قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
باب أفضل الصيام وغيره
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما , قال: أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت الذي قلت ذلك))؟ فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يارسول الله , قال:((فإنك لا تستطيع ذلك , فصم وأفطر وقم ونم وصم من الشهر ثلاثة أيام , فإن الحسنة بعشر أمثالها , وذلك مثل صيام الدهر)) قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك , قال: ((فصم يوما وأفطر يومين)) قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك ، قال:((فصم يومًا وأفطر يومًا , فذلك صيام داود عليه السلام , وهو أفضل الصيام)) قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك , فقال: ((لا أفضل من ذلك)) .
وفي رواية قال:((لا صوم فوق صوم أخي داود عليه السلام , شطر الدهر , صم يوما وأفطر يوما)) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحب الصيام إلى الله صيام داود عليه السلام , وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام , كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه , وكان يصوم يوما ويفطر يوما)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر , وركعتي الضحى , وأن أوتر قبل أن أنام)).
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم , والحمد لله والصلاة والسلام على محمد .
هذه الأحاديث تتعلق بصيام التطوع ، الله تعالى فرض جنس الصيام وهو شهر رمضان , فرضه وألزم به ، وجعله ركنا من أركان الإسلام ، ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في التطوع , يعني في جنس الصيام زائدا عن الفرض ، وفعل جنس ذلك , فثبت عنه أنه كان يسرد الصيام أحيانا حتى يقولوا: لا يفطر . ويسرد الفطر أحيانا حتى يقولوا: لا يصوم . ولكنه لم يستكمل صيام شهر بأكمله إلا شهر رمضان ، وغالبا أنه يصوم من كل شهر أياما .
وقد حث ورغب على جنس الصيام ، فرغب في صيام ستة أيام من شهر شوال , من هذا الشهر . في صحيح مسلم عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر)) , ورغب في صيام أيام عشر ذي الحجة ما عدا العاشر وهو يوم العيد ، وأخبر في بعض الروايات بفضل صيامهن وبالأخص صيام يوم عرفة ، كما تقدم . وكذلك رغب في صيام يوم عاشوراء , وهكذا في التنفل المطلق . ورغب في صيام كل اثنين وكل خميس , وأخبر بأن الأعمال تعرض فيهما على الله , يقول:((فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)), ورغب في صيام أيام البيض التي هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر .
ورغب في صيام ثلاثة أيام من كل شهر , وهو موضوع هذه الأحاديث , أوصى بذلك بعض أصحابه , أوصى أبا هريرة ، وأوصى أبا ذر ، أوصى كلا منهما بثلاث , يقول:((أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاث أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام)) فأما الوتر قبل النوم فجعله من باب الاحتياط ، وقيل: إن أبا هريرة كان يدرس الحديث في أول الليل فلا يتمكن من القيام في آخر الليل , فكان يصلي أول الليل ويوتر قبل أن ينام ، لكنه بعد ذلك كان يقوم أكثر الليل أو ثلث الليل . وأما ركعتا الضحى فالمراد أن يصلي في الضحى ركعتين نفلا وإن زاد فله أجر , أما صيام ثلاثة أيام من كل شهر فقد أوصاه بذلك وأوصى به أيضا عبد الله بن عمرو بن العاص .
وكان عبد الله في أول شبابه من العباد, من العباد المبالغين في العبادة , فالتزم أن يصوم النهار وأن يقوم الليل , أن يصوم الدهر كله ولا يفطر أبدا , وأن يقوم الليل كله ولا ينام أبدًا , التزم بذلك حتى أنه لما تزوج لم يتفرغ لزوجته , فاشتكاه أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فلما حضر عنده قالله: ((إن لنفسك عليك حقا , وإن لزوجك عليك حقا , وإن لأهلك عليك حقا , وإن لربك عليك حقا , فأعط كل ذي حق حقه)) لما أنه التزم بهذا الأمر الذي فيه مشقة صيام النهار كله وقطع نفسه عن الشهوات , وقيام الليل كله وعدم التفرغ لأية شهوة من الشهوات المباحة , حتى أنه كان يقرأ القرآن كله في كل ليلة , قال له: ((كم تصوم))؟قال:كل يوم ، فقال:((كم تختم))؟ قال: كل ليلة . يعني يختم القرآن كل ليلة ويصوم النهار .
