هذا الحديثُ خَرَّجَهُ
مسلِمٌ مِنْ روايَةِ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ، عنْ أبي الأسودِ الدِّيلِيِّ، عنْ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقدْ رُوِيَ معناهُ عنْ أبي ذرٍّ مِنْ وُجُوهٍ كثيرةٍ بزيادةٍ ونُقصانٍ، وسنَذْكُرُ بعضَها فيما بَعْدُ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ الصحابةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم؛ لِشِدَّةِ حِرْصِهم على الأعمالِ الصالحةِ، وقُوَّةِ رَغْبَتِهم في الخيرِ كَانُوا يَحْزَنونَ على ما يَتَعَذَّرُ عليهم فِعْلُهُ مِن الخيرِ مِمَّا يَقْدِرُ عليهِ غَيْرُهم، فكانَ الفُقراءُ يَحْزَنُونَ على فَوَاتِ الصَّدقَةِ بالأموالِ التي يَقْدِرُ عليها الأغنياءُ، ويَحْزَنُونَ على التَّخَلُّفِ عن الخروجِ في الْجِهادِ لِعَدَمِ القُدرةِ على آلَتِهِ.
وقدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عنهم بذلكَ في كِتابِهِ فقالَ: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}
[التوبة: 92].
وفي هذا الحديثِ: أنَّ الفُقراءَ غَبَطُوا أهلَ الدُّثورِ -والدُّثورُ: هيَ الأموالُ- بما يَحْصُلُ لهم مِنْ أَجْرِ الصدَقَةِ بأموالِهم، فدَلَّهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ على صَدَقَاتٍ يَقْدِرُونَ عليها.
(1) وفي (الصحيحيْنِ): عنْ أبي صالحٍ، عنْ أبي هُريرةَ، أنَّ فُقَرَاءَ الْمُهاجرينَ أَتَوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فقالُوا: ((ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)) قالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقونَ وَلا نُعْتِقُ، فَقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟)) قالُوا: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: ((تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً)). قالَ أبو صالحٍ: فَرَجَعَ فُقَراءُ المهاجِرينَ إِلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقالُوا: سَمِعَ إِخْوانُنا أَهْلُ الأَمْوالِ بِمَا فَعَلْنا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54].
وقدْ رُوِيَ نحوُ هذا الحديثِ مِنْ روايَةِ جماعةٍ مِن الصحابةِ؛ منهم: عَلِيٌّ، وأبو ذَرٍّ، وأبو الدَّرْدَاءِ، وابْنُ عمرَ، وابنُ عبَّاسٍ، وغيرُهم.
ومعنى هذا، أنَّ الفُقراءَ ظَنُّوا أنْ لا صَدَقَةَ إلا بالمالِ، وهم عاجِزونَ عنْ ذلكَ، فأَخْبَرَهُم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّ جَميعَ أنواعِ فِعْلِ المعروفِ والإِحسانِ صَدَقَةٌ.
وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ حُذَيْفَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)) وخَرَّجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ جابرٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
فالصَّدَقَةُ تُطْلَقُ على جميعِ أنواعِ فِعْلِ المعروفِ والإِحسانِ، حتَّى إنَّ فَضْلَ اللَّهِ الواصِلَ منهُ إلى عِبادِهِ صَدَقَةٌ منهُ عليهم. وقدْ كانَ بعضُ السلَفِ يُنْكِرُ ذلكَ ويقولُ: إنَّما الصَّدَقةُ مِمَّنْ يَطْلُبُ جَزاءها وأَجْرَها.
والصَّحيحُ خِلافُ ذلكَ، وقدْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في قَصْرِ الصَّلاةِ في السَّفَرِ: ((صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ)) خَرَّجَهُ مسلِمٌ، وقالَ: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ صَلاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ نَوْمٌ فَنَامَ عَنْهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ)) خَرَّجَهُ النَّسائيُّ وغيرُهُ مِنْ حديثِ عائشةَ، وخَرَّجَهُ ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أبي الدَّرْدَاءِ.
وفي(مُسْنَدَيْ) بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ والبَزَّارِ مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ مَرفوعًا: ((مَا مِنْ يَوْمٍ وَلا لَيْلَةٍ وَلا سَاعَةٍ إِلا لِلَّهِ فِيهَا صَدَقَةٌ يَمُنُّ بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ مِثْلَ أَنْ يُلْهِمَهُ ذِكْرَهُ)).
وقالَ خالدُ بنُ مَعْدانَ: (إِنَّ اللَّهَ يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ بصَدَقَةٍ، وَمَا تَصدَّقَ اللَّهُ على أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بشيءٍ خيرٍ مِنْ أنْ يَتَصَدَّقَ عليهِ بذِكْرِهِ).
والصدَقَةُ بغيرِ المالِ نَوعانِ:
أحدُهما: ما فيهِ تَعديَةُ الإِحسانِ إلى الْخَلْقِ، فيكونُ صَدَقَةً عليهم، ورُبَّما كانَ أَفْضَلَ مِن الصدقةِ بالمالِ. وهذا كالأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن الْمُنْكَرِ؛ فإنَّهُ دُعاءٌ إلى طاعةِ اللَّهِ وكَفٍّ عنْ مَعاصِيهِ، وذلكَ خيرٌ مِن النفْعِ بالمالِ. وكذلكَ تَعليمُ العلْمِ النافعِ، وإِقْرَاءُ القرآنِ، وإِزَالةُ الأَذَى عن الطريقِ، والسَّعْيُ في جَلْبِ النفْعِ للناسِ، ودَفْعُ الأَذَى عنهم، وكذلكَ الدُّعاءُ للمسلمينَ والاستغفارُ لهم.
- وخَرَّجَ ابنُ مَرْدُويَهْ بإسنادٍ فيهِ ضَعْفٌ، عن ابنِ عمرَ مَرفوعًا: ((مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ مَالِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةٌ فَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ قُوَّتِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ فَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ عِلْمِهِ)) ولعلَّهُ مَوقوفٌ.
- وخَرَّجَ الطبرانيُّ بإسنادٍ فيهِ ضَعْفٌ، عنْ سَمُرَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ اللِّسَانُ))، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، وَمَا صَدَقَةُ اللِّسانِ؟ قالَ: ((الشَّفَاعَةُ تَفُكُّ بِهَا الأَسِيرَ، وَتَحْقِنُ بِهَا الدَّمَ، وَتَجُرُّ بِهَا الْمَعْروفَ وَالإِحْسانَ إِلَى أَخِيكَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ الْكَرِيهَةَ)).
وقالَ عمرُو بنُ دِينارٍ: (بَلَغَنَا أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ))، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلى قولِهِ تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}[البقرة: 263]؟!) خَرَّجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ.
وفي مَراسيلِ الحسَنِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْتَ طَلِيقُ الْوَجْهِ)) خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا.
وقالَ مُعاذٌ: (تَعليمُ العِلْمِ لِمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ) ورُوِيَ مَرْفُوعًا.
ومِنْ أنواعِ الصَّدَقَةِ:
كَفُّ الأَذَى عن الناسِ، فَفِي (الصحيحَيْنِ): عنْ أبي ذرٍّ قالَ: قُلْتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ الأَعْمالِ أَفْضَلُ؟
قالَ: ((الإِيمَانُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ))، قُلْتُ: فأيُّ الرِّقابِ أَفْضَلُ؟ قالَ: ((أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا))، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قالَ: ((تُعِينُ صَانِعًا، وَتَصْنَعُ لأَِخْرَقَ))، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عنْ بَعْضِ العَمَلِ؟ قالَ: ((تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ)).
- وقدْ رُوِيَ في حديثِ أبي ذرٍّ زِياداتٌ أُخْرَى، فخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِماطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)).
- وخَرَّجَ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ) مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إِلا عَلَيْهَا صَدَقَةٌ فِي كُلِّ يَوْمِ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ))، قيلَ: يَا رَسولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟
قالَ: ((إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ، وَتَهْدِي الأَعْمَى، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ. فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ)).
وخرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ أبي ذَرٍّ قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الأَغْنِياءُ بِالأَجْرِ، يَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، قالَ: ((وَأَنْتَ فِيكَ صَدَقَةٌ: رَفْعُكَ الْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَهِدَايَتُكَ الطَّرِيقَ صَدَقَةٌ، وَعَوْنُكَ الضَّعِيفَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ صَدَقَةٌ، وَبَيَانُكَ عَنِ الأَغْتَمِ صَدَقَةٌ، وَمُبَاضَعَتُكَ امْرَأَتَكَ صَدَقَةٌ))، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، نَأَتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ؟! قالَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلَهُ فِي حَرَامٍ، أَكَانَ يَأْثَمُ؟)) قالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ:((أَفَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ وَلا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ؟!)).
- وفي روايَةٍ أُخرى، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ فِيكَ صَدَقَةً كَثِيرَةً، فَذَكَرَ فَضْلَ سَمْعِكَ وَفَضْلَ بَصَرِكَ)).
- وفي روايَةٍ أُخْرَى للإِمامِ أحمدَ: قالَ: ((إِنَّ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ التَّكْبِيرَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْروفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْزِلُ الشَّوْكَةَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ وَالْعَظْمَ وَالْحَجَرَ، وَتَهْدِي الأَعْمَى، وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ وَالأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ. كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَكَ فِي جِمَاعِكَ زَوْجَتَكَ أَجْرٌ))، قُلْتُ: كيفَ يكونُ لي أَجْرٌ فِي شَهْوَتِي؟
فَقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ، فَأَدْرَكَ وَرَجَوْتَ خَيْرَهُ، فَمَاتَ، أَكُنْتَ تَحْتَسِبُ بِهِ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: ((فَأَنْتَ خَلَقْتَهُ؟)) قُلْتُ: بَل اللَّهُ خَلَقَهُ، قالَ: ((فَأَنْتَ هَدَيْتَهُ؟)) قُلْتُ: بَل اللَّهُ هَدَاهُ، قالَ: ((فَأَنْتَ كُنْتَ تَرْزُقُهُ؟)) قُلْتُ: بَل اللَّهُ كَانَ يَرْزُقُهُ، قالَ: ((كَذَلِكَ فَضَعْهُ فِي حَلالِهِ، وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحْيَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ، وَلَكَ أَجْرٌ)).
وظاهِرُ هذا السِّياقِ يَقْتَضِي أنَّهُ يُؤْجَرُ على جِمَاعِهِ لأهْلِهِ بِنِيَّةِ طَلَبِ الوَلَدِ الذي يَترتَّبُ الأَجْرُ على تَرْبِيَتِهِ وتَأديبِهِ في حياتِهِ، ويَحْتَسِبُهُ عندَ مَوْتِهِ، وأمَّا إذا لمْ يَنْوِ شيئًا بقَضاءِ شَهْوَتِهِ، فهذا قدْ تَنازَعَ الناسُ في دُخولِهِ في هذا الحديثِ.
وقدْ صَحَّ الحديثُ بأنَّ نَفَقَةَ الرجُلِ على أهلِهِ صَدَقَةٌ، ففي (الصحيحيْنِ):
عنْ أبي مسعودٍ الأنصاريِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ)).
وفي روايَةٍ لِمُسْلِمٍ:((وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا)).
وفي لفظٍ للبُخَارِيِّ: ((إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ)). فدَلَّ على أنَّهُ إنَّما يُؤْجَرُ فيها إذا احْتَسَبَها عندَ اللَّهِ، كما في حديثِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ))، خَرَّجَاهُ.
وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ ثَوْبانَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَفْضَلُ الدَّنَانِيرِ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
قالَ أبو قِلابةَ عندَ روايَةِ هذا الحديثِ: (بدأَ بالعِيالِ، وأَيُّ رجُلٍ أعظمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ على عِيالٍ لهُ صِغَارٍ يُعِفُّهم اللَّهُ بهِ، ويُغْنِيهم اللَّهُ بهِ).
وفيهِ أيضًا: عنْ سعدٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ)) وهذا قدْ وَرَدَ مُقَيَّدًا في الروايَةِ الأخرى بابتغاءِ وجهِ اللَّهِ.
وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَفْضَلُهَا الدِّينَارُ الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ)).
وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ، وابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ) مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((تَصَدَّقُوا))، فقالَ رَجُلٌ: عندِي دِينارٌ، فقالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ))، قالَ: عنْدِي دينارٌ آخَرُ، قالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ))، قالَ: عنْدِي دينارٌ آخَرُ، قالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ))، قالَ: عنْدِي دينارٌ آخَرُ، قالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ))، قالَ: عنْدِي دِينارٌ آخَرُ، قالَ: ((أَنْتَ أَبْصَرُ)).
وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ الْمِقدامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ زَوْجَتَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ)). وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرةٌ يَطولُ ذِكْرُها.
وفي (الصحيحَيْنِ): عنْ أَنَسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلا كَانَ لَهُ صَدَقَةً)).
وفي(صحيحِ مسلِمٍ): عنْ جابِرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلا كَانَ مَا أَكَلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلا كَانَ لَهُ صَدَقَةً)).
وفي روايَةٍ لهُ أَيْضًا: ((فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلا دَابَّةُ، وَلا طَائِرٌ إِلا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
وفي (الْمُسْنَدِ) بإسنادٍ ضعيفٍ: عنْ مُعاذِ بنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ، أَوْ غَرَسَ غِرَاسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ، كَانَ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ)).
وذَكَرَ البُخَارِيُّ في (تاريخِهِ) مِنْ حديثِ جابرٍ مَرفوعًا: ((مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ تَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلا إِنْسٍ وَلا سَبُعٍ وَلا طَائِرٍ إِلا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وظاهِرُ هذهِ الأحاديثِ كُلِّها يَدُلُّ على أنَّ هذهِ الأشياءَ تكونُ صَدَقَةً يُثابُ عليها الزارعُ والغارِسُ ونحوُهما مِنْ غيرِ قَصْدٍ ولا نِيَّةٍ.
وكذلكَ قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)). يَدُلُّ بظاهِرِهِ على أنَّهُ يُؤْجَرُ في إِتْيَانِ أهلِهِ مِنْ غيرِ نِيَّةٍ؛ فإنَّ الْمُبَاضِعَ لأَهْلِهِ كالزَّارعِ في الأرضِ الذي يَحْرُثُ الأرضَ ويَبْذُرُ فيها. وقدْ ذَهَبَ إلى هذا طائفةٌ مِن العُلماءِ، ومالَ إليهِ أبو مُحَمَّدِ بنُ قُتَيْبَةَ في الأَكْلِ والشُّربِ والْجِماعِ، واسْتَدَلَّ بقولِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِيهِ)).
وهذا اللَّفظُ الذي اسْتَدَلَّ بهِ غيرُ مَعْرُوفٍ، إنَّمَا المعروفُ قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لسَعْدٍ: ((إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْها، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ)) وهوَ مُقَيَّدٌ بإخلاصِ النِّيَّةِ للَّهِ، فتُحْمَلُ الأحاديثُ الْمُطْلَقَةُ عليهِ، واللَّهُ أَعلمُ.
ويَدُلُّ عليهِ أيضًا قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 114]، فجَعَلَ ذلكَ خَيْرًا، ولمْ يُرَتِّبْ عليهِ الأَجْرَ إلا معَ نِيَّةِ الإِخلاصِ.
وأمَّا إذا فَعَلَهُ رِيَاءً، فإنَّهُ يُعَاقَبُ عليهِ، وإنَّمَا مَحَلُّ التَّرَدُّدِ إذا فَعَلَهُ بغيرِ نِيَّةٍ صالحةٍ ولا فَاسدةٍ.
وقدْ قالَ أبو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: (مَنْ عَمِلَ عَمَلَ خيرٍ مِنْ غيرِ نِيَّةٍ كَفاهُ نِيَّةُ اختيارِهِ للإِسلامِ على غَيْرِهِ مِن الأدْيَانِ).
وظاهِرُ هذا أنَّهُ يُثابُ عليهِ مِنْ غيرِ نِيَّةٍ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّهُ بدُخُولِهِ في الإِسلامِ مُخْتَارٌ لأعمالِ الخيرِ في الْجُملةِ، فيُثابُ على كلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ منها بتلكَ النِّيَّةِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وقولُهُ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)). هذا يُسمَّى عندَ الأُصولِيِّينَ قياسَ العَكْسِ.
ومنهُ قولُ ابنِ مسعودٍ: قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً، وقُلْتُ أَنَا أُخْرَى، قالَ: ((مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ)) وقُلْتُ: (مَنْ ماتَ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
والنوعُ الثاني مِن الصَّدَقَةِ التي لَيْسَتْ مَالِيَّةً:
ما نَفْعُهُ قاصرٌ على فَاعِلِهِ، كأنواعِ الذِّكْرِ مِن التَّكبيرِ، والتَّسبيحِ، والتَّحميدِ، والتَّهليلِ، والاستغفارِ. وكذلكَ الْمَشْيُ إلى الْمَساجدِ صَدَقَةٌ، ولمْ يُذْكَرْ في شيءٍ مِن الأحاديثِ الصَّلاةُ والصِّيَامُ والْحَجُّ والْجِهادُ أنَّهُ صَدَقَةٌ، وأَكْثَرُ هذهِ الأعمالِ أَفْضَلُ مِن الصَّدقاتِ الْمَاليَّةِ؛ لأنَّهُ إنَّما ذَكَرَ ذلكَ جَوابًا لِسُؤَالِ الفُقراءِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ عمَّا يُقاوِمُ تَطوُّعَ الأغنياءِ بأَمْوَالِهم.
وأمَّا الفرائضُ فقدْ كانوا كُلُّهم مُشتَرِكينَ فيها.
وقدْ تَكاثَرَت النُّصوصُ بتفضيلِ الذِّكْرِ على الصدَقَةِ بالمالِ وغيرِها مِن الأعمالِ، كما في حديثِ أبي الدَّرْدَاءِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَلا أُنبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟)) قالُوا: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: ((ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)). خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُوالتِّرمذيُّ، وذَكَرَهُ مالِكٌ في (الْمُوَطَّأِ) مَوقوفًا على أبي الدرداءِ.
وفي (الصحيحيْنِ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثرَ مِنْ ذَلِكَ)).
وفيهما أيضًا: عنْ أبي أيُّوبَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((مَنْ قَالَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ)).
وخَرَّجَ الإمامُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ العِبادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قالَ: ((الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا))، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، وَمِن الغَازِي فِي سَبيلِ اللَّهِ؟ قالَ: ((لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا، لَكَانَ الذَّاكِرُونَ لِلَّهِ أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً)). ويُرْوَى نحوُهُ مِنْ حديثِ مُعاذٍ وجابرٍ مَرفوعًا، والصَّوَابُ وَقْفُهُ على مُعاذٍ مِنْ قولِهِ.
وخَرَّجَ الطبرانيُّ مِنْ حديثِ أبي الْوَازِعِ، عنْ أبي بُرْدَةَ، عنْ أبي موسى، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَوْ أنَّ رَجُلاً فِي حِجْرِهِ دَرَاهِمُ يَقْسِمُهَا، وَآخَرَ يَذْكُرُ اللَّهَ، كَانَ الذَّاكِرُ لِلَّهِ أَفْضَلَ))، قُلْتُ: الصَّحِيحُ: عنْ أبي الْوَازِعِ، عنْ أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ مِنْ قولِهِ. خَرَّجَهُ جَعْفَرٌ الفِرْيَابِيُّ.
وخَرَّجَ أيضًا مِنْ حديثِ أَنَسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَبَّرَ مِائَةً، وَسَبَّحَ مِائَةً، وَهَلَّلَ مِائَةً، كَانَتْ خَيْرًا لَهُ مِنْ عَشْرِ رِقَابٍ يَعْتِقُهَا، وَمِنْ سَبْعِ بَدَنَاتٍ يَنْحَرُهَا)).
وخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادِهِ، عنْ أبي الدرداءِ أنَّهُ قيلَ لهُ: (إنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ مِائَةَ نَسَمَةٍ، فقالَ: إنَّ مِائَةَ نَسَمَةٍ مِنْ مالِ رجُلٍ كثيرٌ، وأَفضلُ مِنْ ذلكَ إيمانٌ مَلزومٌ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأنْ لا يَزَالَ لِسَانُ أحَدِكم رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ).
وعنْ أبي الدَّرداءِ أيضًا قالَ: (لأََنْ أَقُولَ: اللَّهُ أكبرُ مِائَةَ مَرَّةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِينارٍ).
وكذلكَ قالَ سَلمانُ الفارسيُّ وغيرُهُ مِن الصَّحابةِ والتابعينَ: (إنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِن الصَّدقةِ بِعَدَدِهِ مِن المالِ).
وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ والنَّسائيُّ مِنْ حديثِ أُمِّ هانِئٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ لها: ((سَبِّحِي اللَّهَ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ؛ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ مِائَةَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَاحْمَدِي اللَّهَ مِائَةَ تَحْمِيدَةٍ؛ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ فَرَسٍ مُلَجَّمَةٍ مُسَرَّجَةٍ تَحْمِلِينَ عَلَيْهِنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،/ وَكَبِّرِي اللَّهَ مِائَةَ تَكْبِيرَةٍ؛ فَإِنَّها تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ، وهَلِّلِي اللَّهَ مِائَةَ تَهْلِيلَةٍ -لا أَحْسَبُهُ إِلا قَالَ- تَمْلأَُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَلا يُرْفَعُ يَوْمَئِذٍ لأَِحَدٍ مِثْلُ عَمَلِكِ إِلا أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَيْتِ)). وخَرَّجَهُ أحمدُ أيضًا وابنُ مَاجَهْ، وعندَهما: ((وَقُولِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، لا تَذَرُ ذَنْبًا، وَلا يَسْبِقُهَا الْعَمَلُ)).
وخَرَّجَهُ التِّرمذيُّ مِنْ حديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عنْ أبيهِ، عنْ جَدِّهِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بنحوِهِ.
وخَرَّجَ الطبرانيُّ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ مَرفوعًا قالَ: ((مَا صَدَقَةٌ أَفْضَلَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
وخَرَّجَ الفِرْيَابِيُّ بإسنادٍ فيهِ نَظَرٌ، عنْ أبي أُمَامَةَ مَرفوعًا: ((مَنْ فَاتَهُ اللَّيْلُ أَنْ يُكَابِدَهُ، وبَخِلَ بِمَالِهِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ مِنَ الْعَدُوِّ أَنْ يُقَاتِلَهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ؛ فَإِنَّهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جَبَلِ ذَهَبٍ، أَوْ جَبَلِ فِضَّةٍ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)). وخَرَّجَهُ البَزَّارُ بإسنادٍ مُقارِبٍ مِنْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ مَرفوعًا، وقالَ في حديثِهِ: ((فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ))، ولمْ يَزِدْ على ذلكَ، وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ مُتَعَدِّدةٌ.