أَقْسَامٍ:
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٌ، وَسَابِقٌ بالخَيْرَاتِ.
(5) (وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ): هذهِ الوصيَّةُ الثانيَةُ، وَهيَ الزهدُ فيما في أَيْدِي الناسِ، وَهي مُوجِبَةٌ لِمَحَبَّةِ الناسِ.
وَقدْ مَضَى في حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ...)).
وَالاستغناءُ عَمَّا في أَيْدِي النَّاسِ عِزٌّ للعَبْدِ، وَقدْ وَرَدَ في الحديثِ: ((بَايِعُونِي أَلاَّ تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئاً...)). وَكانَ أبو بكرٍ لا يَسْأَلُهُمْ، وَكذلكَ ثَوْبَانُ.
وَمِنْ هذا: ((مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ))، وَبِهَاتَيْنِ الوَصِيَّتَينِ يَكُونُ هَمُّ العَبْدِ هوَ رَبَّهُ تَعَالَى، وَالتَّوَجُّهَ إِليهِ، وَسُؤَالَهُ، وَالاستعدادَ للآخرةِ، وَعَدَمَ الاغترارِ بالدُّنيا، وَحفظَ كَرَامَتِهِ وَعِزَّتِهِ.
الفوائدُ:
1- الحِرْصُ على العلمِ النافعِ.
2- سؤالُ أهلِ العلمِ.
3- بَذْلُ الجهدِ لِنَيْلِ محبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
4- إِثباتُ صفةِ المَحَبَّةِ للَّهِ تَعَالَى.
5- التَّحْذِيرُ مِن الاغترارِ بالدُّنيا.
6- الحَثُّ على الزُّهْدِ في الدُّنيا.
7- الاجتهادُ في عملِ الآخرةِ.
8- مِنْ أسبابِ مَحَبَّةِ اللَّهِ العملُ للآخرةِ.
9- القناعةُ بالرزقِ الحلالِ.
10- جعلُ الدُّنيا في اليدِ لا في القلبِ.
11- الاستعفافُ عَن الناسِ.
12- ذمُّ سؤالِ الناسِ.
13- المؤمنُ إلْفٌ مَأْلُوفٌ.
14- الحَذَرُ مِن الحرامِ.
15- اتِّقَاءُ الشُّبُهَاتِ.
16- الشُّكْرُ على الحلالِ وَإِنْفَاقُهُ في الوُجُوهِ المشروعةِ.
17- ما في الدُّنيا وَسَائِلُ لا غَايَاتٌ.
18- حبُّ الدُّنيا للطَّاعَةِ مَحْمُودٌ.
19- جوازُ سؤالِ أهلِ الحاجةِ.


  #5  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 02:54 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح

(1) مَنْزِلَةُ الحديثِ:
تَكْمُنُ مَنْزِلَةُ الحديثِ في بيانِ سببِ محبَّةِ اللهِ، وهي مِن أعظمِ ما يوفَّقُ إليهِ الإنسانُ، فمَنْ أحبَّهُ اللهُ أكرمَهُ ووضعَ له القبولَ في الأرضِ، ومن أبغضَهُ وضعَ له البغضاءَ في الأرضِ.
كما بَيَّنَ الحديثُ سببَ محبَّةِ النَّاسِ للعبدِ، ومعلومٌ أنَّ الإنسانَ يشعرُ بسعادةٍ عظيمةٍ إذا كانَ يَحْيَا في مُجْتَمَعٍ يُحِبُّهُ، ومَن أحبَّهُ النَّاسُ ألِفُوهُ، وما أحوجَ الدَّاعي إلَى هذا؛ لأنَّ النَّاسَ إذا أحبُّوا إنسانًا أخذُوا عنْهُ.
تعريفُ الزُّهدِ:
الزُّهْدُ: (ضدُّ الرَّغبةِ والحرصِ علَى الدُّنيَا)
وقالَ ابنُ القيِّمِ: (إنَّ الزُّهدَ في الشَّيءِ في لغةِ العربِ - الَّتي هي لغةُ الإسلامِ - الانصرافُ عنه احتقارًا له وتصغيرًا لشأنِهِ للاستغناءِ عنه بخيرٍ منهُ).
وقد كثرَتْ مقالاَتُ السَّلفِ في تعريفِهِم للزُّهدِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ: سمعْتُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ - قدَّسَ اللهُ روحَهُ - يقولُ:
(الزُّهدُ: تركُ ما لا يَنفعُ في الآخرةِ، والورعُ: تركُ ما تخافُ مِن ضررِهِ في الآخرةِ).
قالَ ابنُ القيِّمِ: (وهذه العبارةُ مِن أَحْسَنِ ما قيلَ في الزُّهدِ والوَرَعِ وأَجْمَعـِهـَا).
وقالَ سفيانُ الثَّوريُّ: (الزُّهدُ في الدُّنيَا قِصَرُ الأملِ، ليسَ بِأَكلِ الغليظِ ولا لُبْسِ العباءِ).
وقالَ الزُّهريُّ: (هو أن لا يغلبَ الحلالُ شكرَهُ ولا الحرامُ صبرَهُ).
قالَ صاحبُ اللسانِ معقـِّبًا علَى كلامِ الزُّهريِّ: (أرادَ أن لا يعجزَ ويقصرَ شكرَهُ علَى ما رزقَهُ اللهُ مِن الحلالِ ولا صبرَهُ علَى تركِ الحرامِ).
وقالَ الحسنُ أو غيرُهُ: ليسَ الزُّهدُ في الدُّنيا بتحريمِ الحلالِ، ولا إضاعةِ المالِ، ولكنْ أنْ تكونَ بما في يدِ اللهِ أوثقَ منك بما في يدِكَ، وأن تكونَ في ثوابِ المصيبةِ - إذا أُصِبْتَ بها - أرغبَ منك فيها لو لم تُصِبْكَ.
فهذا مِن أجمعِ الكلامِ في الزُّهدِ وأحسنِهِ، هذا بإيجازٍ تعريفُ السَّلفِ للزُّهْدِ.
وحقيقةُ الزُّهدِ في القلبِ، بأن يخرجَ حبُّ الدُّنيَا والحرصُ عليها والرَّغبةُ إليها مِن قلبِ العبدِ، فتصبحَ الدُّنيا في اليدِ وحبُّ اللهِ والآخرةِ في القلبِ، وليس معنَى الزُّهدِ رفضَ الدُّنيَا بالكلِّيَّةِ والابتعادَ عنها.
كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمامَ الزَّاهدينَ ولهُ تسعُ نسوةٍ، وكانَ داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ مِن الزُّهَّادِ ولهما مِن الملكِ ما ذكرَ اللهُ، والصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنْهُم أيضًا كانُوا مِن الزُّهَّادِ ولهم مِن المالِ والنِّساءِ والبنينَ ما هو معروفٌ.
وقسَّمَ الإمامُ أحمدُ الزُّهدَ إلَى:
1 - تركِ الحرامِ، وهذا عندَهُ زهدُ العوامِّ، ويرَى ابنُ القيِّمِ أنَّ هذا فرضُ عينٍ.
2 - تركِ الفضولِ مِن الحلالِ، وهذا عندَهُ زهدُ الخَواصِّ.
3 - تركِ ما يشغلُ عنِ اللهِ، وهذا عندَهُ زهدُ العارفينَ.

التَّقليلُ مِن شأنِ الدُّنيَا:
(2) قولُهُ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا)) وَرَدَتْ نصوصٌ كثيرةٌ في كتابِ اللهِ وفي سنَّةِ رسولِ اللهِ تُزَّهِدُ في الدُّنيا، وَتُبَيِّنُ حقارتَهَا وقلَّتَهَا وسرعةَ انقضائِهَا، وترغِّبُ في نعيمِ الآخرةِ الدَّائمِ الَّذي لا يَنْقَطِعُ.
قالَ تَعالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ}
وقالَ تَعالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
فالدُّنيا مُنقضِيَةٌ زائلةٌ فلا يَنْبَغِي للعبدِ أن يَشتغلَ بالفاني الزَّائلِ عن الباقِي.
فالآيَةُ دلَّتْ علَى أنَّ الحياةَ الدُّنيا غرورٌ وباطلٌ ولعبٌ، وحقيقةُ اللعبِ: ما لا يُنتفعُ به، واللهوُ: ما يُتلهَّى بهِ، كما دلَّتْ علَى أنَّها زينةٌ: والزِّينَةُ: ما يُتَزَيَّنُ به، والمفتونُ بها يتزيَّنُ ولا يعملُ لآخرتِهِ، كما دلَّتْ علَى أنَّها تفاخرٌ، والنَّاسُ يَفخرُ بعضُهُم علَى بعضٍ بنعيمِهَا الزَّائلِ مِن مالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرِهَا، ثمَّ شبَّهَ ربُّنَا انقضاءَ الدُّنيَا وسرعةَ زوالِهَا بالغيثِ الَّذِي ينزلُ علَى الأرضِ فتَهتزُّ بهِ وتخضرُّ، ثمَّ ما تلبثُ أن تعودَ إلَى ما كانَتْ عليهِ مِن جفافٍ ومواتٍ.
وهذا حالُ نعيمِ الدُّنيا زائلٌ مُنْقَضٍ.
دوافعُ الزُّهدِ:
الَّذي يَدفعُ العبدَ للزُّهدِ بالدُّنيا أمورٌ منها:
- قوَّةُ إيمانِ العبدِ واستحضارُ وقوفِهِ بينَ يَدَي اللهِ عزَّ وجلَّ، واستحضارُ أهوالِ يومِ القيامةِ، هذا يَجعلُ حبَّ الدُّنيا ونعيمَهَا يَتضاءَلُ في قلبِ العبدِ فيَنصرفَ عن لذائذِهَا وشهواتِهَا ويَقنعَ بالقليلِ منها.
- شعورُ العبدِ بأنَّ الدُّنيا تَشغلُ القلوبَ عن التَّعلُّقِ باللهِ، وتؤخِّرُ الإنسانَ مِن الرُّقيِّ بدرجاتِ الآخرةِ، وإنَّ الإنسانَ سوفَ يُسْأَلُ عن نعيمِهَا، قالَ تعالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، هذا الشُّعورُ يدفعُ العبدَ للعزوفِ عنهَا.
- الدُّنيا لا تحصلُ للعبدِ حتَّى يَتعبَ ويَنصَبَ في جمعِهَا، ويبذلَ مِن الجهدِ البدنيِّ والذِّهنيِّ الكثيرَ، وقد يضطرُّ لمخالطةِ الأراذلِ ومزاحمَتِهِم، وهذا يكونُ علَى حسابِ طلبِ علمِ الدِّينِ، والدَّعوةِ والجهادِ والعبادةِ، فشعورُ العبدِ النَّيِّرِ القلبِ بهذا يجعلُهُ يعزفُ عنها، ويُقْبِلُ علَى ما هو خيرٌ وأبقَى.
- تحقيرُ القرآنِ لشأنِ الدُّنيا ونعيمِها وإنَّهَا غرورٌ وباطلٌ ولعبٌ ولهوٌ، وذمَّ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن آثارِهَا علَى الآخرةِ، كلُّ هذه النُّصوصِ الواردةِ في الكتابِ الكريمِ والسُّنَّةِ، تجعلُ المؤمنَ يعزِفُ عنها، ويَتعلَّقُ بما هو باقٍ.
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ: (أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بالسُّوقِ داخلاً مِن بعضِ العاليَةِ والنَّاسُ عن كَنفَيهِ فمرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فتناولَهُ فأخذَ بأذنِهِ )ثمَّ قالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟)) قالُوا: واللهِ لو كانَ حَيًّا كانَ عَيبًا فيهِ لأنَّهُ أَسَكُّ، فكيفَ وهو ميتٌ؟ فقالَ: ((فَوَاللهِ لَلدُّنَيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ)).
وروَى أيضًا عن الْمُسْتَوْرِدِ الْفِهْرِيِّ، عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ)).
الزُّهدُ المبتَدَعُ: الزُّهدُ المُخالِفُ للسُّنَّةِ لا خيرَ فيهِ، يظلمُ القلوبَ ويُعمِيهَا، ويشوِّهُ جمالَ الدِّينِ الَّذي ارتضاهُ اللهُ لعبادِهِ، وينفِّرُ العبادَ مِن دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويهدمُ الحضارةَ، ويمكِّنُ أعداءَ اللهِ مِن أمَّةِ الإسلامِ، ويهدرُ كرامةَ الإنسانِ، ويجعلُ العبدَ مستعبَدًا لغيرِ اللهِ، وينشرُ الجهلَ، وإليكَ بعضَ مقالاَتِ دعاةِ الزُّهدِ المبتدَعِ المخالِفِ لِهَدْيِ السَّماءِ:
1 - قالَ الْجُنَيْدُ: (أُحبُّ للمبتدئِ ألاَّ يَشغلَ قلبَهُ بهذه الثَّلاثِ وإلا تغيَّرَتْ حالُهُ: التَّكسُّبِ، وطلبِ الحديثِ، والتَّزوُّجِ، وأحبُّ للصُّوفيِّ أنْ لا يقرأَ، ولا يكتبَ، لأنَّهُ أجمعُ لهمِّهِ).
2 - وقالَ أبو سليمانَ الدَّارانيُّ: (إذا طلبَ الرَّجلُ الحديثَ، أو سافرَ في طلبِ المعاشِ، أو تزوَّجَ فقدْ ركنَ إلَى الدُّنْيا).
ومعلومٌ أنَّ كلَّ الحضاراتِ لا تقومُ إلاَّ علَى العلمِ والكسبِ والزَّواجِ، وحضارةُ الإسلامِ ما قامَتْ إلاَّ علَى هذا، أَمرَتْ بالكسبِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).
وأَمَرَ بالزَّواجِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءُ)).
وأمرَ بالعلْمِ الدِّينيِّ والدُّنيويِّ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ))، هذا مِن حيثُ العلمُ الدِّينيُّ، أمَّا العلمُ الدُّنيويُّ فلا يَختلِفُ اثنانِ سَليمَا الفطرةِ في ضرورةِ علومِ الدُّنيا مِن طبٍّ، وهندسةٍ، وصناعةٍ، وأسلحةٍ، وآلاتٍ، الَّتي لا غِنَى للعِبادِ عنها في هذا الزَّمَنِ.
وما تَدَهْوَرَ واقعُ المسلمينَ في هذه الأيَّامِ، إلاَّ بسببِ تقصيرِهِم بطَلَبِ عِلْمِ الدِّينِ والدُّنيا، واكْتَفَوا بأخذِ القشورِ مِن علومِ الدُّنيا مِن أعدائِهِم، بينَما أَخَذُوا عنهُمْ كثيرًا مِن أمورِ هذه الحضارةِ الزَّائفةِ الزَّائلةِ الَّتي تُودِي بأهلِهَا إلَى الهلاكِ وضَياعِ الدِّينِ والْخُلُقِ والفضيلةِ.
طريقةُ محبَّةِ اللهِ:
قولُهُ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ)) الزُّهدُ بالدُّنيا هو مِن طرقِ محبَّةِ اللهِ جلَّ وعلا، وأعنِي بالزُّهدِ الَّذي كانَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ لا الزُّهدَ المبتَدَعَ الَّذي جعلَ المسلمينَ في مؤخرَةِ الأممِ، ومحبَّةُ اللهِ للعبدِ شيءٌ عظيمٌ، مَن أحبَّهُ اللهُ وفَّقَهُ لما يحبُّ، وأغدقَ عليهِ نعمَهُ الظَّاهرةَ والباطنةَ.
ومحبَّةُ اللهِ لها طرقٌ أخرَى أخبرَ اللهُ بها في كتابِهِ منها:
- الإحسانُ، قالَ تَعالَى: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
- التَّوكُّلُ، قالَ تَعالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
- إقامةُ العدلِ، قالَ تَعالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
- الصَّبرُ، قالَ تَعالَى: {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
- التَّقوَى، قالَ تَعالَى: {فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
- التَّطهُّرُ الْحِسِّيُّ والمعنويُّ: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.
- القتالُ في سبيلِ اللهِ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}.
- التَّوبةُ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}.
إلَى غيرِهَا مِن الآياتِ، والْخُلاصةُ أنَّ طريقَ محبَّةِ اللهِ طاعتُهُ بصدقٍ واجتنابُ نواهِيهِ.
محبَّةُ اللهِ:
قالَ صاحبَ (الوافي في شرحِ الأربعينَ النَّوويَّةِ): ومحبَّةُ اللهِ للعبدِ رضاهُ عنه وإحسانُهُ إليهِ؛ لأنَّ المحبَّةَ ميلٌ طبيعيٌّ، وهو في حقِّ اللهِ محَالٌ، فالمُرادُ غايتُهَا.
أقولُ: هذا الكلامُ مخالفٌ لما عليهِ سلفُ الأمَّةِ مِن إثباتِ الصِّفاتِ للهِ عزَّ وجلَّ دونَ تأويلٍ أو تعطيلٍ أو تشبيهٍ، ففي هذا الكلامِ الَّذِي تقدَّم به المؤلِّفانِ تأويلٌ دونَ وجهِ حقٍّ، فاللهُ عزَّ وجلَّ أثبتَ لنفسِهِ هذه الصِّفةَ في أكثرَ منْ موضعٍ، قالَ تعالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
وقالَ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وقالَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}، فأخبرَنَا سبحانَهُ بأنَّهُ يحبُّ أقوالاً وأعمالاً معيَّنةً، كما يحبُّ بعضًا مِن خلقِهِ اتَّصفُوا بصفاتٍ معيَّنةٍ، وفائدةُ الإخبارِ حتَّى نبادرَ إلَى ما يحبُ فنفوزَ برضاهُ ومحبَّتِهِ.
فيَجبُ علَى العبدِ أن يَصفَ اللهَ عزَّ وجلَّ بما وصفَ به نفسَهُ دونَ تأويلٍ للصِّفةِ، أو تعطيلٍ، أو تشبيهٍ لها بصفةِ الخلقِ، وهذا هو منهجُ السَّلفِ، فهو الأسلمُ والأحكمُ والأعلمُ، وبه النَّجاةُ.
طريقُ محبَّةِ النَّاسِ:
(3) قولُهُ: ((وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)) يعلِّمُنَا صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ طريقَ محبَّةِ النَّاسِ، وذلك بالزُّهدِ بما في أيديهِمْ مِن حُطَامِ الدُّنيا الفانيَةِ.
قالَ الشَّافعيُّ: (فإنْ تجتَنِبْها كنْتَ سِلْمًا لأهلِهَا وإن تـَجْتـَذِبْهَا نازعَتْكَ كِلابُهَاومعلومٌ أنَّ مَن نازعَ إنسانًا علَى محبوبِهِ كرهَهُ وقلاهُ).
والإنسانُ بحاجةٍ إلَى محبَّةِ النَّاسِ إليهِ لأنَّهُ يشعرُ بسعادةٍ وانشراحٍ عندَما يعيشُ بين ظهرانيْ أناسٍ يحبُّونَهُ، ويشعرُ بضيقٍ وانقباضٍ عندما يحيَا بينَ قومٍ يَكرهونَهُ.
والدَّاعي إلَى اللهِ أحوجُ ما يكونُ إلَى محبَّةِ النَّاسِ له، لأنَّهُم إذا أحبُّوهُ أحبُّوا بضاعَتَهُ وقبلُوهَا، ولكن يَنْبَغِي ألا يكونَ السَّعيُ لكسبِ محبَّةِ النَّاسِ علَى حسابِ الحقِّ والعدلِ، فإنَّ هذا لا يجوزُ في دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إلَى النَّاسِ، وَمَنْ أَسْخَطَ النَّاسَ بِرِضَا اللهِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ)).


