عِلْمُ المَعَـــانِي (1)
قال المؤلفون : هو عِلْمٌ (2) يُعْرَفُ بهِ (3) أحوالُ اللفظِ العربيِّ (4) التي بها (5) يُطَابِقُ (6) مُقْتَضَى الحالِ (7) فَتَخْتَلِفُ صورُ الكلامِ (8) لاخْتِلاَفِ الأَحوالِ (9).
مِثالُ ذلكَ قولُهُ تعالى: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} فَإِنَّ مَا قبلَ (أمْ) صورةٌ من الكلامِ تُخَالِفُ صورةَ ما بعدَهَا؛ لأَنَّ الأُولَى فيها فِعْلُ الإرادةِ مَبْنِيٌّ للمجهولِ (10)، والثانيةَ فيها فِعْلُ الإرادةِ مَبْنِيٌّ للمعلومِ (11)، والحالُ الداعي لذلكَ (12) نِسْبَةُ الخيرِ إليهِ سبحانَهُ وتعالى في (13) الثانيةِ، وَمَنْعُ نِسْبَةِ الشَّرِّ إليهِ (14) في (15) الأُولَى (16).
وَيَنْحَصِرُ الكلامُ هنا (17) على هذا العِلْمِ (18) في سِتَّةِ أبوابٍ (19).
________________________________
قال الشيخ محمد ياسين بن عيسى الفاداني: ( 1 ) (عِلْمُ المَعَانِي) هذا هو أوَّلُ علومِ البلاغةِ الثلاثةِ.
( 2) (هو عِلْمٌ) أي: مَلَكَةٌ، يَعْنِي: كَيْفِيَّةً وَصِفَةً رَاسِخَةً مِن العِلْمِ.
( 3) (يُعْرَفُ بِهِ) أيْ: يُمْكِنُ أنْ يُعْرَفَ معرفةً تصديقيَّةً، ( بسببِهِ ) يعني: بسببِ تلكَ المَلَكَةِ، فليسَ المرادُ بالمعرفةِ المعرفةَ التصورِيَّةَ ولا التصديقيَّةَ بالفِعْلِ، ويجوزُ أنْ يُرَادَ بالعلمِ نفسُ الأصولِ والقواعدِ المعلومةِ, فَيُقَدَّرُ مضافٌ فِي قولِهِ بهِ, أي: بسببِ عِلْمِ تلكَ الأصولِ والقواعدِ؛ لأَنَّ الأصولَ نفسَهَا لا تَصِيرُ سَبَباً فِي المعرفةِ إلا بعدَ حصولِ المَلَكَةِ.
( 4) (أحوالُ اللفظِ العَرَبِيِّ) أَعَمُّ مِن أنْ تكونَ أحوالَ مفردٍ كالمسندِ والمسندِ إليهِ، أو أحوالَ جُمْلَةٍ كالفصلِ والوَصْلِ والإيجازِ والإطنابِ والمساواةِ، فإنَّهَا قد تكونُ أحوالاً للجملةِ.
( 5) (التي بها) أي: بسببِ الأحوالِ.
( 6) (يُطَابِقُ) أي: اللفظُ، فالصلةُ جاريةٌ على غيرِ مَن هِيَ لهُ, ولمْ يَبْرُزْ جَرْياً على مذهبِ الكوفيينَ.
( 7) (مُقْتَضَى الحالِ) أي: صورةٌ مخصوصَةٌ.
وحاصلُ معنى هذا التعريفِ أنَّهُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بسببِهِ هذه الأحوالُ, لا مِن حيثُ ذاتُهَا, بلْ مِن حيثُ إنَّهُ يُحْكَمُ على كلِّ فَرْدٍ منها بأنَّها تَدْعُو المُتَكَلِّمَ إلى أنْ يُورِدَ كلامَهُ مُشْتَمِلاً على خصوصيةٍ ما، تُسَمَّى مُقْتَضَى الحالِ.
هذا وإضافةُ الأحوالِ للفظٍ للاستغراقِ العُرْفِيِّ أي: جميعِ الأحوالِ التي تَرِدُ علينا, لا الحقيقيِّ؛ لأَنَّ الأحوالَ لا نهايةَ لها، فَيَسْتَحِيلُ وجودُهَا، وَيَسْتَحِيلُ مَعْرِفَتُهَا، فلا يُعَدُّ الشخصُ عالِماً بعلمِ المعاني إلا إذا كانتْ له مَلَكَةٌ يَعْرِفُ بها جميعَ الأحوالِ التي تَرِدُ علينا، وأمَّا إذا كانتْ له مَلَكَةٌ يَعْرِفُ بها حالاًواحداًأو حالَيْنِ مثلاًفلا يُسَمَّى عالِماً بهِ. وخَرَجَ بهذهِ الإضافةِ أحوالُ ما سِوَى اللفْظِ، فليسَ البحثُ عنها من هذا العِلْمِ كأحوالِ الموجوداتِ والمعاني وأفعالِ المُكَلَّفِ، وخَرَجَ بقولِهِ: ( التي بها.... إلخ) أحوالُ اللفظِ التي ليستْ بهذه الصفةِ كأحوالِهِ مِن جهةِ كَوْنِهِ حقيقةً أو مجازاً، فالبحثُ عنها فِي عِلْمِ البيانِ وأحوالِهِ مِن جهةِ أنَّهُ مُحَسَّنٌ بِمُحَسِّنَاتٍ، فالبحثُ عنها فِي عِلْمِ البديعِ وهكذا.
