الطريقُ الثاني : الاعتمادُ في التنزيهِ على نَفْيِ التجسيمِ
قولُه : ( فصلٌ وأَفْسَدُ من ذلك : ما يَسْلُكُه نُفَاةُ الصِّفاتِ أو بعضِها إذا أَرَادُوا أن يُنَزِّهُوهُ عما يَجِبُ تنزيهُه عنه ، مِمَّا هو مِن أَعْظَمِ الكُفْرِ . مِثلُ أن يُريدوا تنزيهَه عن الْحُزْنِ والبُكاءِ ونحوَ ذلك ، ويريدون الردَّ على اليهودِ الذين يقولون إنه بَكَى على الطُّوفَانِ حتى رَمِدَ وعادَتْهُ الملائكةُ ، والذين يقولون بإلهيَّةِ بعضِ البَشَرِ وأنه اللهُ ، فإنَّ كثيرًا من الناسِ يَحْتَجُّ على هؤلاءِ بنَفْيِ التجسيمِ والتحيُّزِ ونحوَ ذلك ، ويقولون: لو اتَّصَفَ بهذه النقائصِ والآفاتِ لكان جِسْمًا أو مُتَحَيِّزًا وذلك مُمْتَنِعٌ ، وبسلوكِهم مِثْلَ هذه الطريقِ اسْتَظْهَرَ عليهم الْمَلاَحِدَةُ نُفَاةُ الأسماءِ والصِّفاتِ ) .
التوضيحُ
أي: اعتمادُهم في التنزيهِ على مُجَرَّدِ نفيِ التجسيمِ أَفْسَدُ من اعتمادِهم على نَفْيِ التشبيهِ ، وقد أشارَ إلى ذلك في الرَّدِّ الخامسِ على شُبْهَةِ التجسيمِ .
فإذا قالَت اليهودُ : إنَّ اللهَ بَكَى على الطُّوفَانِ حتى رَمِدَ, وعادَتْهُ الملائكةُ, أو قالَتْ بعضُ الطوائفِ بإلهيَّةِ بعضِ البشَرِ, يَحْتَجُّ كثيرٌ من هؤلاءِ المُتَكَلِّمِينَ بأنَّ هذا باطلٌ؛ لأنه يَسْتَلْزِمُ التجسيمَ ، واعتمادُهم في نفيِ هذه النقائصِ عن اللهِ بمُجَرَّدِ نفيِ التجسيمِ باطلٌ, بل هو أَبْطَلُ من اعتمادِهم السابقِ, وهو نَفْيُ التشبيهِ, ولا يَحْصُلُ به المقصودُ ، ومِن هنا اسْتَظْهَرَ الملاحِدَةُ نُفَاةُ الأسماءِ والصِّفاتِ على مَن يَسْلُكُ هذا الْمَسْلَكَ فإنهم قالوا : كما نَفَيْتُمْ عن اللهِ الاستواءَ والنزولَ وغيرَهما؛ لأنَّ ذلك يَسْتَلْزِمُ التجسيمَ ، فكذلك الشأنُ في جميعِ الصِّفاتِ والأسماءِ ، لأنَّ إثباتَها يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ فوَجَبَ نفيُ الجميعِ .
وُجوهُ عَدَمِ حصولِ التنزيهِ بمُجَرَّدِ نَفْيِ التشبيهِ
قولُه : ( فإنَّ هذه الطريقةَ لا يَحْصُلُ بها المقصودُ لوجوهٍ أحدُها : أنَّ وَصْفَ اللهِ تعالى بهذه النقائصِ والآفاتِ أَظْهَرُ فَسادًا في العَقْلِ والدِّينِ من نَفْيِ التَّحييزِ والتجسيمِ ، فإن هذا فيه من الاشتباهِ والنزاعِ والْخَفَاءِ ما ليس في ذلك ، وكُفْرُ صاحبِ ذلك معلومٌ بالضرورةِ من دِينِ الإسلامِ, والدليلُ مُعَرِّفٌ للمدلولِ ومُبَيِّنٌ له فلا يَجُوزُ أن يُسْتَدَلَّ على الأظْهَرِ الأبْيَنِ بالأخْفَى كما لا يُفْعَلُ مثلُ ذلك في الحدودِ .
الوجهُ الثاني : أنَّ هؤلاءِ الذين يَصِفُونه بهذه الصِّفاتِ يُمْكِنُهم أن يقولوا : نحن لا نقولُ بالتجسيمِ والتحيُّزِ كما يقولُه مَن يُثْبِتُ الصِّفاتِ ويَنْفِي التجسيمَ فيَصِيرُ نِزاعُهم مثلَ نِزاعِ مُثْبِتَةِ صفاتِ الكمالِ فيَصيرُ كلامُ مَن وَصَفَ اللهِ بصفاتِ الكمالِ ومَن وَصَفَه بصفاتِ النقْصِ واحدًا ويَبْقَى رَدُّ النُّفَاةِ على الطائفتينِ بطريقٍ واحدٍ وهذا في غايةِ الفَسادِ .
