هذا باب ما جاء في التطيّر
ومرّ معنا
أنَّ الطيرة من أنواع السحر، ولهذا جاء الشيخ -رحمه الله- بهذا الباب بعد الأبواب المتعلقة بالسحر؛ لأنها من أنواعه بنص الحديث.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:
أن التطير نوع من الشرك بالله -جل وعلا- بشرطه، والشرك الذي يكون من جهة التطير مناف لكمال التوحيد الواجب؛ لأنه شرك أصغر.
وحقيقة التطير:
أنه التشاؤم أو التفاؤل بحركة الطير من السوانح، والبوارح، أو النطيح، أو القعيد، أو بغير الطير مما يحدث. إذا أراد أحد أن يذهب إلى مكان، أو يمضي في سفر، أو أن يعقد له خياراً؛ فيستدل بما يحدث له من أنواع حركات الطيور، أو بما يحدث له من الحوادث، أنَّ هذا السفر سفرٌ سعيد فيمضي فيه، أو أنَّه سفر سيئ وعليه فيه وبال؛ فيرجع عنه.
ولذلك ضابط الطيرة الشركية التي مَنْ قامت في قلبه،
وحَصَلَ له شرطها وضابطها؛ فهو مشرك الشرك الأصغر: ما جاء في آخر الباب أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما الطيرة ما أمضاك أو ردّك)).
فالطيرة شرك،
وهي التي تقع في القلب، ويبني عليها المرء مَضَاءً في الفعل، أو رَدّاً عن الفعل؛ فإذا خرج مثلاً من بيته وحصل أمامه:
-
وهو ينوي سفراً.
-
أو ينوي رحلة.
-
أو ينوي القيام بصفقة تجارة.
-
أو نحو ذلك.
فحصل أمامه حادث؛ فهذا الحادث الذي حصل أمامه من تصادم سيارة، أو اعتداء من واحدٍ على آخر، أو نحو ذلك، جعل من هذا الحادث في قلبه شؤماً، ثم استدل بهذا الحادث على أنه سيفشل في سفره، أو في تجارته، أو أنه سيصيبه مكروه في سفره،
فإذا رجع ولم يمض فقد حصل له التطيّر الشركيّ.
أما إذا وقع ذلك في قلبه مجرد وقوع،
وحصل له نوع تشاؤم ولكنه مضى وتوكل على الله؛ فهذا لا يكاد يسلم منه أحد؛ وكما جاء في حديث ابن مسعود: (وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) كما سيأتي.
إذاً: فهذه حقيقة التطيّر الشركي وضابطه،
وبيان أن التطير اسم عام؛ ليس خاصاً بالطير وحركاتها.
مرّ معنا العيافة فيما سبق في (باب ما جاء في شيء من أنواع السحر) وأنَّ العيافة متعلقة بالطير؛ كما فسرها (عوف) الأعرابي بقوله: (العيافة زجر الطير).
متعلقة بالطير من حيث أنه يحرك الطير ويزجرها؛
حتى ينظر أين تتحرك؟
وأما الطيرة: فهو أن يتشاءم، أو يتفاءل، ويمضي أو يرجع بحركة تحصل أمامه ولو لم يزجر أو يفعل، أو بشيء يحصل أمامه إما من الطير أو من غيره.
قال الشيخ رحمه الله: (باب ما جاء في التطير) يعني: من أنه شرك بالله -جل وعلا- إذا أمضى أو ردّ، وكفارة التطيّر إذا وقع في القلب، ونحو ذلك من الأحكام.
قال: (وقول الله تعالى: {ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون}] هذأ من آية في سورة الأعراف:{فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه ألا إن طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} يعني: إذا أتاهم خَصْبٌ، وسعةٌ وزيادةٌ في الأرزاقِ، قالوا لنا هذه، يعني: نحن المستحقون لها {وإن تصبهم سيئة} يعني: أصابهم جدبٌ، أو نقصٌ في الأرزاق، أو بلاءٌ، قالوا: (هذا بسبب شؤم موسى ومن معه؛ فهم الذين بسببهم، وبسبب أقوالهم، وأعمالهم حصل لنا هذا السوء وهذه الويلات) فتطيّروا بهم، يعني: جعلوهم سبباً لما حصل لهم. قال جل وعلا: {ألا إنما طائرهم عند الله}.
{طائرهم }
يعني ما يطير عنهم من عمل صالح، أو طالح؛ وأنهم يستحقون الحسنات، أو يستحقون السيئات؛ كل هذا عند الله -جل وعلا-، أو أن معنى قوله: {إلا إنما طائرهم عند الله}.