  #6  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 03:05 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي

(1) هذا الحديثُ خَرَّجَهُ ابنُ ماجهْ مِن روايَةِ خالدِ بنِ عمرٍو القُرشيِّ، عن سُفيانَ الثوريِّ، عن أبي حازمٍ، عن سهلِ بنِ سعدٍ.
وقد ذَكَرَ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ إسنادَهُ حَسَنٌ، وفي ذلك نَظَرٌ؛ فإنَّ خالدَ بنَ عمرٍو القُرشيَّ الأُمَويَّ قالَ فيهِ الإِمامُ أحمدُ: (مُنْكَرُ الحديثِ)، وقالَ مَرَّةً: (ليس بثِقَةٍ)، يَرْوِي أحاديثَ بواطيلَ.
وقالَ ابنُ مَعينٍ: (ليس حديثُهُ بشيءٍ)، وقالَ مَرَّةً: (كان كَذَّابًا يَكْذِبُ، حدَّثَ عن شُعبةَ أحاديثَ مَوضوعةً).
وقالَ البخاريُّ وأبو زُرعةُ: (مُنْكَرُ الحديثِ).
وقالَ أبو حاتمٍ: (مَتروكُ الحديثِ ضعيف)ٌ.
ونَسَبَهُ صالحُ بنُ محمدٍ وابنُ عَدِيٍّ إلَى وَضْعِ الحديثِ.
وتناقَضَ ابنُ حِبَّانَ في أَمْرِهِ، فذَكَرَهُ في كتابِ (الثِّقاتِ)، وذَكَرَهُ في كتابِ (الضُّعفاءِ)، وقالَ: (كان يَنفردُ عن الثِّقاتِ بالموضوعاتِ، لا يَحِلُّ الاحتجاجُ بخَبَرِهِ).
وخَرَّجَ العُقَيْلِيُّ حديثَهُ هذا، وقالَ: (ليس له أصلٌ مِن حديثِ سُفيانَ الثوريِّ)، قالَ: (وقد تابَعَ خالدًا عليهِ مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ الصَّنعانيُّ، ولعلَّهُ أَخَذَهُ عنه ودَلَّسَهُ؛ لأن المشهورَ به خالدٌ هذا).
قالَ أبو بكرٍ الخطيبُ: (وتابَعَهُ أيضًا أبو قَتادةَ الْحَرَّانيُّ ومِهْرانُ بنُ أبي عمرَ الرازيُّ، فرَوَوْهُ عن الثَّوريِّ، قالَ: وأشهرُها حديثُ ابنِ كثيرٍ). كذا قالَ، وهذا يُخالِفُ قولَ العُقَيْلِيِّ: إنَّ أَشْهَرَها حديثُ خالدِ بنِ عمرٍو، وهذا أصحُّ.
ومُحَمَّدُ بنُ كثيرٍ الصنعانيُّ هو الْمِصِّيصِيُّ، ضَعَّفَهُ أحمدُ. وأبو قَتادةَ ومِهرانُ تُكُلِّمَ فيهما أيضًا، لكنَّ مُحَمَّدَ بنَ كثيرٍ خيرٌ منهما؛ فإنَّهُ ثِقَةٌ عندَ كثيرٍ مِنَ الْحُفَّاظِ.
وقد تَعَجَّبَ ابنُ عَدِيٍّ مِن حديثِهِ هذا، وقالَ: (ما أَدْرِي ما أقولُ فيهِ).
وذَكَرَ ابنُ أبي حاتمٍ أنَّهُ سألَ أباهُ عن حديثِ مُحَمَّدِ بنِ كثيرٍ، عن سُفيانَ الثوريِّ، فذَكَرَ هذا الحديثَ، فقالَ: هذا حديثٌ باطلٌ، يعني بهذا الإِسنادِ، يُشيرُ إلَى أنَّهُ لا أَصْلَ له عن مُحَمَّدِ بنِ كثيرٍ، عن سُفيانَ.
وقالَ ابنُ مَشيشٍ: سألْتُ أحمدَ عن حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ، فذَكَرَ هذا الحديثَ، فقالَ أحمدُ: لا إلهَ إلا اللَّهُ - تَعَجُّبًا منه - مَن يَرْوِي هذا؟ قلتُ: خالدُ بنُ عمرٍو، فقالَ: وَقَعْنا في خالدِ بنِ عمرٍو، ثم سَكَتَ، ومُرادُهُ الإِنكارُ علَى مَن ذَكَرَ له شيئًا مِن حديثِ خالدٍ هذا، فإنه لا يُشْتَغَلُ به.
وَخَرَّجَهُ أبو عُبيدٍ القاسمُ بنُ سَلامٍ في كتابِ (الْمَواعظِ) له عن خالدِ بنِ عمرٍو، ثم قالَ: كنتُ مُنْكِرًا لهذا الحديثِ، فحَدَّثَنِي هذا الشيخُ عن وَكيعٍ: أنه سألَهُ عنه، ولولا مَقالَتُهُ هذه لتَرَكْتُهُ. وخَرَّجَ ابنُ عَدِيٍّ هذا الحديثَ في تَرجمةِ خالدِ بنِ عمرٍو، وذَكَرَ روايَةَ مُحَمَّدِ بنِ كثيرٍ له أيضًا، وقالَ: هذا الحديثُ عن الثوريِّ مُنْكَرٌ، قالَ: ورواهُ زَافِرٌ يعني ابنَ سَلمانَ، عن مُحَمَّدِ بنِ عُيَيْنَةَ أخي سُفيانَ، عن أبي حازمٍ، عن ابنِ عمرَ، انتهَى.
وزافرٌ ومُحَمَّدُ بنُ عُيَيْنَةَ، كِلاهما ضعيفٌ.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِن وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلٍ، خَرَّجَهُ أبو سُليمانَ بنُ زَبْرٍ الدِّمشقيُّ في (مُسْنَدِ) إبراهيمَ بنِ أَدهمَ مِن جَمْعِهِ مِن روايَةِ معاويَةَ بنِ حَفْصٍ، عن إبراهيمَ بنِ أَدْهَمَ، عن منصورٍ، عن رِبْعِيِّ بنِ حِراشٍ، قالَ: جاءَ رجلٌ إلَى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، (فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُحِبُّنِي اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيُحِبُّنِي النَّاسُ عَلَيْهِ)، فَقالَ: ((أَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّكَ اللَّهُ عَلَيْهِ: فَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّكَ النَّاسُ عَلَيْهِ: فَانْظُرْ هَذَا الْحُطَامَ فَانْبِذْهُ إِلَيْهِمْ)).

وَخَرَّجَهُ ابنُ أبي الدنيا في كتابِ (ذَمِّ الدنيا) مِن روايَةِ عليِّ بنِ بَكَّارٍ، عن إبراهيمَ بنِ أَدْهَمَ، قالَ: جاءَ رجُلٌ إلَى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فذَكَرَهُ، ولم يَذْكُرْ في إسنادِهِ مَنصورًا ولا رِبْعِيًّا، وقالَ في حديثِهِ: ((فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ مَا فِي يَدَيْكَ مِنَ الْحُطَامِ)).
وقدِ اشْتَمَلَ هذا الحديثُ علَى وَصِيَّتَيْنِ عَظيمتينِ:
إحداهما: الزُّهدُ في الدُّنيا، وأنه مُقْتَضٍ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لعَبْدِهِ.
والثانيَةُ: الزُّهدُ فيما في أَيْدِي الناسِ، وأنه مُقْتَضٍ لِمَحَبَّةِ النَّاسِ.
فأمَّا الزُّهدُ في الدُّنيا، فقد كَثُرَ في القُرآنِ الإِشارةُ إلَى مَدْحِهِ، وإلَى ذَمِّ الرغبةِ في الدنيا، قالَ تعالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلَى: 16 - 17].
وقالَ تعالَى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67].
وقالَ تعالَى في قِصَّةِ قارونَ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} إلَى قولِهِ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 79 - 83].
وقالَ تعالَى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ} [الرعد: 26] .

وقالَ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}[النساء: 77].
وقالَ حاكيًا عن مؤمنِ آلِ فرعونَ أنه قالَ لقومِهِ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَياةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرارِ}[غافر: 38 - 39].
وقد ذَمَّ اللَّهُ مَنْ كان يُريدُ الدُّنيا بعَمَلِهِ وسَعْيِهِ ونِيَّتِهِ، وقد سَبَقَ ذِكْرُ ذلك في الكلامِ علَى حديثِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
والأحاديثُ في ذمِّ الدنيا وحَقارتِها عندَ اللَّهِ كثيرةٌ جِدًّا، ففي (صحيحِ مسلِمٍ) عن جابرٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بالسُّوقِ والنَّاسُ كَنَفَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقالَ: ((أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟)).

فقالُوا:مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟
قالَ: ((أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟)).
قالُوا: واللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟
فقالَ: ((وَاللَّهِ، لَلدُّنْيا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ)).
_ وفيهِ أيضًا، عن الْمُسْتَوْرِدِ الفِهْريِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا تَرْجِعُ)).
_ وخَرَّجَ التِّرمذيُّ مِن حديثِ سَهْلِ بنِ سعدٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةً))وصَحَّحَهُ.
ومعنَى الزهدِ في الشيءِ: الإِعراضُ عنه لاستقلالِهِ، واحتقارِهِ، وارتفاعِ الْهِمَّةِ عنه،
يُقالُ: شيءٌ زَهيدٌ، أي: قليلٌ حَقيرٌ.
وقد تَكلَّم السَّلفُ ومَن بعدَهم في تفسيرِ الزُّهدِ في الدُّنيا وتَنَوَّعتْ عِباراتُهم عنه، ووَرَدَ في ذلك حديثٌ مَرفوعٌ خَرَّجَهُ التِّرمذيُّ وابنُ ماجهْ مِن روايَةِ عمرِو بنِ واقدٍ، عن يونُسَ بنِ حَلْبَسٍ، عن أبي إِدريسَ الْخَولانيِّ، عن أبي ذرٍّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْستْ بِتَحْرِيمِ الْحَلالِ، وَلا إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنِ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِمَّا فِي يَدِ اللَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ فِيهَا لَوْ أنَّهَا بَقِيَتْ لَكَ)).
وقالَ التِّرمذيُّ: غريبٌ لا نَعرِفُهُ إلا مِن هذا الوجهِ، وعمرُو بنُ واقدٍ مُنْكَرُ الحديثِ.
قلتُ: الصحيحُ وَقْفُهُ، كما رواهُ الإِمامُ أحمدُ في كتابِ (الزهْدِ): حَدَّثَنا زيدُ بنُ يَحْيَى الدِّمشقيُّ، حَدَّثَنا خالدُ بنُ صُبَيْحٍ، حَدَّثَنا يونُسُ بنُ حَلْبَسٍ قالَ: قالَ أبو مسلمٍ الخولانيُّ: (ليس الزَّهادةُ في الدُّنيا بتحريمِ الحلالِ، ولا إضاعةِ المالِ، إنَّما الزَّهادةُ في الدُّنيا أن تكونَ بما في يدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِمَّا في يَدَيْكَ، وإذا أُصِبْتَ بِمُصيبةٍ، كنتَ أشدَّ رَجاءً لأَجْرِها وذُخْرِها مِن إيَّاها لو بَقِيَتْ لك).

