أقسام الكلام
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (أما أقسام الكلام: فأقل ما يتركب منه الكلام؛ اسمان، أو اسم وفعل، أو اسم وحرف، أو حرف وفعل).
هذا شروع من المؤلف في أبواب أصول الفقه التي ذكر، بدأ بالكلام وما يتعلق به، وجه ذكره والابتداء به أن الكتاب العزيز والسنة المطهرة كلام، فالقرآن كلام الله جل وعلا، تكلّم به حقيقة، والسنة كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، ويحتاج الإنسان إلى أن يعرف هذا الكلام، لا بد من معرفة كلام الله جل وعلا وكلام نييه عليه الصلاة والسلام، لأنهما أصل الدين وأساسه، فإذا لم يعرف الإنسان معنى هذا الكلام ما عرف الشرع.
والكلام يتعلق به مسائل كثيرة قد أشبعها بحثاً علماء النحو وعلماء البلاغة.
فالكلام له معنى في اللغة وله معنى في الاصطلاح، قال في (القاموس): (الكلام: القول، أو ما كان مكتفياً بنفسه، وبالضم: الأرض الغليظة).
قال في (المصباح المنير):(كلمته تكليماً، والاسم: الكلام، وبالتثقيل لغة الحجاز، وجمعها كَلِم، وكلمات، وتُخفّف الكلمة على لغة بني تميم، فتبقى وزان سِدْرَة).
والكلام في أَصل اللغة : عباره عن أصوات متتابعة لمعنىً مفهوم.
وفي اصطلاح النحاة: (اسمٌ لما تركب من مُسندٍ ومسند إليه، وليس هو عبارة عن فعل متكلم، وربما جُعل كذلك نحو عجبت من كلامك زيداً، فالشيء الذي يفيد هذا هو كلام عند علماء اللغة، وفي اصطلاح النحاة يختلف).
وبيان هذا أن الإنسان إذا تكلّم بكلمة أو بكلميتن أو بأكثر، هل يقال لهذا كلام أو لا عند علماء (النحو) وعند علماء اللغة؟
علماء اللغة:
كل ما أفاد فإنه يُسمّى كلاماً، ولو كان بالإشارة، ولو كان بالكتابة، أو بغير ذلك، كل ما أفاد فهو كلام لغة.
أما علماء (النحو):
فيشترطون في الكلام شروطاً، يقول ابن آجرّوم في المقدمة المشهورة، (المقدمة الآجرومية)، يقول في أولها: (الكلام هو اللفظ المركّب المفيد بالوضع)، هذا تعريف الكلام عند علماء النحو:
- لا بد أن يكون لفظاً، يخُرج الإشارة ونحوها.
- ولا بدّ أن يكون مُركّباً من الحروف المعروفة والكلمات المعروفة.
- ولا بد أن يكون مُفيداً، والمفُيد هو الذي إذا سمعه السامع اكتفى به ولا يحتاج إلى أن ينتظر شيئاً، فلو قُلت: (جاء زيد) هذا كلام؛ لأنه أفاد.
لكن لو قلت: (إذا جاء زيد وذهب عمرو وكذا وكذا) عند علماء النحو لا يعتبر هذا كلاماً، لأنه ما أفاد، إذا جاء زيد ثم ذهب عمرو ثم ماذا؟
السامع ينتظر شيئاً.
- ولا بد أن يكون بالوضع العربي، يعنى على ما استعمله العرب، ما يكون بكلام غير العرب أو كلام يُستعمل في غير ما استعمله العرب، فما اجتمع فيه هذه القيود الأربعة فإنه كلام عند النحاة.
لهذا يقول الإمام ابن مالك في ألفيته المشهورة:
كـلامنا - يعني- معاشر النحاة. -لفظ مفيد، كاستقم، هذا اشتمل على قيدين:
- الإفادة.
- والوضع العربي.
مع قوله: (لفظٌ مفيد) اشتمل على أنه: (لفظ ومفيد بالوضع العربي، ومركب)
استقم: يعني استقم أنت.
قال:
كلامنا لفظ مفيد كاستقمْ = واسم وفعل ثم حرف الكلمْ
إما أن يكون اسماً، وإما أن يكون فعلاً، وإما أن يكون حرفاً، تتبع علماء النحو كلام العرب، فوجدوه لا يخرج عن هذه الثلاثة.
والاسم يتعلق به مسائل، والفعل كذلك، والحرف كذلك، وهذا مبسوط في علم النحو.
ولكن القصد هنا الإشارة فقط؛ فالإنسان بحاجة إلى هذا العلم العظيم وهو علم النحو، الذي يعرف به كلام الله جل وعلا، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، واللغة العربية التي نزل بها القرآن.
والنحو علم شريف وإن كان الأكثر الآن قد أعرضوا عنه ولم يحتفلوا به، ويجهله الكثير، وهذا لا يليق.
وقد أكثر العلماء من الحث على هذا العلم والاعتناء به، وقد ذكر ياقوت الحموي في أول كتابه: (معجم الأدباء) أبياتاً في الحث على هذا العلم؛ قال عن بعضهم:
اقتبس النحو فنعم المقُتبسْ = والنحو زينٌ وجمالٌ ملتمَسْ
صاحبه مُكرّم حيث جلسْ = من فاته فقد تَعمَّى وانتكسْ
كأنَّما فيه من العيِّ خرسْ = شتان مابين الحمار والفرس
ويقول آخر:
إنما النحو قياس يُتبّعْ = وبـه في كل علم يُنتفعْ
لاحظوا هذا، أن النحو ينتفع به في كل علم، فمن طلب التفسير، من طلب الحديث، من طلب التوحيد، من طلب الأصول، من طلب الفقه، بحاجة إلى أن يعرف النحو وما يتعلق به، ويقول آخر:
لو تَعْلمُ الطير ما في النحو من شرفٍ = حـنّت وأنّت إلـيـه بـالـمـنـاقيــرِ
إن الكـلام بـــلا نـحـوٍ يـماثلـهُ = نـبحُ الكـلاب وأصوات السنـانـيرِ
لا أُطيل في هذا، ولكن المقصود أن الإنسان يعتني بهذا العلم، ويأخذ منه بما يستطيع ولا داعي إلى أن يتعمق فيه، إنما الإنسان يعرف الأحكام المهمة.
ولهذا لو اعتنى الإنسان بمتن الآجرومية وأحاط به فإنه يكفيه، لا بد من الإحاطة والفهم لما اشتمل عليه، وإن توسّع وترقّى إلى ما بعده، متن (مُلْحة الإعراب) للحريري، وبعده (قطر الندى) لابن هشام، وبعده (ألفية ابن مالك) كما كان أهل العلم في بلدنا هنا:
- يبدؤون في النحو (بالآجروميه).
- ثم (مُلحة الإعراب)، وهي منظومة معروفة.
- ثم (قطر الندى) وهو متن منثور كـ(الآجرومية).
- ثم (الألفية).
يقول المؤلف رحمه الله: (إن أقل ما يتركب منه الكلام اسمان).
مثل: (زيد قائم)(الله أحد) (الله الصمد) مبتدأ وخبر، هذا اسم وهذا اسم، هذا الأمر الأول مما يتركب منه الكلام.
الثاني: من اسم وفعل، مثل: (زيد قام) أو (زيد يقوم) اسم وفعل، والأمر الأول والثاني لا خلاف فيهما عند النحاة.
الثالث: اسم وحرف، مثل: (يا ألله)، هذا أجازه بعضهم، والجمهور من النحاة على المنع من هذا، ويقولون إنه لما ناب الحرف عن الفعل وهو في هذا المثال: أدعو، يعني: (يا الله) تقديره: أدعو الله، فهو صحيح بهذا الاعتبار، أما انعقاد الكلام من اسم وحرف بدون هذا التقدير فإنه غير صحيح عند الجمهور.
الرابع: حرف وفعل مثل: (لم يقم) (ما قام)، هذا حرف وفعل، الجمهور لا يرون هذا صحيحاً، وعلماء النحو أعلم بهذا من علماء الأصول، فالمشهور أن الكلام يتركب من اسمين أو من اسم وفعل، هذا هو المشهور فيه.
والكَلام بفتح الكاف، هذا المراد، أما الكسر كِلام له معنىً آخر، وكذلك كُلام له معنى آخر، وقد نظم هذه المعاني محمد بن مُستنير المشهور بقُطرب في مثلثه المشهور:
تَيَّم قـلـبـي بــالـكَلامْ = وفي الْحـشى منه كِـلامْ
فَسِرتُ في أرض كُلامْ = لــكــي أنـال مـَطلــبي
قال:
بـالـفـتح قولٌ يُفـهم = والكـسر جُرْحٌ مؤلـم
(كَلام بالفتح) و(كِلام)
والضــم أرض تُـبْـرَمُ = لـشـدة لـلـتطلـب
- هذا كلمة (كلام) مثلثة في اللغة، والمثلث في اللغة قد يكون مُتفق المعاني، وقد يكون مختلف المعاني، فمثلث قطرب اشتمل على المثلثات المختلفة، وفيه مؤلفات كثيرة في المثلّثات، للمثلثات المختلفة، والمثلثات المُتفقه، فمثلاً عندنا كلمة مَقْبرةٌ، يجوز في الباء الفتح: مَقبَرة، والكسر: مَقِبرهٌ، والضم: مقبُرة، هل يختلف المعنى؟
المعنى واحد، هذا مثلث مُتفق، أما هنا، كَلام، كِلام، كُلام، هذا مثلث مختلف.
مثلث قطرب، هذا المثلث منظومة قصيرة، تشتمل على واحد وثمانين بيتاً، مطبوعة مع ديوان ابن مُشرّف الطبعة الجديدة، صفحة (156) في أربع صفحات فقط، أوّلها:
يــا مـولــعــاً بـالــغضب = والــهــجـر والــتجـنب
هــجــركقــد بـرح بـي = فـي جـــدِّه والـــلـــعب
إن دمـــوعـــي غــَمـــْرُ = ولــيــس عــنــدي غِمر
فــقــلــت يــا ذا الــغُمْرُ = أقـصــر عــن الـتـعـتُّب
بــالــفــتـح مــاء كــَثُرا = والـكـسـر حـِقـد سـتراً
والضـم شخص مـا درى = شــيــــئاً ولـــم يــــُجرِّبِ
يقال له: (غُمر) ذكرت لكم فيما سبق قول أبي حيّان رحمه الله:
يظن الغُمر أن = الكتب تكفي
الغُمر، مثلما سمعتم:
والضم شخص ما درى = شـيـــئاً ولـــم يــــــجُرّب
ومنه كتاب الحافظ ابن حجر (إنباء الغُمر) يعني الذين لم يعرفوا. الحاصل أن الكَلام بفتح الكاف -وهذا الكلام عند النحاة- (هو اللفظ المركب المفيد بالوضع العربي) وعرفنا ما يشتمل عليه، وأن هذا الكلام لا يخلو إما أن يكون اسماً أو فعلاً أو حرفاً.
ولكل واحدٍ من هذه الأشياء الثلاثة أبواب ومسائل وأشياء كثيرة تتعلق به مذكورة في كتب النحو.