(1)القسمُ الثالثُ:مِن أقسامِ خبرِ الآحادِ: الغريبُ.
وقد قَسَّمَ الحافظُ رَحِمَهُ اللَّهُ الغريبَ إلى قِسْمَيْنِ:
الأولُ: أَطْلَقَ عليه اسمَ الغريبِ المُطْلَقِ
.والثاني: سَمَّاهُ الغريبَ النِّسْبِيَّ.
ثم فَصَلَ بينهما بتعريفِ كُلٍّ مِنْهُمَا،
ومَثَّلَ للأولِ ، ولمْ يُمَثِّلْ للثاني.
فالأولُ: الغريبُ المُطْلَقُ:وهو الذي تكونُ الغرابةُ فيه في أصلِ سندِهِ، وهو طرفُهُ الذي فيهِ الصحابيُّ،
أي: تَبْتَدِئُ الغرابةُ فيه مِن عندِ الصحابيِّ، وقد يَسْتَمِرُّ التَّفَرُّدُ طَبَقَةً، وقد يَسْتَمِرُّ طَبَقَتَيْنِ أو أكثرَ، وهذا القسمُ ظاهرٌ جِدًّا، وتستطيعُ تَمْيِيزَهُ بِمَعْرِفَةِ خُلاَصَتِهِ.
ومعناهُ:أنْ لا يكونَ للحديثِ إلا مَمَرٌّ وَاحِدٌ ، ولا يَرِدَ علينا عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ مِن طريقٍ واحدٍ، وَرُبَّمَا يكونُ هذا الطريقُ الواحدُ الصحابيَّ، وَيَرْوِيهِ عن الصحابيِّ اثنانِ ، ورُبَّمَا يكونُ هذا الطريقُ الواحدُ التابعيَّ، وَيَرْوِيهِ عنهُ ثلاثةٌ أو أكثرُ، لكنَّ رِوَايَتَهُمْ كُلَّهَا تَرْجِعُ إلى هذا التابعيِّ، وهذا التابعيُّ يَرْوِيهِ عن الصحابيِّ، وهكذا يُقَالُ في تابعِ التابعيِّ، فهذا النوعُ اسْمُهُ الغريبُ المُطْلَقُ.
وَسُمِّيَ مُطْلَقًا؛لأنَّكَ تستطيعُ أنْ تقولَ: إنَّهُ لمْ يَرْوِهِ بإطلاقٍ إلا هذا الراوي؛ فمِن كونِهِ صَحَّ إطلاقُكَ القولَ: لَمْ يَرْوِهِ إلا فلانٌ، أو لمْ يَأْتِنَا عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ مِن طريقِ فلانٍ، سُمِّيَ بالغريبِ المُطْلَقِ.
وأمثلتُهُ كثيرةٌ،فَمَثَّلَ ابنُ حَجَرٍ بحديثِ ((النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الوَلاَءِ وعَنْ هِبَتِهِ)) ، فهذا الحديثُ يَرْوِيهِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ -وهو شخصٌ واحدٌ .
وَيَرْوِيهِ عن ابنِ عُمَرَ عَبْدُ اللهِ بنُ دينارٍ - وهو أيضًا شخصٌ واحدٌ- وعن ابنِ دينارٍ اشْتُهِرَ هذا الحديثُ، حتى قالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللهُ: (الناسُ في هذا الحديثِ عِيالٌ على عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ) ، وكان شعبةُ رَحِمَهُ اللَّهُ إذا لَقِيَ عبدَ اللهِ بنَ دينارٍ طَلَبَ مِنْهُ أنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، يَرْفَعُهُ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبدُ اللهِ بنُ دينارٍ الثقةُ، الإمامُ، يَحْلِفُ لشعبةَ بِمَا أَرَادَ؛ فهذا التَّفَرُّدُ فيهِ في طَبَقَتَيْنِ.