وَخَرَّجَهُ ابنُ أبي الدنيا مِن روايَةِ مُحَمَّدِ بنِ مُهاجِرٍ، عن يُونُسَ بنِ مَيْسَرَةَ، قالَ: (ليس الزَّهادةُ في الدنيا بتحريمِ الحلالِ ولا بإضاعةِ المالِ، ولكنِ الزَّهادةُ في الدنيا أنْ تَكونَ بما في يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ منك بما في يَدِكَ، وأن يكونَ حالُك في الْمُصيبةِ وحالُك إذا لم تُصَبْ بها سواءً، وأن يكونَ مادِحُك وذَامُّك في الحقِّ سواءً).
ففَسَّرَ الزهدَ في الدنيا بثلاثةِ أشياءَ، كُلُّها مِن أعمالِ القلوبِ لا مِن أعمالِ الجوارحِ، ولهذا كان أبو سليمانَ يقولُ: لا تَشْهَدْ لأحدٍ بالزُّهدِ؛ فإنَّ الزُّهْدَ في القَلْبِ.
أحدُها: أن يكونَ العبدُ بما في يدِ اللَّهِ أوثقَ منه بما في يدِ نفسِهِ، وهذا يَنشَأُ مِنْ صِحَّةِ اليَقينِ وقُوَّتِهِ؛ فإنَّ اللَّهَ ضَمِنَ أرزاقَ عِبادِهِ، وتَكَفَّلَ بها، كما قالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها}[هود: 6].
وقالَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذاريات: 22].
وقالَ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ}[العنكبوت: 17].
قالَ الحسَنُ: (إنَّ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِك أن تكونَ بما في يَدِكَ أوثقَ منك بما في يدِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ).
ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ قالَ: (إنَّ أَرْجَى ما أكونُ للرِّزْقِ إذا قالُوا: ليس في البيتِ دَقيقٌ). وقالَ مَسروقٌ: (إنَّ أَحْسَنَ ما أكونُ ظَنًّا حينَ يقولُ الخادمُ: ليس في البيتِ قَفِيزٌ مِن قَمْحٍ ولا دِرْهمٌ)
وقالَ الإِمامُ أحمدُ: (أَسَرُّ أيَّامي إليَّ يومٌ أُصْبِحُ وليس عِنْدِي شيءٌ).
وقيلَ لأبي حازمٍ الزاهدِ: ما مالُكَ؟
قالَ: (لي مالانِ لا أَخْشَى معهما الفَقْرَ: الثِّقةُ باللَّهِ، واليأسُ ممَّا في أَيْدِي الناسِ).
وقيلَ له: أَمَا تخافُ الْفَقْرَ؟
فقالَ: (أنا أَخافُ الفقرَ ومَولايَ له ما في السماواتِ وما في الأرضِ وما بينَهما وما تحتَ الثَّرَى؟!)
_ ودُفِعَ إلَى عليِّ بنِ الْمُوَفَّقِ وَرقةٌ، فقَرَأَها فإذا فيها: (يا عليُّ بنَ الْمُوَفَّقِ أتَخافُ الفقرَ وأنا ربُّك؟)

_ وقالَ الفُضيلُ بنُ عِياضٍ: (أصلُ الزُّهدِ الرِّضا عن اللَّهِ عزَّ وجلَّ).
وقالَ: (القُنوعُ هو الزُّهْدُ وهو الغِنَى).

فمَن حَقَّقَ اليقينَ، وَثِقَ باللَّهِ في أمورِهِ كُلِّها، ورَضِيَ بتدبيرِهِ له، وانْقَطَعَ عن التعلُّقِ بالمخلوقينَ رَجاءً وخَوْفًا، ومَنَعَهُ ذلك مِنْ طَلَبِ الدُّنيا بالأسبابِ المكروهةِ، ومَن كان كذلك كان زاهدًا في الدنيا حقيقَةً، وكان مِن أَغْنَى الناسِ وإن لم يكنْ له شيءٌ مِن الدنيا، كما قالَ عمَّارٌ: (كَفَى بالموتِ واعظًا، وكفَى باليَقينِ غِنًى، وكَفَى بالعِبادةِ شُغْلاً).
وقالَ ابنُ مسعودٍ: اليقينُ: (أن لا تُرْضِيَ النَّاسَ بسَخَطِ اللَّهِ، ولا تَحْمَدَ أحدًا علَى رِزْقِ اللَّهِ، ولا تَلُومَ أحدًا علَى ما لم يُؤْتِكَ اللَّهُ؛ فإنَّ الرِّزقَ لا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، ولا يَرُدُّهُ كَراهةُ كارِهٍ، فإنَّ اللَّهَ تَبَارَك وتعالَى - بقِسْطِهِ وعِلْمِهِ وحُكْمِهِ - جَعَلَ الرَّوحَ والفَرَحَ في اليقينِ والرِّضَا، وجَعَلَ الهمَّ والحَزَنَ في الشكِّ والسَّخَطِ).
وفي حديثٍ مُرْسَلٍ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كان يَدْعُو بهذا الدُّعاءِ:
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي، وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لا يَمْنَعُنِي رِزْقًا قَسَمْتَهُ لِي، وَرَضِّنِي مِنَ الْمَعِيشَةِ بِمَا قَسَمْتَ لِي)).
وكان عَطاءٌ الْخُراسانيُّ لا يَقومُ مِن مَجْلِسِهِ حتَى يقولَ: (اللهمَّ هَبْ لنا يَقينًا منك حتَى تُهَوِّنَ علينا مَصائبَ الدُّنيا، وحتَّى نَعلمَ أنَّهُ لا يُصِيبُنا إلا ما كَتَبْتَ علينا، ولا يُصيبنُا مِنْ هذا الرِّزقِ إلا ما قَسَمْتَ لنا).
رُوِّينَا مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ مَرفوعًا قالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ، فَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ)).
والثاني: أن يكونَ العبدُ إذا أُصيبَ بِمُصيبةٍ فىِ دُنياهُ مِنْ ذَهابِ مالٍ، أو وَلَدٍ، أو غيرِ ذلك، أَرْغَبَ في ثوابِ ذلك مِمَّا ذَهَبَ منه مِنَ الدُّنيا أنَ يَبْقَى له، وهذا أيضًا يَنشأُ مِنْ كمالِ اليَقينِ.
وقد رُوِيَ عن ابنِ عمرَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ في دُعائِهِ: ((اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكِ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا)) وهو مِن عَلاماتِ الزُّهدِ في الدنيا، وقِلَّةِ الرَّغبةِ فيها، كما قالَ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (مَن زَهِدَ في الدُّنيا هانَتْ عليهِ الْمُصِيبَاتُ).
والثالثُ: أن يَسْتَوِيَ عندَ العبدِ حامدُهُ وذَامُّهُ في الْحَقِّ، وهذا مِن علاماتِ الزُّهدِ في الدُّنيا، واحتقارِها، وقلَّةِ الرَّغبةِ فيها؛ فإنَّ مَن عَظُمَتِ الدُّنيا عندَهُ أَحَبَّ الْمَدْحَ وكَرِهَ الذَّمَّ، فرُبَّما حَمَلَهُ ذلك علَى تَرْكِ كثيرٍ مِنَ الْحَقِّ خَشيَةَ الذَّمِّ، وعلَى فِعْلِ كثيرٍ مِنَ الباطلِ رجاءَ المدحِ، فمَن اسْتَوَى عندَهُ حامدُهُ وذامُّهُ في الْحَقِّ، دَلَّ علَى سُقوطِ مَنْزِلَةِ المخلوقينَ مِن قلبِهِ، وامتلائِهِ مِنْ مَحَبَّةِ الحقِّ، وما فيهِ رضا مَولاهُ، كما قالَ ابنُ مَسعودٍ: (اليقينُ أن لا تُرْضِيَ النَّاسَ بسَخَطِ اللَّهِ. وقد مَدَحَ اللَّهُ الذين يُجاهِدون في سبيلِ اللَّهِ ولا يَخافونَ لومةَ لائمٍ).
وقد رُوِيَ عن السلَفِ عِباراتٌ أُخَرُ في تفسيرِ الزُّهدِ في الدُّنيا، وكُلُّها تَرْجِعُ إلَى ما تَقَدَّمَ، كقولِ الْحَسَنِ: الزاهدُ الذي إذا رأَى أَحَدًا قالَ: هو أَفْضَلُ مِنِّي، وهذا يَرْجِعُ إلَى أنَّ الزَّاهدَ حقيقةً هو الزَّاهدُ في مَدْحِ نفسِهِ وتَعظيمِها، ولهذا يقالُ: الزُّهْدُ في الرِّياسةِ أشدُّ منه في الذهَبِ والفِضَّةِ، فمَن أَخْرَجَ مِنْ قلبِهِ حُبَّ الرِّياسةِ في الدُّنيا، والتَّرَفُّعَ فيها علَى الناسِ، فهو الزَّاهدُ حقًّا، وهذا هو الذي يَسْتَوِي عندَهُ حامدُهُ وذامُّهُ في الحقِّ، وكقولِ وُهَيْبِ بنِ الوَرْدِ: (الزهْدُ في الدنيا أن لا تَأْسَى علَى ما فاتَ منها، ولا تَفْرَحَ بما آتاكَ منها).
قالَ ابنُ السَّمَّاكِ: (هذا هو الزاهدُ الْمُبَرَّزُ في زُهْدِهِ).
وهذا يَرْجِعُ إلَى أنه يَستوِي عندَ الْعَبْدِ إدبارُها وإقبالُها وزِيادتُها ونَقْصُها، وهو مِثْلُ استواءِ الْمُصيبةِ وعَدَمِها كما سَبَقَ.
وسُئِلَ بعضُهم - أظنُّهُ الإمامَ أحمدَ - عمَّن معه مالٌ: هل يكونُ زاهدًا؟
قالَ: (إن كان لا يَفْرَحُ بزِيادتِهِ ولا يَحْزَنُ بنَقْصِهِ، أو كما قالَ).

وسُئِلَ الزُّهريُّ عن الزاهدِ فقالَ: (مَن لم يَغْلِب الحرامُ صَبْرَهُ، ولم يَشْغَل الحلالُ شُكْرَهُ). وهذا قريبٌ مِمَّا قبلَهُ، فإنَّ معناهُ أنَّ الزَّاهدَ في الدُّنيا إذا قَدَرَ منها علَى حرامٍ صَبَرَ عنه فلم يَأْخُذْهُ، وإذا حَصَلَ له منها حلالٌ لم يَشْغَلْهُ عن الشُّكْرِ، بل قامَ بِشُكْرِ اللَّهِ عليهِ.
قالَ أحمدُ بنُ أبي الْحَوَارِيِّ: قلتُ لسفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ: مَنِ الزَّاهدُ في الدُّنيا؟
قالَ: (مَن إذا أُنْعِمَ عليهِ شَكَرَ، وإذا ابتُلِيَ صَبَرَ).
فقلتُ:(يا أبا مُحَمَّدٍ، قد أُنْعِمَ عليهِ فشَكَرَ، وابْتُلِيَ فصَبَرَ، وحَبَسَ النِّعمةَ، كيف يكونُ زاهدًا؟!)
فقالَ: (اسكُتْ، مَن لم تَمْنَعْهُ النَّعماءُ مِنَ الشُّكرِ، ولا الْبَلْوَى مِن الصَّبرِ، فذلك الزاهدُ).
وقالَ رَبيعةُ: (رأسُ الزَّهادةِ جَمْعُ الأشياءِ بِحَقِّها، ووَضْعُها في حَقِّها).
وقالَ سفيانُ الثوريُّ: (الزهدُ في الدنيا قِصَرُ الأملِ، ليس بأكلِ الغَليظِ، ولا بلُبْسِ العَباءِ). وقالَ: كان مِن دُعائِهم: (اللهمَّ زَهِّدْنا في الدُّنيا، ووَسِّعْ علينا منها، ولا تَزْوِهَا عَنَّا فتُرَغِّبَنا فيها).
وكذا قالَ الإِمامُ أحمدُ: (الزُّهدُ في الدُّنيا: قِصَرُ الأملِ)، وقالَ مَرَّةً: (قِصَرُ الأملِ واليأسُ مما في أَيْدِي الناسِ).
ووَجْهُ هذا أنَّ قِصَرَ الأملِ يُوجِبُ محبَّةَ لقاءِ اللَّهِ بالخروجِ مِن الدنيا، وطولَ الأملِ يَقتضِي محبَّةَ البقاءِ فيها، فمَن قَصُرَ أملُهُ فقد كَرِهِ البقاءَ في الدُّنيا، وهذا نهايَةُ الزُّهدِ فيها والإِعراضِ عنها.
واسْتَدَلَّ ابنُ عُيَيْنَةَ لهذا القولِ بقولِهِ تعالَى: {قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، إلَى قولِهِ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 94 - 96] الآيَةَ.
ورَوَى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عن الضحَّاكِ بنِ مُزَاحِمٍ قالَ: (أتَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رجلٌ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ؟)
فقالَ: ((مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى، وَتَرَكَ أَفْضَلَ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، وَلَمْ يَعُدَّ غَدًا مِنْ أيَّامِهِ، وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنَ الْمَوْتَى))وهذا مُرْسَلٌ.
وقد قسَّمَ كثيرٌ مِنَ السَّلفِ الزُّهدَ أقسامًا:
فمِنهم مَن قالَ: (أَفضلُ الزُّهدِ: الزُّهدُ في الشِّركِ، وفي عِبادةِ ما عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ثمَّ الزُّهدُ في الحرامِ كلِّهِ مِن الْمَعاصِي، ثمَّ الزُّهدُ في الحلالِ، وهو أقلُّ أقسامِ الزهدِ)، فالقِسمان الأَوَّلانِ مِن هذا الزهدِ كِلاهما واجبٌ، والثَّالثُ ليسَ بواجِبٍ؛ فإنَّ أَعظمَ الواجباتِ: الزُّهدُ في الشِّركِ، ثم في المعاصي كلِّها.
وكان بكرٌ الْمُزَنِيُّ يَدْعُو لإِخوانِهِ: (زَهَّدَنا اللَّهُ وإيَّاكم زُهْدَ مَنْ أَمْكَنَهُ الحرامَ والذنوبَ في الْخَلَوَاتِ، فعَلِمَ أنَّ اللَّهَ يَراهُ فتَرَكَه)ُ.
وقالَ ابنُ الْمُبَارَكِ: قالَ سَلامُ بنُ أبي مُطِيعٍ: (الزُّهدُ علَى ثلاثةِ وُجوهٍ:

واحدٌ: أن يُخْلِصَ العملَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ والقولَ، ولا يُرادَ بشيءٍ منه الدنيا.
والثاني: تَرْكُ ما لا يَصْلُحُ، والعملُ بما يَصْلُحُ.
والثالثُ: الحلالُ أن يَزْهَدَ فيهِ وهو تَطَوُّعٌ، وهو أَدناهَا.
وهذا قريبٌ مما قَبْلَهُ، إلا أنَّهُ جَعَلَ الدَّرجةَ الأُولَى مِنَ الزُّهدِ الزُّهدَ في الرياءِ الْمُنَافِي للإخلاصِ في القولِ والعملِ، وهو الشِّركُ الأصغرُ، والحاملُ عليهِ مَحَبَّةُ المدْحِ في الدنيا، والتقدُّمُ عندَ أهلِها، وهو مِنْ نوعِ مَحبَّةِ العلوِّ فيها والرياسةِ.
_ وقالَ إبراهيمُ بنُ أَدهمَ: (الزهْدُ ثلاثةُ أَصنافٍ: فزُهْدٌ فرضٌ، وزُهْدٌ فَضْلٌ، وزهدٌ سَلامةٌ، فالزهْدُ الفرضُ: الزهدُ في الحرامِ، والزهدُ الفضلُ: الزهدُ في الحلالِ، والزهدُ السلامةُ: الزُّهدُ في الشُّبُهَاتِ).
وقد اخْتَلَفَ الناسُ: هل يَستحقُّ اسمَ الزاهدِ مَنْ زَهِدَ في الحرامِ خاصَّةً، ولم يَزْهَدْ في فُضولِ الْمُباحاتِ أمْ لا؟
علَى قَولينِ:
أحدُهما: أنه يَسْتَحِقُّ اسمَ الزهدِ بذلك، وقد سَبَقَ ذلك عن الزُّهريِّ وابنِ عُيَيْنَةَ وغيرِهما.
والثاني: لا يَسْتَحِقُّ اسمَ الزهدِ بدونِ الزهدِ في فُضولِ الْمُباحِ، وهو قولُ طائفةٍ مِن العارفينَ وغيرِهم، حتَى قالَ بعضُهم: (لا زُهْدَ اليومَ لفَقْدِ الْمُباحِ الْمَحْض)، وهو قولُ يوسفَ بنِ أَسباطٍ وغيرِهِ، وفي ذلك نَظَرٌ.
وكان يُونُسُ بنُ عُبيدٍ يقولُ: (وما قَدْرُ الدُّنيا حتَى يُمدَحَ مَن زَهِدَ فيها؟)
وقالَ أبو سليمانَ الدَّارَانِيُّ: (اخْتَلَفُوا علينا في الزُّهدِ بالعراقِ، فمِنهم مَن قالَ: الزُّهدُ في تَرْكِ لقاءِ النَّاسِ، ومِنهم مَن قالَ: في تَرْكِ الشَّهواتِ، ومنهم مَن قالَ: في تَرْكِ الشِّبَعِ، وكلامُهم قريبٌ بعضُهُ مِن بعضٍ، قالَ: وأنا أذهبُ إلَى أنَّ الزُّهدَ في تَرْكِ ما يَشْغَلُك عن اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وهذا الذي قالَهُ أبو سليمانَ حَسَنٌ، وهو يَجمعُ جميعَ معاني الزُّهدِوأقسامِهِ وأنواعِهِ).
واعلَمْ أنَّ الذمَّ الواردَ في الكتابِ والسُّنَّةِ للدُّنيا ليس هو راجعًا إلَى زَمَانِها الذي هو اللَّيلُ والنَّهارُ الْمُتعاقبانِ إلَى يومِ القِيامةِ، فإنَّ اللَّهَ جَعَلَهما خِلْفَةً لِمَن أرادَ أن يَذَّكَّرَ أو أرادَ شُكورًا.
ويُرْوَى عن عيسَى عليهِ السلامُ أنَّهُ قالَ: (إنَّ هذا الليلَ والنهارَ خِزانتانِ، فانظُروا ما تَضَعُون فيهما).
وكان يقولُ: (اعْمَلوا اللَّيلَ لِمَا خُلِقَ له، والنَّهارَ لِمَا خُلِقَ له).
وقالَ مجاهِدٌ: (ما مِنْ يومٍ إلا يقولُ: ابنَ آدمَ قد دَخَلْتُ عليك اليومَ ولن أَرْجِعَ إليك بعدَ اليومِ، فانْظُرْ ماذا تَعملُ فِيّ). فإذا انْقَضَى طُوِيَ ثم يُخْتَمُ عليهِ، فلا يُفَكُّ حتَّى يكونَ اللَّهُ هو الذي يَفُضُّهُ يومَ القِيامةِ، ولا ليلةٍ إلا تقولُ كذلك، وقد أَنْشَدَ بعضُ السلَفِ:

إنما الدنيا إلَى الجنةِ والنارِ طريقُ = والليالي مَتْجَرُ الإنسانِ والأيامُ سوقُ
وليس الذمُّ راجعًا إلَى مكانِ الدُّنيا الذي هو الأرضُ التي جَعَلَها اللَّهُ لبني آدمَ مِهادًا وسَكَنًا، ولا إلَى ما أَوْدَعَهُ اللَّهُ فيها مِن الْجِبالِ والبِحارِ والأنهارِ والْمَعادِنِ، ولا إلَى ما أَنْبَتَهُ فيها مِن الشَّجرِ والزرعِ، ولا إلَى ما بَثَّ فيها مِن الحيواناتِ وغيرِ ذلك، فإنَّ ذلك كُلَّهُ مِنْ نِعمةِ اللَّهِ علَى عِبادِهِ بما لهم فيهِ مِن الْمَنافِعِ، ولهم به مِن الاعتبارِ والاستدلالِ علَى وَحدانيَّةِ صانِعِهِ وقُدرتِهِ وعَظَمَتهِ، وإنَّما الذَّمُّ راجعٌ إلَى أَفعالِ بني آدمَ الواقعةِ في الدُّنيا؛ لأنَّ غالِبَها واقعٌ علَى غيرِ الوجهِ الذي تُحمَدُ عاقبتُهُ، بل يَقَعُ علَى ما تَضُرُّ عاقبتُهُ، أو لا تَنْفَعُ، كما قالَ عزَّ وجلَّ:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد: 20].
وانْقَسَمَ بنو آدمَ في الدنيا إلَى قِسمينِ:
أحدُهما: مَن أَنْكَرَ أن يكونَ للعِبادِ بعدَ الدُّنيا دارٌ للثَّوابِ والعِقابِ، وهؤلاءِ هم الَّذينَ قالَ اللَّهُ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7]، وهؤلاءِ هَمُّهُمُ التمتُّعُ بالدنيا، واغتنامُ لَذَّاتِها قبلَ الموتِ.
كما قالَ تعالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}[محمد: 12]. ومِن هؤلاءِ مَن كان يَأْمُرُ بالزُّهدِ في الدُّنيا؛ لأنه يَرَى أنَّ الاستكثارَ منها يُوجِبُ الهمَّ والغمَّ، ويقولُ: كلَّما كَثُرَ التعلُّقُ بها، تألَّمَت النَّفسُ بِمُفارَقَتِها عندَ الموتِ، فكان هذا غايَةَ زُهدِهم في الدنيا.
والقِسمُ الثاني: مَن يُقِرُّ بدارٍ بعدَ الموتِ للثوابِ والعِقابِ، وهم الْمُنْتَسِبونَ إلَى شرائعِ الْمُرْسَلينَ، وهم مُنقسِمون إِلَى ثلاثةِ أقسامٍ:
ظالِمٍ لنفسِهِ، ومُقْتَصِدٍ، وسابقٍ بالخيراتِ بإذنِ اللَّهِ.
فالظالِمُ لنفسِهِ: هم الأكثرون منهم، وأكثرُهم وَقَفَ مع زَهْرَةِ الدُّنيا وزِينتِها، فأَخَذَها مِن غيرِ وَجْهِها، واستعمَلَها في غيرِ وَجْهِها، وصارتِ الدُّنيا أكبرَ هَمِّهِ، لها يَغْضَبُ، وبها يَرْضَى، ولها يُوالِي، وعليها يُعادِي، وهؤلاءِ هم أهلُ اللَّهوِ واللَّعبِ والزِّينةِ والتَّفاخُرِ والتَّكاثرِ، وكلُّهم لم يَعْرِفِ المقصودَ مِن الدُّنيا، ولا أنَّها مَنزِلُ سفَرٍ يَتزوَّدُ منها لِمَا بَعدَها مِنْ دارِ الإِقامةِ، وإن كان أحدُهم يُؤمِنُ بذلك إيمانًا مُجْمَلاً، فهو لا يَعرِفُهُ مُفَصَّلاً، ولا ذاقَ ما ذاقَهُ أهلُ المعرِفةِ باللَّهِ في الدُّنيا ممَّا هو نَمُوذَجُ ما ادُّخِرَ لهم في الآخِرةِ.
والمقتَصِدُ منهم: أَخَذَ الدُّنيا مِنْ وُجوهِها الْمُباحَةِ، وأدَّى واجباتِها، وأَمْسَكَ لنفسِهِ الزَّائِدَ علَى الواجبِ، يَتَوسَّعُ به في التمتُّعِ بشَهواتِ الدُّنيا، وهؤلاءِ قدِ اختُلِفَ في دخولِهم في اسمِ الزَّهادَةِ في الدُّنيا كما سَبَقَ ذِكْرُهُ، ولا عِقابَ عليهم في ذلك، إلا أنَّهُ يَنقُصُ مِن دَرجاتِهم مِن الآخِرَةِ بقَدْرِ تَوَسُّعِهم في الدُّنيا.
قالَ ابنُ عمرَ: (لا يُصيبُ عبدٌ مِنَ الدُّنيا شيئًا إلا نَقَصَ مِن دَرجاتِهِ عندَ اللَّهِ، وإن كان عليهِ كريمًا)، خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادٍ جَيِّدٍ.
ورُوِيَ مَرفوعًا مِن حديثِ عائشةَ بإسنادٍ فيهِ نظَرٌ.
ورَوَى الإِمامُ أحمدُ في كتابِ (الزهدِ) بإسنادِهِ، أنَّ رَجُلاً دَخَلَ علَى مُعاويَةَ فكَساهُ، فخَرَجَ فمرَّ علَى أبي مسعودٍ الأنصاريِّ ورجلٍ آخَرَ مِن الصَّحابةِ، فقالَ أحدُهما له: خُذْهَا مِنْ حسناتِك، وقالَ الآخَرُ: مِن طَيِّباتِك.
وبإسنادِهِ عن عمرَ قالَ: (لولا أن تَنْقُصَ حَسناتِي لَخَالَطْتُكْم في لِينِ عَيْشِكُم، ولكنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ عيَّرَ قومًا فقالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}

[الأحقاف: 20].
وقالَ الفُضيلُ بنُ عِياضٍ: (إن شِئْتَ استَقِلَّ مِنَ الدُّنيا، وإن شئتَ اسْتَكْثِرْ منها، فإنَّما تَأخُذُ مِن كِيسِك).
ويَشهدُ لهذا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حَرَّمَ علَى عِبادِهِ أشياءَ مِنْ فُضولِ شَهواتِ الدُّنيا وزِينتِها وبَهْجَتِها، حيث لم يَكونوا مُحتاجِينَ إليهِ، وادَّخَرَهُ لهم عندَهُ في الآخِرَةِ، وقد وَقَعَت الإِشارةُ إلَى هذا بقولِهِ عزَّ وجلَّ:{وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ} إلَى قولِهِ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 - 35].

وصَحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ))، و((مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ))، وقالَ: ((لا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلا الدِّيبَاجَ، وَلا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِها؛ فَإِنَّها لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ)).
قالَ وَهبٌ: (إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قالَ لِمُوسَى عليهِ السلامُ: إنِّي لأَذُودُ أَوْلِيَائِي عن نَعيمِ الدُّنيا ورَخائِها كما يَذُودُ الراعي الشفيقُ إبلَهُ عن مَبَارِكِ العُرَّةِ، وما ذلك لهوانِهم عليَّ، ولكن ليَستكملوا نصيبَهم مِن كَرامتِي سالمًا مُوَفَّرًا لم تَكْلَمْهُ الدنيا).
ويَشْهَدُ لهذا ما خَرَّجَهُ التِّرمذيُّ، عن قَتادةَ بنِ النُّعمانِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَمَاهُ عَنِ الدُّنْيَا، كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ))، وَخَرَّجَهُ الحاكمُ ولفظُهُ: ((إِنَّ اللَّهَ لَيَحْمِي عَبْدَهُ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ، كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، تَخَافُونَ عَلَيْهِ)).
وفي (صحيحِ مسلِمٍ) عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ)).
وأمَّا السَّابقُ بالخيراتِ بإذنِ اللَّهِ: فهمُ الَّذينَ فهِمُوا الْمُرادَ مِنَ الدُّنيا، وعَمِلُوا بِمُقْتَضَى ذلك، فعَلِمُوا أنَّ اللَّهَ إنَّما أَسْكَنَ عِبادَهُ في هذه الدَّارِ ليَبْلُوَهُم أيُّهم أَحْسَنُ عَملاً؟ كما قالَ:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[هود: 7].
وقالَ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[الملك: 2].
قالَ بعضُ السلَفِ: (أيُّهم أَزْهَدُ في الدُّنيا وأَرْغَبُ في الآخِرةِ، وجَعَلَ ما في الدُّنيا مِنَ البَهجةِ والنَّضرةِ مِحنَةً، ليَنظرَ مَن يَقِفُ منهم معه ويَركَنُ إليهِ، ومَن ليس كذلك، كما قالَ تعالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[الكهف: 7]، ثم بَيَّنَ انقطاعَهُ ونَفادَهُ فقالَ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف: 8]، فلمَّا فَهِموا أنَّ هذا هو المقصودُ مِنَ الدُّنيا، جَعَلُوا هَمَّهُم التَّزَوُّدَ منها للآخِرةِ التي هي دارُ القَرارِ، واكْتَفَوْا مِنَ الدُّنيا بما يَكتفِي به الْمُسافِرُ في سَفَرِهِ، كما كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)).
ووَصَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ جماعةً مِن الصحابةِ أن يكونَ بلاغُ أحدِهم مِنَ الدُّنيا كزادِ الراكبِ، منهم سَلمانُ، وأبو عُبيدةَ بنُ الْجَرَّاحِ، وأبو ذرٍّ، وعائشةُ، ووصَّى ابنَ عمرَ أن يكونَ في الدُّنيا كأنَّهُ غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ، وأن يَعُدَّ نفسَهُ مِن أهلِ القُبورِ.
وأهلُ هذه الدرجةِ علَى قِسمينِ:
منهم مَن يَقْتَصِرُ مِن الدُّنيا علَى قَدْرِ ما يَسُدُّ الرَّمَقَ فقط، وهو حالُ كثيرٍ منٍ الزُّهَّادِ.
ومنهم مَن يُفْسِحُ لنفسِهِ أحيانًا في تَناوُلِ بعضِ شَهواتِها الْمُبَاحَةِ لتَقْوَى النفسُ بذلك، وتَنشَطَ للعملِ، كما رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ))، خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ والنَّسائيُّ مِن حديثِ أَنَسٍ.
وخرَّج الإِمامُ أحمدُ مِن حديثِ عائشةَ، قالَتْ: كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مِنَ الدُّنيا النِّساءَ وَالطِّيبَ وَالطَّعامَ، فَأَصَابَ مِنَ النِّساءِ وَالطِّيبِ، وَلَمْ يُصِبْ مِنَ الطَّعامِ.

