(1) هذا الحديثُ خَرَّجَاهُ مِنْ روايَةِ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ عنْ أبي هُريرةَ.
- وخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ روايَةِ أبي صالحٍ عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الإِنْسَانُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ عَظْمًا، أَوْ سِتَّةٌ وَثَلاثُونَ سُلامَى، عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ)).
قالُوا: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟
قالَ:((يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ)).
قالُوا: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قالَ:((يَرْفَعُ عَظْمًا عَنِ الطَّرِيقِ)).
قالُوا: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قالَ:((فَلْيُعِنْ ضَعِيفًا)).
قالُوا: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ؟
قالَ:((فَلْيَدَعِ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ)).
- وخَرَّجَ مُسلمٌ مِنْ حديثِ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((خُلِقَ ابْنُ آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَهلَّلَ اللَّهَ، وَسَبَّحَ اللَّهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَزَلَ شَوْكَةً، أَوْ عَزَلَ عَظْمًا، أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاثِ مِائَةِ السُلامَى أَمْسَى مِنْ يَوْمِهِ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ)).
_ وخَرَّجَ مُسلمٌ أيضًا مِنْ روايَةِ أبي الأسودِ الدِّيلِيِّ، عنْ أبي ذَرٍّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى)).
_ وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ، وأبو دَاوُدَ مِنْ حديثِ بُرَيْدَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((فِي الإِنْسَانِ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلاً، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ))
قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟
قالَ: ((النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا، وَالشَّيْءُ تُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ)).
_ وفي (الصحيحيْنِ): عنْ أبي موسى، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ)).
قالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟
قالَ:((فَيَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ)).
قالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟
قالَ:((يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ)).
قالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟
قالَ: ((فَلْيَأْمُرْ بِالْخَيْرِ، أَوْ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ))
قالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟
قالَ:((فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)).
_ وخَرَّجَ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((عَلَى كُلِّ مَنْسِمٍ مِنِ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ)).
فقالَ رجلٌ مِن القومِ: وَمَنْ يُطِيقُ هَذَا؟
قالَ:((أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الضَّعِيفِ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ)). وخَرَّجَهُ البَزَّارُ وغَيْرُهُ.
_ وفي روايَةٍ: ((عَلَى كُلِّ مِيسَمٍ مِنَ الإِنْسَانِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ صَلاةٌ)).
فقالَ رجُلٌ: هَذَا مِنْ أَشَدِّ مَا أَتَيْتَنَا بِهِ.
فَقالَ: ((إِنَّ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ صَلاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَحَمْلَكَ عَنِ الضَّعِيفِ صَلاةٌ، وَإِنْحَاءَكَ الْقَذَرَ عَنِ الطَّرِيقِ صَلاةٌ، وَكُلَّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاةِ صَلاةٌ)).
_ وفي روايَةِ الْبَزَّارِ: ((وَإِمَاطَةَ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ))، أوْ قالَ: ((صَلاةٌ)).
_ وقالَ بعضُهم: (يُريدُ بالْمِيسَمِ كُلَّ عُضْوٍ على حِدَةٍ، مَأْخُوذٌ مِن الوَسْمِ، وهوَ العَلامةُ؛ إذْ ما مِنْ عَظْمٍ ولا عِرْقٍ ولا عَصَبٍ إلا وعليهِ أثَرُ صُنْعِ اللَّهِ، فيَجِبُ على العبدِ الشُّكْرُ على ذلكَ للَّهِ، والحمدُ لهُ على خَلْقِهِ سَوِيًّا صحيحًا، وهذا هوَ المرادُ بقولِهِ: ((عَلَيْهِ صَلاةٌ كُلَّ يَوْمٍ))؛ لأنَّ الصلاةَ تَحْتَوِي على الحمْدِ والشكْرِ والثناءِ).
_ وخَرَّجَ الطبرانيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عن ابنِ عبَّاسٍ، رَفَعَ الحديثَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((عَلَى كُلِّ سُلامَى، أَوْ عَلَى كُلِّ عُضْوٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى)).
_ ويُرْوَى مِنْ حديثِ أبي الدَّرْدَاءِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ)).
قيلَ: فَإِنْ كَانَ لا يَجِدُ شَيْئًا؟
قالَ: ((أَلَيْسَ بَصِيرًا شَهْمًا فَصِيحًا صَحِيحًا؟))
قالَ: بلى،.
قالَ: ((يُعْطِي مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَإِنَّ بَصَرَكَ لِلْمَنْقُوصِ بَصَرُهُ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ سَمْعَكَ لِلْمَنْقُوصِ سَمْعُهُ صَدَقَةٌ)).
_ وقدْ ذَكَرْنا في شَرْحِ الحديثِ الماضي-حديثَ أَبِي ذَرٍّ- الذي خَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ)، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إِلا عَلَيْهَا صَدَقَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ)).
قيلَ: يا رسولَ اللَّهُ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟
قالَ: ((إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الأَذْى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ، وَتَهْدِي الأَعْمَى، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ)).
فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ)).
_ قالَ أبو عُبَيْدٍ: (السُّلامَى في الأَصْلِ عَظْمٌ يكونُ في فِرْسِنِ البعيرِ قالَ: فكأنَّ معنى الحديثِ: على كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظامِ ابنِ آدَمَ صَدَقَةٌ) يُشيرُ أبو عُبَيْدٍ إلى أنَّ السُّلامَى اسمٌ لبَعْضِ العِظامِ الصِّغارِ التي في الإِبِلِ، ثمَّ عَبَّرَ بها عن العِظامِ في الجُمْلَةِ بالنِّسْبَةِ إلى الآدَمِيِّ وغيرِهِ.
فمعنى الحديثِ عندَهُ: (على كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظامِ ابنِ آدَمَ صَدَقَةٌ).