فعند ذلك أخبره بأنه إذا فعل ذلك كلف نفسه وشق على نفسه , ففي الصيام نزله إلى أن يصوم يوما ويفطر يوما , أمره أولا بأن يقتصر على ثلاثة أيام من كل شهر , يقول: فشددت , فشددعليَّ, وقلت: إني أطيق أفضل أو أكثر من ذلك, فعند ذلك نقله إلى أن يصوم ثلث الدهر , أن يصوم الثلث , يفطر يومين ويصوم يوما , ولكنه لم يقتنع وطلب أن يزاد , أن يزداد في الصيام , وقال: إني أطيق أفضل من ذلك أو أكثر من ذلك , فرقاه إلى أن يصوم النصف , أن يصوم نصف الدهر , يصوم يوما ويفطر يوما ، ولكنه أيضا لم يقتنع بل طلب الزيادة , تمنى أن يصوم أكثر الدهر .
لكن النبي صلى الله عليه وسلم قصره على ذلك ولم يرخص له في الزيادة على نصف الدهر , يصوم صوم داود , يصوم يوما ويفطر يوما . التزم بذلك .
وأمره في القيام أن يقوم ثلث الليل , الثلث كثير , وأمره بأن يقرأ في كل ليلة سبع القرآن , فيختم في كل سبع ليال, كل ليلة يقرأ فيها السبع , هكذا التزم .
ولكنه أسف بعد ذلك , لما طالت به الحياة ثقل عليه هذا الصوم الذي هو سرد أو الاستمرار في أن يصوم يوما ويفطر يوما , ثقل عليه ذلك وتمنى أن يكون قبل الرخصة , تمنى أن يكون قبل صوم ثلاثة أيام من كل شهر , ولكن لم يترك ما التزمه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم , كره أن يترك شيئا فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان أحيانا إذا أراد أن يريح نفسه أفطر أياما وأحصاهن ، أفطر مثلا عشرة أيام ليريح نفسه متوالية , ثم صام بعددهن عشرة متوالية ؛ كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
أما القيام فكان إذا أراد أن يخف عليه القرآن عرضه على بعض أهله نهارا , يقرأ السبع في النهار , يقرأ مثلا في الليلة الأولى البقرة وآل عمران والنساء , ثم قبل أن يأتي الليل يعرضها , يقرؤها على بعضهم حتى تخف عليه في الليل ، هكذا التزم، التزم بذلك إلى أن توفي وهو على ذلك لم يخل بما فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا صوم داود, وأن القيام قيام داود , كان داود يصوم يومًا ويفطر يومًا ، داود عليه السلام نبي من أنبياء الله قد آتاه الله الملك والحكمة , كما أخبر بذلك في قوله:{وقتل داود جالوت وأتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} كذلك قد فضله بفضائل في قوله تعالى:{واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} فكان من الشاكرين امتثالا لقول الله:{اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور} التزم داود ألا يمر على أهله وقت إلا وفيهم مصل أو تال أو عابد بأية عبادة ؛ حتى يكونوا شاكرين لما أعطاهم الله تعالى , التزم داود هذا الوصف أن يصوم يوما ويفطر يوما , أما في القيام فالتزم أن ينام النصف الأول من الليل ثم يقوم ثلث الليل ، الثلث الذي بعد النصف , ثم يريح نفسه سدس الليل الأخير الذي قبيل الفجر , فيكون قيامه الثلث الذي في وسط الليل ، الذي يبدأ من نصف الليل الثاني . هكذا كان قيام داود وهكذا كان صيامه .
وبكل حال من قدر على هذا الذي هو صوم داود صامه وله أجر , ومن اقتصر على أن يصوم أيام البيض فله ما نواه وله أجره , ومن زاد على ذلك فله أجره , ومن صام مثلا كل اثنين وكل خميس لما ذكرنا من أن الأعمال ترفع فيهما فإن له أجره , ومن اقتصر على صيام أيام البيض أو ثلاثة أيام من كل شهر فله أجره .