- كما مَثَّل ابنُ حَجَرٍ بحديثِ: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً)) ، رَوَاهُ أبو هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ عنه أبو صالحٍ، وعن أبي صالحٍ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ، فهذا التَّفَرُّدُ فيهِ في ثلاثِ طَبَقَاتٍ.
- وحديثُ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) وَقَعَ التَّفَرُّدُ فيه في أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ.
ومثلُهُ حديثُ: ((كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ)) ، وهو آخِرُ حديثٍ في صحيحِ البُخَارِيِّ، تَفَرَّدَ بهِ أبو هُرَيْرَةَ، وعنه أبو زُرْعَةَ بنُ عَمْرِو بنِ جَرِيرٍ، وعنه عُمَارَةُ بنُ القَعْقَاعِ، وعنه محمدُ بنُ فُضَيْلٍ، وعنه رَوَاهُ الناسُ وانْتَشَرَ.
فهذه الأحاديثُ كُلُّهَا مِن الغرائبِ والأفرادِ، وتُسَمَّى: الغرائبَ المُطْلَقَةَ، لأنَّكَ تَسْتَطِيعُ أنْ تُطْلِقَ فتقولُ: هذا الحديثُ تَفَرَّدَ به فلانٌ، أو أَغْرَبَ به فلانٌ دونَ تَقْيِيدٍ.
النوعُ الثاني: الذي ذَكَرَهُ ابنُ حَجَرٍ سَمَّاهُ: الغريبَ النِّسْبِيَّ.
وخلاصتُهُ: أنَّ الحديثَ يكونُ لهُ أكثرُ مِن طريقٍ واحدٍ، بأنْ يكونَ عزيزًا، أو مشهورًا، ولكنْ في أثناءِ هذه الطُّرُقِ أو في واحدٍ منها تَقَعُ الغرابةُ، فيكونُ التَّفَرُّدُ هنا، والغرابةُ بالنسبةِ لهذا الطريقِ، ولهذا سَمَّاهُ الحافظُ: الغريبَ النِّسْبِيَّ.
هذا النوعُ مِن الغريبِ يَتَّضِحُ بأمثلةٍ لمْ يَذْكُرْهَا الحافظُ.
وَيُقَسِّمُهُ العلماءُ إلى قِسْمَيْنِ:
1- أنْ تَبْتَدِئَ الغرابةُ مِن عندِ الصحابيِّ
، بحيثُ لا يَرْوِيهِ عن الصحابيِّ إلا شخصٌ واحدٌ ، وقد يَسْتَمِرُّ التَّفَرُّدُ بعدَ ذلك وقدْ يَنْقَطِعُ، ولمْ نُسَمِّهِ غريبًا مُطْلَقًا؛ لأَنَّهُ قد رَوَاهُ مع هذا الصحابيِّ صحابةٌ آخرونَ، فوقعَ التَّفَرُّدُ في التابعيِّ عن أحدِ الصحابةِ، فنقولُ: غريبٌ مِن حديثِ فلانٍ -الذي هو الصحابيُّ-.
- ومَثَّلَ لهذا النوعِ السخاويُّ بحديثِ: ((الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)) ، هذا الحديثُ رَوَاهُ ابنُ عُمَرَ، وجابرٌ، وأبو موسى الأشعريُّ، فهو حديثٌ مشهورٌ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَاهُ عن ابنِ عُمَرَ جماعةٌ.
يقولُ العلماءُ: حديثُ أبي موسى الأشعريِّ هذا، تَفَرَّدَ بهِ عنهُ ابنهُ أبو بُرْدَةَ، وعنهُ تَفَرَّدَ بهِ حَفِيدُهُ بُرَيْدُ بنُ عبدِ اللهِ، وعن بُرَيْدٍ تَفَرَّدَ بِهِ حمادُ بنُ أُسَامَةَ، وعنهُ تَفَرَّدَ بهِ أبو كُريبٍ محمدُ بنُ العَلاءِ؛ فهذا الإسنادُ وقعَ التَّفَرُّدُ فيه في أربعِ طبقاتٍ، وهو في (صحيحُ مسلمٍ)، وقد ابْتَدَأَت الغرابةُ فيه مِن الصحابيِّ؛ فَيُطْلِقُونَ عليه: غريبٌ مِن حديثِ أبي موسى الأشعريِّ إشارةً إلى أَنَّهُ مَشْهُورٌ مِن غيرِ حديثِ أبي موسى.