الثالثُ : أنَّ هؤلاءِ يَنْفُونَ صفاتِ الكمالِ بِمِثْلِ هذه الطريقةِ ، واتِّصافُه بصفاتِ الكمالِ واجبٌ ثابتٌ بالعَقْلِ والسمْعِ فيكونُ ذلك دليلاً على فَسادِ مِثلِ هذه الطريقةِ .
الرابعُ : أنَّ سالِكِي مِثْلِ هذه الطريقةِ متَناقُضونَ فكُلُّ مَن أَثْبَتَ شيئًا منهم أَلْزَمَهُ الآخَرُ بما يُوافِقُه فيه من الإثباتِ, كما أنَّ كلَّ مَن نَفَى شيئًا منهم أَلْزَمَهُ الآخَرُ بما يُوافِقُه من النفْيِ, فمُثْبِتَةُ الصِّفاتِ كالحياةِ والعلْمِ والقُدرةِ والكلامِ والسمْعِ والبصَرِ إذا قالَ لهم النُّفَاةُ كالمُعْتَزِلَةِ : هذا تجسيمٌ؛ لأنَّ هذه الصِّفاتِ أعراضٌ, والعَرَضُ لا يقومُ إلا بالجسْمِ ، فإنا لا نَعْرِفُ موصوفًا إلا جِسْمًا قالَت لهم المُثْبِتَةُ : وأنتم قد قُلْتُم: إنه حيٌّ عليمٌ قديرٌ. وقلْتُم: ليس بجسْمٍ, وأنتم لا تَعْلَمون مَوْجودًا حَيًّا عالمًا قادرًا إلا جِسْمًا ، فقد أَثْبَتُّمُوه على خِلافِ ما عَلِمْتُمْ فكذلك نحن ، وقالوا لهم : أنتم أَثْبَتُّمُ حيًّا عالمًا قادرًا بلا حياةٍ ولا علْمٍ ولا قُدْرَةٍ وهذا تَناقُضٌ يُعْلَمُ بضرورةِ العقْلِ ، ثم إنَّ هؤلاءِ الْمُثْبِتُون إذا قالوا لِمَن أَثْبَتَ أنه يَرْضَى ويَغْضَبُ ويُحِبُّ ويَبْغَضُ ، أو مَن وَصَفَه بالاستواءِ والنزولِ والإتيانِ والمجيءِ أو بالوجهِ واليدِ ونحوَ ذلك إذا قالوا : هذا يَقْتَضِي التجسيمَ؛ لأننا لا نَعْرِفُ ما يُوصَفُ بهذا إلا ما هو جِسْمٌ ، قالَتْ لهم المُثْبِتَةُ : فأنتم قد وَصَفْتُمُوه بالحياةِ والعلْمِ والقدْرةِ والسمْعِ والبصَرِ والكلامِ وهذا كهذا ، فإذا كان هذا لا يُوصَفُ به إلا الجسْمُ فالآخَرُ كذلك, وإن أَمْكَنَ أن يُوصَفَ بأحدِهما ما ليس بجسْمٍ فالآخَرُ كذلك ، فالتفريقُ بينَهما تفريقٌ ما بينَ المُتَمَاثِلينِ ولهذا لَمَّا كان الردُّ على مَن وَصَفَ اللهَ تعالى بالنقائِصِ بهذه الطريقِ طريقًا فاسدًا لم يَسْلُكْه أحدٌ من السلَفِ أو الأَئِمَّةِ فلم يَنْطِقْ منهم في حَقِّ اللهِ بالجسمِ لا نَفْيًا ولا إِثباتًا ولا بالجوْهَرِ والتَّحيُّزِ ونحوَ ذلك ، لأنها عباراتٌ مُجْمَلَةٌ لا تُحِقُّ حَقًّا ولا تُبْطِلُ باطلاً ، ولهذا لم يَذْكُر اللهُ في كتابِه فيما أَنْكَرَه على اليهودِ وغيرِهم من الكُفَّارِ مَن هو من هذا النوعِ بل هذا هو من الكلامِ الْمُبْتَدَعِ الذي أَنْكَرَه السلَفُ والأَئِمَّةُ ) .
التوضيحُ
خُلاصَةُ هذه الوجوهِ خمسةٌ كما يَلِي :
أوَّلاً : إنَّ وَصْفَ اللهِ بهذه النقائصِ أَظْهَرُ فَسَادًا من نفيِ التجسيمِ؛ فإنَّ فيه اشتباهًا ونِزَاعًا ، وكُفْرُ القائلِ بهذه النقائصِ أَظْهَرُ, ولا يكونُ الدليلُ, وهو نفيُ التجسيمِ, أَخْفَى من المدلولِ وهو نَفْيُ النقائصِ عن اللهِ ، والأَدِلَّةُ مثلَ الحدودِ –أي: التعريفاتِ- فلا يَصِحُّ أن يكونَ التعريفُ أَخْفَى من الْمُعَرَّفِ, كمَن يُعَرِّفُ الخمْرَ بأنها العَقَارُ فإنه أَخْفَى من الْخَمْرِ .