وقالَ وَهْبٌ: (مَكتوبٌ في حِكمةِ آلِ دَاوُدَ عليهِ السلامُ: يَنبغِي للعاقلِ أن لا يَغْفُلَ عن أربعِ ساعاتٍ: ساعةٍ يُحاسِبُ فيها نفسَهُ، وساعةٍ يُناجِي فيها ربَّهُ، وساعةٍ يَلْقَى فيها إخوانَهُ الذين يُخْبِرونَهُ بعُيُوبِهِ، ويَصْدُقُونه عن نفسِهِ، وساعةٍ يُخَلِّي بينَ نفسِهِ وبينَ لذَّاتِها فيما يَحِلُّ ويَجْمُلُ، فإنَّ في هذه السَّاعةِ عَوْنًا علَى تلك الساعاتِ، وفضلَ بُلْغةٍ واستجمامًا للقلوبِ)، يعني: تَرويحًا لها.
ومتَى نَوَى المؤمنُ بتَنَاوُلِ شَهواتِهِ الْمُباحةِ التَّقَوِّيَ علَى الطاعةِ كانتْ شَهواتُهُ له طاعةً يُثابُ عليها، كما قالَ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ: (إنِّي لأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي). يعني: أنَّهُ يَنْوِي بنَوْمِهِ التَّقَوِّيَ علَى القيامِ في آخِرِ اللَّيلِ، فيَحتسِبُ ثوابَ نومهِ كما يَحتسبُ ثوابَ قِيامِهِ.
وكان بعضُهم إذا تَنَاوَلَ شيئًا مِن شَهواتِهِ الْمُباحةِ وَاسَى منها إخوانَهُ، كما رُوِيَ عن ابنِ الْمُبَارَكِ أنه كان إذا اشتهَى شيئًا لم يَأْكُلْهُ حتَّى يَشتهيَهُ بعضُ أصحابِهِ، فيَأْكُلَهُ معهم، وكان إذا اشْتَهَى شيئًا دعا ضيفًا له ليَأكلَ معه.
وكان يُذْكَرُ عن الأوزاعيِّ أنه قالَ: (ثلاثةٌ لا حِسابَ عليهم في مَطْعَمِهم: الْمُتَسحِّرُ، والصائمُ حينَ يُفْطِرُ، وطعامُ الضيف).
وقالَ الحسَنُ: (ليس مِن حُبِّكَ للدنيا طَلَبُك ما يُصْلِحُك فيها، ومِن زُهْدِك فيها تَرْكُ الحاجةِ يَسُدُّها عنك تَرْكُها، ومَن أَحَبَّ الدُّنيا وسَرَّتْهُ ذَهَبَ خوفُ الآخِرَةِ مِن قلبِهِ).
وقالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ: (متاعُ الغُرورِ ما يُلْهيكَ عن طَلَبِ الآخِرَةِ، وما لم يُلْهِكَ فليس بِمَتاعِ الغُرورِ ولكنَّهُ مَتاعُ بلاغٍ إلَى ما هو خيرٌ منه).

وقالَ يَحْيَى بنُ مُعاذٍ الرازيُّ: (كيف لا أُحِبُّ دنيا قُدِّرَ لي فيها قُوتٌ أَكْتَسِبُ به حياةً أُدرِكُ بها طاعةً أنالُ بها الآخِرَة).
وسُئِلَ أبو صَفوانَ الرُّعينيُّ، وكان مِن العارفينَ: ما هي الدُّنيا التي ذَمَّها اللَّهُ في القرآنِ التي يَنبغِي للعاقلِ أن يَجتَنِبَها؟
فقالَ: (كلُّ ما أَصَبْتَ في الدُّنيا تُريدُ به الدُّنيا فهو مذمومٌ، وكلُّ ما أَصَبْتَ فيها تريدُ به الآخِرةَ فليس منها).
وقالَ الحسَنُ: (نِعْمَت الدارُ كانت الدنيا للمؤمنِ، وذلك أنَّهُ عَمِلَ قليلاً وأَخَذَ زَادَهُ منها إلَى الجنَّةِ، وبِئْسَت الدارُ كانتْ للكافرِ والمنافِقِ، وذلك أنَّهُ ضَيَّعَ لَيالِيَهُ وكان زادُهُ منها إلَى النارِ).
وقالَ أَيفعُ بنُ عبدٍ الكَلاعيُّ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، قالَ اللَّهُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
قَالَ: نِعْمَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ: رَحْمَتِي وَرِضْوَانِي وَجَنَّتِي، امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ.
ثُمَّ يَقُولُ لأَِهْلِ النَّارِ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟
قالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
فَيَقُولُ: بِئْسَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ: سَخَطِي وَمَعْصِيَتِي وَنَارِي، امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ)).
وخرَّج الحاكمُ، مِن حديثِ عبدِ الجبَّارِ بنِ وَهْبٍ، أنبأنا سعدُ بنُ طارقٍ، عن أبيهِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((نِعْمَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا لِآخِرَتِهِ حَتَّى يُرْضِيَ رَبَّهُ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ صَدَّتْهُ عَنْ آخِرَتِهِ، وَقَصَّرَتْ بِهِ عَنْ رِضَا رَبِّهِ، وَإِذَا قالَ العَبْدُ: قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيَا، قَالَتِ الدُّنْيَا: قَبَّحَ اللَّهُ أَعْصَانَا لِرَبِّهِ))وقالَ: صحيحُ الإِسنادِ، وَخَرَّجَهُ العُقَيْلِيُّ، وقالَ: عبدُ الْجَبَّارِ بنُ وَهبٍ مجهولٌ، وحديثُهُ غيرُ محفوظٍ، قالَ: وهذا الكلامُ يُرْوَى عن عليٍّ مِن قولِهِ.
وقولُ عليٍّ خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدنيا عنه بإسنادٍ فيهِ نَظَرٌ: أنَّ عليًّا سَمِعَ رجلاً يَسُبُّ الدنيا، فقالَ: (إنها لَدارُ صِدْقٍ لِمَن صَدَقَها، ودارُ عافيَةٍ لِمَن فَهِمَ عنها، ودارُ غِنًى لِمَن تَزوَّد منها، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ، ومَهْبِطُ وَحْيِهِ، ومُصَلَّى مَلائكتِهِ، ومَتْجَرُ أوليائِهِ، اكْتَسَبُوا فيها الرَّحمَةَ، ورَبِحُوا فيها الجنَّةَ، فمَن ذا يَذُمُّ الدُّنيا وقد آذَنَتْ بفِرَاقِها، ونادَتْ بعَيْبِها، ونَعَتْ نفسَها وأهلَها، فمَثَّلَتْ ببلائِها البلاءَ، وشَوَّقتْ بسرُورِها إلَى السُّرورِ، فذمَّها قومٌ عندَ النَّدامةِ، وحَمِدَها آخرونَ، حَدَّثَتْهم فصَدَّقُوا، وذكَّرَتْهُم فذَكَروا، فيا أيُّها الْمُغْتَرُّ بالدُّنيا الْمُغْتَرُّ بغُرورِها، متَى استَلامَتْ إليك الدُّنيا؟ بل متَى غرَّتْكَ؟ أَبِمَضاجِعِ آبائِكَ مِنَ الثَّرَى؟ أم بِمَصارِعِ أُمَّهاتِك مِنَ الْبِلَى؟ كم قد قلَّبْتَ بكَفَّيْكَ، ومَرَّضْتَ بيَدَيْكَ تَطلبُ له الشِّفاءَ، وتَسألُ له الأطِبَّاءَ، فلم تَظْفَرْ بِحَاجَتِكَ، ولم تُسعَفْ بطِلْبَتِكَ، قد مَثَّلَتْ لك الدُّنيا بِمَصرَعِهِ مَصرَعَكَ غدًا، ولا يُغْنِي عنك بكاؤُك، ولا يَنفعُكَ أَحِبَّاؤُكَ).
فبَيَّنَ أميرُ المؤمنينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ الدُّنيا لا تُذَمُّ مُطْلَقًا، وأنها تُحْمَدُ بالنِّسبةِ إلَى مَن تَزَوَّدَ منها الأعمالَ الصالحةَ، وأنَّ فيها مَساجِدَ الأنبياءِ، ومَهْبِطَ الوحيِ، وهي دارُ التِّجارةِ للمؤمنينَ، اكْتَسَبُوا فيها الرَّحمةَ، ورَبِحُوا بها الجَنَّةَ، فهي نِعمَ الدَّارُ لِمَن كانتْ هذه صِفتَهُ.
وأمَّا ما ذُكِرَ مِن أنها تَغُرُّ وتَخْدَعُ، فإنَّها تُنَادِي بِمَواعظِها، وتَنْصَحُ بِعِبَرِها، وتُبْدِي عُيوبَها بما تُرِي أهلَها مِن مَصارِعِ الْهَلْكَى، وتَقَلُّبِ الأحوالِ مِنَ الصِّحَّةِ إلَى السُّقْمِ، ومِنَ الشَّبيبةِ إلَى الْهَرَمِ، ومِن الْغِنَى إلَى الفقرِ، ومِن العِزِّ إلَى الذُّلِّ، ولكنَّ مُحِبَّها قد أَصَمَّهُ وأَعماهُ حبُّها، فهو لا يَسمعُ نداءَها، كما قيلَ:
قدْ نادَتِ الدُّنيا علَى نَفسِها لَوْ ** كَانَ في العَالَمِ مَنْ يَسْمَعْ
كَمْوَاِقٍ بالعمُرِ أَفْنَيتُهُ ** وجَامِعٍ بَدَّدْتُ ما يَجْمَعْ
قالَ يَحْيَى بنُ مُعاذٍ: (لو يَسمعُ الخلائقُ صوتَ النِّياحةِ علَى الدُّنيا في الغيبِ مِن أَلْسِنَةِ الفَناءِ لتَساقَطَت القلوبُ منهم حُزْنًا).
وقالَ بعضُ الْحُكماءِ: (الدنيَا أمثالٌ تَضْرِبُها الأيَّامُ للأنامِ، وعِلْمُ الزَّمانِ لا يَحتاجُ إلَى تَرجُمانٍ، وبِحُبِّ الدُّنيا صُمَّتْ أسماعُ القلوبِ عن الْمَواعظِ، وما أحثَّ السائقَ لو شَعَرَ الْخَلائِقُ).
وأهلُ الزُّهدِ في فُضولِ الدُّنيا أقسامٌ: فمنهم مَن يَحْصُلُ له فيُمْسِكُهُ ويَتقرَّبُ به إلَى اللَّهِ؛ كما كان كثيرٌ مِنَ الصَّحابةِ وغيرِهم.
قالَ أبو سُليمانَ: (كان عُثمانُ وعبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ خَازِنَيْنِ مِن خُزَّانِ اللَّهِ في أَرْضِهِ، يُنْفقانِ في طاعتِهِ، وكانتْ معاملتُهما لِلَّهِ بقلوبِهما.
ومِنهم مَن يُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ، ولا يُمْسِكُهُ، وهؤلاءِ نوعان:

منهم: مَن يُخْرِجُهُ اختيارًا وطَواعيَةً، ومنهم: مَن يُخْرِجُهُ ونفسُهُ تَأْبَى إخراجَهُ ولكن يُجاهدُها علَى ذلك.
وقد اختُلِفَ في أيِّهما أفضلُ.
فقالَ ابنُ السماكِ والْجُنيدُ: الأوَّلُ أفضلُ؛ لتَحَقُّقِ نفسِهِ بِمَقامِ السَّخاءِ والزُّهدِ.
وقالَ ابنُ عَطاءٍ: الثَّاني أَفضلُ؛ لأنَّ له عَمَلاً ومُجاهدةً.
وفي كلامِ الإِمام أحمدَ ما يَدُلُّ عليهِ أيضًا.

ومنهم مَن لم يَحْصُلْ له شيءٌ مِنَ الفُضولِ، وهو زاهدٌ في تحصيلِهِ، إمَّا مع قُدرتِهِ، أو بدونِها، والأوَّلُ أفضلُ مِنْ هذا، ولهذا قالَ كثيرٌ مِنَ السَّلفِ: إنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ كان أزهدَ مِنْ أُوَيْسٍ ونحوِهِ، كذا قالَ أبو سليمانَ وغيرُهُ.
وكان مالكُ بنُ دِينارٍ يقولُ: الناسُ يقولون: مالكٌ زاهدٌ، إنَّما الزَّاهدُ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ.
وقد اخْتَلَفَ العلماءُ: أيُّهما أفضلُ: مَن طَلبَ الدُّنيا مِنَ الحلالِ ليَصِلَ رَحِمَهُ، ويُقَدِّمَ منها لنفسِهِ، أمْ مَن تَرَكَها فلم يَطْلُبْها بالكُلِّيَّةِ؟