كان عبد الله بن عمر بن الخطاب يصوم ثلاثة أيام من كل شهر , يستمر على ذلك ولكنه يصومها من أول الشهر ولا ينتظر أيام البيض فقيلله: لماذا لا تؤخرها إلى أيام البيض؟ فقال: وما يدريني أني أعيش إلى البيض ، يقول: ربما أموت قبل أيام البيض , أو ربما يشغلني شاغل , فكان يقدمها .
وعلى كل حال من أراد أن يتطوع بهذه الأيام , أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر جاز أن يصومها ثلاثة من أول الشهر , وجاز من وسطه , وجاز من آخره , وجاز أن تكون متوالية ، وأن تكون متفرقة ، يصوم من أوله يوما ومن وسطه يوما ومن آخره يوما مثلا , أو يصوم يوما ويفطر يوما إلى أن يتم الثلاثة , الكل جائز يصدق عليه أنه صام ثلاثة أيام من كل شهر وهي عشر الشهر .
وقد بين النبي عليه السلام الحكمة فيها أن الحسنة بعشر أمثالها , وحينئذ كأنه صام الشهر كله , إذا صام ثلاثة أيام فكأنها ثلاثون يوما , أي كأنه الشهر , ثم يصوم من الشهر الثاني ثلاثة أيام فكأنه صام الثلاثين يوما , فيصبح كأنه قد صام الدهر مع أنه لم يصم إلا عشر الدهر , ولكن الله تعالى يضاعف لمن يشاء .
أما صيام الدهر فقد ورد النهي عنه , في بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((لا صام من صام الدهر)) وفي رواية ((لا صام من صام الدهر ولا أفطر)) يعني أنه أشغل نفسه وأتعب نفسه , فلا صام صياما يعني يحصل له به الامتثال ولا أفطر . ومع ذلك فقد نقل كثير من السلف أنهم يسردون الصيام ولا يفطرون إلا يوم العيد أو أيام التشريق , لا يفطرون إلا الأيام التي نهي عنها , يسرد أحدهم الصوم ومع ذلك يخفي نفسه , يخفي حالته ، لا يشعر به حتى أهله , فكان بعضهم إذا أصبح أخذ رغيفين , خبزتين من خبز أهله وخرج بهما , يظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه قد أكل في بيته , إذا دخل السوق تصدق بهما على المساكين فيتم صيامه ولا يشعر به أحد .
وعلى كل حال هذا من باب الاجتهاد , وإن كان فيه شيء من التشديد على النفس , فهو فيه شيء من الضيق والضرر على النفس . وأما صيام يوم وفطر يوم فإن فيه إراحة النفس في نصف الأيام وفيه تعويدها على هذا الصبر الذي هو صيام هذه الأيام الكثيرة , وفيه الاقتداء بنبي من أنبياء الله تعالى .
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم.
عن محمد بن عباد بن جعفر قال: سألت جابر بن عبد الله: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم . وزاد مسلم: ((ورب الكعبة)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده)) .
وعن أبي عبيد مولى بن أزهر واسمه سعد بن عبيد , قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم , واليوم الآخر الذي تأكلون فيه من نسككم .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: النحر والفطر , وعن اشتمال الصماء , وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد , وعن الصلاة بعد الصبح والعصر)) . أخرجه مسلم بتمامه . وأخرج البخاري الصوم فقط .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما في سبيل الله بَعَّدَ الله وجهه عن النار سبعين خريفا))
الشيخ: هذه أحاديث تتعلق بصيام التطوع ، ما يصح صومه ، وما لا يجوز صومه ، فالحديثان الأولان في حكم صوم يوم الجمعة , قد يجب صوم يوم الجمعة كما إذا كان في أيام رمضان , في شهر رمضان يقع عدة أيام جمع , أربع جمع أو خمس جمع ويصومها المسلمون ولا يفطرونها ؛ وذلك لأنها في وسط الشهر الذي أمروا بصيامه .