_ وقالَ غيرُهُ: (السُّلامَى: عَظْمٌ في طَرَفِ اليدِ والرِّجْلِ، وكَنَّى بذلكَ عنْ جَميعِ عِظامِ الْجَسَدِ، والسُّلامَى جَمْعٌ، وقيلَ: هُوَ مُفْرَد)ٌ.
_ وقدْ ذَكَرَ عُلماءُ الطِّبِّ أنَّ جميعَ عِظامِ البَدَنِ مِائَتَانِ وثَمَانِيَةٌ وأربعونَ عَظْمًا، سِوَى السِّمْسِمَانِيَّات.ِ
_ وبعضُهم يقولُ: (هيَ ثَلاثُ مِائَةٍ وسِتُّونَ عَظْمًا، يَظْهَرُ منها للحِسِّ مِائَتَانِ وخَمسةٌ وسِتُّونَ عَظْمًا، والباقيَةُ صِغارٌ لا تَظْهَرُ تُسَمَّى السِّمْسِمَانِيَّةَ).
وهذهِ الأحاديثُ تُصَدِّقُ هذا القولَ.
ولعلَّ السُّلامَى عَبَّرَ بها عنْ هذهِ العِظامِ الصِّغارِ، كما أنَّها في الأَصْلِ اسمٌ لأصْغَرِ ما في البعيرِ مِن العِظامِ.
_ وروايَةُ الْبَزَّارِ لحديثِ أبي هُريرةَ يَشْهَدُ لهذا؛ حيثُ قالَ فيها: ((أَوْ سِتَّةٌ وَثَلاثُونَ سُلامَى)).
_ وقدْ خَرَّجَهُ غيرُ الْبَزَّارِ، وقالَ فيهِ: ((إِنَّ فِي ابْنِ آدَمَ سِتَّمِائَةٍ وَسِتِّينَ عَظْمًا)). وهذهِ الروايَةُ غَلَطٌ.
_ وفي حديثِ عائشةَ وبُرَيْدَةَ ذَكَرَ ثَلاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ مَفْصِلاً.
ومعنى الحديثِ: أنَّ تَرْكِيبَ هذهِ العِظامِ وسَلامَتَها مِنْ أَعْظَم نِعَمِ اللَّهِ على عَبْدِهِ، فَيَحْتَاجُ كُلُّ عَظْمٍ منها إلى صَدَقَةٍ يَتَصَدَّقُ ابنُ آدَمَ عنهُ؛ لِيَكُونَ ذلكَ شُكْرًا لهذهِ النِّعمةِ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8].
وقالَ عزَّ وجلَّ: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [المُلْك: 23].
وقالَ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وقالَ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8 - 9].
_ قالَ مُجَاهِدٌ: (هذهِ نِعَمٌ مِن اللَّهِ مُتظاهِرَةٌ يُقَرِّرُكَ بها كَيْمَا تَشْكُرَ).
_ وقَرَأَ الفُضيلُ ليلةً هذهِ الآيَةَ فبَكَى، فسُئِلَ عنْ بُكَائِهِ، فقالَ: (هلْ بِتَّ ليلةً شاكرًا للَّهِ أنْ جَعَلَ لكَ عَينَيْنِ تُبْصِرُ بهما؟ هلْ بِتَّ ليلةً شاكرًا للَّهِ أنْ جَعَلَ لكَ لسانًا تَنْطِقُ بهِ؟)وجَعَلَ يُعَدِّدُ مِنْ هذا الضَّرْبِ.
_ وروى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادِهِ، عنْ سَلمانَ الفارسيِّ قالَ: (إنَّ رجُلاً بُسِطَ لهُ مِن الدُّنيا، فَانْتُزِعَ ما في يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُثْنِي علَيْهِ، حتَّى لمْ يَكُنْ لهُ فِراشٌ إلا بُورِيٌّ، فجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عليهِ، وبُسِطَ لِلآخَرِ مِن الدُّنيا، فقالَ لصاحبِ البُورِيِّ: أَرَأَيْتَكَ أنتَ على ما تَحْمَدُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ قالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى ما لَوْ أُعْطِيتُ بهِ ما أُعْطِيَ الْخَلْقُ لمْ أُعْطِهِمْ إيَّاهُ، قالَ: وما ذَاكَ؟ قالَ: أَرَأَيْتَ بَصَرَكَ؟ أَرَأَيْتَ لسانَكَ؟ أَرَأَيْتَ يَدَيْكَ؟ أَرَأَيْتَ رِجْلَيْكَ؟)
وبإسنادِهِ، عنْ أبي الدرداءِ أنَّهُ كانَ يقولُ: (الصِّحَّةُ غِنَى الْجَسَدِ).
_ وعنْ يُونُسَ بنِ عُبَيْدٍ، أنَّ رجلاً شَكَا إليهِ ضِيقَ حالِهِ، فقالَ لهُ يُونسُ: (أَيَسُرُّكَ أنَّ لكَ ببَصَرِكَ هذا الذي تُبْصِرُ بهِ مِائَةَ ألْفِ دِرْهَمٍ؟
قالَ الرجُلُ: لا.
قالَ: فَبِيَدِكَ مِائَةُ أَلْفِ دِرهمٍ؟
قالَ: لا.
قالَ: فَبِرِجْلَيْكَ؟
قالَ: لا.
قالَ: فَذَكَّرَهُ نِعَمَ اللَّهِ عليهِ.
فقالَ يُونسُ: (أَرَى عِنْدَكَ مِئِينَ أُلُوفٍ، وأنتَ تَشْكُو الحاجةَ).
_ وعنْ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ قالَ: (مكتوبٌ في حِكْمَةِ آلِ داوُدَ: العافيَةُ الْمُلْكُ الْخَفِيُّ).
