(( وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيها وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيها رِجْلَهُ - وفي روايةٍ : عَلَيْهَا قَدَمَهُ - فَيَنْزَوِي بَعْضُها إِلى بَعْضٍ، فَتَقولُ: قَط قَط . متَّفق عليه . ))(1).
(1) هذا الحديثُ خرَّجَاه في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَديثِ أنسِ بنِ مالكٍ وتَمامُهُ وتَقولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَكرمِكَ ولا يَزالُ في الجنَّةِ فَضلٌ حتى يُنشئَ اللهُ خَلْقاً آخَرَ فَيُسْكِنَهُم اللهُ تعالى في فُضولِ الجنَّةِ . وروى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ قال : قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَحَاجَّت الجنَّةُ والنَّارُ فقالت النَّارُ أُوثِرْتُ بالمُتكبِّرينَ والمُتجبِّرِينَ . وقالت الجنَّةُ ما لي لا يَدخلُنِي إلا ضُعفاءُ النَّاسِ وسَقَطُهم ؟ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ للجنَّةِ : إنما أنتِ رحمتي أَرْحَمُ بكِ مَن أشاءُ مِن عِبَادي وقال للنَّارِ : إنَّما أنتِ عَذابِي أُعَذِّبُ بكِ مَن أشاءُ مِن عِبادي ، ولِكُلِّ واحدةٍ مِنكما مِلْؤُهَا . فأمَّا النَّارُ فلا تَمتلئُ حتَّى يَضعَ رِجْلَهُ فيها فَتقولَ قَطْ قَطْ فهنالكِ تَمتلئُ ويَنزوي بَعضُها إلى بعضٍ ولا يظلِمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ من خلقه أحداً . وأمَّا الجنَّةُ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُنشئُ لهَا خَلْقاً آخَرَ . وروى مسلمٌ مِن حَديثِ أبي سعيدٍ نَحوَهُ، وقد رَوى أحمدُ عن أبي سعيدٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: افتخَرَت الجَنَّة والنَّار فَذكرَ الحَديثَ وفيه فَيُلقَى في النَّارِ أهلُها فَتقولُ : هَلْ مِن مَزيدٍ قال ويُلقى فِيها وتقولُ هَلْ مِن مَزيدٍ ويُلقى فِيها وتقولُ هَلْ مِن مَزيدٍ حتى يَأتيَها عَزَّ وجَلَّ فَيضعَ قَدَمَهُ عليها فَتنزويَ وتَقولَ قَدْنِي قَدْنِي . وأمَّا الجَنَّةُ فَيبقَى فيها ما شاءَ اللهُ تعالى أنْ يَبقى فَيُنشئَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى لها خَلْقاً ما يَشاءُ . وهذه الأحاديثُ وما في مَعناها مُوافِقَةٌ لِقولِه تعالى {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} أي هل مِن زِيادةٍ تَطلبُ مَزيداً مِن الجِنِّ والإنْسِ .
(( ومَن قال : إنَّ ذلك للنَّفيِ فقد أخطأ فإنَّ الحديثَ الصحيحَ يردُّ هذا التَّأويلَ )) (( ففي قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَزالُ جَهنَّمُ تَقولُ هَلْ مِن مَزيدٍ دليلٌ واضحٌ على أنَّ ذلك بمعنى الاستزَادَةِ لا بمعنى النَّفيِ لاِنَّ قَولَهُ (( لا تَزالُ )) دليلٌ على اتصالِه قَولاً بَعد قَولٍ )) .
(( والخِطابُ والجَوابُ للنَّارِ حَقيقةٌ فَيُنطقُها اللهُ بذلك كما يُنطِقُ الجَوارحَ وهو المُختارُ فإنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ ، وأُمُورُ الآخِرَةِ كُلُّها أوْ جُلُّهَا على خِلافِ ما تُعرفُ في الدُّنْيَا . وقد دَلَّت الأحاديثُ على تَحقيقِ الحَقيقةِ فلا وَجْهَ للعُدولِ إلى المَجَازِ كما رُوِيَ مِن زَفْرَتِها ، وهُجومِها على النَّاسِ يومَ الحَشْرِ وجَرِّ المَلائكةِ لها بالسَّلاسِلِ وقَولِها (( جُزْ يا مُؤمنُ فإنَّ نُوركَ قَدْ أطْفَأ لَهَبِي )) ونَحْوِ ذلك مِمَّا يَدُلُّ على حَياتِها الحَقيقيَّةِ وإدراكِها فإنَّ مُطلقَ الجَماداتِ لها تلك الحَقيقةُِ فَكيف بالدَّارَيْنِ المُشْتَمِلَتَيْنِ على الشُّؤُونِ العَجِيبَةِ والأفْعَالِ الغَريبَةِ (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) )) .
قوله (( فتقولَ قَطْ قَطْ )) أيْ حَسْبِي ويَكفيني ، وقَطْ بالتَّخفيفِ سَاكناً ، ويَجُوزُ الكَسْرُ بغيرِ إشْبَاعٍ . ووقعَ في بعضِ نسخِ البخاريِّ عن أبي ذَرٍّ (( قَطِي قَطِي )) بالإشْباعِ ، وقَطْنِي قَطْنِي بِزيادةِ نُونٍ مُشْبَعَةٍ )) ففي هذا الحديثِ إثباتُ صفةِ قَدَمِ الرَّحمنِ جلَّ وعَلا حقيقةً على ما يَليقُ بِه . وقدْ قالَ ابنُ عبَّاسٍ وأبو موسى في قَولِه تَعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) الكُرسِيُّ مَوضعُ قَدَمَيِ الرَّحمنِ . وفي الصَّحَيحينِ عن أبي هُريرةَ وأنسِ بنِ مالكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ : إذا تَقرَّبَ العبدُ إليَّ شِبراً تَقرَّبتُ منه ذِراعاً ، وإذا تَقرَّبَ إليَّ ذِراعاً تَقرَّبتُ منه باعاً ، وإذا أتَانِي يَمشي أَتيتُه هَرْولةً .