وكذلك إذا كان الإنسان يسرد الصوم فإنه إذا مر به يوم الجمعة في أثناء صيامه فإنه يصومه , وكذلك إذاكان يخصه أو ناسب له لموجب ولسبب فإنه يصومه , مثاله إذا كان الإنسان يصوم يوما ويفطر يوما كصوم داود ووافق أنه أفطر يوم الخميس وصام يوم الجمعة , وأفطر يوم السبت وصام يوم الأحد , وأفطر يوم الاثنين وصام يوم الثلاثاء وهكذا , ففي هذا اليوم أنه صام يوم الجمعة مع فطره اليومين الذي قبله والذي بعده , ولكن قصد بذلك أن يتبع فيصوم يومًاويفطر يوما .
أما صومه المنهي عنه في هذه الأحاديث في قول جابر: إي ورب الكعبة , يعني نهى عن صوم يوم الجمعة ورب الكعبة يعني أقسم بذلك أنه نهى عن صوم يوم الجمعة . وفي الحديث الثاني أنه رخص فيه إذا ضم إليه يوما , إذا صام معه يوما قبله أو يوما بعده فإن ذلك يجوز الصيام ويزيل المحظور , ففي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على إحدى أمهات المؤمنين وهي صائمة أو على إحدى بناته فقال:((أصمتِ أمس)) يعني يوم الخميس قالت: لا ، قال:((أتصومين غدا)) يعني يوم السبت قالت:لا , قال:((فأفطري)) فنهاها عن إفراد يوم الجمعة .
فدل على أن النهي يختص بتخصيص يوم الجمعة بدون أن يصوم معه يوما قبله أو يوما بعده , ويزول المحظور إذا صام يوم الخميس والجمعة أو صام يوم الجمعة والسبت ، هذا وجه النهي , وسببه أن يوم الجمعة عيد الأسبوع , فتحصيصه بالصيام ليس له مزية , والأعياد الأصل أنها أيام أفطار , فعيد الأسبوع هو يوم الجمعة , ولعل النهى أيضا ألا يعتقد له مزيه لأنه يوم الأعمال أو يوم الراحة أو نحو ذلك . ومن المعلوم أن عيد الأسبوع للنصارى يوم الأحد وعيد الأسبوع لليهود يوم السبت , وعيد الأسبوع لهذه الأمة يوم الجمعة , فلأجل ذلك نهي عن إفراده بالصوم .وبعد الأذان نكمل البقية.
أما الحديثان بعده في النهي عن صوم يومي العيدين: يوم عيد الفطر وهو أول يوم من شوال , ويوم عيد النحر وهو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة كما هو معروف . صوم هذين اليومين حرام . وردت أدلة تدل على التحريم , وعلل صوم يوم النحر بأنه اليوم الذي تذبح فيه الأنساك فيقول:((تأكلون فيه من نسككم)) فالحجاج يذبحون فيه قربانهم وفديتهم ، وغير الحجاج يذبحون فيه أضاحيهم , وكلها مناسك , كلها نسك ، فيذبحونها فمن آثار ذلك ألا يصوموا , وأن يأكلوا من ذبائحهم , ومن الطعام الذي أحله الله لهم وأمرهم بالأكل منها في قوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} ، {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} .
...{فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} ، {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} , ولو صاموا لما أكلوا منها أكلاً مطلقا , وإن كانوا قد يأكلون إذا أفطروا ليلا ، ولكن الأكل المعتاد هو الأكل منها حينما تذبح يعني نهارا ، وبذلك يعرف حكمة الله .
كذلك أيضا لا شك أنه يوم فرح , يوم العيد عيد الأضحى يوم فرح ؛ وذلك لأن الحجاج يفرحون بإتمام نسكهم, وغير الحجاج يفرحون بإتمام أعمالهم حيث عملوا فيها من الأعمال ما يرجون ثوابه , يعني صاموا في تلك الأيام وتصدقوا ، وكذلك ذكروا الله وكبروه وعبدوه , فكان عليهم أن يشكروا نعمة الله ، وأن يفرحوا بما أعطاهم الله تعالى ، وبما أباح لهم . ويوم الفرح هو اليوم الذي تسر فيه النفوس ، فلا يناسب أن يصوموه .