2- أنْ لاَ تَبْتَدِئَ الغرابةُ مِن الصحابيِّ
؛ فَيَرْوِيَه عن الصحابيِّ مثلاً اثنانِ أو أكثرُ، وقد يَرْوِيهِ عن هؤلاءِ جماعةٌ، ولكنْ يَقَعُ التَّفَرُّدُ في الطُّرُقِ المتأخرةِ: في تابعِ التابعيِّ أو مَن بَعْدَهُ، وهذا كثيرٌ جِدًّا لا يُحْصَى.
ويُمَثِّلُونَ له بحديثٍ رواهُ أنسٌ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ على صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ وَتَمْرٍ))؛ فهذا الحديثُ مشهورٌ عن أنسٍ، رواهُ عنه قتادةُ، وعبدُ العزيزِ بنُ صُهَيْبٍ، وحُمَيْدٌ الطويلُ، واشْتُهِرَ عن هؤلاءِ الثلاثةِ ، ووَقَعَ التَّفَرُّدُ في روايةِ الزُّهْرِيِّ عن أنسٍ، حيثُ انْفَرَدَ بهِ شخصٌ اسْمُهُ بكرُ بنُ وائلٍ عن الزُّهْرِيِّ، وعنْ بكرٍ انْفَرَدَ بهِ والدُهُ وائلُ بنُ دَاوُدَ، وعن وائلٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، ثم اشْتُهِرَ عن سفيانَ.
فيقالُ لهذا الحديثِ: غريبٌ مِن حديثِ الزُّهْرِيِّ، ولا يُقالُ: غريبٌ عن أنسٍ، لأَنَّهُ رواهُ عن أنسٍ جماعةٌ.
إذا قَرَأْنَا كلامَ الأَئِمَّةِ نَجِدُهُمْ يقولونَ: هذا حديثٌ غريبٌ، ويقولونَ: تَفَرَّدَ به فلانٌ.
فكيفَ نَعْرِفُ ما إذا كان هذا الحديثُ مِن القسمِ الأولِ أو الثانِي ؟
مُطْلَقٌ أو نِسْبِيٌّ؟
الأَئِمَّةُ السابقونَ لا يقولونَ: هو غريبٌ مُطْلَقٌ ولا نِسْبِيٌّ، وَإِنَّمَا أَتَتْ هذه التسميةُ مِن
الحافظِ ابنِ حَجَرٍ؛ لِمَزِيدٍ مِن الإيضاحِ؛ لِيُعْلِمَ الطالبَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بالغرابةِ تارةً أن يَأْتِيَ الحديثُ عن الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن طريقِ صحابيٍّ واحدٍ، وتارةً أَنَّهُ ليس له طريقٌ إلا مِن طريقٍ واحدٍ عن فلانٍ -شخصٌ مُعَيَّنٌ-، وأرادَ ابنُ الصلاحِ أنْ يُوَضِّحَ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى؛ فَسَمَّى الغريبَ النِّسْبِيَّ غَرَائِبَ الشيوخِ، التي تَقَعُ في أثناءِ الطُّرُقِ.
إذًا كيفَ تعرفُ أنَّ الإمامَ يريدُ بالغريبِ المُطْلَقَ أو النِّسْبِيَّ؟
تَكَلَّمَ ابنُ حَجَرٍ في هذه المسألةِ فقالَ: الغريبُ لهُ إطلاقٌ آخرُ عندَ الأَئِمَّةِ وهو الفردُ، فَيُسَمُّونَهُ غريبًا، وَيُسَمُّونَهُ فَرْدًا.
وكذلكَ في حكايةِ الكلامِ فيقولونَ: أَغْرَبَ بهِ فلانٌ، أو تَفَرَّدَ بهِ فلانٌ؛ فبالنسبةِ للاسمِ؛ فأكثرُ ما يُطْلِقُونَ كلمةَ الغريبِ على الغريبِ النِّسْبِيِّ.وأكثرُ ما يُطْلِقُونَ كلمةَ فرْدٍ على الغريبِ المُطْلَقِ.وأمَّا مِن جهةِ استعمالِ الفعلِ المشتَقِّ فَلاَ يُمَيِّزُونَ؛ فيقولونَ: أَغْرَبَ به فلانٌ، وتَفَرَّدَ بهِ فلانٌ، لِكِلاَ النَّوْعَيْنِ.
هذا الكلامُ مِن ابنِ حَجَرٍ ما أَفَادَنَا شيئًا بالنسبةِ لِمَعْرِفَةِ كلامِ الأَئِمَّةِ؛ لأَنَّهُ بالنسبةِ للإطلاقِ يقولُ: (الفردُ أكثرُ ما يُطْلِقُونَهُ على الفردِ المُطْلَقِ، والغريبُ أكثرُ ما يُطْلِقُونَهُ على الفردِ النِّسْبِيِّ).
فَبَقِيَ الأقلُّ، فما الذي يُدْرِيكَ أنَّ هذا مِن الأكثرِ أو الأقَلِّ؟
- نعودُ إلى أنَّ الذي يُبَيِّنُ هو سياقُ الكلامِ تارةً.
- وتارةً جَمْعُ الطُّرُقِ.
- أو كلامٌ للإمامِ في مكانٍ آخَرَ.
مثالُ ذلك:
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، من حديثِ إسرائيلَ بنِ يونُسَ، عن يوسفَ بنِ أبي بُرْدَةَ، عن أبيهِ أبي بُرْدَةَ، عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خَرَجَ مِن الخلاءِ قال: ((غُفْرَانَكَ))، ثم قال التِّرْمِذِيُّ بَعْدَهُ: (غَرِيبٌ) فلو سَكَتَ لَمَا عَرَفْتَ أَهُوَ مِن الغريبِ المُطْلَقِ، أو النِّسْبِيِّ؛ لَكِنَّهُ زادَ فقال: (لا نَعْرِفُهُ إلاَّ مِن هذا الوجهِ).
فإذًا هو مِن حديثِ عائشةَ غريبٌ، ثم قال: (ولا نَعْرِفُ في البابِ إلا حديثَ عائشةَ) ، فَأَفَادَكَ أَنَّهُ غريبٌ مُطْلَقٌ، وهذا الكلامُ لا يَأْتِي دائمًا؛ فإذا أَتَى فَإِنَّا نَعْرِفُ المُطْلَقَ مِن النِّسْبِيِّ مِن سياقِ الكلامِ.
وأحيانًا لا تَسْتَفِيدُهُ مِن سياقِ الكلامِ، وَإِنَّمَا لاَ بُدَّ مِن جمعِ الطُّرُقِ.
أو النَّظَرِ إلى كلامِ الإمامِ في مكانٍ آخَرَ مِن كُتُبِهِ.
تنبيهاتٌ:اتَّضَحَ لنَا أنَّ الغريبَ هو أهمُّ أقسامِ
الآحادِ ؛ فَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ اهْتَمُّوا بقضيةِ التَّفَرُّدِ، والغرابةِ اهتمامًا كبيرًا، وكان اهتمامُهُمْ بها؛ لأنَّ الواحدَ مَظِنَّةٌ لِلْكَذِبِ، وإنْ كانَ ثقةً فهو مَظِنَّةٌ لِلْغَلَطِ.
-وقد قال الإمامُ أحمدُ: (إِيَّاكُمْ وَالغْرَائِبَ؛ فَإِنَّ عَامَّتَهَا عن الضُّعَفَاءِ).
