وقَوْلُهُ :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وقَوْلُهُ :{إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} .
مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الذَّاتيَّةِ : السَّمْعُ والبصَرُ ، والسَّميعُ البَصيرُ اسمانِ مِن أسمائِه تَعَالَى ، وهو تَعَالَى له سمعٌ يَسمَعُ به، وبصَرٌ يُبْصرُ به حقيقةً ، على ما يَلِيقُ بجَلالِه .
وقولُه سُبْحَانَهُ :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أحسَنُ ما قِيلَ في الكافِ هنا : أنها صِلَةٌ . فيكونُ " مِثْلَهُ " خَبَرَ "لَيْسَ شيءٌ" وهذا وجهٌ قويٌّ حسَنٌ تَعرِفُ العربُ معناه في لُغَتِها ، ولا يَخفَى عنها إذا خُوطِبَتْ به . وقِيلَ : إنه مِن بابِ قولِهم : مِثْلُكَ لا يَفعلُ كذا . أيْ أنتَ لا تَفعلُه ، وأتى بمِثْلٍ للمبالَغةِ . أيْ لَيْسَ كمِثْلِه مِثْلٌ . لو فُرِضَ المِثْلُ فَكَيْفَ : ولا مِثْلَ له ؟ والأَولُ أَوْلى فقوله :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إنما سَبَقَ لإثباتِ الصِّفَاتِ وعظَمَتِها ، لا لنَفْيِها. كما قَالَ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِميُّ في قولِه : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} قَالَ معناه : هو أحسَنُ الأشياءِ وأجمَلُها. وقالتِ الجَهْمِيَّةُ معناه: لَيْسَ هناك شيءٌ . وقَالَ ابنُ القيِّمِ قولُه : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إنما قُصِدَ به نفْيُ أنْ يكونَ معه شريكٌ أو معبودٌ يستحِقُ العِبادةَ والتَّعظيمَ ، كما يَفعلُه المشبِّهونَ والمُشْرِكونَ ، ولم يُقْصَدْ به نفيُ صِفَاتِ كمالهِ وعُلُوِّه على خَلْقِه ، وتكلُّمِه بكُتُبِه ، وتكلِيمِه لرسُلِه ، ورؤيةِ المؤمنين له جهرةً بأبْصارِهم كما ترى الشَّمْسَ والقمرَ في الصَّحْوِ اهـ .
وعن أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هذه الآيةَ :{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } فوَضَعَ إبهامَه على أُذُنِه ، والَّتِي تَلِيها على عَيْنِه ، رواه أبو داودَ ، وإنَّما وضَعَ إبْهامَهُ على أُذُنِه وعَيْنِه رَفْعاً لِتَوَهُّمِ مُتَوَهِّمٍ أنَّ السمْعَ والبَصَرَ غيرُ العَيْنَيْنِ المَعلومَتَيْنِ . وأمثالُ ذلك كثيرةٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ .
وقد عابَ اللَّهُ المُشْرِكينَ في عِبادتِهم ما لا يَسْمَـعُ ولا يُبْصِـرُ ، فَقَالَ :{ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } وأَنْكَرَ الخليلُ عليه السَّلامُ على أبيه وقَوْمِه عِبادةَ أصنامٍ لا تَسْمعُ ولا تُبْصِرُ فَقَالَ :{ يأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } فقد ثَبَتَ وصْفُ اللَّهِ بالسَّمْعِ والبَصَرِ ، وهما صِفَتا كَمالٍ ، وعَدَمُهما نقصٌ يَِتَنَزَّهُ اللَّهُ عنه . وله المَثَلُ الأعلى في السَّمَاواتِ والأرْضِ . وفي ذلك إبطالٌ لقوْلِ الجَهْمِيَّةِ والمعتزلةِ ونحوِهم مِن مُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ الَّذِين يَنْفُونَ عن اللَّهِ سمْعَه وبَصَرَهُ . وفي قوله :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } رَدٌّ لقوْلِ المُشَبِّهَةِ ، فإنه تَعالَى لا يُماثِلُه شيءٌ مِن مَخْلُوقاتِه في ذاتِه ولا في صِفاتِه ولا في أفْعالِه ، وقولُه [وهو السميعُ البصيرُ ] ردٌّ لقوْلِ المُعَطِّلةِ
قوْلُه :{ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } أيْ : نِعْمَ الشَّيْءُ الَّذِي يَعِظُكُمْ به ويأمُرُكُم به مِن أداءِ الأماناتِ والحُكْمِ بالعَدْلِ بين النَّاسِ ، وغيرِ ذلك مِن كُلِّ ما يأْمُرُكُم به ، ويُشَرِّعُه لكم .