_ وعنْ بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ قالَ: (يا ابْنَ آدَمَ، إنْ أَرَدْتَ أنْ تَعْلَمَ قَدْرَ ما أَنْعَمَ اللَّهُ علَيْكَ فَغَمِّضْ عَيْنَيْكَ).
_ وفي بعضِ الآثارِ: (كَمْ مِنْ نِعمَةٍ للَّهِ في عِرْقٍ سَاكِن)ٍ.
_ وفي (صحيحِ البخاريِّ): عن ابنِ عبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)).
فهذهِ النِّعَمُ مِمَّا يُسْأَلُ الإِنسانُ عنْ شُكْرِها يومَ القِيامةِ ويُطالَبُ بهِ، كما قالَ تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التَّكَاثُر: 8].
_ وخَرَّجَ التِّرمذيُّوابنُ حِبَّانَ مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَلَمْ نَصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنَرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟!)).
_ وقالَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (النعيمُ الأَمْنُ والصِّحَّةُ). ورُوِيَ عنهُ مَرفوعًا.
_ وقالَ عَلِيُّ بنُ أبي طَلْحَةَ: عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِهِ: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر: 8]، قالَ: (النَّعِيمُ: صِحَّةُ الأبدانِ والأسماعِ والأبصارِ، يَسْأَلُ اللَّهُ العِبادَ: فيما استَعْمَلُوها؟ وهوَ أَعلمُ بذلكَ منهم، وهوَ قولُهُ تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}[الإِسراء: 36]).
_ وخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ روايَةِ أيُّوبَ بنِ عُتْبَةَ -وفيهِ ضَعْفٌ- عنْ عَطاءٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَانَ لَهُ بِهَا عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنْ قالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، كُتِبَ لَهُ بِهَا مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ)).
فَقالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَهْلِكُ بَعدَ هَذَا يَا رَسولَ اللَّهِ؟
قالَ:((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَمَلِ، لَوْ وُضِعَ عَلَى جَبَلٍ لأََثْقَلَهُ، فَتَقُومُ النِّعْمَةُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ فَتَكَادُ أَنْ تَسْتَنْفِدَ ذَلِكَ كُلَّهُ، إِلا أَنْ يَتَطَاوَلَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ)).
_ وروى ابنُ أبي الدُّنْيا بإسنادٍ فيهِ ضَعْفٌ أيضًا، عنْ أَنَسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يُؤْتَى بِالنِّعَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ: خُذِي حَقَّكِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَمَا تَتْرُكُ لَهُ حَسَنَةً إِلا ذَهَبَتْ بِهَا)). وبإسنادِهِ، عنْ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ قالَ:عَبَدَ اللَّهَ عابدٌ خَمسينَ عامًا، فأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إلَيْهِ: إِنِّي قدْ غَفَرْتُ لكَ، قالَ: يا رَبِّ، ومَا تَغْفِرُ لي ولمْ أُذْنِبْ؟ فأَذِنَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ لِعِرْقٍ في عُنُقِهِ فَضَرَبَ عليهِ، فلمْ يَنَمْ، ولمْ يُصَلِّ، ثمَّ سَكَنَ وَقَامَ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ، فشَكَا إليهِ ما لَقِيَ مِنْ ضَرَبَانِ العِرْقِ، فقالَ الْمَلَكُ: إِنَّ رَبَّكَ عزَّ وجلَّ يقُولُ: عِبادَتُكَ خَمسينَ سنةً تَعْدِلُ سُكُونَ ذا العِرْقِ.
وخَرَّجَ الحاكمُ هذا المعنى مَرفوعًا مِنْ روايَةِ سُليمانَ بنِ هَرِمٍ القُرَشِيِّ، عنْ مُحَمَّدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ، عنْ جابِرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَابِدًا عَبَدَ اللَّهَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، قالَ: فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إِذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا، وَنَجِدُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: أَدْخِلُوا عَبْدِيَ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: يَا رَبِّ، بِعَمَلِي، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ، فَيَجِدُونَ نِعْمَةَ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَقِيَتْ نِعَمُ الْجَسَدِ لَهُ، فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِيَ النَّارَ. فَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ، فَيُنَادِي رَبَّهُ: بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، بِرَحْمَتِكَ. فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ. قالَ جِبْرِيلُ: إِنَّمَا الأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ)).وسُليمانُ بنُ هَرِمٍ، قالَ العُقَيْلِيُّ: هوَ مجهولٌ، وحديثُهُ غيرُ مَحفوظٍ.
وروى الخَرَائِطِيُّ بإسنادٍ فيهِ نَظَرٌ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو مَرفوعًا: ((يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: انْظُرُوا فِي عَمَلِ عَبْدِي وَنِعْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُونَ: وَلا بِقَدْرِ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نِعَمِكَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا فِي عَمَلِهِ سَيِّئِهِ وَصَالِحِهِ، فَيَنْظُرُونَ فَيَجِدُونَ كَفَافًا، فَيَقُولُ: عَبْدِي، قَدْ قَبِلْتُ حَسَنَاتِكَ، وَغَفَرْتُ لَكَ سَيِّئَاتِكَ، وَقَدْ وَهَبْتُ لَكَ نِعْمَتِي فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ)).
والمقصودُ أَنَّ اللَّهَ تعالى أَنْعَمَ على عِبادِهِ بما لا يُحْصُونَهُ، كما قالَ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}[إبراهيم: 34]، وطَلَبَ مِنهم الشُّكْرَ، ورَضِيَ بهِ منهم. قالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ على العِبادِ على قَدْرِهِ، وكَلَّفَهم الشكْرَ على قَدْرِهم، حتَّى رَضِيَ منهم مِن الشُّكرِ بالاعترافِ بِقُلُوبِهم بنِعَمِهِ، وبالحمدِ بأَلْسِنَتِهم عليها، كما خَرَّجَهُ أبو داوُدَ والنَّسائيُّ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ غَنَّامٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِيَ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ)). وفي روايَةٍ للنَّسائيِّ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ.
