بــابُ اللاّمَاتِ:
(وفَخِّمِ اللامَ مِن اسمِ اللهِ) أي لا مِن غيرِ اللهِ إلا في قاعدةِ وَرْشٍ لبعضِ اللامَاتِ المخصوصةِ عن فتحٍ أو ضمٍّ بالنقلِ أي: بعدَ أحدِهما (كعبدِ اللهِ) بفتحِ الدالِ وضمِّها ليصحَّ مِثَالًا على وَفْقِ العملِ القرآنيِّ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقْرَأَ بالجَرِّ على وفقِ الحلِّ الْإِعْرَابِيِّ، والمرادُ به أنَّهُ تُفَخَّمُ بعدَ أحدِهما، ثمَّ اللامُ أصلُها الترقيقُ، عكسُ الراءِ عندَ أهلِ التحقيقِ، فلا تفخيمَ إلا لمُوجِبٍ، ومِن ثَمَّةَ كانَ المانعُ في الراءِ عن التفخيمِ أو الترقيقِ سببًا لأحدِهما في اللامِ فهي من اسمِ اللهِ تعالى، وإنْ زيدَ عليه ميمٌ وصارَ اللهمَّ إذا تقدَّمَتْها فتحةٌ مَحْضَةٌ أو ضمَّةٌ كذلكَ، فإنَّها تكونُ مُفَخَّمَةً نحوُ {اللهُ ربُّنُا} ابتداءً و {سَيُؤْتِينَا اللهُ} وصلًا {لمَّا قامَ عبدُ اللهِ}و{قالَ اللَّهُمَّ} {وقالُوا اللَّهُمَّ} لمناسبةِ الفتحةِ والضمِّ التفخيمَ المناسبَ للفظِ اللهِ مِن التعظيمِ؛ لكونِه الاسمَ الأعظمَ عندَ الجمهورِ المعظمِ، فإنْ تَقَدَّمَتْهَا كسرةٌ مباشرةٌ، بأنْ لم تكنْ بينَ الكسرةِ واللامِ حركةٌ أُخْرَى، وهي مَحْضَةٌ غيرُ مُمَالةٍ، مُتَّصِلَةٌ، اتصالًا صُورِيًّا رسميًّا، نحوَ (للهِ) و(باللهِ) فإنَّ الاتصالَ الحقيقيَّ غيرُ مُتَصَوَّرٍ في الحرفِ الذي يُوجَدُ قبلَ الجلالةِ، أو مُنْفَصِلَةٌ، عارضةٌ، ولازمةٌ، فإنها تكونُ مُرَقَّقَةً، نحوَ {لله ِالأمرُ} و{أَقْسَمُوا باللهِ} و {أفي اللهِ شكٌّ} و {بسمِ اللهِ} و{ما يَفْتَحِ اللهُ}و {قُلِ الحقُّ } ولم يذكرْ في المتنِ حُكْمَ ترقيقِها إحالةً على أصلِها، أو اكتفاءً بمفهومِ منطوقِ حُكْمِها، على ما هو المُعْتَبَرُ عندَنا في الروايةِ، وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ اللهُ حتَّى في أدلَّةِ الدِّرايةِ، ثمَّ هذه اللامُ إن وقعتْ بعدَ ترقيقٍ خالٍ مِن مُمَالِ الكسرةِ فهي على تَفْخِيمِها، نحوُ (يُبَشِّرُ اللهُ) في قراءةِ وَرْشٍ، أو بعدَ إمَالةٍ كُبْرَى أي: محضةٍ وذلكَ في قراءةِ السُّوسِيِّ فوجهانِ نحوُ {حتَّى نَرَى اللهَ} التفخيمُ وبهِ قرأَ أبو العباسِ، والترقيقُ وبه قرأَ عبدُ الباقي، وإطلاقُ المصنِّفِ ممَّا يُؤَيِّدُ الأَوَّلَ، فَتَأَمَّلْ. ثمَّ اعلمْ أنَّ اجتماعَ اللامينِ على أربعةِ أقسامٍ مُرَقَّقَيْنِ نحوُ: {على الذينَ }ومُفَخَّمَتَينِ نحوَ: {أضَلَّ اللهُ } في قراءةِ وَرْشٍ عندَ بعضِهم، ومُرَقَّقَةٌ مُفَخَّمَةٌ نحوُ و {أَحَلَّ اللهُ }ومُفَخَّمَةً ومُرَقَّقَةً نحوَ { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } في قراءةِ وَرْشٍ، فَأَعْطِ كُلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، خصوصًا المُخْتَلِفِينَ، خوفَ السرايةِ، هذا وقيلَ: إنَّما فُخِّمَت اللامُ مِن لفظةِ اللهِ فَرْقًا بينَه وبينَ سائرِ اللامَاتِ، ولعلَّ مرادَه أنَّ التفخيمَ إنَّما هو لمجرَّدِ التعظيمِ، وهو لا ينافي ما ذُكِرَ مِن أنَّ وجهَ تفخيمِها فيما ذُكِرَ هو نَقْلُ الخَلَفِ عن السلفِ، وتَوَارُثُهُم ذلكَ كابرًا عن كابرٍ من غيرِ نَكيرِ مُكَابِرٍ. (وحرفَ الاستعلاءِ ) بحذفِ همزةِ الوصلِ في الدَّرَجِ، ونُصِبَ (حرفَ) على أنَّهُ مفعولٌ مُقَدَّمٌ لقولِه (فَخِّمْ) ويجوزُ رفعُه على تقديمِ فَخِّمْهُ نحوُ قولِه تعالى: {والقمرَ قَدَّرْنَاهُ}على القِراءتينِ. ثمَّ المرادُ بحرفِ الاستعلاءِ أعمُّ مِن أنْ يكونَ مُطْبَقًا أو غيرَ مُطْبَقٍ، ولذا قالَ (واخْصُصَا) بِضَمِّ الصادِ وبالألفِ المُبْدَلَةِ مِن النونِ المُخَفَّفَةِ (لإطباقٍ) بنقلِ الحركةِ والاكتفاءِ بها عن همزةِ الوصلِ، ونصبُه على أنَّهُ مفعولٌ لما قبلَه (أقوى) صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، والمعنى خَصِّصْ حروفَ الإطباقِ بتفخيمٍ أقوى مِن تفخيمِ سائرِ حروفِ الاستعلاءِ (نحوُ قالَ) بالرفعِ, وَجُوِّزَ نصبُه (والعصا) بالألفِ لا بالياءِ كما في بعضِ النسخِ. والحاصلُ أنَّهُ أَمَرَ بتفخيمِ حروفِ الاستعلاءِ السبعةِ المتقدِّمَةِ المُجْتَمِعَةِ في كلماتِ "قِظْ خُصَّ ضَغْطٍ" مثلَ (قائمًا) و (الظالمينَ) و (خالدينَ) و (صادقينَ) و (الضَّالِّينَ) و (الغَارِمِينَ) و (الطَّامَّةُ) وأمرَ بتخصيصِ حروفِ الإطباقِ الأربعةِ مِن جملتِها, وهي الصادُ والطاءُ مُهْمَلَتَيْنِ، ومُعْجَمتينِ، وبينهما عمومٌ وخصوصٌ مُطْلَقٌ، إذ كُلُّ مُطْبَقَةٍ مُسْتَعْلِيَةٌ، ولا كُلُّ مستعليَةٍ مطبقةٌ، فأتَى بمثالينِ؛ مثالٌ لحرفِ الاستعلاءِ غيرِ المُطْبَقِ وهوَ القافُ في (قالَ)، ومثالٌ لحرفِ الاستعلاءِ المُطْبَقِ وهوَ الصادُ في (العصا)، قالَ ابنُ المُصَنِّفِ وَتَبِعَه غيرُه: والألفُ واللامُ للعهدِ أي: العصا المذكورةُ في قولِه { اضربْ بعصاكَ } ا.