وأيضا فإن هذا اليوم مع الأيام التي بعده وهي أيام التشريق كلها أيام ذبح ، ولو صاموا لشقّ عليهم الصوم مع الاشتغال بذبح القربان ، وبالتصدق به وما أشبه ذلك ، ولو صامه الحجاج لشقت عليهم الأعمال التي يعملونها ، فإنهم في يوم العيد يذبحون وكذلك يرمون ، ويحلقون ويطوفون ويسعون ، فيتكلفون تكلفا . والصيام قد يتعبهم , فنهوا عن الصيام حتى ولو كانوا من أهل مكة ، وكذلك تبعهم غيرهم من أهل القرى في أنهم لا يشرع لهم الصيام في هذه الأيام .
أما أيام التشريق الثلاثة التي بعد العيد وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة ، فهذه أيضا لا يجوز صومها , وهي أيام أكل وشرب , وتسمى أيام منى , ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال:((أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)) , والأكل والشرب ينافي أن يكون هناك صيام ؛ لأنه يقلل من التمتع بنعم الله تعالى وبرزقه , فناسب أن الحجاج وكذلك غيرهم من المقيمين , ناسب أنهم يفطرون في أيام التشريق ؛ ولأنهم في تلك الأيام غالبا يذبحون ولا يزال عندهم بقية من لحوم الأضاحي , فناسب أنهم يأكلون منها ولا يصومون .
أما يوم عرفة فقد تقدم أنه اليوم الذي فضله كبير , وأن صيامه عظيم وأجره كبير إلا للحجاج ، فالحجاج يفطرون يوم عرفة , ورد النهي عن صوم يوم عرفة بعرفة , وورد الأمر بصوم عرفة لغير الحجاج , فيعتبر يوم عرفة للحجاج من أيام الأعياد ؛ في حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:((يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الأسلام , وهي أيام أكل وشرب)) .
أما عيد الفطر وهو اليوم الأول من شهر شوال فإنه يحرم أيضا صومه ؛ لكثرة الأحاديث التي تنهى عن صيامه . والحكمة فيه أنه يوم فرح , بأي شيء هذا الفرح ؟ الفرح المذكور بإكمال الصيام , لما أن الله تعالى وفق العباد فأكملوا صيام شهرهم وقضوه وأتموه , أتموا هذا الشهر بكماله: قيامًا صيامًا , قراءة عبادة , انتهى هذا الشهر -ناسب أن يظهروا الفرح بهذه الأعمال , فجعل لهم يوم عيد بعد هذا الشهر مباشرة , اليوم الذي يلي رمضان جعل يوم عيد يظهرون فيه سرورهم وابتهاجهم ، ولا يجوز لهم والحال هذه أن يصوموا .
وأيضا فأمرهم بالفطر ليحصل الفصل بين رمضان وغيره , ليحصل أنهم أفطروا اليوم الذي يلي رمضان ، فيتميز رمضان عن غيره , يتميز آخره كما أمروا أن يميزوا أوله . وبذلك عرف أن صيام هذين اليومين: يوم الفطر ويوم النحر أنه ممنوع ومحرم لهذه الحكم .
في هذا الحديث النهي عن صوم يومين: يوم الفطر ، ويوم الأضحى , والنهي عن صلاتين: صلاة بعد العصر ، وصلاة بعد الفجر , يعني في أوقات النهي , قد تقدم الكلام عليها في الصلاة . وكذلك النهي عن لبستين: عن اشتمال الصماء وعن الاحتباء , أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد , وهذه تتعلق باللباس , اشتمال الصماء: هو لبس الثوب الذي ..أو الالتفاف بالثوب الذي ليس له منافذ , أن يلف على بدنه رداء مثلا أو كساء , ولا يجعل ليديه فرجا يخرجها منه ، فيكون كأنه أصم , كأن هذا الثوب أصم , الصمم: هو انسداد الأذنين ، فكذلك اشتمال الصماء الالتفاف بالثوب الذي ليسله منافذ , ولعل الحكمة فيه أنه ربما يحتاج إلى إخراج يده ، فإذا أخرج يده من تحت الثوب الذي ليس عليه غيره بدت عورته ، أو نحو ذلك , أو مس عورته أو أنه قد يحتاج إلى عمل بيديه ولا يستطيع العمل بهما ما دام قد التف بهذا الثوب . هذا اشتمال الصماء .
وأما الاحتباء, فالاحتباء: هو أن يجلس الإنسان على إليتيه وينصب قدميه ويرفع ركبتيه ، ويلف على ظهره وعلى ساقيه ثوبا ليس بين عورته وبين الأرض شيء , يحتبي في هذا الثوب وهو جالس . والحكمة في النهي أنه ربما يقوم فتبدو عورته ، وربما يميل يمنة أو يسرة فتبدو عورته ، والإنسان مأمور بأن يحفظ عورته ، ويسترها عن الناس ؛ لأنها كاسمها عورة وسوءة . وقد جعل الله عقوبة آدم وحواء لما أكلا من الشجرة أن بدت لهما سوءاتهما ، يعني عوراتهما ، فالإنسان يحافظ عما يعيبه أو ينشر له سمعة سيئة .
بقي الحديث الأخير يقول فيه صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)) حديث صحيح , فيه فضل الصوم في سبيل الله , قيل: المراد: الصوم وهو غاز , أكثر ما يطلق (سبيل اللهعلى الغزو) عندما يذكر الله هذا الاسم ينصرف إلى الغزاة في قوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله} يعني في الغزو , وفي قوله تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِم} وما أشبه ذلك [1][لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم] فسبيل الله المراد به الغزو .
معلوم أن الغزو غالبا يكون في سفر , الغازي يحتاج إلى سفر , يقطع مسافة قد تستغرق سنة ، وقد تستغرق شهرا, وقد تستغرق أياما في هذا الغزو , ومع ذلك السفر مظنة المشقة , ومع ذلك رغب في الصوم فيه ، وردت أدلة في النهي عن الصوم في السفر مع المشقة كقوله: ((ليس من البر الصوم في السفر)) كما تقدم , ولكن إذا لم يكن هناك مشقة أو كان الإنسان لا يعوقه الصوم وصام في هذا الغزو حصل على أجر،وظفر بمضاعفة الثواب، فلأجل ذلك جعل الله الصوم في سبيل الله سببا لإبعاده عن جهنم ((بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)) .
هناك قول أن المراد بقوله: ((من صام يوما في سبيل الله)) أن المراد بسبيل الله ليس هو الغزو وإنما المراد سبيل الله الذي هو الطريق الموصل إلى الله , يقولون: كل شيء يوصل إلى الله فإنه من سبيل الله ، فلذلك يقولون مثلا: صلى في سبيل الله , تصدق في سبيل الله , صام في سبيل الله , حج في سبيل الله .
روي أن رجلا سَبَّلَ بعير له في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحج من سبيل الله)) يعني أعطه من يحج عليه , وكأنه في سبيل الله في الغزو , فدل على أن سبيل الله هو كل عمل يبتغى به وجه الله , فمعناه أن من صام يوما ابتغاء وجه الله وطلبا لما يوصل إلى الله فإنه يستحق هذا الثواب , وهو أنه يبعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا , وذلك فضل كبير, فيدل على فضل صوم التطوع , وأن الإنسان إذا صام تقربا إلى الله تعالى وأكثر من الصوم فكل يوم يصومه له هذا الأجر .
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًايكثر الصوم ، فيسرد الصوم حتى يقال: لا يفطر . وأحيانا يسرد الفطر حتى يقال: لا يصوم , ولكنه غالبا يصوم من كل شهر ويرغب في الصيام من كل شهر ولو ثلاثة أيام ، أو ما تيسر منها ؛ ذلك لأن الصيام عمل بر يحبه الله تعالى , وقد اصطفاه لنفسه في قوله:((الصوم لي وأنا أجزي به))
[1]ربما قصد الشيخ: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم}فما ذكره ليس بآية .