وخَرَّجَ الحاكِمُ مِنْ حديثِ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرَهَا قَبْلَ أَنْ يَشْكُرَهَا، وَمَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَنَدِمَ عَلَيْهِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَغْفِرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ)).
قالَ أبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: قالَ موسى عليهِ السلامُ يومَ الطُّورِ: يا رَبِّ، إنْ أنا صَلَّيْتُ فَمِنْ قِبَلِكَ، وإنْ أنا تَصَدَّقْتُ فَمِنْ قِبَلِكَ، وإنْ أنا بَلَّغْتُ رِسالَتَكَ فَمِنْ قِبَلِكَ، فَكَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ قالَ: الآنَ شَكَرْتَنِي.
وعن الْحَسَنِ قالَ: قالَ موسى عليهِ السَّلامُ: يا ربِّ، كيفَ يَستطيعُ آدمُ أنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ ما صَنَعْتَ إليهِ؟ خَلَقْتَهُ بيَدِكَ، ونَفَخْتَ فيهِ مِنْ رُوحِكَ، وأَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ، وأَمَرْتَ الملائكةَ فسَجَدُوا لهُ، فقالَ: يا مُوسَى، عَلِمَ أَنَّ ذلكَ مِنِّي، فحَمِدَنِي عليهِ، فكانَ ذلكَ شُكْرًا لِمَا صَنَعْتُهُ.
_ عنْ أبي الْجَلْدِ قَالَ: قَرَأْتُ في مسألةِ دَاوُدَ أنَّهُ قالَ: (أيْ رَبِّ، كيفَ لي أنْ أشْكُرَكَ وأنا لا أَصِلُ إلى شُكْرِكَ إلا بنِعْمَتِكَ؟
قالَ: فَأَتَاهُ الوحيُ: (أنْ يا دَاوُدُ، ألَيْسَ تَعْلَمُ أنَّ الذي بكَ مِن النِّعَمِ مِنِّي؟
قالَ: بلى يا ربِّ.
قالَ: فَإِنِّي أَرْضَى بذلكَ مِنْكَ شُكْرًا).
_ قالَ: (وقَرأتُ في مَسألةِ موسى: يا ربِّ، كيفَ لي أنْ أَشْكُرَكَ وأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَها عِنْدِي مِنْ نِعَمِكَ لا يُجَازِي بها عَمَلِي كُلُّهُ؟
قالَ: فَأَتَاهُ الوحيُ: أنْ يا موسى، الآنَ شَكَرْتَنِي.
_ وقالَ بكرُ بنُ عبدِ اللَّهِ: ما قالَ عَبْدٌ قَطُّ: الحمدُ للَّهِ مَرَّةً، إلا وَجَبَتْ عليهِ نِعمةٌ بقَوْلِهِ: الحمدُ للَّهِ، فما جَزاءُ تلكَ النِّعمةِ؟ جَزَاؤُها أنْ يقولَ: الحمدُ للَّهِ، فجَاءَتْ نِعمةٌ أُخْرَى، فلا تَنْفَدُ نَعْمَاءُ اللَّهِ.
_ وقدْ روى ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أَنَسٍ مَرفوعًا: ((مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إِلا كَانَ الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ)).
ورُوِّينَا نحوَهُ مِنْ حديثِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عنْ أسماءَ بنتِ يَزِيدَ مَرفوعًا أيضًا.
ورُوِيَ هذا عن الْحَسَنِ البَصْرِيِّ مِنْ قولِهِ.
وكَتَبَ بعضُ عُمَّالِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ إليهِ: إنِّي بأَرْضٍ قدْ كَثُرَتْ فيها النِّعَمُ، حتَّى لقَدْ أَشْفَقْتُ على أهلِها مِنْ ضَعْفِ الشُّكرِ. فكَتَبَ إليهِ عُمَرُ: (إنِّي قدْ كُنْتُ أراكَ أَعْلَمَ باللَّهِ مِمَّا أَنْتَ، إنَّ اللَّهَ لمْ يُنْعِمْ على عَبْدٍ نِعمةً، فحَمِدَ اللَّهَ علَيْها، إلا كانَ حَمْدُهُ أَفضلَ مِنْ نِعَمِهِ، لوْ كُنْتَ لا تَعرِفُ ذلكَ إلا في كتابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ، قالَ اللَّهُ تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}[النمل: 15]،
وقالَ اللَّهُ: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} إلى قولِهِ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ}[الزُّمَر: 73]، وأيُّ نِعمةٍ أَفْضَلُ مِنْ دُخولِ الْجَنَّةِ؟)
وقدْ ذَكَرَ ابنُ أبي الدُّنيا في (كتابِ الشُّكْرِ)، عنْ بعضِ العُلماءِ أنَّهُ صَوَّبَ هذا القولَ، أَعْنِي قَوْلَ مَنْ قالَ: إِنَّ الحمدَ أَفْضَلُ مِن النِّعَمِ. وعن ابنِ عُيَيْنَةَ أنَّهُ خَطَّأَ قَائِلَهُ، قالَ: ولا يَكُونُ فِعْلُ العبدِ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ.