-ويقولُ عبدُ الرزَّاقِ: (كُنَّا نَظُنُّ أنَّ الغريبَ خَيْرٌ؛ فإذا هو شَرٌّ).
وَلَكِنَّ هذا لا يَعْنِي ضَعْفَ الغرائبِ مُطْلَقًا، وقد مَرَّ مَعَنَا أنَّ العِزَّةَ ليستْ شَرْطًا للصحيحِ، وأنَّ كثيرًا مِن الأحاديثِ الصحيحةِ وَقَعَ التَّفَرُّدُ فيها في عِدَّةِ طبقاتٍ مِن السَنَدِ، وهي في (الصحيحَيْنِ) ، وللضَّياءِ الْمَقْدِسِيِّ كتابٌ، اسْمُهُ (الغرائبُ الصحيحةُ وأفرادُ الصحيحِ) ، جَمَعَ فيه مِئَتَيْ حديثٍ مِن الأفرادِ، ومع وجودِ الأحاديثِ الصحيحةِ والحسنةِ في الغرائبِ إلا أنَّ أكثرَهَا، كما قال الإمامُ أحمدُ: ضعيفةٌ.
والإمامُ أحمدُ مِن أكثرِ الأَئِمَّةِ حِرْصًا على رَفْعِ الغرابةِ والتَّفَرُّدِ، حتى إنَّهُ يَتَوَقَّفُ في أحاديثَ كثيرةٍ ولو كانَ المتَفَرِّدُ ثِقَةً.
اهتمامُ الأَئِمَّةِ بالفردِ المُطْلَقِ أكثرُ مِن اهتمامِهِمْ بالفردِ النِّسْبِيِّ، لأنَّ الفردَ النِّسْبِيِّ يَأْتِي مِن طُرُقٍ أُخْرَى، لكنَّ الأَئِمَّةَ يَهْتَمُّونَ أيضًا بِالْفَرْدِ النِّسْبِيِّ مِن جهةِ: إثباتِ صِحَّةِ الروايةِ عن هذا الشخصِ؛ فَأَلَّفُوا في الغرائبِ والأفرادِ المُطْلَقةِ، كما في كتابِ الضياءِ المَقْدِسِيِّ المذكورِ آنِفًا.
وكتابِ الدَّارَقُطْنِيِّ (الأفرادُ والغرائبُ) ، وَأَلَّفُوا أيضًا في الغرائبِ النِّسْبِيَّةِ التي تَفَرَّدَ بها بعضُ الرُّوَاةِ عن بعضٍ، ولا سِيَّمَا إذا كانَ هذا المُتَفَرِّدُ عنه إمامٌ كبيرٌ، وله أصحابٌ كثيرونَ، فيأتي شخصٌ واحدٌ، ويَنْفَرِدُ عنه بحديثٍ، فَهُنَا يَهْتَمُّ بهِ الأَئِمَّةُ.
فمحمدُ بنُ المُظَفَّرِ البَزَّازُ
له كتابُ: (غَرَائِبُ شُعْبَةَ) ، و(غَرَائِبُ الزُّهْرِيِّ) ، وَيَعْنِي بِهِمَا: الأحاديثَ التي تَفَرَّدَ بها بعضُ الرُّوَاةِ عن هذينِ الإمامَيْنِ.
وكذلك:للدَّارَقُطْنِيِّ(غَرَائِبُ مَالِكٍ).
يُذْكَرُ في كُتُبِ المصطلحِ وكُتُبِ علومِ الحديثِ أشياءَ يُلْحِقُهَا الأَئِمَّةُ بالغريبِ النِّسْبِيِّ، ومَعْنَاهَا أنَّهَا لَيْسَتْ غريبةً مُطْلَقَةً، أو لا يَلْزَمُ منها أنْ تكونَ غريبةً مُطْلَقَةً، إِنَّمَا هي غريبةٌ نِسْبِيَّةٌ، وَتُسَمَّى: مُلْحَقَةٌ؛ لأنَّ ليس فيها تَفَرُّدُ شَخْصٍ عن شَخْصٍ.
