وكما ذكرنا في الأمر والنهي من خروجهما عن أصل صيغتهما , فكذلك يخرج الاستفهام أيضا عن أصل دلالته , قد تخرج ألفاظ الاستفهام عن معناها الأصلي إلى معان أخر تفهم من السياق , سياق الكلام , فالهمزة قد تأتي للتسوية كقول الله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} فهنا ليست الهمزة للاستفهام , بل هي لتسوية الأمرين.
وكذلك النفي كقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فليس هذا استفهاما ؛ بل هو نفي , معناه: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وكذلك الإنكار كقوله تعالى: {أغير الله تدعون} , {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} , فهذا إنكار , إنكار عليهم في زعمهم ذلك , {أليس الله بكاف عبده} فتقول: بلى , هذا الذي يسمى بالاستفهام التقريري , وكذلك تأتي بمعنى الأمر كقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} هل أنتم منتهون في تحريم الخمر؟هذا ليس استفهاما؛ وإنما المقصود به المبالغة في النهي عن الخمر.
ويزعم الناس أن عيينة بن حصن الفزاري شرب الخمر بعد نزول هذه الآية , فدعاه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشرب الخمر بعدما حرمت؟ قال: ما حرمت؛ وإنما قال الله تعالى:{فهل أنتم منتهون} فسكت وسكتنا ,فلم يفهم من هذا أنه غاية في النهي , وكانت في عيينة حماقة نقص عنده.
ونحو: {أأسلمتم} معناه: أسلموا {فإن أسلموا فقد اهتدوا} والنهي كذلك، قد يرد الاستفهام بمعنى النهي كقوله تعالى: {أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} معناه لا تخشوهم.
وكذلك يرد الاستفهام بمعنى التشويق نحو:{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} , هذا تشويق لكم إلى تلك التجارة (غير مسموع).
وكذلك الصارف الآخر من صوارف الاستفهام عن معناه التعظيم , كقوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فمن هنا ,هنا استفهامية, لكن لا يقصد به الاستفهام؛ وإنما يقصد بهاتعظيم الله سبحانه وتعالى على أن يشفع عنده أحد إلا بإذنه , لا يتكلمون إلا عند إذنه لهم سبحانه وتعالى , ولذلك قال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} , قال:{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} , {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} , فكل ذلك للتعظيم , فقال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه.
وكذلك التحقير , كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
قفي فانظري أسماء هل تعرفينه ... أهذا المغيري الذي كان يذكر
أهذا الذي أطريت نعتاً فلم أكن ... وعيشك أنساه إلى يوم أقبر
فقالت نعم لا شك غيَّر لونه ... سري الليل يحيي نصفه والتهجر
لئن كان إياه لقد حال بعدنا ... عن العهد والإنسان قد يتغير
أهذا المغيري الذي كان يذكر ؟
فالرجل كان موصوفا بالجمال والحسن، ولكنه للسرى والسير في وقت الحر والشدة تغير لونه ، وهزل جسمه فلم يعد كما كان، فقال: أهذا المغيري الذي كان يذكر؟
أهذا الذي أطريت نعتا؟
الذي نعتّه فأطريته؛ فهذا هنا للتحقير.
أهذا الذي مدحته كثيرا ؟
تشير به إلى شخص جاء أقل مما وصف , ومن ذلك قول الله تعالى: {أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون}يطعنون فيه يقولون: {أهذا الذي يذكر آلهتكم}أي: يعيب الأصنام.