ولكنَّ الصوابَ قولُ مَنْ صَوَّبَهُ؛ فإنَّ الْمُرادَ بالنِّعَمِ: النِّعَمُ الدُّنيويَّةُ، كالعافيَةِ والرِّزقِ والصِّحَّةِ، ودَفْعِ المكروهِ، ونحوِ ذلكَ، والحمدُ هوَ مِن النِّعَمِ الدِّينيَّةِ، وكِلاهُما نِعمةٌ مِن اللَّهِ، لَكِنَّ نِعمةَ اللَّهِ على عَبْدِهِ بِهِدَايَتِهِ لِشُكْرِ نِعَمِهِ بالحمدِ عليها أَفْضَلُ مِنْ نِعَمِهِ الدُّنيويَّةِ على عَبْدِهِ؛ فإنَّ النِّعَمَ الدُّنيويَّةَ إنْ لمْ يَقْتَرِنْ بها الشُّكْرُ كانتْ بَلِيَّةً، كما قالَ أبو حازمٍ: (كلُّ نِعمةٍ لا تُقَرِّبُ مِن اللَّهِ فهيَ بَلِيَّةٌ. فإذا وَفَّقَ اللَّهُ عَبْدَهُ للشُّكْرِ على نِعَمِهِ الدُّنيويَّةِ بالحمدِ أوْ غيرِهِ مِنْ أنواعِ الشكْرِ، كانتْ هذهِ النِّعمةُ خَيرًا مِنْ تلكَ النِّعَمِ وأَحَبَّ إلى اللَّهِ عزَّ وجَلَّ منها؛ فإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمَحَامِدَ، ويَرْضى عنْ عَبْدِهِ أنْ يَأْكُلَ الأُكْلَةَ فيَحْمَدَهُ عليها، ويَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فيَحْمَدَهُ عليها، والثناءُ بالنِّعَمِ والحمدُ عليها وشُكرُها عندَ أهلِ الْجُودِ والكَرَمِ أَحَبُّ إليهم مِنْ أموالِهم، فَهُم يَبْذُلُونَها طَلَبًا للثناءِ، واللَّهُ عزَّ وجلَّ أَكْرَمُ الأَكرمينَ، وأَجْوَدُ الأَجودينَ، فهوَ يَبْذُلُ نِعَمَهُ لعبادِهِ، ويَطْلُبُ منهم الثناءَ بها وذِكْرَها والحمدَ عليها، ويَرْضَى منهم بذلكَ شُكْرًا عليها، وإنْ كانَ ذلكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِهِ عليهم، وهوَ غيرُ مُحتاجٍ إلى شُكْرِهم، لكِنَّهُ يُحِبُّ ذلكَ مِنْ عِبادِهِ؛ حيثُ كانَ صلاحُ العبدِ وفَلاحُهُ وكَمالُهُ فيهِ. ومِنْ فَضْلِهِ أنَّهُ نَسَبَ الحمدَ والشُّكرَ إليهم، وإنْ كانَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عليهم، وهذا كما أنَّهُ أَعْطَاهُمْ ما أَعْطَاهُمْ مِن الأموالِ، ثمَّ اسْتَقْرَضَ منهم بَعْضَهُ، ومَدَحَهم بإعطائِهِ، والكُلُّ مِلْكُهُ ومِنْ فَضْلِهِ، ولكنَّ كَرَمَهُ اقْتَضَى ذلك).
ومِنْ هُنا يُعْلَمُ معنى الأثَرِ الذي جاءَ مَرفوعًا ومَوقوفًا: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهَ، وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ)).
ولْنَرْجِع الآنَ إلى تفسيرِ حديثِ: ((كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ)).
يعني: أنَّ الصَّدقةَ على ابنِ آدَمَ عنْ هذهِ الأعضاءِ في كُلِّ يومٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنيا؛ فإنَّ اليومَ قدْ يُعَبَّرُ بهِ عنْ مُدَّةٍ أَزْيَدَ مِنْ ذلكَ، كما يُقالُ: يَوْمُ صِفِّينَ، وكانَ مُدَّةَ أَيَّامٍ. وعَنْ مُطْلَقِ الوقتِ، كما في قولِهِ: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}[هود: 8]، وقدْ يكونُ ذلكَ لَيلاً ونَهارًا، فإذا قيلَ: كُلَّ يومٍ تَطْلُعُ فيهِ الشمسُ، عُلِمَ أنَّ هذهِ الصدَقَةَ على ابنِ آدَمَ في كُلِّ يومٍ يَعيشُ فيهِ مِنْ أيَّامِ الدُّنيا.
وظَاهرُ الحديثِ يَدُلُّ على أنَّ هذا الشُّكْرَ بهذهِ الصَّدَقَةِ واجبٌ على المُسْلِمِ كُلَّ يومٍ، ولكنَّ الشُّكْرَ على دَرجتَيْنِ:
إحدَاهُما: واجبٌ، وهوَ أنْ يَأْتِيَ بالواجباتِ، ويَجْتَنِبَ الْمَحارمَ. فهذا لا بُدَّ منهُ، ويَكفِي في شُكْرِ هذهِ النِّعَمِ. ويَدُلُّ على ذلكَ ما خَرَّجَهُ أبو دَاوُدَ مِنْ حديثِ أبي الأسودِ الدِّيليِّ قالَ: كُنَّا عندَ أبي ذرٍّ فقالَ: يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحَدِكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقةٌ، فَلَهُ بِكُلِّ صَلاةٍ صَدَقَةٌ، وَصيامٍ صَدَقَةٌ، وَحَجٍّ صَدَقَةٌ، وَتَسْبِيحٍ صَدَقةٌ، وَتَكْبيرٍ صَدَقةٌ، وَتَحْمِيدٍ صَدَقَةٌ. فَعَدَّ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ قالَ:((يُجْزِئُ أَحَدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى)).
وقدْ تَقدَّمَ في حديثِ أبي موسى الْمُخَرَّجِ في (الصحيحيْنِ): ((فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)). وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ يَكْفِيهِ أنْ لا يَفْعَلَ شيئًا مِن الشَّرِّ، وإنَّما يكونُ مُجْتَنِبًا للشَّرِّ إذا قامَ بالفرائضِ، واجْتَنَبَ الْمَحَارِمَ؛ فإنَّ أَعْظَمَ الشَّرِّ تَرْكُ الفرائضِ. ومِنْ هُنَا قالَ بعضُ السَّلَفِ: الشُّكرُ تَرْكُ المعاصي. وقالَ بعضُهم: الشُّكرُ أنْ لا يُستعانَ بشيءٍ مِن النِّعَمِ على مَعصيَةٍ.
وذَكَرَ أبو حازمٍ الزاهدُ شُكْرَ الجوارحِ كُلِّها، وأنْ تُكَفَّ عن المعاصي، وتُستعمَلَ في الطاعاتِ، ثمَّ قالَ: وأمَّا مَنْ شَكَرَ بلسانِهِ ولمْ يَشْكُرْ بجميعِ أعضائِهِ، فمَثَلُهُ كمَثَلِ رَجُلٍ لهُ كِسَاءٌ، فأَخَذَ بطَرَفِهِ فلمْ يَلْبَسْهُ، فلمْ يَنْفَعْهُ ذلكَ مِن الْحَرِّ والْبَرْدِ والثلْجِ والْمَطَرِ.
وقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أَسْلَمَ: (لِيَنْظُر العبدُ في نِعَمِ اللَّهِ عليهِ؛ في بَدَنِهِ وسَمْعِهِ وبَصَرِهِ ويَدَيْهِ ورِجليْهِ وغيرِ ذلكَ، ليسَ مِنْ هذا شيءٌ إلا وفيهِ نِعمةٌ مِن اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، حقٌّ على العَبْدِ أنْ يَعملَ بالنِّعَمِ اللاتِي هيَ في بَدَنِهِ للَّهِ عزَّ وجلَّ في طاعتِهِ، ونِعمةٌ أُخْرَى في الرزقِ، حقٌّ عليهِ أنْ يَعْمَلَ للَّهِ عزَّ وجلَّ فيما أَنْعَمَ عليهِ مِن الرِّزقِ في طاعتِهِ، فمَنْ عَمِلَ بهذا كانَ قدْ أَخَذَ بِحُزُمِ الشُّكرِ وأَصْلِهِ وفَرْعِهِ).
ورأى الحسَنُ رجلاً يَتَبَخْتَرُ في مِشْيَتِهِ، فقالَ: (لِلَّهِ في كُلِّ عُضوٍ منهُ نِعمةٌ، اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنا مِمَّنْ يَتَقَوَّى بنِعَمِكَ على مَعصيتِكَ).
الدرجةُ الثانيَةُ مِن الشُّكْرِ: الشُّكْرُ الْمُسْتَحَبُّ، وهوَ أنْ يَعملَ العبدُ بعدَ أداءِ الفرائضِ واجتنابِ الْمَحارِمِ بنوافلِ الطَّاعاتِ. وهذهِ دَرجةُ السَّابقينَ الْمُقرَّبِينَ، وهيَ التي أَرْشَدَ إليهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في هذهِ الأحاديثِ التي سَبَقَ ذِكْرُها.
وكذلكَ كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَجتهدُ في الصَّلاةِ، ويَقُومُ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فإذا قِيلَ لهُ: أَتَفْعَلُ هذا وقدْ غَفرَ اللَّهُ لكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟
فيقولُ: ((أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!)).
وقالَ بعضُ السلَفِ لَمَّا قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا}[سبأ: 13]: لمْ يَأْتِ عليهم ساعةٌ مِنْ ليلٍ أوْ نَهارٍ إلا وفيهم مُصَلٍّ يُصَلِّي.
وهذا معَ أنَّ بعضَ هذهِ الأعمالِ التي ذَكَرَها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ:
إمَّا على الأَعْيَانِ: كالْمَشْيِ إلى الصلاةِ عندَ مَنْ يَرَى وُجوبَ الصَّلاةِ في الجماعاتِ في الْمَساجِدِ.
وإمَّا على الكفايَةِ: كالأَمْرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن الْمُنْكَرِ، وإغاثةِ الملهوفِ، والعدْلِ بينَ الناسِ، إمَّا في الْحُكْمِ بينَهم، أوْ في الإِصلاحِ.
وقدْ رُوِيَ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ إِصْلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ)).
وهذهِ الأنواعُ التي أشارَ إليها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِن الصدَقَةِ، منها
ما نَفْعُهُ مُتَعَدٍّ: كالإِصلاحِ، وإعانةِ الرَّجُلِ على دَابَّتِهِ يَحْمِلُهُ عليها أوْ يَرْفَعُ مَتاعَهُ عليها، والكلمةِ الطَّيِّبَةِ، ويَدخلُ فيها السَّلامُ وتَشميتُ العاطسِ، وإزالةِ الأَذَى عن الطَّريقِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن الْمُنْكَرِ، ودَفْنِ النُّخامَةِ في الْمَسْجِدِ، وإعانةِ ذي الحاجةِ الْمَلهوفِ، وإِسْمَاعِ الأصمِّ، والبصَرِ للمَنْقُوصِ بَصَرُهُ، وهدايَةِ الأَعْمَى أوْ غيرِهِ الطَّرِيقَ. وجاءَ في بعضِ رِواياتِ حديثِ أبي ذَرٍّ: ((وَبَيَانُكَ عَنِ الأَرْتَمِ صَدَقَةٌ))، يعني:
مَنْ لا يُطيقُ الكلامَ، إمَّا لآفَةٍ في لِسانِهِ، أوْ لِعُجْمَةٍ في لُغَتِهِ، فَيُبَيِّنُ عنهُ ما يَحتاجُ إلى بَيَانِهِ.