( 8) (فَتَخْتَلِفُ صورةُ الكلامِ) أي: الصِّوَرُ المخصوصاتُ التي يُورَدُ عليها الكلامُ، وَتُسَمَّى مُقْتَضَيَاتِ الأحوالِ بالفتحِ.
( 9 ) (لاخْتِلاَفِ الأحوالِ) أي: لاختلافِ الأحوالِ المُقْتَضِيَةِ لَهَا (مثالُ ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} فإنَّ ما قبلَ (أَمْ) صورةٌ مِن الكلامِ تُخالِفُ صورةَ ما بعدَهَا؛ لأَنَّ) الصورةَ.
( 10) (الأُولَى فيها فِعْلُ الإرادةِ مَبْنِيٌّ للمجهولِ) أي: حُذِفَ الفاعلُ؛ إذ الأصلُ: أَشَرٌّ أَرَادَهُ اللهُ بِمَن فِي الأرْضِ.
( 11) (و) الصورةُ (الثانيةُ فيها فِعْلُ الإرادةِ مَبْنِيٌّ للمعلومِ) أي: إبقاءُ الفاعلِ من غيرِ حَذْفٍ.
( 12 ) (والحالُ الداعِي لذلِكَ) أي: المذكورُ مِن الصورتَيْنِ المتخالفتَيْنِ.
( 13 ) (نسبةُ الخيرِ إليهِ سبحانَهُ وتعالى فِي) الصورةِ.
( 14 ) (الثانيةِ، ومَنْعُ نسبةِ الشرِّ إليهِ) أي: إلى اللهِ تعالى
( 15 ) (في) الصورةِ
( 16 ) (الأولى) ويُؤْخَذُ مِن هذا التعريفِ أنَّ موضوعَ هذا العلمِ اللفظُ العَرَبِيُّ مِن حيثُ اشتمالُهُ على تلكَ الخصوصياتِ التي بها يُطَابِقُ مُقْتَضَى الحالِ.
وأَمَّا وَاضِعُهُ؛ فقيلَ: هو الشيخُ الإمامُ أبو بكرٍ عبدُ القاهرِ بنُ عبدِ الرحمنِ الجُرْجَانِيُّ المُتَوَفَّى سنةَ 471 حيثُ دَوَّنَ كتابَيْهِ (أسرارِ البلاغةِ) وَ(دلائلِ الإعجازِ)، نَعَمْ قد أَثَّرَ فيهِ نُبَذٌ عن بعضِ البُلَغَاءِ قبلَهُ كالجاحظِ فِي إعجازِ القرآنِ، وابنِ قُتَيْبَةَ فِي كتابِهِ (الشعرِ والشعراءِ)، والمُبَرَّدِ فِي كتابِهِ (الكاملِ) لكنْ لم يَبْرُزْ صالحاً لأنْ يكونَ عِلْماً إلا على يدِ عبدِ القاهرِ الجُرْجَانِيِّ.
( 17 ) (وَيَنْحَصِرُ الكلامُ هنا) أي: فِي هذا الكتابِ
( 18 ) (على هذا العِلْمِ) أي: عِلْمِ المعانِي
( 19 ) (في ستةِ أبوابٍ) مِن حَصْرِ الكُلِّ فِي أجزائِهِ؛ لأَنَّ الكلامَ لفظٌ, وهو كلٌّ، والأبوابُ المُنْحَصِرُ فيها ألفاظٌ، ضَرُورَةَ أنَّها تراجمُ، وهِيَ أجزاءٌ لذلكَ الكُلِّ، ودليلُ الحصرِ الاستقراءُ. وقد يُقَالُ: الكلامُ إمَّا خبرٌ أو إنشاءٌ، فهذا هو البابُ الأوَّلُ، والخبرُ لاَ بُدَّ له مِن مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إليهِ، وقدْ يكونُ لِكُلٍّ منهما متعلقاتٌ، وكلٌّ مِن المُسْنَدَيْنِ ومِن مُتَعَلِّقَاتِهِمَا يَطْرَأُ عليهِ الحَذْفُ والذِّكْرُ, وهذا هو البابُ الثاني، أو التقديمُ والتأخيرُ, وهذا هو البابُ الثالثُ.
ثم الرابطُ بينَ المسندَيْنِ والمتعلِّقَيْنِ - أَعْنِي الإسنادَ والتَّعَلُّقَ - إمَّا بقَصْرٍ أو بغيرِ قَصْرٍ, وهذا هو البابُ الرابعُ. ثم الجملةُ إنْ قُرِنَتْ بِأُخْرَى، فَإمَّا أنْ تكونَ الثانيةُ معطوفةً على الأُولَى أو لا، وهما الفَصْلُ والوَصْلُ، وهذا هو البابُ الخامِسُ، ثمَّ الكلامُ البليغُ إمَّا زائدٌ على أَصْلِ المرادِ لفائدةٍ أو لا، وهذا هو البابُ السادِسُ.