قوله: (فإن ورد بعد الحظر فللإباحة) الحظر أي: النهي والمنع، وقد اختلف الأصوليون في صيغة الأمر إذا جاءت بعد حظر على قولين:
الأول: أنها للإباحة، وهو الذي ذكره المصنف، وبه قال الشافعي، ونسب لمالك[(620)]، واستدلوا بأن أكثر أوامر الشرع بعد الحظر دالة على الإباحة، كقوله تعالى: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] ، وقوله: {{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا}} [الجمعة: 10] وقوله: {{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}} [البقرة: 222] ، وقوله: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ}} [البقرة: 187] .
قوله: (وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: لما يفيده قبل الحظر) هذا هو القول الثاني ، وهو: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر، فإن كان قبله مباحاً رجع إلى الإباحة، وإن كان قبله واجباً رجع إلى الوجوب.
ونسبه المؤلف إلى أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(621)]، وجمع من المحققين منهم: الزركشي، وابن كثير، والشنقيطي[(622)]؛ لأنه ينتظم جميع الأدلة ولا يرد عليه شيء.
قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] : (والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يُردُّ الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده واجباً، وإن كان مستحباً فمستحب، أو مباحاً فمباح، ومن قال: إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال: إنه للإباحة يرد عليه آيات أُخر، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم)[(623)].
ومثاله: أن الصيد قبل الإحرام كان مباحاً، فمُنع للإحرام بقوله تعالى: {{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}} [المائدة: 96] ، ثم أُمِرَ به بعد الإحلال بقوله تعالى: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] فيرجع إلى الإباحة.
وقتل المشركين كان واجباً قبل دخول الأشهر الحرم، فمنع من أجلها، ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله: {{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}} [التوبة: 5] فيرجع إلى ما كان قبل التحريم، وهو الوجوب.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي» [(624)]، فالأمر بالصلاة للوجوب، لأن الصلاة قبل امتناعها بالحيض واجبة.
قوله: (ولا يقتضي التكرار عند الأكثرين وأبي الخطاب) اعلم أن الأمر إمَّا أن يقيد بما يفيد الوحدة، أو بما يفيد التكرار، أو يكون خالياً من القيد.
فالثاني يحمل على ما قيّد به[(625)]، والقيد إمَّا صفة كقوله تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}} [المائدة: 38] ، فكلما حصلت السرقة وجب القطع، ما لم يكن تكرارها قبله.
وإما شرط، كقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}} [المائدة: 6] ، فظاهر الآية إيقاع الفعل ـ وهو الوضوء ـ على التكرار بتكرر الصلاة، إلا أن السنة دلت على أن الأمر معلق بالحَدَثِ، تخفيفاً على الأمة، وأمَّا بدون الحدث، فهو على الندب، كما دلت عليه السنة[(626)]. وهذا فيما إذا كان الشرط والصفة علة ثابتة كما مثّلنا، فإن لم يكن علة ثابتة، فلا تكرار مثل: إن جاء زيد فَأعتِقْ عبداً من عبيدي، فإذا جاء زيد حصل ما عُلِّقَ عليه الأمر، لكن لا يتكرر بتكرر مجيئه.
وكذا الأول، وهو ما قُيد بالوحدة فيقيد به، كقوله تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] . فظاهر الآية وجوب تكرار الحج بتكرار الاستطاعة، لكن سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأجاب بما يدل على أنه مرة واحدة في العمر[(627)]، فيحمل الأمر في الآية على الوَحْدَةِ لهذا الدليل من السنة.
فإن كان الأمر مطلقاً لم يقيد، فهذا فيه خلاف كما ذكر المصنف رحمه الله.
فالقول الأول: أن الأمر لا يقتضي التكرار، وهو قول الأكثرين، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو الخطاب[(628)]، فيخرج المأمور من عهدة الأمر بمرة واحدة؛ لأن صيغة الأمر لا تدل إلا على مجرد إيقاع المأمور به مرة واحدة؛ والأصل براءة الذمة مما زاد عليها، واللغة تدل على ذلك، فإن السيد لو قال لعبده: ادخل السوق واشتر تمراً، لم يعقل منه التكرار، ولو كرر العبد ذلك لحسُنَ لومه، ولو لامه سيده على عدم التكرار لعُدّ السيد مخطئاً.
قوله: (خلافاً للقاضي وبعض الشافعية) هذا القول الثاني ، وهو أن صيغة الأمر تقتضي التكرار، وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها أكثر أصحابه، وهو أشهر قولي القاضي أبي يعلى[(629)].
قالوا: لأن الأمر كالنهي، في أن النهي أفاد وجوب الترك، والأمر أفاد وجوب الفعل، فإذا كان النهي يفيد الترك على الاتصال أبداً، وجب أن يكون الأمر يفيد وجوب الفعل على الاتصال أبداً، وهذا معنى التكرار، والمراد به عندهم: حسب الطاقة والإمكان.
قوله: (وقيل يتكرر إن عُلِّقَ على شرط) هذا ليس بقول في المسألة، وقد تبع المصنف رحمه الله غيره كابن قدامة في «الروضة»[(630)]، وذلك لأن الكلام في الأمر المطلق المجرد عن القرائن. والأمر المعلق على شرط غير مطلق، وقد تقدم حكمه.