فرَجَّحَت طائفةٌ مَن تَرَكَها وجانَبَها، منهم الحسَنُ وغيرُهُ.
ورَجَّحَتْ طائفةٌ مَن طَلَبَها علَى ذلك الوجهِ، منهم النَّخَعِيُّ وغيرُهُ، ورُوِيَ عن الحَسَنِ عنه نحوُهُ.
والزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا بقُلُوبِهِمْ لَهُم مَلاحِظُ ومَشَاهِدُ يُشَاهِدُونَهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ كَثْرَةَ التَّعَبِ بالسَّعْيِ في تَحْصِيلِهَا، فهو يَزْهَدُ فِيهَا قَصْدًا لرَاحَةِ نَفْسِهِ.
قَالَ الحَسَنُ: (الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ القَلْبَ والْبَدَنَ).
ومِنْهُم مَنْ يَخَافُ أَنْ يَنْقُصَ حَظُّهُ مِنَ الآخِرَةِ بأَخْذِ فُضُولِ الدُّنْيَا.
ومِنْهُم مَنْ يَخَافُ مِن طُولِ الحِسَابِ عَلَيْهَا، قَالَ بَعْضُهُم: مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الدُّنْيَا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ طُولَ الوُقُوفِ للحِسَابِ.
ومِنْهُم مَن يَشْهَدُ كَثْرَةَ عُيُوبِ الدُّنْيَا وسُرْعَةَ تَقَلُّبِهَا وفَنَائِهَا، ومَزَاحَمَةَ الأَرَاذِلِ فِي طَلَبِهَا، كَمَا قِيلَ لبَعْضِهِمْ: مَا الَّذِي زَهَّدَكَ فِي الدُّنْيَا؟
قَالَ: (قِلَّةُ وَفَائِهَا، وكَثْرَةُ جَفَائِهَا، وخِسَّةُ شُرَكَائِهَا).
ومِنْهُم مَنْ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى حَقَارَةِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ فيَقْذَرُهَا، كَمَا قَالَ الفُضَيْلُ: (لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا بحَذَافِيرِهَا عُرِضَتْ عَلَيَّ حَلالاً لا أُحَاسَبُ بِهَا فِي الآخِرَةِ، لَكُنْتُ أَتَقَذَّرُهَا كَمَا يَتَقَذَّرُ الرَّجُلُ الجِيفَةَ إِذَا مَرَّ بِهَا أَنْ تُصِيبَ ثَوْبَهُ).
ومِنْهُم مَن كَانَ يَخَافُ أَنْ تَشْغَلَهُ عَنِ الاسْتِعْدَادِ للآخِرَةِ والتَّزَوُّدِ لَهَا.
قَالَ الحَسَنُ: (إِنْ كَانَ أَحَدُهُم لَيَعِيشُ عُمُرَهُ مَجْهُودًا شَدِيدَ الجَهْدِ، والمَالُ الحَلالُ إِلَى جَنْبِهِ، يُقَالُ لَهُ: أَلا تَأْتِي هَذَا فتُصِيبَ مِنْهُ؟ ، فيَقُولُ: (لا واللَّهِ لا أَفْعَلُ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ آتِيَهُ فأُصِيبَ منه، فَيَكُونَ فَسَادَ قَلْبِي وعَمَلِي).
وبُعِثَ إِلَى عُمَرَ بنِ المُنْكَدِرِ بمَالٍ، فبَكَى واشْتَدَّ بُكَاؤُهُ، وقَالَ: (خَشِيتُ أَنْ تَغْلِبَ الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِي فَلا يَكُونَ للآخِرَةِ فِيهِ نَصِيبٌ، فذلك الَّذِي أَبْكَانِي، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فتُصُدِّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ).
وخَوَاصُّ هؤلاء يَخْشَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا عَنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَتْ رَابِعَةُ: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا كُلَّهَا مِن أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا حَلالاً وأَنَا أُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وأنَّهَا شَغَلَتْنِي عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ).
وقالَ أبو سُليمانَ: (الزُّهْدُ تَرْكُ ما يَشْغَلُ عن اللَّهِ).
وقالَ: (كلُّ ما شَغَلَك عن اللَّهِ مِنْ أهلٍ ومالٍ وولدٍ، فهو مَشؤومٌ).
وقالَ: (أهلُ الزُّهدِ في الدنيا علَى طَبقتينِ: منهم مَن يَزهَدُ في الدُّنيا، فلا يُفتَحُ له فيها رُوحُ الآخِرَةِ، ومِنهم مَن إذا زَهِدَ فيها فُتِحَ له فيها رُوحُ الآخِرَةِ، فليس شيءٌ أحبَّ إليهِ مِن البقاءِ ليُطيعَ اللَّهَ).
وقالَ: (ليس الزاهدُ مَن أَلْقَى هُمومَ الدُّنيا واستراحَ منها، إنَّما الزَّاهدُ مَن زَهِدَ في الدُّنيا، وتَعِبَ فيها لِلآخِرَةِ).
فالزُّهدُ في الدُّنيا يُرادُ به تَفريغُ القلبِ مِنَ الاشتغالِ بها ليَتَفرَّغَ لِطَلَبِ اللَّهِ، ومَعرِفَتِهِ، والقُربِ منه، والأُنْسِ به، والشَّوقِ إلَى لِقائِهِ.
وهذه الأمورُ ليستْ مِنَ الدُّنيا كما كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ))، ولم يَجْعَل الصَّلاةَ ممَّا حُبِّبَ إليهِ مِنَ الدُّنيا، كذا في (المسنَدِ)و(النَّسائيِّ)، وأَظُنُّهُ وَقَعَ في غَيْرِهما: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ ثَلاثٌ))، فأَدْخَلَ الصَّلاةَ في الدُّنيا، ويَشهدُ لذلك حديثُ: ((الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالاهُ، أَوْ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا))خَرَّجَهُ ابنُ ماجهْ، والتِّرمذيُّ وحسَّنَهُ مِن حديثِ أبي هُريرةَ مَرفوعًا. ورُوِيَ نحوُهُ مِن غيرِ وجهٍ مُرْسَلاً ومُتَّصِلاً.
وخَرَّجَ الطبرانيُّ مِن حديثِ أبي الدرداءِ مَرفوعًا قالَ: ((الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلا مَا ابتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ)).
وَخَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا مَوقوفًا، وَخَرَّجَهُ أيضًا مِن روايَةِ شهرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن عُبادةَ، أُراهُ رَفَعَهُ، قالَ: ((يُؤْتَى بِالدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: مِيزُوا مِنْهَا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَلْقُوا سَائِرَهَا فِي النَّارِ)).
فالدُّنيا وكلُّ ما فيها مَلعونةٌ، أي: مُبْعَدَةٌ عن اللَّهِ؛ لأنَّها تَشْغَلُ عنه، إلا العلمَ النَّافعَ الدَّالَّ علَى اللَّهِ وعلَى مَعرِفَتِهِ، وطَلَبَ قُرْبِهِ ورِضاهُ، وذِكْرَ اللَّهِ وما وَالاهُ ممَّا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ، فهذا هو المقصودُ مِنَ الدُّنيا، فإنَّ اللَّهَ إنَّما أَمَرَ عِبادَهُ بأن يَتَّقُوهُ ويُطيعوهُ، ولازِمُ ذلك دوامُ ذِكْرِهِ.
كما قالَ ابنُ مسعودٍ: (تَقوَى اللَّهِ حقَّ تَقواهُ أن يُذْكَرَ فلا يُنْسَى).
وإنَّما شَرَعَ اللَّهُ إقامَ الصَّلاةِ لذِكْرِهِ، وكذلك الْحِجَّ والطَّوَافَ.
وأفضلُ أهلِ العباداتِ أكثرُهم ذِكْرًا لِلَّهِ فيها، فهذا كلُّهُ ليس مِنَ الدُّنيا المذمومةِ، وهو المقصودُ مِن إيجادِ الدُّنيا وأهلِها، كما قالَ تعالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وقد ظَنَّ طوائفُ مِنَ الفُقهاءِ والصُّوفيَّةِ أنَّ ما يُوجدُ في الدُّنيا مِنْ هذه العِباداتِ أفضلُ ممَّا يُوجَدُ في الجنَّةِ مِنَ النَّعيمِ، قالُوا: لأنَّ نعيمَ الجنَّةِ حظُّ العبدِ، والعباداتِ في الدُّنيا حقُّ الربِّ، وحقُّ الربِّ أفضلُ مِن حظِّ العبدِ، وهذا غلطٌ، ويُقَوِّي غَلَطَهم قولُ كثيرٍ مِنَ الْمُفسِّرينَ في قولِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89]، قالُوا: الحسنَةُ: لا إلهَ إلا اللَّهُ، وليس شيءٌ خيرًا منها. ولكنَّ الكلامَ علَى التَّقديمِ والتَّأخيرِ، والمرادُ: فله منها خيرٌ، أي: له خيرٌ بسبَبِها ولأَجْلِها.
والصَّوابُ إطلاقُ ما جاءتْ به نُصوصُ الكتابِ والسنَّةِ أنَّ الآخِرةَ خيرٌ مِنَ الأُولَى مُطْلَقًا.
وفي (صحيحِ الحاكمِ) عن الْمُستورِدِ بنِ شَدَّادٍ قالَ: كنَّا عندَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فتَذَاكَرُوا الدُّنيا والآخِرَةَ، فقالَ بعضُهم: إنَّما الدنيا بلاغٌ للآخِرَةِ، وفيها العملُ، وفيها الصَّلاةُ، وفيها الزَّكاةُ.
وقالَتْ طائفةٌ منهم: الآخِرَةُ فيها الجنَّةُ، وقالُوا ما شاءَ اللَّهُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا كَمَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ إِلَى الْيَمِّ، فَأَدْخَلَ أُصْبَعَهُ فِيهِ، فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ الدُّنْيَا))، فهذا نصٌّ بتفضيلِ الآخِرةِ علَى الدُّنيا، وما فيها مِن الأعمالِ.
ووَجْهُ ذلك: أنَّ كمالَ الدُّنيا إنما هو في العِلْمِ والعملِ، والعلمُ مقصودُ الأعمالِ، يَتضاعَفُ في الآخِرةِ بما لا نِسبةَ لِمَا في الدُّنيا إليهِ؛ فإنَّ العِلْمَ أصلُهُ العلمُ باللَّهِ وأسمائِهِ وصِفاتِهِ، وفي الآخِرةِ يَنكشفُ الغِطاءُ، ويَصيرُ الخبَرُ عِيانًا، ويَصيرُ عِلْمُ اليقينِ عينَ اليقينِ، وتَصيرُ المعرِفةُ باللَّهِ رؤيَةً له ومُشاهَدَةً، فأين هذا مما في الدنيا؟
وأمَّا الأعمالُ البَدَنِيَّةُ فإنَّ لها في الدُّنيا مَقصِدَيْنِ:
أحدُهما: اشتغالُ الجوارحِ بالطَّاعةِ، وكَدُّها بالعِبادةِ.

والثاني: اتِّصالُ القلوبِ باللَّهِ وتنويرُها بذِكْرِهِ.
فالأوَّلُ: قد رُفِعَ عن أهلِ الجنَّةِ، ولهذا رُوِيَ أنَّهم إذا هَمُّوا بالسُجودِ للَّهِ عندَ تَجَلِّيهِ لهم يُقالُ لهم: ارْفَعُوا رُءُوسَكُم فإنكم لستُمْ في دارِ مُجاهَدَةٍ.
وأمَّا المقصودُ الثاني: فحاصلٌ لأهلِ الجنَّةِ علَى أكملِ الوُجُوهِ وأَتَمِّها، ولا نِسبةَ لِمَا حَصَلَ لقلوبِهم في الدُّنيا مِن لَطائفِ القُرْبِ والأُنْسِ والاتِّصالِ إلَى ما يُشاهِدُونَهُ في الآخِرةِ عِيانًا، فتَتَنَعَّمُ قلوبُهم وأبصارُهم وأسماعُهم بقُرْبِ اللَّهِ ورُؤيتِهِ، وسَماعِ كلامِهِ، ولا سِيَّما في أوقاتِ الصَّلواتِ في الدُّنيا، كالَجُمَعِ والأعيادِ، والْمُقرَّبون منهم يَحْصُلُ ذلك لهم كلَّ يومِ مَرَّتينِ بُكْرَةً وعَشِيًّا في وقتِ صلاةِ الصُّبحِ وصلاةِ العصرِ، ولهذا لَمَّا ذكرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّ أهلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ ربَّهم حَضَّ عَقِيبَ ذلك علَى المحافَظَةِ علَى صلاةِ العصرِ وصلاةِ الفجرِ؛ لأنَّ وقتَ هاتينِ الصَّلاتينِ وقتٌ لرؤيَةِ خواصِّ أهلِ الجنَّةِ ربَّهم وزيارتِهم له، وكذلك نعيمُ الذكْرِ وتلاوةُ القرآنِ لا يَنقطعُ عنهم أبدًا، فيُلْهَمُون التَّسبيحَ كما يُلْهَمُونَ النَّفَسَ.
قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: (لا إلهَ إلا اللَّهُ لأهلِ الجنَّةِ كالماءِ الباردِ لأهلِ الدُّنيا، فأين لذَّةُ الذِّكرِ للعارفينَ في الدُّنيا مِنْ لذَّتِهم به في الجنَّةِ).
فتَبَيَّنَ بهذا أنَّ قولَهُ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنهَا} [النمل: 89] علَى ظاهِرِهِ، فإنَّ ثَوابَ كلمةِ التَّوحيدِ في الدُّنيا أن يَصِلَ صاحبُها إلَى قولِها في الجَنَّةِ علَى الوجهِ الذي يَخْتَصُّ به أهلُ الجنَّةِ.
وبكلِّ حالٍ: فالذي يَحْصُلُ لأهلِ الجنَّةِ مِنْ تفاصيلِ العِلْمِ باللَّهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، ومِن قُرْبِهِ ومُشاهَدَتِهِ ولذَّةِ ذِكْرِهِ، هو أمرٌ لا يُمْكِنُ التَّعبيرُ عن كُنْهِهِ في الدُّنيا؛ لأنَّ أهلَها لم يُدْرِكُوهُ علَى وَجْهِهِ، بل هو ممَّا لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قلبِ بَشَرٍ، واللَّهُ تعالَى المسؤولُ أن لا يَحْرِمَنا خيرَ ما عندَهُ بشَرِّ ما عندَنا بِمَنِّهِ وكَرَمِهِ ورَحمتِهِ، آمِينَ.
ولْنَرْجِعْ إلَى شَرْحِ حديثِ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ))، فهذا الحديثُ يَدُلُّ علَى أنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الزاهدينَ في الدنيا، قالَ بعضُ السلَفِ: (قالَ الحوارِيُّونَ لعيسَى عليهِ السلامُ: يا رُوحَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا عملاً واحدًا يُحِبُّنا اللَّهُ عزَّ وجلَّ عليهِ، قالَ: أَبْغِضُوا الدُّنيا يُحِبَّكُم اللَّهُ عزَّ وجلَّ).
وقد ذَمَّ اللَّهُ تعالَى مَن يُحِبُّ الدُّنيا ويُؤْثِرُها علَى الآخرةِ، كما قالَ: {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة: 20 - 21]، وقالَ: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]، وقالَ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}[العاديات: 8]، والمرادُ حبُّ المالِ، فإذا ذمَّ مَن أحبَّ الدُّنيا دَلَّ علَى مَدْحِ مَنْ لا يُحِبُّها، بل يَرْفُضُها ويَترُكُها.
وفي (المسنَدِ)و(صحيحِ ابنِ حِبَّانَ)، عن أبي موسَى، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَحَبَّ دُنْيَا أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ، أَضَرَّ بِدُنْياهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى)).

وفي (المسنَدِ)و(سُنَنِ ابنِ ماجهْ)، عن زيدِ بنِ ثابتٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ)). وَخَرَّجَهُ التِّرمذيُّ مِن حديثِ أَنَسٍ مَرفوعًا بمعناهُ.
ومِن كلامِ جُنْدَبِ بنِ عبدِ اللَّهِ الصَّحابيِّ: (حُبُّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خَطيئةٍ). ورُوِيَ مَرفوعًا، ورُويَ عن الحسَنِ مُرْسَلاً.
قالَ الحسَنُ: (مَن أَحَبَّ الدُّنيا وسَرَّتْهُ خَرَجَ حُبُّ الآخِرَةِ مِن قلبِهِ).
وقالَ عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ: (الدُّنيا والآخِرةُ في القلبِ ككِفَّتَيِ الْمِيزانِ؛ بِقَدْرِ ما تَرْجَحُ إحداهُما تَخِفُّ الأُخْرَى).
وقالَ وَهْبٌ: (إنَّما الدُّنيا والآخِرةُ كرجُلٍ له امرأتانِ: إن أَرْضَى إحداهما أَسْخَطَ الأُخرَى).
وبكلِّ حالٍ: فالزُّهدُ في الدُّنيا شِعارُ أنبياءِ اللَّهِ وأوليائِهِ وأحِبَّائِهِ، قالَ عمرُو بنُ العاصِ: (ما أبعدَ هَدْيَكُم مِنْ هَدْيِ نبيِّكمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، إنَّهُ كان أَزْهَدَ النَّاسِ في الدُّنيا، وأنتم أَرْغَبُ الناسِ فيها)، خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ.
وقالَ ابنُ مسعودٍ لأصحابِهِ: (أنتم أكثرُ صَوْمًا وصَلاةً وجِهادًا مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وهُمْ كانوا خَيْرًا منكم، قالُوا: وكيف ذلك؟
قالَ: (كانوا أَزهَدَ منكم في الدُّنيا، وأَرْغَبَ مِنكم في الآخِرَةِ).
وقالَ أبو الدَّرداءِ: (لَئِنْ حَلَفْتُم لِي علَى رجلٍ أنَّهُ أزهدُكم، لأَحْلِفَنَّ لكم أنَّهُ خيرُكم). ويُرْوَى عن الحسَنِ، (قالَ: قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، مَن خَيْرُنا؟)
قالَ: ((أَزْهَدُكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبُكُمْ فِي الآخِرَةِ))والكلامُ في هذا البابِ يَطولُ جِدًّا. وفيما أَشَرْنا إليهِ كفايَةٌ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالَى.
الْوَصِيَّةُ الثانيَةُ: الزُّهْدُ فيما في أَيْدِي الناسِ، وأنَّهُ مُوجِبٌ لِمَحَبَّةِ النَّاسِ.
ورُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ وَصَّى رجلاً، فقالَ: ((ايْأَسْ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ تَكُنْ غَنِيًّا))خَرَّجَهُ الطبرانيُّ وغيرُهُ.
ويُرْوَى مِن حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ مَرفوعًا: ((شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْناؤُهُ عَنِ النَّاسِ))
وقالَ الحسَنُ: (لا تَزالُ كَريمًا علَى الناسِ - أو لا يَزالُ الناسُ يُكْرِمُونَك - ما لم تَعاطَ ما في أيدِيهِم، فإذا فَعَلْتَ ذلك اسْتَخَفُّوا بكَ، وكَرِهوا حديثَك، وأَبْغَضُوكَ).
وقالَ أيُّوبُ السِّختيانيُّ: (لا يَنْبُلُ الرجلُ حتَّى يكونَ فيهِ خَصلتانِ: العفَّةُ عمَّا في أَيْدِي الناسِ، والتجاوُزُ عمَّا يكونُ منهم).
وكان عمرُ يقولُ في خُطبتِهِ علَى الْمِنْبَرِ: (إنَّ الطمعَ فَقْرٌ، وإنَّ اليأسَ غِنًى، وإنَّ الإِنسانَ إذا أَيِسَ مِن الشيءِ اسْتَغْنَى عنه).
ورُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ سَلامٍ لَقِيَ كعبَ الأحبارِ عندَ عمرَ، فقالَ: (يا كعبُ، مَنْ أربابُ العِلْمِ؟
قالَ: الذين يَعْمَلون به.
قالَ: فما يَذْهَبُ بالعِلْمِ مِن قُلوبِ العلماءِ بعدَ إذ حَفِظُوهُ وعَقَلُوهُ؟
قالَ: يُذْهِبُهُ الطمعُ وشَرَهُ النفْسِ، وتَطَلُّبُ الحاجاتِ إلَى الناسِ.
قالَ: صَدَقْتَ.

وقد تَكاثَرَتِ الأحاديثُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بالأمرِ بالاستعفافِ عن مَسألةِ الناسِ والاستغناءِ عنهم، فمَن سألَ النَّاسَ ما بأَيْدِيهِم كَرِهُوهُ وأَبْغَضُوهُ؛ لأنَّ المالَ محبوبٌ لنفوسِ بني آدَمَ، فمَنْ طَلَبَ مِنهم ما يُحِبُّونه كَرِهُوهُ لذلكَ.
وأمَّا مَن كان يَرَى الْمِنَّةَ للسائلِ عليهِ، ويَرَى أنَّهُ لو خَرَجَ له عن مُلكِهِ كُلِّهِ لم يَفِ له ببَذْلِ سؤالِهِ له وذِلَّتِهِ له، أو كان يقولُ لأهلِهِ: ثِيابُكم علَى غيرِكم أحْسَنُ منها عليكم، ودوابُّكم تحتَ غيرِكم أحسَنُ منها تحتَكم، فهذا نادرٌ جِدًّا مِن طِباعِ بني آدَمَ، وقد انْطَوَى بِساطُ ذلك مِن أزمانٍ مُتطاوِلَةٍ.
وأمَّا مَن زَهِدَ فيما في أَيْدِي الناسِ وعَفَّ عنهم، فإنَّهم يُحبُّونه ويُكْرِمونه لذلك، ويَسودُ به عليهم، كما قالَ أعرابيٌّ لأهلِ البصرةِ: مَن سيِّدُ أهلِ هذه القريَةِ؟
قالُوا: الحسَنُ.
قالَ: بم سادَهم؟
قالُوا: احتاجَ الناسُ إلَى عِلْمِهِ، واستَغْنَى هو عن دُنْيَاهُم.
وما أَحْسَنَ قولَ بعضِ السلَفِ في وَصْفِ الدنيا وأهلِها:

وماهيَ إلاَّ جِيفةٌ مـُستحيلةٌ = عليها كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُها
فإن تَجْتَنِبْها كنتَ سِلْمًا لأهلِها = وإن تَجْتَذِبْها نازَعَتْكَ كِلابُها


  #7  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 03:08 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)


القارئ:
(وعن سهل بن سعد الساعدي -رَضِيَ اللهُ عنه- قال: (جاء رجلٌ إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال: يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس)

قال: ((ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبَّك الناس)) حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة).
الشيخ:
هذا الحديث فيه ذكرُ الزُّهد، الزُّهد في الدنيا، والزُّهد فيما في أيدي الناس وهو حديث أصل في بيان كيف يكون المرءُ محبوباً عند الله -جلّ وعلا- وعند الناس وهو أيضاً من أحاديث الوصايا؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاب عن سؤال مضمونه طلبُ الوصيةقال سهلُ بن سعد -رضي الله عنه-: (جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس).
وهذا السؤال يدل على عُلوِّ الهمّة؛ لأنَّ محبّةَ الله -جلّ وعلا- غايةُ المطالب، ومحبةُ الناس للعبد معناها أداءُ حقوقهم.

والدين قائم على أداء حقوق الله وأداء حقوق العباد، فمن أدَّى حقَّ الله -جل وعلا- أحبه الله ومن أدَّى حقوق العباد وعاملهم بالعدل والإحسان فإنه يثوب بمحبة الناس له.
وهذا الذي يجمعُ بين الطرفين هو الصالح من عباد الله؛ لأنَّ الصالح هو الذي يقوم بحقِّ الله وحقِّ العباد، والصّلاحُ هو القيام بحقوق الله وحقوق الناس.
فهذا الحديث فيه ما يحصلُ به محبة الرّب -جل وعلا- للعبد فقال: (دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله) وهذا فيه تنبيه إلى أصل وهو أنَّ همّة المرء ينبغي أن تكون مصروفة لما به يُحِبُّ اللهُ العبدَ، وليس أن تكون مصروفة لمحبته هو لله -جل وعلا- فالعباد كثيرون منهم من يُحبون الله -جل وعلا- بل كُلُّ مُتديِّنٍ بالباطل أو بالحق فإنه ما تدين إلا لمحبة الله -جل وعلا- وليس هذا هو الذي يميزُ الناس، وإنما الذي يميز الناس عند الله -جل وعلا- هو من الذي يُحبّهُ الله -جل وعلا-.
وقد قال بعض أئمة السّلف -رحمهم الله-: (لَيس الشأنُ أن تُحِبَّ ولكن الشأنَ كُل الشأنِ أن تُحَبَّ) ، يُريد أنَّ محبة العبد لربه -جل وعلا- هذه تحصلُ إمّا بموافقة مرادِ الله أو بمخالفةِ مُراد الله، فالنصارى يُحبون الله وعباد اليهود يُحبون الله وعُبّاد المِلل يُحبون الله وعبّاد جهلة المسلمين يُحبون الله ولكن ليس هؤلاء بمحبوبين لله -جل وعلا- إلا إذا كانوا على ما يُحبه الله -جل وعلا- ويرضاه من الأقوال والأعمال، إذاً فحصل من ذلك أنَّ السَّعي في محبة الله للعبد هذا هو المطلب وهذا إنما يكون بالرَّغب في العلم ومعرفة ما يُحبُّهُ الله -جل وعلا- ويرضاهُ، فإذا عرفت بم يُحبُ اللهُ -جل وعلا- العبد حَصَل لكَ السَّعي في محابِّ الله -جل وعلا- وقد قال تعالى: {قُل إن كُنتم تُحبون الله فاتبعوني يُحببكمُ الله ويغفر لكم ذُنوبكم} فصَرفَهم عن الدعوى إلى البرهان.
قال هنا: (دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله) وفي قوله: (دُلني على عمل) ما يُشعرُ أن الصحابي فَقِهَ أنّ محبة الله -جل وعلا- للعبد تكون بالعمل، وهذا خلافُ ما يدعيه بعضهم أنه يُكتفى بما يقوم في القلب وإن كانت الأعمال مخالفة لذلك، بل إنما يحصلُ حب الله -جل وعلا- للعبد بعمل قلبي وعمل بدني من العباد وقد قال -جل وعلا-: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله..} الآية.
فقال: ازهد في الدنيا يُحبَّك الله)
(يُحِبَّ) هذه مجزومة ولكن لأجل التقاء الساكنين صارت مفتوحة ولا تقرأها بالضم؛ لأنّ المعنى يتغير، كما تقول لم يُحبَّ فلان كذا؛ لأن الحرف إذا كان مشدداً فإنه إذا دخل عليه جازم يُصبحُ مفتوحاً لأجل التقاء الساكنين -كما هو معلوم في النحو- (ويحبك) مجزومٌ؛ جواب الطلب أو جواب الأمر.
قال: (ازهد في الدنيا يُحبك الله وازهد فيما عند الناس يُحبَّك الناس) الوصية جمعت الزُّهد.
والزُّهد في اللغة: هو الأمْرُ القليل الذي لا يُؤبَه له.
وكذلك زَهِد في الشيءِ يعني إذا جعلهُ شيئاً قليلاً لا يؤبهُ له، وسعر زهيد إذا كان قليلاً ليس مثلهُ ممَّا يُلتفتُ إليه وهكذا، فالزُّهد في الدنيا ألا تكون الدنيا في القلب.
واختلفت عبارات العُلماء كثيراً في تفسير الزُّهد، ففسَّرهُ طائفة بأنَّ الزُّهد هو: (أن تكون فيما في يدي الله -جل وعلا- وبعطاء الله أوثق ممّا في يدك) يعني أن يصح اليقين بأنَّ ما عند الله -جل وعلا- أوثق ممّا في يَديك، وهذا تفسير رُوي عن بعض الصحابة، ورُوي مرفوعاً -أيضاً- للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لكن الصحيح أنه عن بعض الصحابة، وهو عن أبي صُبيح الخولاني قال فيه: (إن الزهد: أن تكون فيما في يدي الله أوثق مما في يدك) وهذا يعني أن ما عند الله -جل وعلا- في الدنيا مما وعد به عباده وما عنده في الآخرة تكون الثقة به أعظم ممّا تمارسُهُ في الدنيا، وهذا ينشأ عن قلبٍ قد عَظُمَ يقينهُ بربه -جل وعلا-، وعظمَ يقينهُ وتصديقهُ بوعده ووعيده، وعظم توكلهُ على الله -جل وعلا-، وهذا حقيقة الزُّهد.
وأيضاً فُسِّر الزُّهد بأنَّهُ: (الإعراض عن الحرام والاكتفاء بالحلال) وهذه طريقةُ من قال: (إنَّ كلَّ مقتصد من عباد الله زاهد) يعني كل من ابتعد عن الحرام، وأقبل على الحلال واقتصر عليه؛ فإنه زاهد، وهذا عندهم زهْد في المحرم فيصح الوصف بأنه زاهد، إذا زهد في المحرم، وهذا نوع من الزهد، وليس هو الزُّهد في نصوص الشريعة.
ومنهم من فسر الزُّهد بعامة: بإن الزهد: (ترك الدنيا والإقبال على الآخرة) ترك الدنيا بفضول مباحاتها والإقبال على الآخرة والتعبد، فالزّاهد هو الذي ترك الدنيا وأقبل على الآخرة، وهذا أيضاً من التعاريف المعروفة لكنّهُ ليس بصحيح؛ لأنَّ الصحابة -رضوان الله عليهم- هم سادة الزهاد ولم يتركوا الدنيا بل عملوا بما يحب الله -جل وعلا- ويرضاه وأخذوا نصيبهم من الدنيا كما قال -جل وعلا-: {وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} وأيضاً فُسِّر الزهد بتفسيرات كثيرة متعددة نصل إلى آخرها وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو أصح ما قيل في الزُّهد لصحة اجتماعه مع ما جاء في الأحاديث وكذلك ما دلت عليه الآيات وكذلك ما كان عليه حال الصحابة وحال السَّلف الصالح -رِضوانُ الله عليهم- قال: (الزُّهد: هو تركُ ما لا ينفعُ في الآخرة) فمن قام بقلبه الرَّغبُ في الآخرة، وأنهُ لا يعملُ العمل إلا إذا كان نافعاً له في الآخرة، وإذا لم يكن نافعاً له في الآخرة، فإنه يتركُه فهذا هو الزاهد، فعلى هذا يكون الزَّاهد غنيّاً، وعلى هذا يكون الزاهد مشتغلاً ببعض المباحات إذا كان اشتغاله بها ممَّا ينفعه في الآخرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (رَوِّحُوا عن القلوب ساعةً بعد ساعة) فمن استعان بشيء من اللهو المباح على قُوَّتِه في الحق فهذا لا يخرجُ عن وَصْفِ الزَّهادة لأنه لم يفعل ما لا ينفعه في الآخرة، وهذا حاصله أنَّ إقبالهُ على الآخرة فقط؛ فلا يتأثر بمدح الناس ولا يتأثر بذمهم ولا بثنائهم ولا بترك الثناء وإنما هو يعمل ما ينفعه في الآخرة، ويترك الاشتغال بكل المباحات؛ لأن الاشتغال بكل المباحات لا يستقيم مع ترك الرَّغبة في الدنيا.
وكل المباحات لا تنفع في الآخرة، وإنما الذي ينفع بعض المباحات، ولهذا ذهب قائل هذا القول -وهو الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله- إلى أن الاشتغال بفضول المباحات، والإكثار منها لا يجوز، يعني أنه كلما أقبل عليه مباح غشيه دون مُواربة.
واستدل على ذلك بقوله -جل وعلا-: {لا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزقُ رَبِّك خيرٌ وأَبقى} والاستدلال ظاهر، حَيث نُهي -عليه الصلاة والسلام- والنهي لأمته على وجه التبع أن يمدَّ المرءُ عينيه إلى ما مُتع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، ومن مدّ عينيه إلى ما مُتع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يفوته الزهد في الدنيا؛ لأنه لابدَّ وأن يحصل في القلب نوعُ تعلق بالدنيا، وهو خلاف الزهادة.
فتحصل من ذلك أنّ الزهد ليس معناه الفقر وليس معناه ترك المال .