هـ. وفيه بحثٌ لا يخفى فإنَّ الحُكْمَ شاملٌ له ولغيرِه أيضًا، مِن قولِه تعالى حكايةً عن موسى {قالَ هَيَ عَصَايَ} وقولُه تعالى: { فَأَلْقَى عَصَاهُ } وأيضًا قولُه تعالى: {وعصى آدمُ ربَّه } فالصحيحُ أنَّ اللامَ للجنسِ الاستغراقيِّ الشاملِ لمادَّتَي هذا اللفظِ من الواويِّ واليائيِّ، وأمَّا صادُ غيرِ هذا البناءِ فَيُعْلَمُ حكمُه مِن قولِه: نحوَ العصَا؛ إذ هو مَعْطُوفٌ على قالَ بكُلِّ حالٍ، نعم لو قالَ معَ عصا بالألفِ أو الياءِ لَطابقَ ألفاظَ التنزيلِ , وهو أوفقُ في مقامِ التمثيلِ وأمَّا قولُ زكريَّا: لِكونِها أقوى، فلا دلالةَ على تقديرِه في المبنى، فلا يَتَعَدَّى على ما قدَّمْنَاه في المعنى، غايتُه أنَّ الباءَ في (أقوى) محذوفةٌ على حدِّ قولِ القائلِ: تَمُرُّونَ الديارَ، أي تَمُرُّونَ بِها. ثمَّ اعلمْ أنَّ في إتيانِ المثالينِ المُتَقَدِّمَيْنِ نُكْتَةً بَدِيعَةً وَحَكْمَةً مَنِيعَةً، وهي أنَّ الصادَ المُهْمَلَةَ معَ قُوَّتِهَا أضعفُ حروفِ الإطباقِ؛ لأنَّه مهموسٌ، والقافُ أقوى من باقي حروفِ الاستعلاءِ , هذا وحروفُ الاستعلاءِ بحسبِ القوَّةِ والضعفِ الناشئتينِ من اختلافِ أحوالِها ثلاثةُ أضربٍ عندَ ابنِ الطحَّانِ الأندلسيِّ:
الأَوَّلُ: ما يَتَمَكَّنُ فيه التفخيمُ، وهو ما كانَ مَفْتُوحًا. الثاني: ما كانَ دونَه وهو المضمومُ، والثالثُ: ما كانَ دونَه أيضًا وهوَ المكسورُ، وعندَ المُصَنِّفِ على خمسةٍ: ما كانَ بعدَه ألفٌ، ثمَّ ما كانَ مفتوحًا مِن غيرِ ألفٍ بعدَها، وهذانِ النوعانِ مُنْدَرِجَانِ تحتَ جنسٍ أَوَّلِ الثلاثةِ، ثمَّ ما كانَ مَضْمُومًا، ثمَّ ما كانَ ساكنًا ثمَّ ما كانَ مَكْسُورًا.
(وبيِّن الإطباقَ مِن أَحَطْتُ معَ = بَسَطْتَ والخلْفُ بنَخْلُقْكم وَقَعْ)
أَمَرَ ببيانِ صفةِ إطباقِ الطاءِ مِن قولِه تعالى حكايةً عن الْهُدْهُدِ: { أحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } ومِن قولِه تعالى: { لَئِن بَسَطْتَ إليَّ يَدَك } َ لئلاَّ تَشْتَبِهَ الطاءُ المُطْبَقَةُ المُسْتَعْلِيَةُ الجَهْريَّةُ بالتاءِ المُنْفَتِحَةِ المُسْتَفِلَةِ المَهْمُوسَةِ المُدْغَمَةِ، كَمَا هو أصلُ القاعدةِ في إدغامِ الحروفِ المُتَقَارِبَةِ وكذا الحُكْمُ في قولِه: { فَرَّطْتُ في جنبِ اللهِ } ثمَّ أخبرَ أنَّ الاختلافَ وقعَ بينَ أهلِ الأداءِ مِن المشايخِ في إبقاءِ صفةِ استعلاءِ القافِ معَ الإدغامِ في قولِه تعالى: {ألمْ نَخْلُقْكُمْ مِن ماءٍ مَهِينٍ} وفي ذهابِها معَه، معَ اتِّفَاقِهمَ على الإدغامِ، قالَ ابنُ المصنِّفِ: وكِلاَهما جائزانِ، وذِهَابُها أَوْلَى. وقالَ الناظمُ في كتابِ التمهيدِ: والأَوَّلُ مذهبُ المكيِّ وغيرِه، والثاني مذهبُ الدانيِّ ومَن وَالاَهُ، ثمَّ قالَ: قلتُ: كَلاَمُها حسنٌ، وبالأَوَّلِ أخذَ البصريُّونَ، وبالثاني أخذَ الشاميُّونَ، واختياري الثاني، وِفَاقًا للدانيِّ. وقالَ في النشرِ: الإدغامُ المحضُ أصحُّ روايةً وأَوْجَهُ قياسًا. أقولُ ولهذا لم يَلْتَفِت الشاطبيُّ لهذا الخلافِ أصلًا، ولعلَّه أرادَ بالقياسِ إجماعَهم على إدغامِ القافِ في الكافِ للسُّوسِيِّ إدغامًا مَحْضًا، معَ وجودِ تَحَرُّكِ القافِ وَتَعَدُّدِ الكلمتينِ، فمعَ السكونِ واتِّحَادِ الكلمةِ بالأُولَى. ثمَّ اعلمْ أنَّ الإدغامَ على قسمينِ: إدغامٌ تامٌّ وهو: إدراجُ الأَوَّلِ في الثاني ذاتًا وصفةً، مثلَ { قالَتْ طائفةٌ }، وإدغامٌ ناقصٌ وهو إدراجُ الأَوَّلِ في الثاني ذاتًا لا صفةً، وإدغامُ (أَحَطْتَ) ونظائرِه مِن قبيلِ الناقصِ، وأيضًا قُوَّةُ الطاءِ وَضَعْفُ التاءِ يمنعُ الإدغامَ الكاملَ، ولولا التجانُسُ لم يَسُغ الإدغامُ أصلًا؛ لأنَّ القويَّ لا يُدْرَجُ في الضعيفِ، بخلافِ العكسِ، نحوُ { فآمَنَتْ طائفةٌ } حيثُ أجمعُوا فيه على الإدغامِ الكاملِ كما أجمعُوا في نحوِ { أَحَطْتُ } على الإدغامِ الناقصِ، ثمَّ ما وقعَ في عبارةِ بعضِهم مِن إظهارِ القافِ في (نَخْلُقْكُمْ) فذلكَ خطأٌ محضٌ، اللهمَّ إلا أنْ يُحْمَلَ على إظهارِ صفةِ استعلائِها لا على إظهارِ الحرفِ ذاتِه، فَعُلِمَ أنَّ ما ذكرَه ليسَ بإدغامٍ محضٍ ولا إظهارٍ محضٍ، بل حالةً بينَهما، فهو بالإخفاءِ أشبهُ، فيكونُ نظيرَ ما قالَ الشاطبيُّ رحمَهُ اللهُ.
وإدغامُ حرفٍ قبلَه صحَّ ساكنٌ = عسيرٌ وبالإخفاءِ طَبَّقَ مِفْصَلا
وإنَّما وقعَ الخلافُ في القافِ دونَ الطاءِ؛ لأنَّ الإطباقَ أقوى مِن الاستعلاءِ فيجبُ إبقاءُ الأَوَّلِ دونَ الثاني، وأمَّا ما ذكرَه الرُّومِيُّ مِن أنَّهُم فرَّقُوا بينَ (بَسَطْتَ) و (نَخْلُقْكُمْ) بأنَّ إعطاءَ صفةِ الاستعلاءِ في الأَوَّلِ بزيادةِ الطاءِ قبلَ التاءِ المُشَدَّدَةِ، وفي الثاني بلا زيادةِ القافِ، فلم نرَ في الكُتُبِ المَنْسُوبَةِ إليهم، ولا سَمِعْنا مِن المشايخِ الذين قَرَأْنَا عليهم , وحقَّقْنا وجوهَ القراءةِ لديهِم، ثُمَّ ما ذكرَه مِن تلقاءِ نفسِه مِن وجهِ الفرقِ بينهما فممَّا لا يُلْتَفَتُ إليه ولا يُعَوَّلُ عليه، ثمَّ رأيتُ مَنْشَأَ وَهْمِه كَلاَمَ ابنِ الحاجبِ مِن غيرِ فهمِه حيثُ اسْتَشْكَلَ الإدغامَ بأنَّ الإطباقَ صفةٌ للمُطْبَقِ ولا يتأتَّى إلا به فلو بَقِيَ الإطباقُ معَ الإدغامِ لَلَزِمَ اجتلابُ طاءٍ أخرى لِتُدْغَمَ في التاءِ غيرِ الطاءِ التي قامَ بها وصفُ الإطباقِ، وفي ذلكَ جمعٌ بينَ ساكنينِ فإذا نحوُ (فَرَّطْتُ) بالإطباقِ ليسَ فيه إدغامٌ حقيقةً، ولكنَّه لَمَّا اشتدَّ التقاربُ وَأَمْكَنَ النطقُ بالثاني بعدَ الأَوَّلِ مِن غيرِ نقلِ اللسانِ أَطْلَقْنَا عليه الإدغامَ مَجَازًا؛ لكونِ ذلك النطقِ كالنطقِ بالمثلِ بعدَ المثلِ، على ما ذكرَه الجَارَبَرْدِيُّ وغيرُه، وفَرْقٌ بينَ الإطباقِ والغُنَّةِ لا تَتَوَقَّفُ على النونِ؛ لأنَّها مِن مَخْرَجٍ غيرِ مَخْرَجِه؛ فإنَّ النونَ مِن الفمِ , والغُنَّةَ مِن الخيشومِ، بخلافِ الإطباقِ فإنَّهُ معَ المُطْبَقِ فإخراجُه لا يتأتَّى إلا به، وأمَّا ما ذَكَرَهُ المصريُّ بقولِه: وَأُجِيبَ بأنَّ القُرَّاءَ نصُّوا على أنَّ في نحوِ (فَرَّطْتُ) تشديدًا، ولا يمتنعُ إبقاءُ الإطباقِ في الطاءِ قائمًا بمحضِ صوتِ الطاءِ؛ لأنَّ الطاءَ لم تستكملْ إدغامَه في التاءِ ولا يلزمُ اجتلابُ طاءٍ أخرى ولا جمعٌ بينَ ساكنينِ وعلى هذا فقياسُه على الغُنَّةِ مستقيمٌ. ا هـ. فلا يخفى ما فيه من المُصَادَرَةِ، بل ما في مُعَارضتِه مِن المكابرةِ ثمَّ قولُه: إذا سَكَنَتِ الطاءُ وأتَى بعدَها تاءٌ وجبَ إدغامُها إدغامًا غيرَ مُسْتَكْمَلٍ، بل يبقى معَه صفةُ الإطباقِ لقُوَّةِ الطاءِ وضعفِ التاءِ، فيتعيَّنُ على المُجَوِّدِ أنْ يُوَفِّيَها حقَّها لاسيَّما إذا كانتْ مشدَّدَةً نحوَ (اطَّيَّرْنَاْ) و (أنْ يَطَّوَّفَ) ففيه أنَّ المثالينِ الأخيرينِ ليسا ممَّا نحنُ فيه بلْ مِن قبيلِ (ودَّتْ طائفةٌ) حيثُ أجمعُوا على أنَّهُ مِن الإدغامِ الكاملِ، وأنَّ أصلَهما اتطَيَّرْنَا و (يَتَطَوَّفَ) فَأُعِلاَّ بإعلالٍ حُقِّقَ في مَحَلِّهِمَا، فهو مِن بابِ إدغامِ الأضعفِ في الأقوى؛ ليصيرَ مثلَه في القوَّةِ، بخلافِ نحوِ (أَحَطْتُ) فإنَّه مِن بابِ إدغامِ الأقوى في الأضعفِ، فيمتنعُ اندراجُه فيه بالكُلِّيَّةِ، وبه يحصلُ الفرقُ في هذه القضيَّةِ على قواعدِ العربيَّةِ، وقالَ بعضُهم: ومِن العربِ مَن يُبْدِلُ التاءَ طاءً ثمَّ يُدْغِمُ إدغامًا مُسْتَكْمَلًا، فيقولُ (أَحَطْتُ) و (فَرَّطْتُ) بطاءٍ واحدةٍ مُشَدَّدَةٍ مُدْغَمَةٍ، قالَ شريحٌ: وهذا ممَّا يجوزُ في كَلاَمِ الخلقِ لافي كَلاَمِ الخالقِ عزَّ وجلَّ / ا هـ. لأنَّ كَلاَمَ اللهِ لا يجوزُ فيه التصرُّفُ على خلافِ ما ثَبَتَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطرقِ المتواترةِ في القِرَاءاتِ المُشْتَهِرَةِ، وأمَّا في كَلاَمِ المَخْلُوقِينَ فَيُتَوَسَّعُ بكُلِّ ما جاءَ مِن اللغةِ، وبهذا يتبيَّنُ أنَّهُ لم يَرِدْ في لغةٍ إبدالُ الطاءِ تاءً وإدغامُها فيها، فيَجِبُ الاحْتِرَاسُ عنها. (واحرِصْ) بكسرِ الراءِ (على السُّكُونِ في جَعَلْنَا) أي: في لامِ جَعَلْنَا؛ إذ كُلُّ سكونٍ لابدَّ مِن الحرصِ على بيانِه، وكذا الحركةُ، إلا أنَّهُ خَصَّ لامَ ( جَعَلْنَا) لئلاَّ تصيرَ مُدْغَمَةً ولا مُتَحَرِّكَةً، فحينئذٍ يتغيرُ المعنى باختلافِ المبنى كما لا يَخْفَى، ونحوُه (أَنْزَلْنَا) وكذا (قُلْنَا) ممَّا فيه اللامُ ساكنةٌ وبعدَها نونٌ، فيجبُ التحفُّظُ بإظهارِها معَ رعايَةِ سكونِها، قالَ المصريُّ: لا كما يفعلُه بعضُ الأعاجمِ مِن قصدِ قَلْقَلَتِهَا. قلتُ: اللامُ ليسَ مِن حروفِ القلقلةِ فإنَّ حروفَها "قُطْبَ جَدٍّ" لا حروفُ القلقلةِ كما توهَّمَ المصريُّ مِن الذهولِ والغفلةِ (انْعَمْتَ والْمَغْضُوبِ معَ ضَلَلْنَا) أي: وكذا كنْ حريصًا على بيانِ سكونِ نونِ (أنعمتَ) وَمِيمِهَا، وغينِ المغضوبِ، ولامِ الثانيَةِ مِن (ضَلَلْنَا)َ، ليُتَحَرَّزَ مِن تَحْرِيكِها، كما يفعلُه جهلةُ القُرَّاءِ؛ فإنَّ ذلكَ مِن فظيعِ اللحنِ عندَ العلماءِ، و (ضَلَلْنَا) بالضادِ ثابتٌ في القرآنِ عندَ قولِه: { وقالَوا أَئِذَا ضَلَلْنَا في الْأَرْضِ} وأمَّا (ظَلَلْنَا) بالظاءِ المُشَالَةِ فلم يوجدْ فيه مُخَفَّفَةٌ، ولا ضرورةَ بالإتيانِ بها , والقولُ بتخفيفِها للوزنِ، ولا يَغُرَّنَّكَ كثرةُ النسخِ عليها وإشارةُ بعضِ الشرَّاحِ إليها، واقتصرَ ابنُ المصنِّفِ على نونِ (أنْعَمْتَ) وتِبعَه الشرَّاحُ، فالحكمُ يشملُ الميمَ على حسبِ التعميمِ، نعمْ في معنى نونِ (أنعمتَ) كُلُّ نونٍ ساكنةٍ بعدها حرفٌ مِن حروفِ الْحَلْقِ كـ (يَنْأَوْنَ) و (مَنْ آمَنَ) و (منْه) و (إنْ هُوَ) و (تَنْحِتونَ) و (مَن حادَّ اللهَ) و (يَنْعِقُ) و (منْ علمَ ) و (ينغضونَ) و (عذابٌ غليظٌ) و (المُنْخَنِقَةُ) و (مِنْ خوفٍ) ونحوُ ذلكَ، ثمَّ لا يسكتُ على النونِ سكتةً لطيفةً كأنَّهُ يريدُ بها إيضاحَ إظهارِها, وأنَّهَا لاغُنَّةَ فيها؛ فإنَّ ذلكَ خطأٌ محضٌ لا يفعلُه إلا الجهلةُ مِن القُرَّاءِ, في معنى غينِ (المغضوبِ) (ضِغْثًا) و (بَغْيًا) و (أَفْرِغْ علينا) و (أغنى) و (يُغْشَى) وعلَّلَ المصنِّفُ في التمهيدِ إظهارَ الغينِ الساكنةِ عندَ الشينِ مِن (يغشى) بقولِه: لئلاَّ يَقْرَبَ مِن لفظِ الخاءِ، لا شتراكِهما في الهمسِ والرَّخاوةِ.
