تأكيدُ المدحِ بما يُشبِهُ الذمَّ(7) ضَرْبَان(8):
(أحدُهما)(9) أن يُستَثْنَى من صفةِ ذَمٍّ منفيَّةٍ(10) صفةُ مدْحٍ(11) على تقديرِ(12) دخولِها(13) فيها، (14)
كقولِه (1):
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ..... بهنَّ فُلولٌ(2) من قِرَاعِ(3) الكتائبِ(4)
(ثانيهِما) أن يُثْبَتَ لشيءٍ صفةُ مدْحٍ ويُؤْتَى بعدَها(5) بأداةِ استثناءٍ تَلِيها(6) صفةُ مدْحٍ أخرى(7)، كقولِه(8):
فَتًى كَمُلَتْ أوصافُه(9) غيرَ أنه ..... جَوَادٌ(10) فما يُبقِي عَلَى المالِ باقياً(11)
____________________
(7) (تأكيدُ المدْحِ بما يُشبِهُ الذَّمَّ) بأن يُبالَغَ في المدْحِ إلى أن يأتيَ بعبارةٍ يَتَوَهَّمُ السامِعُ في بادئِ الأمْرِ أنه ذَمٌّ.
(8) (ضَربان) أي: نوعان.
(9) (أحدُهما) وهو أحسنُهما.
(10) (أن يُستَثْنى من صفةِ ذمٍّ مَنفيَّةٍ) عن الشيءِ.
(11) (صفةُ مدْحٍ) لذلك الشيءِ نائبُ فاعلِ يُسْتَثنَى.
(12) (على تقديرِ) أي: فرْضِ.
(13) (دخولِها) أي: صفةِ المدْحِ.
(14) (فيها) أي: في صفةِ الذمِّ, فالمرادُ بالتقديرِ هنا: تقديرُ الدخولِ على وجهِ التعليقِ الموجِبِ لكونِه على وجهِ الشكِّ, لا ادِّعاءُ الدخولِ على وجهِ الجزْمِ والتصميمِ, وإنما كان ما ذُكِرَ من تأكيدِ المدْحِ بما يُشْبِهُ الذمَّ؛ لأن نَفيَ صفةِ الذمِّ على وجهِ العمومِ حتى لا يَبْقَى في الْمَنْفيِّ عنه مدْحٌ, وبما تَقرَّرَ من أن الاستثناءَ من النفيِ إثباتٌ كان استثناءُ صفةِ المدْحِ بعدَ نفيِ الذمِّ إثباتاً للمدْحِ وإنما كان هذا التأكيدُ مُشْبِهاً للذمِّ وفي صورتِه؛ لأنه لما قُدِّرَ الاستثناءُ متَّصِلاً, وقُدِّرَ دخولُ هذا المستثنَى في المستثنَى منه كان الإتيانُ بهذا المستثنَى لو تَمَّ التقديرُ وصَحَّ الاتِّصالُ ذمًّا؛ لأن العيبَ منفيُّ, فإذا كانَ هذا عيباً كان إثباتاً للذمِّ لكن وُجِدَ مدحاً فهو في صورةِ الذَّمِّ وليس بذَمٍّ.
(1) (كقولِه) أي: قولِ النابغةِ زيادِ بنِ معاويةَ الذُّبْيَانيِّ.
(2) (ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم بهن فُلولٌ) جمْعُ فَلٍّ, وهو الكسْرُ في حدِّ السيفِ.
(3) (من قِراعِ) بكسْرِ القافِ, أي: مُضاربَةِ.
(4) (الكتائبِ) جمْعُ كَتيبةٍ وهي الجامعةُ المستعِدَّةُ للقتالِ, أي: الجيوشِ, فقولُه: لا عَيْبَ فيهم نفيٌ لكلِّ عيبٍ, ونفيُ كلِّ عيبٍ مدْحٌ, ثم استثنَى من العيْبِ المنفيِّ كونَ سيوفِهم مفلولةً من مُضاربَةِ الكتائبِ على تقديرِ كونِه عيباً, أي: إنَّ فرْضَ كونِ فلولِ السيفِ عيباً ثَبَتَ العيبُ وإلا فلا.
(5) (ثانيهِما) أن يَثْبُتَ لشيءٍ صفةُ مدْحٍ ويُؤتَى بعدَها) أي: بعدَ صفةِ المدْحِ.
(6) (بأداةِ استثناءٍ تَلِيها) أي: تُذكَرُ تلك الأداةُ حالَ كونِها تَلِيها أي: تأتي بعدَها.
(7) (صفةُ مدْحٍ أخرى) كائنةٌ لذلك الشيءِ الموصوفِ سواءٌ كانت الصفةُ الثانيةُ مؤكِّدةً للأُولى ولو بطريقِ اللُّزومِ.
(8) (كقولِه) أي: الشاعرِ.
(9) (فتًى كمُلَتْ أوصافُه) هذه صفةُ مدْحٍ.
(10) (غيرَ أنه جَوَادٌ) أي: كريمٌ غايةَ الكرَمِ.
(11) (فما يُبْقِي عَلى المالِ باقياً) هذه صفةُ مدْحٍ ثانيةٌ. وجْهُ تأكيدِ المدْحِ في هذا أن الإتيانَ بأداةِ الاستثناءِ يُشعِرُ بأنه أُريدَ إثباتُ مخالِفٍ لما قبلَها؛ لأن الاستثناءَ أصلُه المخالَفةُ فلمَّا كان المأتيُّ به بعدَها كونَه جَوَاداً المستلزِمَ لتأكيدِ كمالِ أوصافِه جاءَ التأكيدُ كما لا يَخْفَى على كلِّ ذي طبْعٍ سليمٍ, وكانت الصفةُ الثانيةُ غيرَ ملائمةٍ للأُولى, كما في قولِ أبي الفضلِ بديعِ الزمانِ الهمَذَانيِّ في مدْحِ خَلَفِ بنِ أحمدَ السِّجِسْتَانيِّ:
هو البدرُ إلا أنه البحرُ زاخِراً ..... سِوى أنه الضِّرْغَامُ لكنه الوبْلُ
فقولُه هو: البدرُ صفةٌ مدحيَّةٌ أُولَى, وقولُه: البحرُ زاخراً صفةٌ مدحيَّةٌ ثانيةٌ, وليس بينَهما مُلاءَمةٌ.