فَصْلٌ: الْقَاعِدَةُ أَنَّهُ مَتَى تَأَتَّى اتِّصَالُ الضَّمِيرِ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى انْفِصَالِهِ([1])، فَنَحْوُ: (قُمْتُ) وَ (أَكْرَمْتُكَ) لا يُقَالُ فِيهِمَا: (قَامَ أَنَا) وَلا (أَكْرَمْتُ إِيَّاكَ)، فَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَقَوْلُهُ:
فَضَرُورَةٌ.
ومثالُ([2]) مَا لَمْ يَتَأَتَّ فِيهِ الاتِّصَالُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الضَّمِيرُ عَلَى عَامِلِهِ.
نَحْوُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}([3])، أَوْ يَلِي (إِلاَّ) نَحْوَ: {أَمَرَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}([4]).
وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
24 -............ وَإِنَّمَا = يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي
لأَنَّ الْمَعْنَى: مَا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ إِلاَّ أَنَا.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الضَّمِيرِ عَامِلاً فِي ضَمِيرٍ آخَرَ أَعْرَفَ مِنْهُ مُقَدَّمٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَرْفُوعاً، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ فِي الضَّمِيرِ الثَّانِي الوَجْهَانِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ فِعْلاً غَيْرَ نَاسِخٍ، فَالوَصْلُ أَرْجَحُ كَالهاءِ مِنْ (سَلْنِيهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}([5]) {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}([6]) {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا}([7]) .
وَمِنَ الْفَصْلِ: ((إِنَّ اللَّهَ مَلَّكَكُمْ إِيَّاهُمْ))([1])، وَإِنْ كَانَ اسْماً فَالفَصْلُ أَرْجَحُ، نَحْوَ: (عَجِبْتُ مِنْ حُبِّي إِيَّاهُ) وَمِنَ الْوَصْلِ قَوْلُهُ:
وَإِنْ كَانَ فِعْلاً نَاسِخاً نَحْوَ: (خِلْتَنِيهِ) فالأرجحُ عِنْدَ الجمهورِ الْفَصْلُ، كَقَوْلِهِ:
وَعِنْدَ النَّاظِمِ وَالرُّمَّانِيِّ وَابْنِ الطَّرَاوَةِ الْوَصْلُ، كَقَوْلِهِ:
27 - بُلِّغْتُ صُنْعَ امْرِئٍ بَرٍّ إِخَالُكَهُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوباً بِكَانَ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، نَحْوَ: (الصَّدِيقُ كُنْتَهُ) أَوْ (كَانَهُ زَيْدٌ) وَفِي الأَرْجَحِ مِنَ الوَجْهَيْنِ الْخِلافُ المَذْكُورُ، وَمِنْ وُرُودِ الْوَصْلِ الْحَدِيثُ: ((إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ))([8]) ، وَمِنْ وُرُودِ الْفَصْلِ قَوْلُهُ:
28 - لَئِنْ كَانَ إِيَّاهُ لَقَدْ حَالَ بَعْدَنَا وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ السَّابِقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الأُولَى مَرْفُوعاً وَجَبَ الْوَصْلُ، نَحْوَ: (ضَرَبْتُهُ)، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ أَعْرَفَ وَجَبَ الْفَصْلُ، نَحْوَ: (أَعْطَاهُ إِيَّاكَ) أَوْ (إِيَّايَ) أَوْ (أَعْطَاكَ إِيَّايَ)([9])، وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ الْفَصْلُ إِذَا اتَّحَدَتِ الرُّتْبَةُ، نَحْوَ: (مَلَّكْتَنِي إِيَّايَ) وَ (مَلَّكْتُكَ إِيَّاكَ) وَ (مَلَّكْتُهُ إِيَّاهُ)، وَقَدْ يُبَاحُ الْوَصْلُ إِنْ كَانَ الاتِّحَادُ فِي الغَيْبَةِ، وَاخْتَلَفَ لَفْظُ الضَّمِيرَيْنِ، كَقَوْلِهِ:
29 - أَنَالَهُمَاهُ قَفْوُ أَكْرَمِ وَالِدِ
([1]) إِنَّمَا اسْتَعْمَلَ الْعَرَبُ الضَّمَائِرَ لِقَصْدِ اخْتِصَارِ الأَسْمَاءِ، فَتَاءُ المُتَكَلِّمُ مَثَلاً وَأَنَا مِنَ الضَّمَائِرِ المُنْفَصِلَةِ يُسْتَعْمَلانِ فِي مَوْضِعِ الاسْمِ الْعَلَمِ المَوْضُوعِ لِمَنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِهَذَا الضَّمِيرِ، وَلا شَكَّ أَنَّ الضَّمِيرَ المُتَّصِلَ أَشَدُّ اخْتِصَاراً مِنَ الضميرِ المُنْفَصِلِ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ جِدًّا، وَلَمَّا كَانَ السببُ فِي استعمالِ الضميرِ بَدَلَ الاسمِ أَو الأسماءِ الظاهرةِ قَصْدَ الاختصارِ، وَكَانَ الضميرُ المُتَّصِلُ أَشَدَّ اخْتِصَاراً مِن المُنْفَصِلِ - كَانَ اسْتِعْمَالُ الضميرِ المُتَّصِلِ أَبْلَغَ فِي بُلُوغِ القصدِ؛ لهذا لَمْ يَعْدِلُوا عَن استعمالِ المُتَّصِلِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ.
22 - هَذَا عَجُزُ بَيْتٍ مِنَ البسيطِ، وَصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
وَمَا أُصَاحِبُ مِنْ قَوْمٍ فَأَذْكُرَهُمْ
وهذا البيتُ مِنْ قصيدةٍ لِزِيَادِ بْنِ مُنْقِذٍ الْعَدَوِيِّ التَّمِيمِيِّ، يَقُولُهَا فِي تَذَكُّرِ أَهْلِهِ وَالحنينِ إِلَى وطنِهِ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ صَنْعَاءَ فَاسْتَوْبَأَهَا، وَكانتْ مَنَازِلُ قَوْمِهِ فِي وَادِي أُشَيٍّ - بِضَمِّ الهمزةِ وَفَتْحِ الشينِ وَتَشْدِيدِ الياءِ - بِنَجْدٍ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الكلمةِ قَوْلُهُ، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو تَمَّامٍ فِي (الحماسةِ):
لا حَبَّذَا أَنْتِ يَا صَنْعَاءُ مِنْ بَلَدٍ = وَلا شَعُوبُ هَوًى مِنِّي وَلا نُقُمُ
وَحَبَّذَا حِينَ تُمْسِي الرِّيحُ بَارِدَةً = وَادِي أُشَيٍّ وَفِتْيَانٌ بِهِ هُضُمُ
اللُّغَةُ: (لا حَبَّذَا) كلمةٌ تُقَالُ عِنْدَ الذمِّ وَالْهِجَاءِ. (صَنْعَاءُ) اسْمٌ لِمَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا باليَمَنِ بينَهَا وبينَ عدنٍ ثمانيةٌ وَستُّونَ ميلاً، وَهِيَ قَصَبَةُ اليمنِ وَأَحْسَنُ بِلادِهَا، وَثَانِيهِمَا قَرْيَةٌ بالغُوْطَةِ مِنْ دِمَشْقَ، وَالمرادُ هُنَا الأوَّلُ. (شَعُوبُ) بِفَتْحِ المُعْجَمَةِ - اسْمٌ لِبَسَاتِينَ بِظَاهِرِ صَنْعَاءَ. (نُقُمُ) بِضَمِّ النُّونِ والقافِ جَمِيعاً، أَوْ بِفَتْحِهِمَا - اسْمٌ لِجَبَلٍ مُطِلٍّ عَلَى صَنْعَاءَ قَرِيبٍ مِنْ غُمْدَانَ.
(أُشَيّ) قَالَ يَاقُوتٌ: (هُوَ مَوْضِعٌ بالوَشْمِ، وَالوَشْمُ: وَادٍ باليمامةِ فِيهِ نَخْلٌ، والأُشَيُّ تَصْغِيرُ: الأَشَاءِ - بِزِنَةِ سَحَابٍ - الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِصِغَارِ النَّخْلِ، وَوَاحِدَتُهُ: أَشَاءَةٌ، وَأُشَيٌّ: مَنَازِلُ عَدِيِّ بْنِ الرَّبَابِ، وَقِيلَ: هُوَ للأحمالِ مِنْ بَلْعَدَوِيَّةَ) اهـ. كَلامُهُ بِتَصَرُّفٍ.