(وَخَلِّصِ انْفِتَاحَ مَحْذُورًا عسىَ = خَوفَ اشْتِبَاهِهِ بِمَحْظُورًا عَصَى)
أي بَيِّنْ ومَيِّزْ صفةَ الانفتاحِ عن الاطِّبَاعِ في نحوِ (مَحْذُورًا) عندَ قولِه: { إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وفي نحوِ { عسى أنْ يبعثَكَ ربُّكَ مقامًا محمودًا} لئلاَّ يشتبهَ الذالُ بالظاءِ في قولِه: {وَمَا كانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} والسينُ بالصادِ في قولِه تعالى: { وَعَصَى آدمُ ربَّهُ فَغَوَى} فإنَّ كُلاّ مِن الذالِ والظاءِ مِن مَخْرَجٍ واحدٍ، وكذلكَ السينُ والصادُ، وإنَّما يتميَّزُ كُلٌّ مِن الآخرِ بتمييزِ الصفةِ، فالذالُ والسينُ مُنْفَتِحَتَانِ، والظاءُ والصادُ مُطْبَقَتَانِ، فينبغي أنْ يَخْلُصَ كُلُّ واحدٍ مِن الآخرِ بانفتاحِ الفمِ وانطباقِه، وما يترتَّبُ عليهما مِن ترقيقِ الأُولَيَيْنِ وَتَفْخِيمِ الأُخْرَيَيْنِ، وكذا حُكْمُ كُلِّ حرفٍ معَ غيرِه إذا كانا مُتَّحِدي المَخْرَجِ مُخْتَلِفِي الصفةِ، ثمَّ الضميرُ في (اشتباهِه) راجعٌ إلى الحرفِ المُنْفَتِحِ بقرينةِ التامِّ، أو تقديرُه:
خوفُ اشتباهِ كُلِّ واحدٍ مِن ( مَحذورًا ) وعسى بمحظورًا وعصىَ، أو خوفُ اشتباهِ المذكورِ. كذا ذكرَه الشرَّاحُ على اختلافِ اختيارِ كُلٍّ منهم، والأظهرُ أنَّ ضميرَه راجعٌ إلى الانفتاحِ، أي: مَخَافَةَ اشتباهِ انفتاحِ محذورًا وعسى بإطباقِ محظورًا وعصى, ووجهُ الأظهريَّةِ أنَّ محلَّ الاحتياجِ في صحَّةِ الحملِ إلى التقديرِ وهو الثاني دونَ الأَوَّلِ فتأَمَّلْ (وراعِ شِدَّةً) أي: كائنةً (بكافٍ) أي: في كافِ (وبتا) بالقصرِ على وقفِ حمزةَ في الهمزةِ لا كما قالَ الروميُّ: إنَّهَا للضرورةِ (كَشِرْكِكُمْ وَتُتَوَفَّا فِتْنَتًا) بألفِ الاطلاقِ أو بإبدالِ التنوينِ ألفًا وقفًا على ما جاءَ في لغةٍ، وراعِ أمرٌ من المراعاةِ والمُفَاعلةِ إذا لم تَكُنْ للمُفَاعَلَةِ فهي للمُبَالَغَةِ , وقولُ الروميِّ أمرٌ مِن الرعاية ففيه نوعُ مُسَاهَلَةِ حيثُ لم يُراعِ فيه القاعدةَ المُمَيِّزَةَ بينَ المُجَرَّدِ والمزيدِ الفارقةَ لطالبِ المزيدِ فأمرَ بِمُرَاعَاةِ الشدَّةِ في الكافِ والتاءِ نحوُ نَكْتَلْ وَيَتْلُو خصوصًا عندَ وُرُودِ تكرارِها نحوُ قولِه تعالى: { يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكِمْ} { وَتَتَوَفَّاهُمُ الملائكةُ} { واتَّقُوا فِتْنَةً} وذلكَ لأنَّ الشِّدَّةَ تمنعُ الصوتَ أنْ يجرىَ مَعَهُمَا معَ ثباتِهما في موضعِهما قَوِيَّيْنِ فاحذرْ أنْ تتبعَها رَكاكةٌ. والحاصلُ أنُّ كُلُّ حرفٍ ينبغي أنْ تُرَاعَى فيه صفاتُه المُتَقَدِّمَةُ مِن جهرٍ وهمسٍ وشِدَّةٍ ورِخْوَةٍ وغيرِ ذلكَ بعدَ تمكينِه مِن مَخْرَجِه، فاحفظْ هذه القاعدةَ الكُلّيَّةَ وقسْ عليها الأمثلةَ الجزئيَّةَ ولم يَنُصَّ عليها صاحبُ الجَزْرِيَّةِ هذا وقالَ في التمهيدِ: إذا تكرَّرَت الكافُ مِن كلمةٍ أو كَلِمَتَيْنِ فلا بدَّ مِن بيانِ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لئلاَّ نُقَرِّبَ اللفظَ مِن الإدغامِ لتكَلُّفِ اللسانِ بصعوبةٍ التكريرَ نحوُ قولِه تعالى: { مَنَاسَكَكُمْ } { وإنَّكَ كنتَ} على مذهبِ المُظْهِرِ , وكذا الحُكْمُ في تاءِ { تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} { واتَّقُوا فِتْنَةً } وأشباهِهِ فَتُرَاعَى الشدَّةُ التي فيها؛ لئلاَّ تصيرَ رخوةً كما يَنْطِقُ بها بعضُ الناسِ وربَّمَا جُعِلَتْ سينًا إذا كانتْ ساكنةً نحوُ فِتْنَةٍ { واتلْ عَلَيْهِمْ }؛ ولذا أدخلَها سيبويهِ في جملةِ حروفِ القلقلةِ وتتأكَّدُ المراعاةُ فيها إذا تكرَّرَتْ نحوُ { تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} { وَتَتَوَفَّاهُمْ } لصعوبةِ اللفظِ بِالمُكَرَّرِ على اللسانِ وقالَ مكيٌّ في الرعايةِ: هو بمنزلةِ الماشيِ يرفعُ رجليهِ مرَّتينِ أو ثلاثَ مرَّاتٍ ويردُّها في كُلِّ مَرَّةٍ إلى الموضعِ الذي رفعَها منه وقالَ المصريُّ: وهذا ظاهرٌ ألا ترى أنَّ اللسانَ إذا تَلَفَّظَ بالتاءِ الأُولَى رجعَ إلى موضعِه لِيَتَلَفَّظَ بالثانيَةِ وذلكَ صعبٌ فيه تكَلُّفٌ ولكن لا يَخْفَى أنَّ قولَه أو ثلاثَ مَرَّاتٍ زائدةٌ؛ لأنَّ الكَلاَمَ في تكرارِها ثلاثَ مَرَّاتِ كما نُقِلَ وليسَ فيه ما هو بمنزلةِ رفعِ رجلٍ ثلاثَ مَرَّاتٍ بلْ مَرَّتَينِ. أقولُ: بلْ هو غيرُ زائدةٍ إذ قد يُوجَدُ التَّكْرَارُ ثلاثَ مَرَّاتٍ لا في كلمةٍ بل في كلماتٍ مُتَوَالِيَاتٍ كما في قولِه تعالى: { تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} وصلًا, وكذا قولُه تعالى: { تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}ولا يُشْتَرَطُ في إثباتِ تكرارِ التاءِ أنْ لا يكونَ بينهما فصلٌ؛ ولذا عُدَّ في أمثلةِ التَّكْرَارِ قولُه فِتْنَة,ً كما سبقَ في كَلاَمِ المصنِّفِ إلا أنَّ قولَه: وربَّمَا جُعِلَتْ سِينًا إذا كانتْ ساكنةً نحوُ فِتْنَةً فيه بحثٌ؛ إذ الظاهرُ المُتَبَادِرُ أنَّهَا تصيرُ دالًا إذا لم يُرَاعَ فيها صفةَ الشَّدَّةِ والهمسِ لاتِّحَادِ مَخْرَجِهما والتمييزِ بينَهما باعتبارِ صفتِهما وأمَّا السينُ والدالُ فبينهما قُرْبُ المَخْرَجِ واللهُ أعلمُ ثمَّ ممَّا يجبُ الاعتناءُ بالتاءِ خصوصًا إذا كانَ بعدَها طاءٌ ساكنةٌ أو ظاءٌ نحوُ { أَفَتَطْمَعُونَ}
{ وَتَطْهِيرًا } { وَلاَ تَطْغَوْا } { ولا تَظْلِمُونَ}.