يعني: أن سبب ما يأتيهم من الحسنات، أو ما يأتيهم من السيئات، أن ذلك من جهة القضاء والقدر؛ فهو عند الله جل وعلا.
ومناسبة هذه الآية لهذا الباب
، أنَّ هذه الخصلة من صفات:
-
أعداء الرسل.
-
من صفات المشركين.
فالتطير من صفات أهل الإشراك، من صفات أعداء الرسل، وإذا كان كذلك فهو مذموم، ومن خصال المشركين الشركية.
وهذه هي مناسبة إيراد الآية
تحت هذا الباب؛ من جهة أنه خصلة من خصال أعداء الرسل، وليست من خصال أتباع الرسل.
وإنما أتباع الرسل فإنهم يعلقون ذلك بما عند الله من القضاء والقدر، أو بما جعله الله -جل وعلا- لهم من ثواب أعمالهم، أو العقاب على أعمالهم؛ كما قال: {ألا إنما طائرهم عند الله}.
وكذلك:
ما أورده من الآية الثانية، وهي قوله: {قالوا: طائركم معكم…} الآية، وهي من سورة يس:{قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم}.
الذي تطيّر بأولئك هم المشركون أصحاب تلك القرية؛
حيث قالوا: {إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم} قالت أتباع الرسل: {قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم} يعني: حقيقة سبب السيئات عليكم، أو سبب قدوم الحسنات عليكم، هذه من شيءٍ فيكم؛ فالسوء الذي سينالكم، والعقاب الذي سينالكم، ملازم لكم ملازمة ما يطير عنكم لكم، فما يطير عنكم من عمل سوء، ومن معاداةٍ للرسل، وتكذيبٍ للرسل؛ هذا ملازم لكم وستتطيرون به، قال: {طائركم معكم}.
لأنه من جهة أنهم فعلوا السيئات، وكذَّبوا الرسل، وهذا سيقع عليهم وباله.
ومناسبة هذه الآية للباب، كمناسبة الآية قبلها؛ من أن هذه هي قالة المشركين، وأعداء الرسل.
مناسبة هذا الحديث للباب
قوله ((ولا طيرة))ومن المعلوم أنَّ المنفي هنا ليس هو وجود الطيرة؛ لأن الطيرة موجودة:
-
من جهة اعتقاد الناس.
-
ومن جهة استعمالها، ولكنها باطلة.
كذلك العدوى موجودة من جهة الوقوع.
ولهذا قال العلماء: النفي هنا راجع إلى ما تعتقده العرب، ويعتقده أهل الجاهلية؛ لأن (لا) نافية للجنس واسمها مذكور، وخبرها محذوف؛ لأجل العلم به، فإن الجاهليين يؤمنون بوجود هذه الأشياء، ويؤمنون أيضاً بتأثيرها، فالمنفي ليس هو وجودها وإنما هو تأثيرها، فيكون التقدير هنا: لا عدوى مؤثرة بطبعها ونفسها، وإنما تنتقل العدوى بإذن الله جل وعلا.
وأهل الجاهلية يعتقدون أن العدوى تنتقل بنفسها، فأبطل ذلك الله -جل وعلا- أبطل ذلك الاعتقاد؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا عدوى)) يعني: مؤثرة بنفسها، ولا طيرة مؤثرة أيضاً.
فإن الطيرة شيء وهميّ يكون في القلب لا أثر له في قضاء الله وفي قدره، فحركة الطائر يميناً أو شِمالاً، أو السانح، أو البارح، أو النطيحة، والقعيد، لا أثر لها في حِكم الله، وفي ملكوت الله، وفي قضائه، وقدره.
فإذاً: الخبر قوله: ((ولا طيرة)) يعني: تقدره بقولك: (ولا طيرة مؤثرة) بل الطيرة شيء وهميّ، ولا هامة، ولا صفر.. إلى آخر الحديث.
وسبق أن ذكرت لكم أنَّ خبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيراً في لغة العرب؛ كما قال ابن مالك في آخر باب (لا) النافية للجنس في الألفية:
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر إذا الـمــراد
مــــع سـقـوطه ظهر
وهذا مهم في العربية.
قال: (ولهما عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة))) يعني:
-
لا عدوى مؤثرة بنفسها؛ بل بإذن الله جل وعلا.
-
ولا طيرة مؤثرة أصلاً، وإنما ذلك راجع إلى قضاء الله وقدره.
قال: ((ويعجبني الفأل)) قالوا: وما الفأل؟
قال: ((الكلمة الطيبة)).
الفأل كان عليه الصلاة والسلام يحبه، وفسره بأنه ((الكلمة الطيبة)) لأن الكلمة الطيبة إذا سمعها فتفاءل بها أنه سيحصل له كذا وكذا من الخيرات، ففيها أنها حُسْنُ ظنٍّ بالله جل وعلا.
الفأل:
حسن ظن بالله.
والتشاؤم: سوء ظن بالله جل وعلا.
ولهذا صار الفأل ممدوحاً ومحموداً، وصار الشؤم مذموماً، والفأل ممدوح من جهة أنه فيه تحسين الظن بالربِّ جل وعلا، وهذا مأمورٌ العبدُ به؛ لهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يتفاءل، وكل ذلك من تعظيم الله جل وعلا، وحسن الظن به، وتعلق القلب به، وأنه لا يفعل للعبد إلا ما هو أصلح له.
قال
: (
ولأبي داود بسند صحيح عنعقبة بن عامر قال: ذُكرت الطيرة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : ((أحسنها الفأل))).
(الطيرة)
يعني: التأثر بالكلمة؛ لأننا ذكرنا لكم أنَّ الطيرة عامة تشمل الأقوال والأعمال التي تحصل أمام العبد، فإذا كان ثمَّ تطير
فإن أحسنه الفأل، يعني أن يقع في قلبه أنه سيحصل له كذا وكذا من جرّاء:
-
كلمة سمعها.
- أو من جرّاء فعل حصل له، أحسنُ ذلك الفأل، وغيره مذموم.
لم كان الفأل ممدوحاً، ومحموداً، ومأذوناً به؟
لما ذكرنا من أنه إذا تطير متفائلاً؛ فإنه مُحَسِّنٌ الظن بالله جل وعلا، وأما الفأل في نفسه فهو مطلوب؛
لأن التفاؤل:
-
يشرح الصدر.
- ويُؤنس العبد.
- ويُذهب الضيق الذي يوحيه الشيطان، ويسببه الشيطان في قلب العبد.
والشيطان يأتي للعبد فيجعله يتوهم أشياء وأشياء كلها في مضرته، فإذا فتح العبد على قلبه باب التفاؤل، أبعد عن قلبه باب تأثير الشيطان على النفس.
قال: ((ولا ترد مسلماً)) لا ترد مسلماً: هذا خبر؛ لكنه مضمنٌ النهي، وقد ذكرت لكم أن النهي قد يُعدل عنه للخبر، كما أن الأمر قد يُعدل عنه إلى الخبر؛ لتأكيد النهي، ولتأكيد الأمر، قال: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} هذا خبر؛ لكنه كالأمر المؤكد، هذا خبر مثبت.
والخبر المنفي كقوله هنا: لا ترد مسلماً، هذا خبر لكن فيه نهي أن ترد الطيرة مسلماً عن حاجته؛ فإذا ردته عن حاجته فقد حصل له الشرك بالتطير، قال: ((فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك)) هذا دعاء عظيم في دفع ما يأتي للقلب من أنواع التشاؤم، وأنواع الطيرة.
قال: ((الطيرة شرك)) يعني: شرك أصغر بالله جل وعلا.
قال:((وما منا إلا)) يعني: إلا وقد أتى لقلبه بعض التطير؛ لأن هذا من الشيطان، والشيطان يأتي القلوب فيغريها بما يفسدها؛ ومن ذلك التطير.
قال: ((وما منا إلا)) يعني: ويعرض له ذلك ((ولكن الله يذهبه بالتوكل)) لأن حسنة التوكل، وإتيان العبد بواجب التوكل، يذهب عنه كيد الشيطان بالتطير.
فالواجب على العبد إذا عرض له شيء من التشاؤم ألاَّ يرجع عما أراد عمله، بل يعظم التوكل على الله جل وعلا؛ لأن هذه الأشياء التي تحصل لا تدل على الأمور المغيبة؛ لأنها أمورٌ طرأت ووافقت هكذا أمام العبد، وليس لها أثر فيما يحصل مستقبلاً.
قال: (ولأحمد من حديث ابن عمروٍ: ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك))).
هذا الضابط ذكرناه لكم في أول الباب، أن ضابط كون الطيرة شركاً، أن ترد المتطير عن حاجته، فإذا لم ترده عن حاجته فإنه لم يستأنس لها؛ فلا حرج عليه في ذلك؛ إلا أن عَظُمَتْ في قلبه، فربما دخلت في أنواع محرمات القلوب، والذي يجب أن يُذهبه بالتوكل، وتعظيم الرغب فيما عند الله، وحسن الظن بالله جل وعلا.
(قالوا: فما كفارة ذلك قال:
((أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك)))
((لا طير إلا طيرك))يعني: لن يحصل إلا قضاؤك الذي قضيته، أو لن يحصل ويُقضى إلا ما قدَّرته على العبد.
والعلم - علم المغيبات - إنما هو عند الله جل وعلا.