مثلَ حديثٍ يَنْفَرِدُ به أهلُ المدينةِ، وقد يَرْوِيهِ عَشَرَةٌ مِن أهلِ المدينةِ؛ فَنُسَمِّيهِ غريبًا بالنسبةِ لأهلِ المدينةِ، وقد أَلَّفَ أبو داودَ السِّجِسْتَانِيُّ كِتَابًا سَمَّاهُ: (السُّنَنُ التي تَفَرَّدَ بها أهلُ كُلِّ بَلَدٍ)، وقد يكونُ المرادَ بأهلِ البلدِ شخصٌ واحدٌ؛ فيكونُ هذا الحديثُ غريبًا مُطْلَقًا، وهو أيضًا غريبٌ نِسْبِيٌّ.
وكذلكَ:قدْ يَتَفَرَّدُ أهلُ بلدٍ عن أهلِ بلدٍ، مثلَ تَفَرُّدِ أهلِ مكةَ، عن أهلِ المدينَةِ.
ومِن أنواعِ الغرائبِ النِّسْبِيَّةِ التي اهْتَمَّ بها العلماءُ: شُعْبَةُ، بَصْرِيٌّ، وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّكُوفِيٌّ، وَكِلاَهُمَا إمامٌ يَجْمَعُ حَدِيثَهُ ويَهْتَمُّ بهِ العلماءُ.
أَلَّفَ بعضُ الأَئِمَّةِ كالنَّسَائِيِّ، كتابًا فيما رَوَاهُ شعبةُ، ولمْ يَرْوِهِ سفيانُ وبالعكسِ؛ فهو غريبٌ عن شُعْبَةَ بالنسبةِ لِسُفْيَانَ، وإنْ كان قد رَوَاهُ غيرُ شُعْبَةَ، لَكِنْ لم يَرْوِهِ سفيانُ.
وأنواعٌ كثيرةُ، الشرطِ فيها: أنْ تكونَ الغرابةُ نِسْبِيَّةً، ولكنَّ أَكْثَرَهَا وَأَشْهَرَهَا النوعُ الأولِ، وهو ما تَفَرَّدَ به شخصٌ عن شخصٍ، وأما الباقي فنستطيعُ أنْ نُسَمِّيَهِ المُلْحَقَ بالغريبِ النِّسْبِيِّ.
معروفٌ أَنَّكَ إِذَا وَصَفْتَ أمْرًا ما بأَنَّهُ نِسْبِيٌّ؛ فَإِنَّهُ لا يَمْتَنِعُ اجتماعُ الأضْدَادِ فيه، فلو قُلْتَ
مثلاً: هذا رجلٌ طويلٌ بالنسبةِ لفلانٍ؛ فَمَعْنَى هذا أَنَّهُ قصيرٌ بالنسبةِ إلى آخَرَ، فهنا اجْتَمَعَ الطولُ والقِصَرُ وَهُمَا ضِدَّانِ، ولا يَحْدُثُ هذا إلا بالنِّسْبَةِ؛ فكذلكَ الغريبُ النِّسْبِيُّ، فإنَّ الحديثَ قد يكونُ في أصلِهِ مشهورًا، ثم قد يَعِزُّ عن بعضِ رواتِهِ، ثم قد يَقَعُ التَّفَرُّدُ أثناءَ الإسنادِ، فيكونُ مشهورًا في أوَّلِهِ، ثم عزيزًا، ثم غَرِيبًا.
فكلمةُ (النِّسْبِيِّ) تَجْعَلُ الأمرَ واسِعًا، وتجمعُ في الحديثِ الأقسامَ الثلاثةَ لِخَبَرِ الآحادِ ، بل قد تَجْتَمِعُ مع المتواتِرِ.