وقَالَ البُخاريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في صحيحِه ( بابُ ) وكان اللَّهُ سميعاً بَصيراً ، وروى فيه حديثَ عائشةَ قالتْ : الحمدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِـعَ سَمْعُه الأصواتَ ، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } . وحدِيثُها أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ جبريلَ عليه السَّلامُ ناداني قَالَ : إنَّ اللَّهَ قد سَمِعَ قَوْلَ قوْمِكَ وما رَدُّوا عليكَ ، وأحاديثَ أُخَرَ .
قَالَ ابنُ بطَّالٍ : غَرَضُ البُخاريِّ في هذا البابِ الردُّ على مَنْ قَالَ : إنَّ معنَى سميعٍ بصيرٍ عليمٍ قَالَ : ويَلْزَمُ مَن قَالَ ذلك أنْ يُسَوِّيَهُ بالأعمَى الَّذِي يَعلَمُ أنَّ السَّمَاءَ خضراءَ ولا يَراها ، والأَصَمِّ الَّذِي يَعلَمُ أنَّ في النَّاسِ أصواتاً ولا يَسْمَعُها ، ولا شكَّ أنَّ مَنْ سَمِعَ وأبْصَرَ وأُدْخِلَ في صفةِ الكمالِ ممَّن انفردَ بأحدِهما دُون الآخَرِ . فصَحَّ أنَّ كَوْنَهُ سميعاً بصيراً يُفِيدُ قَدْراً زائداً على كَوْنِه عليماً . وكَوْنُه سميعاً بصيراً يتضمَّنُ أنه يسْمَعُ بسَمْعٍ ، ويُبْصِرُ ببَصَرٍ ، كما تضمَّنَ كوْنُه عليماً أنه يَعلَمُ بعِلمٍ . ولا فَرْقَ بين إثباتِ كوْنِه سميعاً بصيراً، وبين كَوْنِه ذا سَمْعٍ وبَصَرٍ . قَالَ : وهذا قولُ أهلِ السُّنَّةِ قاطِبةً . انتهى .
وقَالَ الْبَيْهَقِيُّ في الأسماءِ والصِّفَاتِ : السميعُ : مَن له سَمْـعٌ يُدْرِكُ به المسموعاتِ . والبَصـيرُ : مَن له بَصَـرٌ يُدْرِكُ به المَرْئياتِ . وكُلٌّ منهما في حَقِّ الباري صفةٌ قائمةٌ بِذاتِه ، وقد أفادَتِ الآيةُ وأحاديثُ البابِ الردَّ على مَن زَعَمَ أنه سميعٌ بصيرٌ بمعنى عليمٍ ، ثم ساقَ حديثَ أبي هُرَيْرَةَ الَّذِي أخْرَجَه أبو داودَ بسَنَدٍ قَويٍّ على شَرْطِ مُسْلمٍ مِن روايةِ أبي يونُسَ عن أبي هُرَيْرَةَ : رأيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقْرَؤُها يعني قولَه تَعَالَى :{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } إلى قولِه :{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } ويضَعُ أصبعَيْه . قَالَ أبو يونُسَ : وضَعَ أبو هُرَيْرَةَ إبْهامَه على أُذُنَيْهِ والَّتِي تَلِيها على عَيْنِه . قَالَ البَيْهقِيُّ : وأرادَ بهذه الإشارةِ تحقيقَ إثباتِ السَّمْعِ والبَصَرِ لِلَّهِ ببَيانِ محَلِّهِما مِن الإنسانِ ، يُريدُ أنَّ له سَمعـاً وبَصَـراً . لا أنَّ المـرادَ به العِلمَ ، فلو كان كذلك لأَشارَ إلى القلْبِ لأنه محَلُّ العِلمِ ، ثم ذَكَرَ شاهداً لِحديثِ أبي هُرَيْرَةَ مِن حديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ ، سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ على المِنْبَرِ : " إِنَّ رَبَّنَا سَمِيعٌ بَصِيرٌ " وأَشارَ إلى عَيْنَيْهِ ، وسنَدُه حسَنٌ ، وفي صحيحِ مُسْلمٍ عن أبي هُرَيْرَةَ رَفَعه : " إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ " وفي حديثِ أبي جُرَيٍّ الهُجَيْمِيِّ رَفَعه : " أنَّ رَجُلاً مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَبِسَ بُرْدَتَيْنِ يَتَبَخْتَرُ فِيهمَا ، فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَمَقَتَهُ " الحديثَ . وحديثُ ابنِ عُمَرَ رَفَعه " لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ " وفي الكتابِ العزيزِ ( وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ ) وورَدَ في السمعِ قولُ المُصلِّي : سمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَه ، وسنَدُه صحيحٌ متَّفقٌ عليه بلْ مَقْطوعٌ بمَشروعيَّتِه في الصَّلاةِ .