الثانية : أن يستوي الاسنادان مع تعدد السبب و يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح فالراجح هو السبب ، و مثاله : ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال : (( كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه و سلم و هو يتوكأ على عسيب فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لو سألتموه . فسألوه عن الروح فنزلت ( قل الروح من أمر ربي ) الآية )) . و ما أخرجه الترمذي قال : (( قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأله هذا الرجل فقالوا : اسألوه عن الرح فسألوه فأنزل الله تعالى : ( قل الروح من أمر ربي ) الآية )) . و رواية البخاري أرجح من غيرها و راويها حاضر القصة حيث قال ( أمشي مع النبي ) و معه زيادة وصف حيث قال ( يتوكأ على عسيب ) و ذلك من أسباب الترجيح .
الثالثة : أن يستوي الإسنادان في الصحة و لا مرجح لأحدهما و يمكن الجمع بينها و الأخذ بهما بأن لا يكون بينهما تباعد فيحمل ذلك على تعدد الأسباب لآية واحدة و لا مانع متى كانت الآية مفيدة لحكم السببين ، و مثاله : ما أخرجه البخاري عن ابن عباس ( أن بلال بن أميه قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه و سلم بشريك فقال النبي صلى الله عليه و سلم ( البينة أو حد في ظهرك ) فأنزل الله تعالى ( و الذين يرمون أزواجهم و لم يكن لهم شهداء ... ) الآية . و ما أخرجه الشيخان عن سهل بن سعيد قال : جاء عويمر إلى عاصم بن عدي قال أسأل رسول الله أرأيت رجلا وجد مع ارأته رجلا أيقتله ام كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله فعاب السائل فأخبر عاصم عويمرا فقال و الله لآتين رسول الله فلأسألنه فأتاه فقال القصة فقال النبي صلى الله عليه و سلم انه نزل فيك و في صاحبك قرآن الليلة و قرأ الآية : ( و الذين يرمون أزواجهم ... ) الآية . و يمكن الجمع بينهما على أن أول من جاء يسأل هو هلال و صادف مجئ عويمر قبل إجابته فنزلت الآية في شأنهما .
الرابعة : أن يستوي الإسنادان في الصحة و لا مرجح لأحدهما و لا يمكن الجمع بينهما و الأخذ بهما معا فيحمل ذلك على تكرر نزول الآية الواحدة عقب كل من السببين أو الأكثر، و لا مانع من تكرار النزول تعظيما لشأن المنزل و تذكيرا به عند حدوث سببه حتى لا ينسى مثاله : (( وقف النبي صلى الله عليه و سلم على حمزة رضي الله عنه و قد مثل به المشركون يوم أحد )) فقال : لأمثلن منهم بسبعين مكانك فنزلت الآية ( و إن عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به...) الآية . و قالت الأنصار لئن أصبنا منهم مثل هذا لنربين عليهم فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله الآية ( و إن عوقبتم ... ) الآية .
و السورة كلها مكية ، و يحمل ذلك على تعدد النزول مرة بمكة و أحرى يوم أحد و ثالثة يوم فتح مكة لعظم شأنها ، تذكيرا لعباده و تعويدا لهم على العدل الذي يجب أن يكون ديدنا لهم حتى في حالات الظفر و النصر .
تلك حالات ست لتعدد النزول و موقف المفسر منها .
الموضوع السابع
نزول القرآن منجما و الدليل على ذلك
اختص الله القرآن الكريم من بين الكتب السماوية بإنزاله على محمد صلى الله عليه و سلم مفرقا حسب الحوادث و الوقائع أو اجابات لأسئلة وجهت إليه إما للتثبت من رسالته ، أو لمعرفة أمر ، أو لاستضاح حكم ، بخلاف الكتب السابقة التي نزلت جملة واحدة .
و مما يدل على أن القرآن نزل مفرقا ما يلي :
1- قوله تعالى : ( كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا ) .
2- ما دل على وقوع الأسئلة التي حكاها القرآن لنا مما أشرنا إليه آنفا مثل : ( يسألونك عن الأهلة ) . ( يسألونك ماذا ينفقون ) . ( يسألونك عن الخمر و الميسر ) . ( يسألونك عن الساعة ) . ( و يسألونك عن الروح ) . إلى غير ذلك و ذلك دليل على نزوله مفرقا إذ أن الأسئلة كانت في أوقات مختلفة و أزمنة متباينة و كذلك تكون الإجابات فيكون منجما و مفرقا .
3- ما ورد في السنة الصحيحة من أن أول ما نزل ( اقرأ ) ثم ( المدثر) في و قت آخر غير وقت ( اقرأ ) و هو ما قصدناه من معنى نزوله منجما .
نزول الكتب السماوية السابقة
نزل كل كتاب من الكتب السابقة جملة واحدة بدليل قوله تعالى ( و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا ) فهذه الآية بينت حال المشركين و هو أنهم قالوا لو لم ينزل عليه القرآن جملة ؟ فلو كانت الكتب السابقة نزلت مفرقة لكان الرد عليهم بأنها سنة الله في إنزال الكتب و لكن الرد وقع بغير ذلك فقد بين الحكمة في إنزال القرآن مفرقا حيث قال ( كذلك لنثبت به فؤادك ... ) الآية ، فتكون الكتب السابقة نزلت جملة .
الحكمة في إنزاله منجما