(هُضُمُ) بِضَمِّ الهاءِ والضَّادِ جَمِيعاً - جَمْعُ هَضُومٍ، والهَضُومُ - بِفَتْحِ الهاءِ، بِزِنَةِ صَبُورٍ وَغَفُورٍ - الْجَوَادُ المِتْلافُ لِمَالِهِ، وَيُقَالُ: يَدٌ هَضُومٌ، إِذَا كَانَتْ تَجُودُ بِمَا لَدَيْهَا وَتُلْقِيهِ فَمَا تُبْقِيهِ.
الإعرابُ: (مَا) حَرْفُ نَفْيٍ. (أُصَاحِبُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بِالضَّمَّةِ الظاهرةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنَا. (مِنْ) حَرْفٌ جَرٍّ زَائِدٌ. (قَوْمٍ) مَفْعُولٌ بِهِ لأُصَاحِبُ مَنْصُوبٌ بِفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى آخرِهِ مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا اشْتِغَالُ المَحَلِّ بَحَرَكَةِ حَرْفِ الجرِّ الزائدِ. (فَأَذْكُرَهُمْ) الفاءُ فَاءُ السَّبَبِيَّةِ، أَذْكُرَ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بأنِ المُضْمَرَةِ بَعْدَ فاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنَا، وَضَمِيرُ الْغَائِبِينَ الْعَائِدُ إِلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ هُمُ الفِتْيَانُ الهُضُمُ مَفْعُولٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. (إِلاَّ) أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ لا عَمَلَ لَهَا. (يَزِيدُهُمُ) يَزِيدُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بِالضَّمَّةِ الظاهرةِ، وَهُمْ: ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ الْعَائِدُ إِلَى قَوْمِهِ أَوْ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يُصَاحِبُهُمْ، مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِيَزِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. (حُبًّا) مَفْعُولٌ ثانٍ لِيَزِيدُ مَنْصُوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ. (إِلَيَّ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِيَزِيدُ. (هُمُ) ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ الْعَائِدُ إِلَى قَوْمِهِ إِنْ كَانَ الضميرُ الأوَّلُ عَائِداً إِلَى الْقَوْمِ الآخَرِينَ الْمُصَاحِبِينَ، وَيَعُودُ إِلَى الْقَوْمِ الآخَرِينَ الْمُصَاحِبِينَ إِنْ عادَ الأوَّلُ إِلَى قومِهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَاعِلٌ بِيَزِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ الرفعِ.
الْمَعْنَى: يَحْتَمِل هَذَا البيتُ مَعْنَيَيْنِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلافِ مَرْجِعِ ضَمِيرَيِ الْغَائِبِينَ فِي الشطرِ الثاني مِنْهُ: أَمَّا المَعْنَى الأوَّلُ فإنَّهُ مَا يَتَّصِلُ بِقَوْمٍ سِوَى قَوْمِهِ فَيَذْكُرَ أَمَامَهُمْ قَوْمَهُ إِلاَّ أَثْنَوْا عَلَى قومِهِ، وَبَالَغُوا فِي مَدْحِهِمْ فَيَزِيدُونَهُ ثِقَةً بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا المَعْنَى الثَّانِي فَإِنَّهُ مَا يُعَاشِرُ قَوْماً فَيَبْلُوهُم إِلاَّ تَكَشَّفُوا عَنْ أخلاقٍ سَيِّئَةٍ وَصِفَاتٍ فَاسِدَةٍ، فَيَتَذَكَّرَ مَآثِرَ قَوْمِهِ فَيَزْدَادَ لَهُمْ حُبًّا وَيَشْتَدَّ إِلَيْهِمْ حَنِينُهُ؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْلَفُ مَكَارِمَ الأخلاقِ وَمَحَامِدَ الصِّفَاتِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (إِلاَّ يَزِيدُهُمْ حُبًّا إِلَيَّ هُمُ) حيثُ فَصَلَ الضميرَ المرفوعَ - وَهُوَ (هُم) الَّذِي فِي آخِرِ البيتِ - وَكَانَ قِيَاسُ الْكَلامِ أَنْ يَجِيءَ بِهِ ضَمِيراً مُتَّصِلاً بالعاملِ الَّذِي هُوَ يَزِيدُ، فَيَقُولَ: (إِلاَّ يَزِيدُونَهُمْ) هَذَا بِحَسَبِ الظاهرِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ (يَزِيدُ) ضَمِيراً مُسْتَتِراً فِيهِ جَوَازاً، تَقْدِيرُهُ هُوَ يَعُودُ إِلَى الْمَصْدَرِ المَفْهُومِ مِنْ (أَذْكُرَ) وَكَأَنَّهُ قَدْ قَالَ: إِلاَّ يَزِيدُهُمْ ذِكْرِي لَهُمْ حُبًّا إِلَيَّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضميرُ البارزُ المرفوعُ فِي آخِرِ البيتِ تَوْكِيداً لذلكَ الضميرِ المُسْتَتِرِ، قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَعَلَى هَذَا التوجيهِ يَخْرُجُ البيتُ عَن الضرورةِ، وَلا يَكُونُ فِيهِ شَاهِدٌ.
وقد يُقَالُ عَلَى هَذَا التخريجِ: كَيْفَ يُؤَكَّدُ ضميرُ الْوَاحِدِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ؟ وكيفَ يُطْلَقُ (هُم) وَهُوَ خَاصٌّ بالعُقَلاءِ عَلَى التَّذَكُّرِ وَهُوَ غَيْرُ عَاقِلٍ؟
23 - هَذَا بَيْتٌ مِنَ البسيطِ، وَصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
بِالْبَاعِثِ الْوَارِثِ الأَمْوَاتِ قَدْ ضَمِنَتْ
وهذا البيتُ مِنْ كلمةٍ لِلْفَرَزْدَقِ يَمْدَحُ فِيهِ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَبْلَهُ قَوْلُهُ:
يَا خَيْرَ حَيٍّ وَقَتْ نَعْلٌ لَهُ قَدَماً = وَمَيِّتٍ بَعْدَ رُسْلِ اللَّهِ مَقْبُورِ
إِنِّي حَلَفْتُ وَلَمْ أَحْلِفْ عَلَى فَنَدٍ = فِنَاءَ بَيْتٍ مِنَ السَّاعِينَ مَعْمُورِ
اللغةُ: (وَقَتْ) فِعْلٌ مَاضٍ مُتَّصِلٌ بتاءِ التأنيثِ مِن الوقايةِ، وَهِيَ الحفظُ. (فَنَدٍ) بِفَتْحِ الفاءِ وَالنونِ جَمِيعاً - الكَذِبُ، وَفِي الْقُرْآنِ الكريمِ: {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}؛ أَيْ: تَنْسُبُونِي إِلَى الكَذِبِ. (فِنَاءَ) هُوَ بِزِنَةِ كِتَابٍ - سَاحَةُ البيتِ، وَأَرَادَ بالبيتِ بَيْتَ اللَّهِ الحرامَ وَهُوَ الكعبةُ، وَبِالسَّاعِينَ الَّذِي يَطُوفُونَ حَوْلَهُ؛ لأَنَّهُم يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ.
(الْبَاعِث) الَّذِي يَبْعَثُ الأمواتَ وَيُحْيِيهِم. (الْوَارِثِ) الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيْهِ الأملاكُ بَعْدَ فَنَاءِ المُلاَّكِ، وَهُمَا اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. (ضَمِنَت) اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُهُ تَضَمَّنَتْ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَرْضَ تَكَفَّلَتْ بِهِمْ؛ لأَنَّهَا سَتَلْفِظُهُمْ عِنْدَ البعثِ. (الدَّهَارِيرِ) جَمْعٌ لا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمِثْلُهُ عَبَادِيدُ، وَمَحَاسِنُ، وَمَلامِحُ، والدَّهَارِيرُ: الشَّدَائِدُ.
الإعرابُ: (بِالْبَاعِثِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِحَلَفْتُ فِي البيتِ السابقِ. (الْوَارِثِ) صِفَةٌ للبَاعِثِ. (الأَمْوَاتِ) يَجُوزُ لَكَ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ تَجُرَّهُ بالكسرةِ الظاهرةِ عَلَى أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَالْمُضَافُ هُوَ البَاعِثُ أَو الوَارِثُ عَلَى مِثَالِ قَوْلِهِمْ: قَطَعَ اللَّهُ يَدَ وَرِجْلَ مَنْ قَالَهَا، وَقَوْلِ الشاعرِ:
يَا مَنْ رَأَى عَارِضاً أُسَرُّ بِهِ = بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
والوجهُ الثاني: أَنْ تَنْصِبَهُ بالفتحةِ الظاهرةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ تَنَازَعَهُ الوَصْفَانِ قَبْلَهُ فَأَعْمَلَ فِيهِ الثانِي ولم يَعْمَلِ الأوَّلُ فِي ضَمِيرِهِ، بَلْ حَذَفَهُ لِكَوْنِهِ فَضْلَةً. (قَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ. (ضَمِنَتْ) ضَمِنَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وَالتاءُ علامةٌ عَلَى تأنيثِ الفاعلِ. (إِيَّاهُمْ) إِيَّا: ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مفعولٌ بِهِ لِضَمِنَ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَهُمْ حَرْفٌ دالٌّ عَلَى الغيبةِ. (الأَرْضُ) فَاعِلُ ضَمِنَ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ. (فِي دَهْرِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِضَمِنَ، وَدَهْرِ مُضَافٌ وَ (الدَّهَارِيرِ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (ضَمِنَتْ إِيَّاهُمْ) حيثُ أَتَى بالضميرِ مُنْفَصِلاً حِينَ اضْطُرَّ إِلَى إقامةِ الوزنِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ مُتَّصِلاً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ القياسُ، ولو أَنَّهُ أَتَى بِهِ مُتَّصِلاً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ القياسُ لَقَالَ: (قَدْ ضَمِنَتْهُمُ الأَرْضُ). وَالإِتْيَانُ بالضميرِ مُنْفَصِلاً مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الإتيانِ بِهِ مُتَّصِلاً مِمَّا لا يَسُوغُ ارْتِكَابُهُ عَرَبِيَّةً إِلاَّ لِضَرُورَةِ الشعرِ.
وَمِثْلُ هَذَا البيتِ والبيتِ السابقِ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ البَكْرِيِّ:
أَصْرَمْتَ حَبْلَ الْوَصْلِ؟ بَلْ صَرَمُوا = يَا صَاحِ بَلْ قَطَعَ الْوِصَالَ هُمُ
([2]) ذَكَرَ المُؤَلِّفُ مَوْضِعَيْنِ لا يَتَأَتَّى فِيهِمَا المَجِيءُ بالضميرِ المُتَّصِلِ، وَيَتَعَيَّنُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الإِتْيَانُ بالضميرِ مُنْفَصِلاً، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ اثْنَا عَشَرَ مَوْضِعاً مِنْ هَذِهِ البابةِ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا لَكَ تَتْمِيماً للبحثِ، وَفِي وَجَازَةٍ وَاخْتِصَارٍ:
الأوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ فَاعِلاً لِمَصْدَرٍ أُضِيفَ إِلَى مَفْعُولِهِ، نَحْوَ قَوْلِ الشاعرِ:
بِنَصْرِكُمْ نَحْنُ كُنْتُمْ ظَافِرِينَ وَقَدْ = أَغْرَى الْعِدَى بِكُمُ اسْتِسْلامُكُمْ فَشَلا
وعلى هَذَا تَقُولُ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ أَنْتَ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ ضَرْبِ لِزَيْدٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ لِمَفْعُولِهِ.
الثاني: أَنْ يَكُونَ الضميرُ مَفْعُولاً لِمَصْدَرٍ أُضِيفَ إِلَى فاعلِهِ ال ظاهرِ، نَحْوَ قولِكِ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ إِيَّاكَ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ ضَمِيراً أَيْضاً كَانَتْ مِن المسألةِ الأُولَى الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الأَمْرَانِ.
وَمِنَ الْمَوْضِعِ الثاني قَوْلُ الأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
أَحَقًّا بَنِي أَبْنَاءِ سَلْمَى بْنِ جَنْدَلٍ = وَعِيدُكُمُ إِيَّايَ وَسْطَ الْمَجَالِسِ
الثالثُ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ مَرْفُوعاً بِصِفَةٍ جَارِيَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ لَهُ، مُطْلَقاً عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وَمَعَ خَوْفِ اللَّبْسِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، عَلَى مَا تَعْرِفُهُ مُفَصَّلاً فِي بابِ المبتدإِ والخبرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، نَحْوَ: زَيْدٌ عَمْرٌو ضَارِبُهُ هُوَ.
الرابعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الضميرِ مَحْذُوفاً، نَحْوَ قَوْلِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيِّ:
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ فَانْتَسِبْ = لَعَلَّكَ تَهْدِيكَ الْقُرُونُ الأَوَائِلُ
ونحوَ قَوْلِ الآخرِ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرْتَ حَاصِداً = نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ الْبَذْرِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ السَّمَوْءَلِ:
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا
الخامِسُ: أَنْ يَكُونَ عاملُ الضميرِ حَرْفاً مِنْ حُرُوفِ النَّفْيِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهُمْ}. وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا}. وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
السادسُ: أَنْ يَقَعَ الضميرُ بَعْدَ واوِ الْمَعِيَّةِ، نَحْوَ قَوْلِ الشاعرِ:
فَآلَيْتُ لا أَنْفَكُّ أَحْذُو قَصِيدَةً = تَكُونُ وَإِيَّاهَا بِهَا مَثَلاً بَعْدِي
السابعُ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ تَابِعاً لِمَعْمُولٍ آخَرَ لِعَامِلِهِ، كالضميرِ المَعْطُوفِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}. وَفِي قَوْلِ قيسِ بْنِ زُهَيْرٍ:
فَإِنْ تَكُ حَرْباً فَلَمْ أَجْنِهَا = جَنَتْهَا خِيَارُهُمْ أَوْ هُمُ
الثامنُ: أَنْ يَقَعَ الضميرُ بَعْدَ (إِمَّا) نَحْوَ قَوْلِكَ: (يَتَوَلَّى الأَمْرَ إِمَّا أَنَا وَإِمَّا أَنْتَ).
التاسعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الضميرِ مَعْنَوِيًّا - وَهُوَ الابتداءُ - ومَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الضميرُ مُبْتَدَأً، نَحْوَ (أَنَا مُؤْمِنٌ) و (أَنْتَ مُجْتَهِدٌ) و (هُوَ كَسْلانُ) وَمِنْ أمثلةِ ذَلِكَ صَدْرُ الشاهدِ رَقْمِ 24، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سُحَيْمٍ:
أَنَا ابْنُ جَلا وَطَلاَّعِ الثَّنَايَا
الْعَاشِرُ: أَنْ يَقَعَ الضميرُ بَعْدَ اللامِ الْفَارِقَةِ، الداخلةِ فِي خَبَرِ إِنَّ المُخَفَّفَةِ، كَقَوْلِ الشاعرِ:
إِنْ وَجَدْتَ الصَّدِيقَ حَقًّا لإِيَّا = كَ فَمُرْنِي فَلَنْ أَزَالَ مُطِيعَا
الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ مُنَادًى، نَحْوَ: (يَا أَنْتَ) ونحوَ: (يَا إِيَّاكَ) وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْمُنَادَى أَنَّ نِدَاءَ المُضْمَرِ شَاذٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
يَا أَبْجَرُ بْنَ أَبْجَرٍ يَا أَنْتَا = أَنْتَ الَّذِي طَلَّقْتَ عَامَ جُعْتَا
الثانِيَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ ثَانِيَ ضَمِيرَيْنِ مُتَّحِدَيِ الرُّتْبَةِ مَعْمُولَيْنِ لِعَامِلٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ مَرْفُوعاً، نَحْوَ: (ظَنَنْتُنِي إِيَّايَ) و (ظَنَنْتُكَ إِيَّاكَ) وَسَيَذْكُرُ المُؤَلِّفُ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي ثَنَايَا شَرْحِ مَسْأَلَتَيِ الْجَوَازِ.
([3]) سُورَةُ الفاتحةِ، الآيَةُ: 4.
([4]) سُورَةُ يُوسُفَ، الآيَةُ: 40.
24 - هَذِهِ قطعةٌ مِنْ بيتٍ مِنَ الطويلِ، وَهُوَ بِتَمَامِهِ:
أَنَا الذَّائِدُ الْحَامِي الذِّمَارَ وَإِنَّمَا = يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي
وهذا بَيْتٌ مِنْ قصيدةٍ لِلْفَرَزْدَقِ يُعَارِضُ بِهَا جَرِيراً وَيَفْخَرُ عَلَيْهِ، وبعدَ هَذَا البيتِ قَوْلُهُ:
فَمَهْمَا أَعِشْ لا يَضْمَنُونِي وَلا أُضِعْ = لَهُمْ حَسَباً مَا حَرَّكَتْ قَدَمِي نَعْلِي
اللغةُ: (الذَّائِدُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ ذَادَ الشَّيْءَ يَذُودُهُ، إِذَا دَفَعَهُ، وَتَقُولُ: فُلانٌ يَذُودُ عَنْ قَوْمِهِ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ كُلَّ مَا هُمْ بِصَدَدِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ، فَهُوَ يَدْفَعُ الأَذَى وَيَرُدُّ غَائِلَةَ الأعداءِ وَيَكْسِرُ مِنْ شَوْكَتِهِم. (الذِّمَارَ) - بِكَسْرِ الذالِ بِزِنَةِ الْكِتَابِ -: كُلُّ مَا لَزِمَكَ أَنْ تُحَافِظَ عَلَيْهِ وَتَحْمِيَهُ. (أَحْسَاب) جَمْعُ حَسَبٍ - بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ جَمِيعاً - وَهُوَ كُلُّ مَا يَعُدُّهُ الإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ، وَقِيلَ: الحَسَبُ الْمَالُ، وَالأَوَّلُ أَشْهَرُ.
(لا يَضْمَنُونِي) أَرَادَ أَنَّهُ لا يَجُرُّ عَلَيْهِمْ جَرِيرَةً وَلا يَجْنِي جِنَايَةً فَيُكَفَّلُوهُ أَوْ يَغْرَمُوا عَنْهُ. (لا أُضِعْ) هُوَ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بالعطفِ عَلَى جوابِ الشرطِ أَجْوَفُ مِنَ الإضاعةِ، وَقَدْ حُذِفَتْ عَيْنُهُ للتَّخَلُّصِ مِنَ التقاءِ السَّاكِنَيْنِ. (مَا حَرَّكَتْ قَدَمِي نَعْلِي) مَا هَذِهِ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، وَالمَعْنَى: مُدَّةَ تَحْرِيكِ قَدَمِي نَعْلِي، وَأَرَادَ بِذَلِكَ طولَ حَيَاتِهِ؛ لأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا يُحَرِّكُ قَدَمَهُ فَتَتَحَرَّكُ نَعْلُهُ بِحَرَكَةِ قَدَمِهِ.
الإعرابُ: (أَنَا) ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مُبْتَدَأٌ (الذَّائِدُ) خَبَرُ المُبْتَدَإِ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ (الْحَامِي) صِفَةٌ للذائدِ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ للمُبْتَدَإِ، وَالْحَامِي مُضَافٌ وَ (الذِّمَارَ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّمَارَ مَنْصُوباً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْحَامِي. (إِنَّمَا) حَرْفٌ دَالٌّ عَلَى القصرِ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ. (يُدَافِعُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ. (عَنْ) حَرْفُ جَرٍّ. (أَحْسَابِهِمْ) أَحْسَاب: مَجْرُورٌ بِعَنْ، وَعَلامَةُ جَرِّهِ الكسرةُ الظاهرةُ، وَأَحْسَاب: مُضَافٌ، وَضَمِيرُ الْغَائِبِينَ مُضَافٌ إِلَيْهِ. (أَنَا) ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ فَاعِلُ يُدَافِعُ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ. (أَوْ) حَرْفُ عَطْفٍ. (مِثْلِي) مِثْلُ: مَعْطُوفٌ عَلَى الضميرِ المُنْفَصِلِ، وَمِثْلُ مُضَافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إِلَيْهِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ المنفصلِ - وَهُوَ أَنَا - لِكَوْنِهِ وَاقِعاً بَعْدَ (إِلاَّ) فِي المعنَى والتأويلِ، وَالَّذِي يَقَعُ بَعْدَ (إِلاَّ) هُوَ الضميرُ المُنْفَصِلُ، وَإِنَّمَا كَانَ الضميرُ هَهُنَا فِي المَعْنَى وَالتأويلِ وَاقِعاً بَعْدَ (إِلاَّ)؛ لأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي) هُوَ بِعَيْنِهِ مَعْنَى قَوْلِكَ: لا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ إِلاَّ أَنَا أَوْ مِثْلِي.
([5]) سُورَةُ البقرةِ، الآيَةُ: 137.
([6]) سُورَةُ هُود، الآيَةُ: 28.
([7]) سُورَةُ مُحَمَّدٍ، الآيَةُ: 37.
25 - هَذَا عَجُزُ بَيْتٍ مِنَ الْمُتَقَارِبِ، وَصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
لَئِنْ كَانَ حُبُّكِ لي كَاذِباً
وهذا بَيْتٌ مِنْ كلمةٍ اخْتَارَهَا أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ الطَّائِيُّ فِي (دِيوَانِ الحماسةِ)، ولم يَنْسُبْهَا وَلا نَسَبَهَا أَحَدُ شُرَّاحِهِ إِلَى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وَقَبْلَ البَيْتِ المُسْتَشْهَدِ بِعَجُزِهِ قَوْلُهُ:
لَئِنْ كُنْتِ أَوْطَأْتِنِي عَشْوَةً = لَقَدْ كُنْتُ أَصْفَيْتُكِ الْوُدَّ حِينَا
وَمَا كُنْتُ إِلاَّ كَذِي نُهْزَةٍ = تَبَدَّلَ غَثًّا وَأَعْطَى سَمِينَا
اللغةُ: (عَشْوَةً) - بِفَتْحِ العَيْنِ المُهْلَمَةِ وَسُكُونِ الشينِ - وَهِيَ الأَمْرُ الخَفِيُّ الَّذِي اسْتَتَرَ عَنْكَ صَوَابُهُ، وَيُقَالُ: وَطِئَ فُلانٌ عَشْوَةً، وَأَوْطَأَتْهُ إِيَّاهَا، إِذَا رَكِبَ أَمْراً عَلَى غَيْرِ بَيَانٍ أَوْ أَرْكَبَتْهُ إِيَّاهُ، وَيُرْوَى: (بَهْزَةٍ) بِالْبَاءِ المُوَحَّدَةِ - وَهِيَ الغَلَبَةُ.
الإِعْرَابُ: (لَئِن) اللامُ مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ. (كَانَ) فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ فِعْلُ الشرطِ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ فِي مَحَلِّ جَزْمٍ. (حُبُّكِ) حُبُّ: اسْمُ كَانَ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وَحُبُّ: مُضَافٌ، وَضَمِيرُ المُخَاطَبَةِ مُضَافٌ إِلَيْهِ. (لِي) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِحُبُّ. (صَادِقاً) خَبَرُ كَانَ مَنْصُوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ. (لَقَدْ) اللامُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، قَدْ حَرْفُ تَحْقِيقٍ. (كَانَ) فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ لا مَحَلَّ لَهُ. (حَبِّيكِ) حُبّ: اسْمُ كَانَ مَرْفُوعٌ بضمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى مَا قَبْلَ ياءِ المُتَكَلِّمِ، وَحُبّ مُضَافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إِلَيْهِ مِنْ إضافةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فاعلِهِ، وَضَمِيرُ المُخَاطَبَةِ مَفْعُولٌ بِهِ للمَصْدَرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الكسرِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. (حَقًّا) خبرُ كَانَ. (يَقِينَا) صِفَةٌ لِحَقًّا، وَجُمْلَةُ كَانَ وَاسْمِهِ وَخَبَرِهِ لا مَحَلَّ لَهَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الشرطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جوابُ الْقَسَمِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (حَبِّيكِ) حَيْثُ أَتَى بالضَّمِيرِ الثَّانِي - وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبَةِ - مُتَّصِلاً، وَهُوَ أَمْرٌ جَائِزٌ لا ضَرُورَةَ فِيهِ وَلا شُذُوذَ، وَيَجُوزُ الانفصالُ أَيْضاً، ولو أَتَى الشاعرُ بِهِ مُنْفَصِلاً لَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ حُبِّي إِيَّاكِ)، والانفصالُ فِي هَذِهِ الحالةِ - وَهِيَ أَنْ يَكُونَ العاملُ اسْماً كَحُبّ فِي هَذَا الشاهدِ - أَرْجَحُ.
وَمِثْلُ هَذَا الشاهدِ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ مُطَرِّفٍ المُجَاشِعِيِّ، وَأَنْشَدَهُ القَالِي: (الأَمَالِي (1/219)):
لا وَحُبِّيهِ لا وَحَقِّ هَوَاهُ = مَا تَنَاسَيْتُهُ وَلا خُنْتُ عَهْدَا
ومِنَ الاتِّصَالِ قَوْلُ شاعرٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَهُوَ مِنْ مَقْطُوعَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو تَمَّامٍ:
أَبَيْتَ اللَّعْنَ إِنَّ سَكَابَ عِلْقٌ = نَفِيسٌ لا يُعَارُ وَلا يُبَاعُ
فَلا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ فِيهَا = وَمَنْعُكَهَا بِشَيْءٍ يُسْتَطَاعُ
وَالاستشهادُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: (وَمَنْعُكَهَا) حيثُ أَتَى بالضميرِ الثاني - وَهُوَ (هَا) - مُتَّصِلاً، وَلَوْ أَتَى بِهِ مُنْفَصِلاً لَقَالَ: وَمَنْعُكَ إِيَّاهَا، وَكِلا التَّعْبِيرَيْنِ صَحِيحٌ جَائِزٌ فِي سَعَةِ الْكَلامِ مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلا ضَرُورَةٍ.
وَمِنَ الفَصْلِ قَوْلُ جَحْظَةَ (الأَمَالِي (1/212)):
وَمِن طَاعَتِي إِيَّاهُ أَمْطَرَ نَاظِرِي = لَهُ حِينَ يُبْدِي مِنْ ثَنَايَاهُ لِي بَرْقَا
وقولُ المُؤَلِّفِ: (إِنْ كَانَ الْعَامِلُ اسْماً) يَشْمَلُ الْمَصْدَرَ وَاسْمَ الفَاعِلِ، فَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَمِثَالُهُ هَذَا البيتُ المُسْتَشْهَدُ بِهِ، وَمَا سَنُنْشِدُهُ مِنْ بيتِ قَيْسٍ وَقَوْلِ جَحْدَرٍ وَمَا أَنْشَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِ التَّمِيمِيِّ، وَأَمَّا اسْمُ الفاعلِ فَمِثَالُهُ قَوْلُ الشاعرِ:
لا تَرْجُ أَوْ تَخْشَ غَيْرَ اللَّهِ إِنَّ أَذًى = وَاقِيكَهُ [لعل هنا سقط: اللهُ] لا يَنْفَكُّ مَأْمُونَا
الشاهدُ فِيهِ قَوْلُهُ: (وَاقِيكَهُ) حَيْثُ وَصَلَ الضَّمِيرَيْنِ، والأوَّلُ مِنْهُمَا كَافُ الْمُخَاطَبِ، وَالثاني هَاءُ الْغَائِبِ الَّتِي تَعُودُ إِلَى أَذًى.
وَنَظِيرُ البيتِ الشاهدِ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ المُلَوَّحِ:
تَضَعَّفَنِي حُبِّيكِ حَتَّى كَأَنَّنِي = مِنَ الأَهْلِ وَالْمَالِ التِّلادِ خَلِيعُ
وَمِثْلُهُ قَوْلُ جَحْدَرٍ أَحَدِ لُصُوصِ الْعَرَبِ (مُعْجَمُ البُلْدَانِ 3/29):
على قَلائِصَ قَدْ أَفْنَى عَرَائِكَهَا = تَكْلِيفُنَاهَا عَرِيضَاتِ الْفَلا زُورَا
ومثلُهُ قَوْلُ الأَخْطَلِ (أَنْشَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ 2/401):
وَتَكْلِفُنَاهَا كُلَّ طَامِسَةِ الصُّوَى = شَطُونٍ تَرَى حِرْبَاءَهَا يَتَمَلْمَلُ
26 - هَذِهِ قطعةٌ مِنْ بيتٍ مِنَ البسيطِ، وَهُوَ بِتَمَامِهِ:
أَخِي حَسَبْتُكَ إِيَّاهُ وَقَدْ مُلِئَتْ = أَرْجَاءُ صَدْرِكَ بالأَضْغَانِ وَالإِحَنِ
وَلَمْ أَعْثُرْ لهذا البيتِ عَلَى نسبةٍ إِلَى قائلٍ مُعَيَّنٍ، وَلا عَثَرْتُ لَهُ عَلَى سَوَابِقَ أَوْ لَوَاحِقَ.
اللغةُ: (حَسَبْتُكَ إِيَّاهُ) ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَخِي. (أَرْجَاءُ) جَمْعُ رَجَا - بِزِنَةِ عَصَا - وَهُوَ الناحيةُ (الأَضْغَانِ) جَمْعُ ضِغْنٍ - بِكَسْرِ الضادِ وَسُكُونِ الغينِ المُعْجَمَتَيْنِ - بِزِنَةِ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ - وَهُوَ الحِقْدُ. (الإِحَنِ) - بِكَسْرِ الهمزةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ المُهْمَلَةِ - جَمْعُ إِحْنَةٍ - بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ - وَهِيَ الحِقْدُ أَيْضاً، فالعطفُ للتَّفْسِيرِ.
المعنَى: لَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّكَ أَخِي الَّذِي يَأْخُذُ بِنَاصِرِي وَيَدْفَعُ عَنِّي عَوَادِيَ الدَّهْرِ، وَلَكِنِّي وَجَدْتُ صَدْرَكَ مُمْتَلِئاً بالأحقادِ مَلِيئاً بالضَّغِينَةِ وَالغِلِّ.
الإعرابُ: (أَخِي) أَخ: مُبْتَدَأٌ مَرْفُوعٌ بضمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى مَا قَبْلَ يَاءِ المُتَكَلِّمِ، وَأخ مُضَافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إِلَيْهِ. (حَسِبْتُكَ) حَسِبَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَتَاءُ المُتَكَلِّمِ فَاعِلُهُ، وَضَمِيرُ المُخَاطَبِ مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ. (إِيَّاهُ) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِحَسِبَ، وَجُمْلَةُ الفِعْلِ وَفَاعِلِهِ وَمَفْعُولَيْهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ المُبْتَدَإِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَخِي) مَفْعُولاً لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ؛ فَهُوَ حِينَئِذٍ مِنْ بابِ الاشتغالِ. (وَقَدْ) الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَقَدْ حَرْفُ تَحْقِيقٍ. (مُلِئَتْ) فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمجهولِ، وَالتاءُ عَلامَةٌ عَلَى تأنيثِ المُسْنَدِ إِلَيْهِ. (أَرْجَاءُ) نَائِبُ فَاعِلٍ، وَأَرْجَاءُ مُضَافٌ، وَصَدْرِ مِنْ (صَدْرِكَ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، وَصَدْرِ مُضَافٌ، وَضَمِيرُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إِلَيْهِ. (بِالأَضْغَانِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمُلِئَ (وَالإِحَنِ) الْوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، وَالإِحَنِ مَعْطُوفٌ عَلَى الأَضْغَانِ، وَالجملةُ مِن الفعلِ ونائبِ فَاعِلِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ.
الشاهدُ فِيهِ: قولُكَ: (حَسِبْتُكَ إِيَّاهُ) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ الثاني - وَهُوَ (إِيَّاهُ) مُنْفَصِلاً، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لفعلٍ ناسخٍ للابتداءِ - وَهُوَ هُنَا (حَسِبَ) - والإتيانُ بِثَانِي الضَّمِيرَيْنِ مُنْفَصِلاً فِي هَذِهِ الحالةِ جَائِزٌ لا ضَرُورَةَ فِيهِ وَلا شُذُوذَ، والإتيانُ بِهِ مُتَّصِلاً جَائِزٌ أَيْضاً، وَلَوْ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ مُتَّصِلاً لَقَالَ: (حَسِبْتُكَهُ).
وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي أَرْجَحِ الوَجْهَيْنِ: فَأَمَّا الجمهورُ - وَمِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ - فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الانفصالَ أَرْجَحُ مِنَ الاتِّصَالِ حِينَئِذٍ، وَوَجْهُهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ ثَانِيَ الضَّمِيرَيْنِ أَصْلُهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ، وَمِنْ حَقِّ الخبرِ الانْفِصَالُ.
وَذَهَبَ ابْنُ مَالِكٍ وابنُ الطَّرَاوَةِ وَالرُّمَّانِيُّ إِلَى أَنَّ الاتِّصَالَ حِينَئِذٍ أَرْجَحُ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْكَلامِ مَزِيدُ تَوْضِيحٍ فِي شرحِ الشاهدِ الآتِي.
27 - هَذَا صَدْرُ بَيْتٍ مِنَ البسيطِ، وَعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
إذْ لَمْ تَزَلْ لاكْتِسَابِ الحَمْدِ مُبْتَدِرَا
ولمْ أَقِفْ لهذا البَيْتِ عَلَى نِسْبَةٍ إِلَى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وَلا عَثَرْتُ لَهُ عَلَى سَوَابِقَ أَوْ لَوَاحِقَ.
اللغةُ: (بَرٍّ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الراءِ - هُوَ الصادقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَرَّ فُلانٌ فِي يَمِينِهِ، إِذَا صَدَقَ، (إِخَالُكَهُ) بِكَسْرِ هَمْزَةِ المُضارعةِ، وَذَلِكَ هُوَ المشهورُ فِي هَذَا الفعلِ، وَمَعْنَاهُ: أَظُنُّكَهُ (مُبْتَدِرَا) مُسْرِعاً، تَقُولُ: ابْتَدَرَ فُلانٌ الشيءَ، وَبَادَرَ إِلَيْهِ، وَبَدَرَ غَيْرَهُ إِلَيْهِ، وَبَدَرَ إِلَيْهِ - مِنْ بابِ دَخَلَ - إِذَا أَرَدْتَ أَنَّهُ أَسْرَعَ إِلَى عَمَلِهِ.
الإعرابُ: (بُلِّغْتُ) بُلِّغَ فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمجهولِ، والتاءُ ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ نَائِبُ فَاعِلٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضمِّ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَهُوَ المَفْعُولُ الأوَّلُ لِبُلِّغَ. (صُنْعَ) مَفْعُولٌ ثَانٍ مَنْصُوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وَصُنْعَ مُضَافٌ، وَ (امْرِئٍ) مُضَافٌ إِلَيْهِ، (بَرٍّ) صِفَةٌ لامْرِئٍ. (إِخَالُكَهُ) إِخَالُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنَا، والكافُ ضَمِيرُ المُخَاطَبِ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لإِخَالُ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، والهاءُ ضَمِيرُ الغائبِ الْعَائِدُ عَلَى امْرِئٍ، مَفْعُولٌ ثَانٍ لإِخَالُ مَبْنِيٌّ عَلَى الضمِّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. (إِذْ) أَدَاةٌ دَالَّةٌ عَلَى التعليلِ، يُقَالُ: هِيَ حَرْفٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى السكونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وَيُقَالُ: هُوَ ظَرْفٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَيَكُونُ مُتَعَلِّقاً بِإِخَالُ. (لَمْ) حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ وَقَلْبٍ. (تَزَلْ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِلَمْ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنْتَ. (لاكْتِسَابِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مُبْتَدِرَا، الآتِي، وَاكْتِسَاب مُضَافٌ وَ (الحَمْدِ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ، وَخَبَرُهُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِإِضَافَةِ إِذْ إِلَيْهَا، هَذَا إِذَا جَرَيْتَ عَلَى أَنَّ (إِذْ) ظَرْفٌ، فَإِذَا جَرَيْتَ عَلَى أَنَّ (إِذْ) حَرْفٌ كَانَت الجملةُ لا مَحَلَّ لَهَا مِن الإعرابِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (إِخَالُكَهُ) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ الثاني - وَهُوَ هُنَا الهاءُ - مُتَّصِلاً، وَهُوَ مفعولٌ ثانٍ لِفِعْلٍ نَاسِخٍ للابتداءِ - وَهُوَ هُنَا (إِخَالُ)، وَالإتيانُ بِثَانِي الضميرَيْنِ فِي هَذِهِ الحالةِ مُتَّصِلاً جَائِزٌ لا شُذُوذَ فِيهِ وَلا ضَرُورَةَ عَلَى مَا عَرَفْتَ فِي شرحِ الشاهدِ السابقِ.
وَقَد اخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ وَمَنْ ذَكَرَهُمُ المُؤَلِّفُ معهُ الاتِّصَالَ فِي هَذِهِ الحالةِ، وَوَجْهُهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ اتِّصَالَ الضميرِ هُوَ الأصلُ؛ لأَنَّ الضميرَ إِنَّمَا وُضِعَ لاخْتِصَارِ الأسماءِ؛ ولهذا كَانَتْ حُرُوفُهُ غَالِباً أَقَلَّ مِنْ أَقَلِّ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ الاسمُ، وَالمُتَّصِلُ أَشَدُّ تَأْدِيَةً لهذا الغرضِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُعْدَلْ عَن المُتَّصِلِ إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ، ولم يَتَعَذَّرْ هَهُنَا، وَكُنَّا بِصَدَدِ أَنْ نُوجِبَ الاتِّصَالَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الحالِ لِمَا بَيَّنَّا، غَيْرَ أَنَّهُ وَرَدَ عَنِ الْعَرَبِ الانْفِصَالُ - وَكَانَ للانْفِصَالِ وَجْهٌ مِنَ القياسِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَوْجِيهِ اخْتِيَارِ الجمهورِ الانفصالَ - فَكَانَ وُرُودُهُ عَن الْعَرَبِ مع هَذَا الْوَجْهِ سَبَباً فِي تَجْوِيزِهِ مَعَ تَمَسُّكِنَا بِالأَصْلِ.
وَالحاصلُ أَنَّ هَهُنَا أَصْلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّ الأصلَ فِي الضميرِ الاتِّصَالُ، وَثَانِيهما أَنَّ الأصلَ فِي الخبرِ الانفصالُ، وَقَدْ تَأَيَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الأَصْلَيْنِ بالسَّمَاعِ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزاً عِنْدَ الجميعِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ اعْتِبَارَ الأصلِ الأَوَّلِ، فَقَضَى بِأَنَّ اتِّصَالَ الضَّمِيرِ فِي هَذِهِ الحالةِ أَرْجَحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ اعْتِبَارَ الأصلِ الثاني فَقَضَى بِأَنَّ انْفِصَالَ الضَّمِيرِ فِي هَذِهِ الحالةِ أَرْجَحُ.
([8])هذه قطعةٌ من حديثٍ، وتَتِمَّتُه: ((وَإِلاَّ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)). وفي هذه التتِمَّةِ شاهدٌ لِمِثْلِ الذي آثَرَ المُؤَلِّفُ الجزءَ الأوَّلَ للاستدلالِ عليه، وكانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قد وَصَفَ المَسِيخَ الدَّجَّالَ لأصحابِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ فِتْنَةُ ابنِ صَيَّادٍ، ورآهُ النبيُّ وأصحابُه، فظَهَرَ لعمرَ بنِ الخَطَّابِ أنَّه يُشْبِهُ المَسِيخَ الدجَّالَ، فَهَمَّ بأنْ يَقْتُلَه، فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ هذا الكلامَ، يُرِيدُ: إنْ يَكُنْ هذا الذي تَرَاهُ هو المسيخَ الدجَّالَ فإنَّكَ لن تَقْتُلَه ؛ لأنَّنِي أَخْبَرْتُكُم أنَّ الذي يَقْتُلُهُ هو المسيحُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ عليه الصلاةُ والسلامُ، وإنْ لم يَكُنِ الذي تَرَاهُ هو المسيخَ الدجَّالَ فلا خيرَ لكَ في قَتْلِهِ.
28 - هَذَا صدرُ بَيْتٍ مِنَ الطويلِ، وَعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
عَنِ الْعَهْدِ وَالإِنْسَانُ قَدْ يَتَغَيَّرُ
وَهَذَا بَيْتٌ مِنْ قصيدةٍ جَيِّدَةٍ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيِّ، وَأَوَّلُ هَذِهِ القصيدةِ قَوْلُهُ:
أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ = غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُ
اللغةُ: (غَادٍ) اسْمُ فَاعِلٌ مِنْ غَدَا يَغْدُو - مِنْ بَابِ سَمَا يَسْمُو - إِذَا جَاءَ فِي وقتِ الغَدَاةِ، وَهِيَ أَوَّلُ النَّهَارِ. (مُبْكِرُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبْكَرَ إِبْكَاراً، إِذَا جَاءَ فِي وقتِ البَكْرَةِ، وَتَقُولُ: بَكَرَ - مِنْ بَابِ دَخَلَ - وَأَبْكَرَ إِبْكَاراً، وَبَكَّرَ تَبْكِيراً. (رَائِحٌ) آتٍ وَقْتَ الرَّوَاحِ، وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ زَوَالِ الشمسِ إِلَى الليلِ.
(مُهَجِّرُ) سَائِرٌ فِي وقتِ الهَاجِرَةِ وَهِيَ نصفُ النَّهَارِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الحَرِّ. (حَالَ) مَعْنَاهُ: تَغَيَّرَ، وَتَحَوَّلَتْ حَالُهُ عَّما كُنَّا نَعْلَمُهُ فِيهِ، والأصلُ فِي هَذِهِ المادةِ قَوْلُهُمْ: حَالَتِ القَوْسُ، إِذَا انْقَلَبَتْ عَنْ حَالِهَا وَحَصَلَ فِي قَالَبِهَا اعْوِجَاجٌ. (عَنِ الْعَهْدِ) عَمَّا عَهِدْنَاهُ مِنْ جَمَالِهِ وَشَبَابِهِ.
الإعرابُ: (لَئِن) اللامُ مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، إِنْ حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ. (كَانَ) فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هُوَ. (إِيَّاهُ) خبرُ كَانَ. (لَقَد) اللامُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ. (قَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ. (حَالَ) فِعْلٌ مَاضٍ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هُوَ. (بَعْدَنَا) بَعْدَ: ظَرْفُ زَمَانٍ مُتَعَلِّقٌ بِحَالَ، وَبَعْدَ: مُضَافٌ، وَنَا: مُضَافٌ إِلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وَجُمْلَةُ حَالَ وَفَاعِلِهِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الشرطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جوابُ الْقَسَمِ. (عَنِ الْعَهْدِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِحَالَ. (وَالإِنْسَانُ) الْوَاوُ: وَاوُ الْحَالِ، الإِنْسَانُ: مُبْتَدَأٌ. (قَدْ) حَرْفُ تَقْلِيلٍ (يَتَغَيَّرُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هُوَ يَعُودُ إِلَى الإِنْسَانِ، وَجُمْلَةُ الفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَفَاعِلِهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ، وَجُمْلَةُ المُبْتَدَإِ وَخَبَرِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ، وَرَابِطُ جُمْلَةِ الخبرِ بالمبتدإِ الضميرُ المُسْتَتِرُ الواقعُ فَاعِلاً، وَرَابِطُ جُمْلَةِ الحالِ الْوَاوُ.
الشاهدُ فِيهِ قَوْلُهُ: (كَانَ إِيَّاهُ)؛ حيثُ أَتَى بالضميرِ الواقعِ خبراً لكانَ الناسخةِ للمُبْتَدَإِ والخبرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (إِيَّاهُ) مُنْفَصِلاً، وَالْمَجِيءُ بالضميرِ مُنْفَصِلاً فِي هَذِهِ الحالةِ جَائِزٌ لا ضَرُورَةَ فِيهِ وَلا شُذُوذَ، والإتيانُ بِهِ مُتَّصِلاً جَائِزٌ أيضاً،
وَقَدْ وَرَدَ مِنْهُ مُتَّصِلاً قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ فِي حَدِيثٍ عَن ابْنِ صَيَّادٍ: ((إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)). وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ هَذَا الحديثِ قَرِيباً، وَأَوَّلُهُ قَد اسْتَشْهَدَ بِهِ المُؤَلِّفُ، كَمَا مَرَّ أَنَّ تَقْدِيرَهُ إِنْ يَكُنِ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الْمَسِيخَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَلَنْ تَتَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ؛ لأَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ المسيخَ الدَّجَّالَ مُعَيَّنٌ مَعْرُوفٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الْمَسِيخَ الدَّجَّالَ فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قتلِهِ.
وَنَظِيرُ الشاهدِ فِي الإتيانِ بِخَبَرِ كَانَ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا ضَمِيراً مُنْفَصِلاً قَوْلُ الشاعرِ، وَيُنْسَبُ إِلَى الْعَرْجِيِّ:
لَيْسَ إِيَّايَ وَإِيَّا = كِ وَلا نَخْشَى رَقِيبَا
الشاهدُ فِي قَوْلِهِ: (لَيْسَ إِيَّايَ). فَإِنَّ لَيْسَ فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ يَرْفَعُ الاسمَ وَيَنْصِبُ الخبرَ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ تَقْدِيرُهُ هُوَ، وَإِيَّايَ خَبَرُهُ، وَهُوَ ضميرٌ مُنْفَصِلٌ، ولو أَنَّهُ أَتَى بِهِ مُتَّصِلاً لَقَالَ: (لَيْسَنِي)، كَمَا قَالُوا: (عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَنِي)؛ أَيْ: لَيْسَ (هُوَ) الرجلَ الَّذِي يَلْزَمُهُ إِيَّايَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُسَاوِرٍ العَبْسِيِّ، وَيُنْسَبُ إِلَى الْعَجَّاجِ:
لو أَنَّهُ أَبَانَ أَوْ تَكَلَّمَا = لَكَانَ إِيَّاهُ وَلَكِنْ أَعْجَمَا
ومثلُهُ الشاهدُ رَقْمُ 83 الآتِي فِي بابِ كَانَ، وَهُوَ قَوْلُ الشاعرِ:
بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ فِي قَوْمِهِ الْفَتَى = وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ
وقدِ اسْتَعْمَلَ الناظمُ ذَلِكَ فِي بابِ المبتدإِ والخبرِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَإِنْ تَكُنْ إِيَّاهُ مَعْنًى اكْتَفَى = بِهَا كَنُطْقِي اللَّهُ حَسْبِي وَكَفَى
وَقَدِ اخْتَلَفَ العلماءُ فِي أَرْجَحِ الوَجْهَيْنِ عَلَى مثالِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الشاهدِ السابقِ.
وَمِنَ الاتِّصَالِ فِي بابِ (كَانَ) مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: (عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَنِي). وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ، وَهُوَ الشاهدُ رَقْمُ 31 الآتِي قَرِيباً:
عَدَدْتُ قَوْمِي كَعَدِيدِ الطَّيْسِ = إِذْ ذَهَبَ الْقَوْمُ الْكِرَامُ لَيْسِي
وَسَيَأْتِي هَذَا مَشْرُوحاً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الأسودِ الدُّؤَلِيِّ - وَكَانَ لَهُ غُلامٌ يَحْمِلُ تِجَارَتَهُ، وَكَانَ الغلامُ كُلَّمَا مَضَى بالتجارةِ شَرِبَ الخمرَ فَاضْطَرَبَ أَمْرُ التجارةِ - فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ أَبُو الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
دَعِ الْخَمْرَ يَشْرَبُهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي = رَأَيْتُ أَخَاهَا مُجْزِياً بِمَكَانِهَا
فَإِلاَّ يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ = أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
والاستشهادُ هُنَا بقولِهِ: (يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ الواقعِ خبراً لكانَ فِي الموضعَيْنِ مُتَّصِلاً عَلَى مَا تَرَى، يُرِيدُ: إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيذُ الخَمْرَ أَوْ تَكُنِ الخمرُ النَّبِيذَ فَإِنَّهُ أَخُوهَا شَرِبا مِنْ عُرُوقِ شجرةٍ واحدةٍ.
ومثلُ قَوْلِ الْمَجْنُونِ فِي لَيْلاهُ:
كَادَ الْغَزَالُ يَكُونُهَا = لَوْلا الشَّوَى وَنُشُوزُ قَرْنِهْ
([9]) نُسِبَ إِلَى أميرِ الْمُؤْمِنِينَ عثمانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: (أَرَاهُمُنِي الْبَاطِلُ شَيْطَاناً) بِوَصْلِ الضَّمِيرَيْنِ، وَأَوَّلُهُمَا لَيْسَ أَعْرَفَ مِنَ الثاني؛ لأَنَّ الأوَّلَ ضَمِيرُ غَيْبَةٍ والثانيَ ضَمِيرُ مُتَكَلِّمٍ، وَمَعْنَى العبارةِ أَنَّ الباطلَ أَرَاهُم إِيَّايَ شَيْطَاناً؛ أَيْ: جَعَلَهُم يَرَوْنَنِي شَيْطَاناً.
29 - هَذَا عَجُزُ بَيْتٍ مِنَ الطويلِ، وَصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
لِوَجْهِكَ فِي الإِحْسَانِ بَسْطٌ وَبَهْجَةٌ
وَلَمْ أَقِفْ لهذا البيتِ عَلَى نسبةٍ إِلَى قائلٍ مُعَيَّنٍ، وَلا عَثَرْتُ لَهُ عَلَى سَوَابِقَ أَوْ لَوَاحِقَ.
اللغةُ: (بَسْطٌ) بَشَاشَةٌ وطلاقةٌ. (بَهْجَةٌ) حُسْنٌ وَسُرُورٌ. (أَنَالَهُمَاهُ) مَعْنَاهُ المرادُ: عَوِّدْ وَجْهَكَ البَسْطَ والبهجةَ. (قَفْوُ) اتِّبَاعٌ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَفَاهُ يَقْفُوهُ، وَأَصْلُهُ كَانَ مِنْ مكانِهِ فِي جهةِ قَفَاهُ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ يَتَّبِعُ وَاحِداً وَيَسِيرُ عَلَى أَثْرِهِ.
الإعرابُ: اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ، وَجْه: مَجْرُورٌ باللامِ، وعلامةُ جَرِّهِ الكسرةُ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَوَجْه مُضَافٌ، والكافُ ضَمِيرُ المخاطبِ مُضَافٌ إِلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ فِي مَحَلِّ جَرٍّ. (فِي الإحسانِ) جَارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِبَسْط (بَسْطٌ:) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. (وَبَهْجَةٌ) الْوَاوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، بَهْجَةٌ: مَعْطُوفٌ عَلَى (بَسْطٌ). (أَنَالَهُمَاهُ) أَنَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وَضَمِيرُ الغائبِ الْمُثَنَّى العائدُ إِلَى البسطِ وَالبهجةِ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لأَنَالَ، وَضَمِيرُ الغائبِ المُفْرَدُ العَائِدُ إِلَى الْوَجْهِ مَفْعُولٌ ثَانٍ لأنَالَ، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْمُثَنَّى مَفْعُولاً ثَانِياً تَقَدَّمَ عَلَى المفعولِ الأوَّلِ الَّذِي هُوَ ضميرُ المفردِ. (قَفْوُ): فَاعِلُ أَنَالَ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وَقَفْوُ مُضَافٌ، وَ (أَكْرَمِ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مِنْ إضافةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مفعولِهِ، وَأَكْرَم: مُضَافٌ، وَ (وَالِدِ) مُضَافٌ إِلَيْهِ.
الشاهدُ فِيهِ: (أَنَالَهُمَاهُ) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ الثاني - وَهُوَ ضَمِيرُ المفردِ الغائبِ الَّذِي هُوَ الهاءُ - مُتَّصِلاً، والأكثرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الحالِ الانفصالُ، وَلَوْ جَاءَ بالكلامِ عَلَى مَا هُوَ الأكثرُ لَقَالَ: (أَنَالَهُمَاهُ إِيَّاهُ). ومع ذَلِكَ لَيْسَ الاتِّصَالُ شَاذًّا وَلا ضَرُورَةً.
وَإِنَّمَا جَازَ الاتِّصَالُ والانفصالُ فِي الضَّمِيرَيْنِ المُتَّحِدِي الرُّتْبَةِ إِذَا كَانَا ضَمِيرَيْ غَيْبَةٍ دُون ضَمِيرَيِ التَّكَلُّمِ وَالخِطَابِ؛ لِصِحَّةِ تَعَدُّدِ مَدْلُولَيْ ضَمِيرَيِ الغَيْبَةِ، أَلا تَرَى أَنَّ مَدْلُولَ الضميرِ الأوَّلِ فِي هَذِهِ العبارةِ مُثَنًّى غَائِبٌ، وَهُوَ البسطُ والبهجةُ، وأنَّ مدلولَ الضميرِ الثاني مُفْرَدٌ غَائِبٌ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَلَيْسَ مدلولُ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ بِمَدْلُولِ الآخرِ وَلا بَعْضِ مَدْلُولِ الآخرِ؟!
فَأَمَّا ضَمِيرَا المُتَكَلِّمِ مَثَلاً فَإِنَّهُمَا - وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ لَفْظِ الآخرِ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَاءَ المُتَكَلِّمِ وَالثاني نَا - لا يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلِفَ مَدْلُولُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِن الاختلافِ، بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ أَحَدِهِمَا هُوَ عَيْنَ مَدْلُولِ الآخرِ أَوْ بَعْضَهُ، بأنْ يُعَبِّرَ المُتَكَلِّمُ عَنْ نَفْسِهِ وَحْدَهُ بالياءِ ثُمَّ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضاً بِـ (نَا)، أَوْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ بالياءِ، ثُمَّ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَيُعَبِّرَ بِنَا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ فِي ضَمِيرَيِ الغَيْبَةِ أَمْرَانِ: اخْتِلافُ لَفْظِهِمَا وَاخْتِلافُ مَدْلُولِهِمَا، نُزِّلَ ذَلِكَ منزلةَ اخْتِلافِ الضَّمِيرَيْنِ، وَجَازَ فِيهِمَا الأَمْرَانِ، وَكَانَ الانفصالُ فِي ثَانِيهِمَا أَرْجَحَ نَظَراً إِلَى حقيقةِ الأَمْرِ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ الأَمْرَانِ فِي ضَمِيرَيِ التَّكَلُّمِ وَضَمِيرَيِ الخِطَابِ لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا إِلاَّ وَجْهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الانفصالُ.
وَمِثْلُ هَذَا الشاهدِ قَوْلُ مُغَلِّسِ بْنِ لَقِيطٍ:
وقدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ = لِضَغْمِهِمَاهَا يَقْرَعُ العَظْمَ نَابُهَا
الاستشهادُ بِقَوْلِهِ: (لِضَغْمِهِمَاهَا) حيثُ جَاءَ بالضميرِ الثاني - وَهُوَ (هَا) مُتَّصِلاً، وَلَوْ جَاءَ مُنْفَصِلاً لَقَالَ: (لِضَغْمِهِمَا إِيَّاهَا).
وَجَوَازُ الأَمْرَيْنِ فِي ضَمِيرَيِ الغَيْبَةِ هُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ تَبَعاً لإمامِ النُّحَاةِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الرَّضِيُّ فِي الثاني مِنْهُمَا الانْفِصَالَ كَمَا فِي ضَمِيرَيِ التَّكَلُّمِ وَضَمِيرَيِ الْخِطَابِ؛ طَرْداً للبَابِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَا ثَبَتَ َبالسماعِ وبالتعليلِ، فَاعْرِفْ ذَلِكَ وَكُنْ مِنْهُ عَلَى بَصِيرَةٍ.