وإنما الزهد حقيقة في القلب بتعلقه بالآخرة، وتجانفه وابتعاده عن الدنيا من حيث التعلُّق فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده وليست في قلبه؛ فيخلص قصده ونيته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعاً له في الآخرة فإذا عامل مثلاً بالبيع والشراء فإنه يستعين به على الحق وعلى ما ينفعه في الآخرة.
وقد قال رجل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: (هل يكون الغني زاهداً؟ قال: نعم؛ إذا لم يَأْسَ على ما فاته من الدنيا ولم يفرح بما كَثُر عنده منها) قد يكون الرجل عنده مال وفير جداً ولكنه إن نقص ما تأثر، وإن زاد ما فرح به زيادته ونقصه واحد لإقباله على الآخرة، وإنما حصل هذا بيده فيستعمله فيما ينفعه في الآخرة، وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه الأمة فظنوا أن الزَّهادة: الإعراض عن المال والإعراض عما يحصلُ للمرء به نفع في الآخرة.
وسُئل الحسن أو غيره فقيل له: (من الزاهد؟ فقال: الزاهد هو الذي إذا رأى غيره ظنَّ أنَّهُ خيرٌ منه)وهذا من عظيم المعاني التي اخترعها الحسن رحمه الله حيث قال: إن الزاهد هو الذي يفضِّل غيره عليه إذا رأى أحداً من المسلمين ظنَّ أنه خير منه عند الله -جل وعلا-، وهذا يعني أنه غير متعلِّق بالدنيا مُزدرٍ نفسه في جنب الله -جل وعلا- غير مُترفعٍ على الخلق وهذا إنما يحصل لمن منّ الله عليه فَعمر قلبه بالرَّغب في الآخرة وبالبعد عن التعلق بالدنيا، والكلام على تعريف الزهد كثير.
إذا تقرر هذا فنرجعُ إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: (ازهد في الدنيا يُحبك الله) والزهد في الدنيا معناهُ أن تكون الدنيا قليلة حقيرة في قلبك فلا ترفعُ بها رأساً يعني أنه إذا تصرف لا يتصرف للدنيا، إذا فعل لا يفعل للدنيا وإنما يكون لله -جل وعلا-، فينقلب حامِدهُ وذامه من الناس سواءً، رضي عنه الناس أو لم يرضوا عنه فإنه يُعامِل ربَّه -جل وعلا- بما أمر الله -جل وعلا- به من التصرفات والأعمال.
(2) فإذاً: ((ازهد في الدنيا يُحبك الله)) يعني ليكن تعلُّقكَ بالآخرة، وأخرج الدنيا من قلبك أو قللها في قلبك؛ لأنَّ: (ازهد) معناه: قلل وإذا كان كذلك حصلت لك محبَّةُ الله، لأنه إذا اجتمع في القلب الرَّغبُ في الآخرة فإنهُ يكون معه الإقبال على الله -جل وعلا- والابتعاد عن دار الغرور.

قال: ((يُحبَّك الله)) وحبُّ الله -جل وعلا- صفة من صفاته التي يثبتها أهل السنة والجماعة له على الوجه الذي يليق بجلال الله -جل وعلا- وعظمته وقد جاء إثباتها في القرآن في آيات كثيرة وكذلك في السنة وهو -جل وعلا- يُحبُّ كما يليقُ بجلاله وعظمته يُحبُّ لا لحاجته لمحبوبه أو لِضعْفِهِ مَعَ محبوبه وإنمَّا يُحبُّ -جل وعلا- لخير يسوقُه إلى من يُحبُّ، فحبه -جل وعلا- كمال لا لحاجة بل هو عن كمال غنى وعن كمال اقتدار، فيحبُّ عبدهُ لتقربِ العبد منه، وحُبُّه -جل وعلا- للعبد من ثمراته أن يكون مع العبد المعية الخاصة.
(3) قال -عليه الصلاة والسلام-: ((وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس))، لا يكن قلبك مُتعلقاً فيما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك فأخرجت ما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له سواء أعظمُ أم قلَّ فإنه بذلك يُحبَّك الناس؛لأنَّ الناس يَروْن فيك أنَّك غيرُ متعلق بما في أيديهم لا تنظرُ إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة ولا نظر طلب وإنما تسألُ الله -جل وعلا- لَهُمُ التخفيف من الحساب وتحمدُ الله -جل وعلا- على ما أعطاك وما أنت فيه، فهذا إخراجُ ما في أيدي الناس من القلب هذه حقيقةُ الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرءُ أحبه الناس لأنَّ الناس جُبلوا على أنهم لا يُحبون من نازعهم ما يختصون به ممّا يملكون أو ما يكون في أيديهم، حتى إذا دخلت بيت أحدٍ ورأيت شيئاً يُعجبُك وظهر عند ذاك أنَّك أُعجبت بكذا وكذا فإنه يكون في نفس ذَاك الآخر بعض الشيء وهذا يُعكِّرُ صَفوَ المحبة، فوطِّن نفسك على أنَّ ما عند الناس في قلبك شيءٌ قليلٌ حقير لاقيمة له مهما بَلَغَ وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلبٍ زاهد متعلق بالآخرة أمّا من ينظرُ إلى الدنيا فإنه يكون متعلقاً بما في أيدي الناس، فإذا نظر إلى مُلْك هذا تعلَّق به وإذا نظر إلى ملك هذا تعلَّق به ولا يزال يسأل أو ينظرُ إليه أو يتمتَّع به حتى لا يكون محبوباً عند الناس.
فإذاً هذه الوصيّة جمعت ما يكون فيه أداء حقِّ الله -جل وعلا- والتخلُّص من حقوق الناس، فحق الله -جل وعلا- عظيم، وطريقهُ أن تزهد فيما ابتلي به الخلقُ من الدنيا؛ أن تُقلِّل الدنيا في قَلبك وكذلك أن تُقلل شأْنَ ما في أيدي الناس فتكون مُعلَّقاً بالآخرة فهذه هي حقيقةُ هذه الوصية العظيمة، ولا شك أننا بحاجة لذلك خاصَّةً في هذا الزمن الذي صار أكثرُ الخلق متعلقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبة للدنيا، وهذا مما يضعف قلب المرء في تعلقه بالآخرة، وتعلقه بما يُحبُّ الله -جل وعلا- ويرضى، فعظموا الآخرة وقللوا من شأن الدنيا فبذلك يكون الزُّهد الحقيقي والإقبال على الآخرة والتجانف عن دار الغرور.


  #8  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 03:23 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post الكشاف التحليلي

حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعاً: (ازهد في الدنيا يحبك الله...)
* تخريج الحديث
* ترجمة راوي الحديث
* موضوع الحديث
* منزلة الحديث
* المعنى الإجمالي للحديث
* شرح قول السائل: (دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس)
* شرح قول بعض السلف: (ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَبَّ)
* وجوب طلب رضوان الله تعالى ومحبته
* ذكر بعض أسباب محبة الله تعالى للعبد:
1 - الإحسان
2 - التوكل
3 - إقامة العدل
4 - الصبر
5 - التقوى
6 - التطهر الحسي والمعنوي
7 - القتال في سبيل الله
8 - التوبة
* حكم طلب محبة الناس
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله)
* بيان معنى (الزهد)
* تعريف (الزهد) لغة
* ذكر بعض تعريفات العلماء للزهد
* تعريف شيخ الإسلام للزهد
* شرح تعريف شيخ الإسلام
* أقوال السلف في تفسير الزهد في الدنيا
* بيان أن حقيقة الزهد في القلب
* ذكر بعض أحوال العارفين في الزهد
* فضائل الزهد
* ذكر بعض النصوص في فضل الزهد
* الزهد في الدنيا شعار الأنبياء والأولياءِ
* عناية السلف بالزهد
* هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزهد
* هدي السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الدين في الزهد
* وجوب لزوم السنة في الزهد
* بيان خطر الزهد المبتدع
* ذكر بعض مقالات دعاة الزهد المبتدع، والرد عليها
* اختلاف مقامات الزاهدين في الزهد
* مراتب الزهد عند الإمام أحمد:
المرتبة الأولى: الزهد في الحرام، وهذا زهد العوام
المرتبة الثانية: الزهد في فضول المباحات، وهذا زهد الخواص
المرتبة الثالثة: الزهد فيما يشغل عن الله تعالى، وهذا زهد العارفين
* هل يسمى من زَهِدَ في الحرام خاصَّةً زاهداً؟
* ذكر بعض تقسيمات السلف للزهد
* دوافع الزهد في الدنيا:
الدافع الأول: قوة الإيمان والمراقبة
الدافع الثاني: معرفة دناءة الدنيا وخسة شركائها
الدافع الثالث: معرفة ما في الإقبال عليها من النصب والتعب والمشاق
الدافع الرابع: معرفة أن نعيمها غرور باطل ولعب ولهو
* ذكر بعض الآثار الواردة في ذم الدنيا
* الذم الوارد للدنيا ليس لذاتها إنما هو لأفعال العباد
* أقسام الناس في الزهد في الدنيا:
القسم الأول: من ينكر البعث بعد الموت
هؤلاء أبعد الناس عن الزهد
القسم الثاني: من يؤمن بالله واليوم الآخر، وهم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ظالم لنفسه
القسم الثاني: مقتصد
القسم الثالث: سابق بالخيرات بإذن الله، وهم على قسمين:
القسم الأول: من يقتصر من الدنيا على ما يسد رمقه
القسم الثاني: من يجم نفسه ببعض الشهوات المباحة ليتقوى على العبادة
* أقسام الزهاد في فضول الدنيا:
القسم الأول: من يتهيأ له متاع الدنيا فيمسكه ويتقرب به إلى الله تعالى
القسم الثاني: من يتهيأ له متاع الدنيا فيخرجه من يده ولا يمسكه، وهؤلاء نوعان:
النوع الأول: من يخرجه من يده بطيب نفس اختيارًا وطواعية
النوع الثاني: من يجاهد نفسه على إخراجه حتى يخرجه
* مسألة: أيهما أفضل: طلب الدنيا للتقوي بها على الطاعة أو الإعراض عنها؟
* بيان خطأ ظن بعض الفقهاء والصوفية أن نعيم العبادات في الدنيا أفضل من نعيم الجنة
* مقاصد العبادات البدنية:
المقصد الأول: اشتغال الجوارح بطاعة الله تعالى
المقصد الثاني: اتصال القلوب بالله تعالى
* مسألة: هل يكون الغني زاهداً؟
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبك الله)
* إعراب قوله: (يحبك)
* إثبات صفة (المحبة) لله تعالى
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس)
* ذكر بعض الأحاديث والآثار في الأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم
* فائدة: من سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم
* فائدة: الصالح هو من يجمع بين أداء حقوق الله تعالى وأداء حقوق خلقه
* اشتمال الحديث على وصيتين:
الوصية الأولى: الزهد في الدنيا
الوصية الثانية: الزهد فيما في أيدي الناس
* من فوائد حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه:
- الحِرْصُ على العلمِ النافع
- سؤالُ أهلِ العلمِ
- إثبات صفة المحبة لله تعالى
- بَذْلُ الجهدِ لِنَيْلِ محبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى
- الزهد في الدنيا جماع أسباب محبة الله تعالى للعبد
- ذم سؤال الناس
- أن الحب والبغض له أسباب
- مشروعية طلب محبة الناس
- الزهد فيما في أيدي الناس من الزهد في الدنيا لقوله: (دلني على عمل)
- تقسيم المعلم للمسألة الواحدة لغرض التعليم


  #9  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 03:26 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post العناصر

حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعاً: (ازهد في الدنيا يحبك الله...)
تخريج الحديث
ترجمة راوي الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قول السائل: (دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس)
شرح قول بعض السلف: (ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَبَّ)
وجوب طلب رضوان الله تعالى ومحبته
ذكر بعض أسباب محبة الله تعالى للعبد
حكم طلب محبة الناس
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله)
بيان معنى (الزهد)
تعريف شيخ الإسلام للزهد
أقوال السلف في تفسير الزهد في الدنيا
بيان أن حقيقة الزهد في القلب
ذكر بعض أحوال العارفين في الزهد
فضائل الزهد
عناية السلف بالزهد
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزهد
هدي السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الدين في الزهد
وجوب لزوم السنة في الزهد
بيان خطر الزهد المبتدع
ذكر بعض مقالات دعاة الزهد المبتدع، والرد عليها
اختلاف مقامات الزاهدين في الزهد
مراتب الزهد عند الإمام أحمد
هل يسمى من زَهِدَ في الحرام خاصَّةً زاهداً؟
ذكر بعض تقسيمات السلف للزهد
دوافع الزهد في الدنيا
ذكر بعض الآثار الواردة في ذم الدنيا
أقسام الناس في الزهد في الدنيا
أقسام الزهاد في فضول الدنيا
مسألة: أيهما أفضل: طلب الدنيا للتقوي بها على الطاعة أو الإعراض عنها؟
بيان خطأ ظن بعض الفقهاء والصوفية أن نعيم العبادات في الدنيا أفضل من نعيم الجنة
مقاصد العبادات البدنية
مسألة: هل يكون الغني زاهداً؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبك الله)
إعراب قوله: (يحبك)
إثبات صفة (المحبة) لله تعالى
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس)
ذكر بعض الأحاديث والآثار في الأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم
فائدة: من سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم
فائدة: الصالح هو من يجمع بين أداء حقوق الله تعالى وأداء حقوق خلقه
اشتمال الحديث على وصيتين:
الوصية الأولى: الزهد في الدنيا
الوصية الثانية: الزهد فيما في أيدي الناس
من فوائد حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه


  #10  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 03:28 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post الأسئلة

الأسئلة
س1: اذكر ترجمة موجزة لراوي الحديث؟
س2: اشرح باختصار عبارة بعض السلف: (ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَبَّ)؟
س3: اذكر بعض أسباب محبة الله تعالى للعبد؟
س4: بين معنى الزهد لغة وشرعاً؟
س5: اذكر تعريف شيخ الإسلام رحمه الله للزهد؟
س6: اذكر بعض النصوص الواردة في فضائل الزهد؟
س7: تحدث باختصار عن زهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
س8: ما حكم الزهد الحادث في الأزمان المتأخرة؟
س9: بين مراتب الزهد كما ذكرها الإمام أحمد رحمه الله؟
س10: اذكر بعض الأسباب الباعثة على الزهد؟
س11: أيهما أفضل طلب الدنيا للتقوي بها على الطاعة أو الإعراض عنها؟
س12: هل يكون الغني زاهداً؟
س13: استدل من الحديث على إثبات صفة المحبة لله تعالى؟
س14: اذكر بعض النصوص الواردة في الأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم؟
س15: عدد بعض فوائد هذا الحديث؟


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ح31, حديث

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:17 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir