(ص): مسألة: الصحيح إمكانه وأنه حجة في الشرع وأنه قطعي حيث اتفق المعتبرون لا حيث اختلفوا كالسكوتي، وما ندر مخالفه، وقال الإمام والآمدي: ظني مطلقاً.
(ش): فيه ثلاث مسائل:
الأولى: الإجماع ممكن خلافاً للنظام.
في إحالته، ولمن قال بإمكانه لكن لا سبيل إلى الاطلاع عليه لتعذر الإحاطة بأقوال الخلق، والدليل عليه أنا نعلم اتفاق الخلق الكثير والجم الغفير في شرق البلاد وغربها على نبوة سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبب معجزته القاطعة، واتفاق أهل السنة على مقتضاها فأين الاستحالة والعسر.
الثانية: إذا ثبت إمكانه فهو حجة خلافاً لمن قال بتصوره وأنكر حجيته، والصحيح أنه حجة لله في شريعته وقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة على ذلك ومنهم من احتج عليه بطريق العقل، ومنهم من احتج بالعادة.
الثالثة: إذا قلنا إنه حجة فهل هو حجة قطعية بحيث نكفر أو نضلل مخالفه، أو ظنية؟ فذهب الأكثرون إلى الأول، وذهب الآمدي والإمام إلى الثاني، واختار المصنف تفصيلاً في المسألة، وهو إما أن يتفق المعتبرون على كونه حجة إجماعاً أو لا، فإن اتفقوا على أنه إجماع فهو حجة قطعية كالإجماع بالحد السابق، وإن اختلفوا في الشيء هل هو إجماع أم لا؟ فهو حجة ظنية كالإجماع السكوتي، وما ندر مخالفه ولهذا لما حكى ابن السمعاني الخلاف في السكوتي، وأنه هل هو ظني أو قطعي اختار أنه ظني وقال ابن الحاجب: فيما ندر مخالفه لا يكون إجماعاً قطعياً وقال الهندي من قال إنه إجماع فإنما يجعله إجماعاً ظنياً لا قطعياً، وإنما مثل المصنف بمثالين للتنبيه على أن المختلف فيه لا فرق بين أن يكون الأصح أنه ليس بحجة كما ندر مخالفه أو يكون حجة كالسكوتي.
(ص): وخرقه حرام فعلم تحريم إحداث ثالث، والتفصيل إن خرقاه، وقيل خارقان مطلقاً، وأنه يجوز إحداث دليل أو تأويل أو علة إن لم يخرق، وقيل: لا.
(ش): خرق الإجماع حرام، لأن الله تعالى توعد عليه بقوله: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} ولا خلاف فيه إذا كان عن نص، فإن كان عن اجتهاد فحكى القاضي عبد الجبار قولاً: إنه يجوز لمن تقدم، مخالفته، لأنه قول صادر عن اجتهاد... فيجوز خلافه والصحيح المنع؛ لأن الإجماع إذا وجد بأي دليل كان، صار حجة وحرم خلافه، وفرع المصنف عليه مسائل:
إحداها: أنه يحرم إحداث قول ثالث في مسألة واحدة، فإذا اختلف أهل العصر على قولين فهل لمن بعدهم إحداث ثالث؟ فيه مذاهب: أصحها المنع مطلقاً وعليه الجمهور كما إذا أجمعوا على قول واحد، حرم إحداث ثان.
الثاني: الجواز وأشار المصنف بفاء التفريع إلى أن= لا يجوز ثالث مع اعتقاد أنه خارق بل من جوز الثالث اعتقده غير خارق ومن منعه اعتقده خارقاً.
الثالث: وهو الحق عند المتأخرين أن الثالث إن لزم منه رفع ما أجمعوا عليه كان خارقاً فيكون حراماً، وإلا جاز، مثاله أن الشافعي رضي الله عنه يقول: ما أسكر كثيره فقليله حرام سواء ماء العنب وهو المسمى بالخمر أو غيره وأبو حنيفة، يقول: المسكر من كل شيء حرام، وأما غير المسكر، فإن كان خمراً فكذلك، وإلا فلا يحرم منه إلا القدر المسكر، فمن قال بحل ما لا يسكر من خمر وغيره وقصر التحريم على القدر المسكر من كل شيء ـ فقد خرق الإجماع، لأن قوله في الخمر لم يقل به أحد.
الثانية: إذا لم يفصل أهل العصر بين مسألتين بأن قال بعضهم بالحل فيهما وآخرون بالتحريم فيهما، وأراد من بعدهم بالتفصيل، فإن قالوا: لا فصل بين هاتين المسألتين امتنع التفصيل، بالاتفاق لأنه إجماع صريح كغيره من الإجماعات، كذا قاله الهندي، لكن الخلاف فيه ثابت، ومثله ما إذا لم ينصوا عليه بل يعلم اتحاد الجامع بين المسألتين كتوريث العمة والخالة لأنه رفع مجمع، وإلا فقيل: لا يجوز الفرق، وقيل: يجوز، وهو المختار، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: والتفصيل، أي: ويحرم التفصيل، وقوله: إن خرقاه، قيد في هذه والتي قبلها، وقوله: وقيل: خارقان، راجع إليهما أيضاً، وخرقه يتصور بما إذا نصوا على عدم الفصل أو علم اتحاد الجامع.
الثالثة: إذا استدل المجمعون بدليل على حكم أو ذكروا تأويلاً أقر عليه, فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل أو علة؟ فإن كان فيه إلغاء الأول وإبطاله لم يجز لأنه يقتضي إبطال ما أجمعوا عليه وخرق الإجماع حرام، وإن لم يكن فيه ذلك فالأكثرون على الجواز، لأنه قد يكون على الشيء أدلة، وقيل: لا يجوز لأن التأويل الجديد والدليل ليس سبيلاً للمؤمنين فوجب أن لا يجوز قبوله.
(ص): وأنه يمتنع ارتداد الأمة سمعاً وهو الصحيح.
(ش): اختلفوا في إمكان ارتداد الأمة في عصر من الأعصار سمعاً لا عقلاً فمنهم من جوزه، والمختار الامتناع، لأنه خطأ وضلال، وهما منفيان عن الأمة بالأحاديث الدالة على عصمتها عن الخطأ، وأشار المصنف بقوله: سمعاً، إلى عدم امتناعه عقلاً.
(ص): لاتفاقهم على جهل ما لم تكلف به على الأصح لعدم الخطأ.
(ش): يمتنع جهل جميع الأمة لما كلفوا به، كالجهل بكون الوتر واجباً أم لا، وهل يجوز أن تشترك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به كالتفاضل بين عثمان وحذيفة ذهب كثيرون إلى الجواز لأن عدم العلم به ليس بخطأ، لأن الخطأ في الشرعيات عبارة عن مصادفة الحكم أو عدم مصادفة طريقة فلا يلزم من إجماعهم على عدم العلم به إجماعهم على الخطأ، وذهب قوم إلى المنع لأنهم لو أجمعوا عليه لكان عدم العلم سبيلاً فكان يجب اتباعهم فيه فيحرم تحصيل العلم به وهو ضعيف، لأن عدم العلم ليس بسبيل لهم لأن السبيل ما يختاره الإنسان من قول أو عمل، واعلم أن ابن الحاجب لم يذكر هذه المسألة، وإنما ذكر مسألة هل يمكن وجود خبر أو دليل ولا معارض له وتشترك الأمة في عدم العلم به، وقال الهندي: الخلاف فيه مرتب على الخلاف السابق فمن منع هناك منع هنا بطريق الأولى، ومن وافق، ثم اختلفوا هنا فمنهم من جوزه، ومنهم من منع، ومنهم من فصل: فجوز فيما إذا كان عملهم، موافقاً لمقتضاه دون ما ليس كذلك وهو الأولى لأنه لا يجوز ذهولهم عما كلفوا به وإلا لزم إجماعهم على الخطأ، ووجه ترتيب الخلاف فيه على الخلاف السابق أن عدم التكليف هنا لأمر عارض وهو عدم علمهم به، وأما في السابقة فبالأصالة.
(ص): وفي انقسامها فرقتين كل مخطئ في مسألة تردد مثاره هل أخطأت.
(ش): هل يجوز انقسام الأمة إلى قسمين كل قسم مخطئ في مسألة أخرى غير مسألة صاحبه، كاتفاق شطر الأمة على أن الترتيب في الوضوء واجب وفي الصلوات الفائتة لا يجب، واتفاق الشطر الآخر على أن الترتيب في الفوائت واجب وفي الوضوء غير واجب؟ فذهب الأكثرون إلى المنع لأن خطأهم في المسألتين لا يخرجهم من أن يكونوا قد اتفقوا على الخطأ، وهو منفي عنهم وجوزه المتأخرون، لأن المخطئ في كل واحدة، بعض الأمة، ومثار الخلاف أن المخطئين في المسألتين جميعاً كل الأمة أو بعضهم.
(ص): وأنه لا إجماع يضاد إجماعاً سابقاً خلافاً للبصري.
(ش): ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن ينعقد إجماع بعد إجماع البت، على خلافه، لأنه يستلزم تعارض دليلين قطعيين، وأنه يمتنع، وذهب أبو عبد الله البصري إلى أنه غير ممتنع، لأنه لا امتناع في جعل الإجماع على قول حجة قاطعة ما لم يطرأ عليه إجماع آخر كما في الإجماع على تجويز الأخذ بكلا القولين وتجويز الاجتهاد، لكن لما أجمعوا على أن كل ما أجمعوا عليه على وجه البت فإنه حق واجب العمل به في جميع الأمصار أمناً من وقوع هذا الجائز، فعدم الجواز عنده مستفاد من الإجماع الثاني لا من الإجماع الأول، وعند الجماهير هو مستفاد من الإجماع الأول من غير حاجة إلى الثاني، والحاصل إن تبين كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له عند الجماهير، وعند البصري لا يقتضي ذلك لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية إمكان حصول إجماع آخر.
(ص): وأنه لا يعارضه دليل، إذ لا تعارض بين قاطعين ولا قاطع ومظنون.
(ش): الإجماع لا يعارضه دليل، لأن ذلك إن كان قطعياً فمحال، لأن تعارض دليلين قطعيين محال، لأنه يقتضي خطأ أحدهما، وإن كان ظنياً كالقياس وخبر الواحد، فظاهر، لأن الظني لا يعارض القطعي وتقديم القطعي على الظني ليس من باب الترجيح، وعلم من إطلاقه الدليل أنه لا فرق فيه بين أن يكون نصا أو إجماعاً آخر، وتعارض الإجماعين، يستحيل، لاقتضاء أن يكون أحدهما خطأ وباطلاً، وهو غير جائز على الإجماع، بخلاف النص فإنه يحتمل أن يكون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، وعلم منه أن كلامه في الإجماع القطعي، أما الظني فتجوز معارضته، فالإجماع المتفق عليه أولى من المختلف فيه.
(ص): وأن موافقته خبراً لا تدل على أنه عنه، بل ذلك الظاهر إن لم يوجد غيره.
(ش): الإجماع الموافق لمقتضى دليل إذا لم يعلم له دليل آخر لا يجب أن يكون مستنداً إلى ذلك الدليل، لاحتمال أن يكون له دليل آخر وهو مستنده، ولم ينقل إلينا استغناء بالإجماع، هذا قول الجمهور، وعن أبي عبد الله البصري: أنه يكون مستنده، ويجب تأويله على أنه أراد أن ذلك هو الظاهر إذا لم يوجد في المسألة دليل سواه، لا أنه لذلك على سبيل الوجوب، وحكاه ابن برهان في (الوجيز) عن الشافعي أيضاً، وموضع الخلاف عبد الوهاب، فكان حق المصنف تقييد الخبر بالآحاد، ولينظر في هذا المسألة مع قوله فيما سبق في الأخبار: وأن الإجماع على وفق خبر لا يدل على صدقه.
ثالثها: إن تلقوه بالقبول، فإن كون مستند الإجماع ودلالة الإجماع على صدقة متقارب، وقد اقتصر ابن السمعاني على إيراد هذه هنا وقال: إنها تبنى على مسألة أخرى، وهي أن الإجماع يكون منعقداً على الحكم الثابت بالدليل أو على الدليل الموجب للحكم، قال: وأصحهما الأول، لأن الحكم هو المطلوب من الدليل، ولأجله انعقد الإجماع.