ومنهُ ما هوَ قَاصِرُ النَّفعِ: كالتَّسبيحِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميدِ، والتَّهليلِ، والْمَشْيِ إلى الصَّلاةِ، وصلاةِ رَكْعَتَي الضُّحى، وإنَّما كَانَتَا مُجْزِئَتَيْنِ عنْ ذلكَ كُلِّهِ؛ لأنَّ في الصَّلاةِ استعمالاً للأَعْضَاءِ كُلِّها في الطَّاعةِ والعِبادةِ، فتكونُ كافيَةً في شُكْرِ نِعَمِهِ سلامةُ هذهِ الأعضاءِ. وبَقِيَّةُ هذهِ الْخِصالِ المذكورةِ أكْثَرُها استعمالٌ لبَعضِ أعضاءِ البَدَنِ خاصَّةً، فلا تَكْمُلُ الصَّدقةُ بها حتَّى يَأْتِيَ منها بعَدَدِ سُلامَى البَدَنِ، وهيَ ثلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ كما في حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
_ وفي (الْمُسْنَدِ): عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَتَدْرُونَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ وَخَيْرٌ؟)) قالُوا: اللَّهُ ورسولُهُ أعلمُ، قالَ: ((الْمِنْحَةُ؛ أَنْ تَمْنَحَ أَخَاكَ الدَّرَاهِمَ، أَوْ ظَهْرَ الدَّابَّةِ، أَوْ لَبَنَ الشَّاةِ أَوْ لَبَنَ الْبَقَرَةِ)). والمرادُ بِمِنْحَةِ الدراهمِ: قَرْضُها، وبِمِنْحَةِ ظَهْرِ الدَّابةِ إِفْقَارُها، وهُوَ إِعَارَتُها لِمَنْ يَرْكَبُها، وبِمِنْحَةِ لَبَنِ الشاةِ أو البقرةِ أنْ يَمْنَحَهُ بَقرةً أوْ شاةً لِيَشْرَبَ لَبَنَها، ثمَّ يُعِيدَهَا إليهِ. وإذا أُطْلِقَت الْمَنِيحَةُ لمْ تَنْصَرِفْ إلا إلى هذا.
_ وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ مِنْ حديثِ البَرَاءِ بنِ عازبٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ، أَوْ وَرِقٍ، أَوْ هَدَى زُقَاقًا، كَانَ لَهُ مِثْلُ عِتْقِ رَقَبَةٍ)).
_ وقالَ التِّرمذيُّ: معنى قولِهِ: ((مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ))، إنَّما يَعْنِي بهِ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ، وقولِهِ: ((أَوْ هَدَى زُقَاقًا))، إنَّما يَعْنِي بهِ هِدايَةَ الطريقِ، وهوَ إرشادُ السبيلِ.
_ وخَرَّجَ البُخَارِيُّ مِنْ حديثِ حَسَّانَ بنِ عَطِيَّةَ، عنْ أبي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ قالَ: سَمِعْتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو يقولُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((أَرْبَعُونَ خَصْلَةً، أَعْلاهَا مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ)). قالَ حَسَّانُ: فعَدَدْنَا ما دونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلامِ، وتَشميتِ العاطسِ، وإماطةِ الأَذَى عن الطَّريقِ ونَحْوِهِ، فما اسْتَطَعْنَا أنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصلةً.
_ وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ جابرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((حَقُّ الإِبِلِ حَلْبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
_ وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ جابِرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَائِهِ)). وخَرَّجَهُ الحاكمُ وغيرُهُ بزِيادةٍ، وهيَ:((وَمَا أَنْفَقَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى بِهِ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ نَفَقَةٍ أَنْفَقَهَا مُؤْمِنٌ فَعَلَى اللَّهِ خَلَفُهَا ضَامِنٌ، إِلا نَفَقَةً فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ بُنْيَانٍ)).
_ وفي (الْمُسْنَدِ): عنْ أبي جُرَيٍّ الهُجَيْمِيِّ قالَ: سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عن المعروفِ، فقالَ:((لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوُحْشَانَ فِي الأَرْضِ)).
_ ومِنْ أنواعِ الصَّدقةِ: كَفُّ الأَذَى عن النَّاسِ بالْيَدِ واللِّسَانِ، كما في (الصحيحيْنِ): عنْ أبي ذَرٍّ، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ الأعمالِ أَفْضَلُ؟
قالَ: ((الإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ)).
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟
قالَ: ((تُعِينُ صَانِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لأَِخْرَقَ)).
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عنْ بَعْضِ العَمَلِ؟
قالَ: ((تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ)).
_ وفي (صحيحِ ابنِ حِبَّانَ): عنْ أبي ذَرٍّ قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، دُلَّنِي على عَمَلٍ إذا عَمِلَ بهِ العَبْدُ دَخَلَ الْجنَّةَ.
قالَ: ((يُؤْمِنُ بِاللَّهِ)).
قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إِنَّ مَعَ الإِيمانِ عَمَلاً؟
قالَ: ((يَرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ)).
قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ مُعْدِمًا لا شَيْءَ لَهُ؟
قالَ: ((يَقُولُ مَعْرُوفًا بِلِسَانِهِ)).
قُلْتُ: فإنْ كانَ عَيِيًّا لا يُبْلِغُ عنهُ لِسَانُهُ؟
قالَ: ((فَيُعِينُ مَغْلُوبًا)).
قُلْتُ: فإنْ كانَ ضعيفًا لا قُدْرَةَ لهُ؟
قالَ: ((فَلْيَصْنَعْ لأَِخْرَقَ)).
قُلْتُ: فإنْ كانَ أَخْرَقَ؟
فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فقالَ: ((مَا تُرِيدُ أَنْ تَدَعَ فِي صَاحِبِكَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ؟ فَلْيَدَعِ النَّاسَ مِنْ أَذَاهُ))، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ هذا كُلَّهُ لَيَسِيرٌ.