ثانيًا: إنَّ هذا الذي يَصِفُه بالبكاءِ والرَّمَدِ وغيرِه من النقائصِ يُمْكِنُه أن يقولَ نحن لا نقولُ بالتجسيمِ مِثلَ مَن يُثْبِتُ الصِّفاتِ دونَ تجسيمٍ فيُصْبِحُ نِزاعُ هؤلاءِ الكفَّارِ مِثْلَ نِزاعِ مُثْبِتَةِ الكمالِ ، ويَبْقَى رَدُّ نُفَاةِ التجسيمِ على مَن وَصَفَ اللهَ بالنقْصِ ومَن وَصَفَه بالكمالِ بطريقٍ واحدٍ, وهذا في غايةِ الفَسادِ فإنَّ الطريقَ الذي يُسَوِّي بينَ الحقِّ والباطلِ من أفْسَدِ طُرُقِ الرَّدِّ .
ثالثًا: إنَّ مَن يَنْفِي التجسيمَ يَنْفِي صفاتِ الكمالِ بهذه الطريقةِ وهي عَدَمُ التجسيمِ فيقولُ : لا أُثْبِتُ الصِّفاتِ لعَدَمِ التجسيمِ واتِّصافُه بصفاتِ الكمالِ واجِبٌ عَقْلاً ونَقْلاً, وقد عارَضَها بنفيِ التجسيمِ, فيكونُ ذلك دليلاً على فَسادِ طريقتِه هذه.
رابعًا : إنَّ مَن يَسْلُكُ هذه الطريقةَ متَناقِضُون فكُلُّ مَن أَثْبَتَ أو نَفَى شيئًا من الصِّفاتِ أَلْزَمَه الآخَرُ بما يَتَّفِقُون عليه من النفيِ أو الإثباتِ فمَثَلاً إذا قالَت الأشاعرةُ نُثْبِتُ الحياةَ والعلْمَ والقُدرةَ وغيرَها فتَرُدُّ عليهم المُعْتَزِلَةُ بأنَّ هذا يَسْتَلْزِمُ التجسيمَ ، فتقولُ الأَشَاعِرَةُ : وأنتم تُثْبِتُون الأسماءَ مع عَدَمِ التجسيمِ فكذلك نحن. فيأتي أهلُ السُّنَّةِ فيُثْبِتُون الاستواءَ والنزولَ والرِّضَا والغضَبَ وغيرَها فتقولُ الأَشَاعِرَةُ : هذا يَسْتَلْزِمُ التجسيمَ فعندئذٍ يَرُدُّ عليهم أهْلُ السنَّةِ بنَفْسِ ردِّهِمْ على المُعْتَزِلَةِ ، وهو أنكم أَثْبَتُّمُ العلْمَ والقدْرَةَ والحياةَ وغيرَها, ولم يكنْ تَجسيمًا وكذلك نحن .
خامسًا: ومِمَّا يُبَيِّنُ بُطلانَ هذه الطريقةِ في النفيِ أنها لم يَسْلُكْهَا السلَفُ ولم يَنْطِقْ أحدٌ منهم بالجسْمِ نَفْيًا ولا إثباتًا, ولا الجوهَرِ, ولا التحيُّزِ؛ لأنها عباراتٌ مُجْمَلَةٌ لا تُحِقُّ حقًّا ولا تُبْطِلُ باطلاً, ولم يَذْكُرْها اللهُ في كتابِه في إنكارِه على اليهودِ والكفَّارِ, بل هو من الكلامِ الْمُبْتَدَعِ الذي أَنْكَرَه السلَفُ .
كما قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ لَمَّا سُئِلَ عمَّا أَحْدَثَه الناسُ من الكلامِ في الأعراضِ والأجسامِ ":
مَقالاتُ الفَلاسِفَةِ عليك بالأثَرِ وطريقةِ السلَفِ, وإيَّاكَ وكلَّ مُحْدَثَةٍ فإنها بِدْعَةٌ .
قالَ صاحبُ الكِفايةِ :
( والجسْمُ والجوهَرُ ثم العَرَضُ = تَحَيُّزٌ أسلافُنا لم يَرْتَضُوا )
وقُلْتُ في جميعِ هذه الألفاظِ الْمُحْدَثَةِ في الدُّرَّةِ الأثريَّةِ :
ولا تَخُضْ في هذه الكلماتِ = الحَدُّ والمكانُ والجهاتْ
كذاك تَحْيِيزٌ ولَفْظُ الْجِسْمِ = وجوهَرٌ وعَرَضٌ فافْتِهِمْ
فلم يَرِدْ شرْعٌ بذِكْرِ ذَاكَا = فقِفْ ودَوْمًا خَالِفَنْ هَوَاكَا