قالَ:((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا يُرِيدُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، إِلا أَخَذْتُ بِيَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ)).
فاشْتَرَطَ في هذا الحديثِ لهذهِ الأعمالِ كُلِّها إخلاصَ النِّيَّةِ، كما في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو الَّذِي فيهِ ذِكْرُ الأرْبَعِينَ خَصْلَةً، وهذا كما في قَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 114].
_ وقدْ رُوِيَ عن الحسَنِ وابنِ سِيرينَ، أنَّ فِعْلَ المعروفِ يُؤْجَرُ عليهِ، وإنْ لمْ يكُنْ لهُ فيهِ نِيَّةٌ.
_ سُئِلَ الحَسَنُ عن الرَّجُلِ يَسْأَلُهُ آخَرُ حاجةً وهوَ يُبْغِضُهُ، فَيُعْطِيهِ حَيَاءً: هلْ لهُ فيهِ أَجْرٌ؟
فقالَ: (إنَّ ذلكَ لَمِن الْمعروفِ، وإنَّ في الْمعروفِ لأَجْرًا). خَرَّجَهُ حُمَيْدُ بنُ زَنْجُوَيْهِ.
_ وسُئِلَ ابنُ سِيرينَ، عن الرَّجُلِ يَتْبَعُ الْجَنازةَ، لا يَتْبَعُها حِسْبَةً، يَتْبَعُها حَياءً مِنْ أَهْلِها: أَلَهُ في ذلكَ أَجْرٌ؟
فقالَ: أَجْرٌ واحدٌ؟ بلْ لهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ لِصلاتِهِ على أخيهِ، وأَجْرٌ لِصِلَتِهِ الْحَيَّ. خَرَّجَهُ أبو نُعَيْمٍ في (الْحِلْيَةِ).
_ ومِنْ أنواعِ الصدقةِ: أَدَاءُ حقوقِ المسلِمِ على المسلِمِ. وبعضُها مذكورٌ في الأحاديثِ الماضيَةِ، ففي (الصحيحيْنِ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ)).
وفي رَوايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ))، قيلَ: ما هُنَّ يا رسولَ اللَّهِ؟
قالَ:((إِذَا لَقِيتَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).
_ وفي (الصحيحيْنِ): عن الْبَرَاءِ قالَ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلامِ)).
وفي روايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَإِرْشَادِ الضَّالِّ)) بَدَلَ: ((إِبْرَارِ الْقَسَمِ)).
_ ومِنْ أنواعِ الصَّدقةِ: الْمَشْيُ بحقوقِ الآدَمِيِّينَ الواجبةِ إليهم.
قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (مَنْ مَشَى بحَقِّ أخيهِ إليهِ ليَقْضِيَهُ، فَلَهُ بكُلِّ خُطوةٍ صَدَقَةٌ).
ومنها: إنظارُ الْمُعْسِرِ، وفي (الْمُسْنَدِ) و(سُنَنِ ابنِ مَاجَهْ): عنْ بُرَيْدَةَ مَرفوعًا: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَهُ صَدَقَةٌ)).
ومنها: الإِحسانُ إلى البهائمِ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عنْ سَقْيِهَا، فقالَ: ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ))، وأَخْبَرَ أنَّ بَغِيًّا سَقَتْ كَلْبًا يَلْهَثُ مِن العَطَشِ، فغُفِرَ لها.
وأمَّا الصَّدقةُ القاصرةُ على نفسِ العاملِ بها، فَمِثْلُ أنواعِ الذِّكْرِ مِن التَّسبيحِ، والتكبيرِ، والتحميدِ، والتهليلِ، والاستغفارِ، والصلاةِ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وكذلكَ تِلاوةُ القرآنِ، والمشيُ إلى الْمَساجِدِ، والجلوسُ فيها لانتظارِ الصلاةِ، أوْ لاستماعِ الذِّكْرِ.
ومِنْ ذلكَ: التَّوَاضُعُ في اللِّباسِ والْمَشْيِ والْهَدْيِ، والتبَذُّلُ في الْمِهْنَةِ، واكتسابُ الحلالِ، والتَّحَرِّي فيهِ.
ومنها أيضًا: مُحاسَبَةُ النفسِ على ما سَلَفَ مِنْ أعمالِها، والنَّدَمُ والتوبةُ مِن الذنوبِ السالِفَةِ، والْحُزْنُ عليها، واحتقارُ النفسِ، والازْدِرَاءُ عليها، ومَقْتُها في اللَّهِ عزَّ وجلَّ، والبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تعالى، والتَّفَكُّرُ في مَلَكُوتِ السماواتِ والأرضِ، وفي أُمُورِ الآخِرةِ، وما فيها مِن الوَعْدِ والوعيدِ، ونحوِ ذلكَ ممَّا يَزِيدُ الإيمانَ في القلْبِ، ويَنْشَأُ عنهُ كثيرٌ مِنْ أعمالِ القلوبِ؛ كالخشْيَةِ، والمحبَّةِ، والرَّجاءِ، والتوكُّلِ، وغيرِ ذلكَ.
وقدْ قيلَ: إنَّ هذا التَّفَكُّرَ أَفْضَلُ مِنْ نَوافلِ الأعمالِ البَدَنِيَّةِ. رُوِيَ ذلكَ عنْ غيرِ واحدٍ مِن التَّابعينَ؛ منهم: سعيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ، والحسَنُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ. وفي كلامِ الإمامِ أحمدَ ما يَدُلُّ عليهِ. وقالَ كَعْبٌ: (لأََنْ أَبْكِيَ مِنْ خَشيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أَتَصَدَّقَ بِوَزْنِي ذَهَبًا).
*****