ففي ذلكَ إثباتُ صفةِ مَقْدِمَيْنِ للرَّحمنِ مِن غَيرِ تَكييفٍ وإثباتُهما صفةُ كمالٍ وعدمُهما نَقصٌ يَتنزَّه اللهُ عنه (( وقد غَلِطَ في هذا الحديثِ المُعَطِّلَةُ الذين أَوَّلُوا قَولَهُ (( قدَمَه)) بِنوعٍ مِن الخَلْقِ كما قالوا : الذين تَقدَّمَ في عِلْمِهِ أنَّهم أهلُ النَّارِ حتى قالوا في قَولِه (( رِجلَه )) كما يُقالُ : رِجْلٌ مِن جَرَادٍ )) وغَلطُهم مِن وُجوهٍ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (( حتَّى يَضعَ )) ولم يَقُلْ : حتى يُلْقِيَ كما قال في قَولهِ : (( لا يَزالُ يُلقي فيها )) .
( الثَّاني ) أنَّ قَولَهُ (( قدَمَه )) لا يُفهم منه هذا لا حقيقةً ولا مَجازاً كما تَدلُّ عليه الإضافةُ .
( الثَّالثُ ) أنَّ أولئك المُؤخَّرِينَ إنْ كانوا مِن أصَاغِرِ المُعذَّبِينَ فلا وجهَ لانْزِوَائِهَا ، واكْتِفَائِهم بِهم ، فإنَّ ذلك إنما يكونُ بأمرٍ عظيمٍ ، وإنْ كانوا مِن أكابرِ المُجرِمينِ فَهُم في الدَّرْكِ الأسفلِ ، وفي أوَّلِ المُعَذَّبِينَ لا في أوَاخِرِهِمْ .
( الرَّابعُ ) أنَّ قَولَهُ (( فَينزِويَ بعضُها إلى بَعضٍ )) دليلٌ على أنَّها تَنضمُّ على مَن فيها فَتضيقُ بهم مِن غيرِ أنْ يُلْقَى فِيها شيءٌ .
( الخَامِس ) أنَّ قَولَه (( لا يَزالُ يُلقى فِيها وتقولُ : هَلْ مِن مَزيدٍ حتى يَضعَ فيها قَدَمَهُ )) جعلَ الوضعَ الغايةَ التي إليها يَنتهي الإلقاءُ ويكونُ عندها الانْزِواءُ فَيقضي ذلك أنْ تكونَ الغايةُ أعظمَ ممَّا قَبْلها . وليسَ في قولِ المُعَطِّلَةِ مَعنى لِلَّفْظِ (( قدَمَه )) إلا وقد اشتركَ فيه الأوَّلُ والآخِرُ والأوَّلُ أحَقُّ بِه مِن الآخِرِ وقد يَغْلَطُ في الحديثِ قومٌ آخَرونَ مُمَثِّلةٌ أو غَيرُهُم فَيتوهَّمُون أنَّ قَدَمَ الرَّبِّ تَدخلُ جَهَنَّمَ . وقد تَوَّهَمَ ذلك على أهْلِ الإثباتِ قَوْمٌ مِن المُعَطِّلِةَ حتَّى قالوا : كيفَ يَدخُلُ بعضُ الرَّبِّ النَّارَ واللهُ تعالى يقولُ (لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا) وهذا جَهْلٌ مِمَّن تَوهَّمَهُ أو نَقَلَهُ عن أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ فِإنَّ الحديثَ (( حتى يَضعَ رَبُّ العِزَّةِ عليها – وفي روايةٍ – فيها فَينزَوِيَ بعضُها إلى بعضٍ وتقولَ : قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ )) . فَدَلَّ ذلك على أنَّها تَضايقَتْ على مَن كان فيها فامتلأتْ بهم كما أقسم على نَفسِه أنَّه لَيَمْلاَنَّهَا مِن الجِنَّةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ . فكيف تَمتلئُ بشيءٍ غيرِ ذلك مِن خَالقٍ أو مَخلوقٍ ؟ وإنَّما المعنى أنَّه تُوضَعُ القَدَمُ المُضَافُ إلى الرَّبِّ تعالى فَتنزَوِيَ وتَضيقَ بِمَن فيها . والوَاحِدُ مِن الخَلْقِ قد يَرْكُضُ مُتحرِّكاً مِن الأجسامِ فَيسكُنَ أو ساكناً فَيتحرَّكَ ، وَيَرْكُضَ جبَلاً فَيتفَجَّرَ منه ماءٌ . كما قال تعالى (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) وقد يَضعُ يَدَهُ على المريضِ فَيَبْرَأَ ، وعلى الغَضبانِ فَيَرضى فَظهر بُطْلاَنُ قولِ الجَهْمِيَّةِ : إنَّ المرادَ بقوله (( قدَمَه )) الأشقياءُ أوْ غيرُ ذلك مِن التَّأويلاتِ المُخَالِفَةِ لِظَاهرِ الحَديثِ . (( وهلْ اسْتزادَتِ النَّارُ إلا بعدَ مَصِيرِ الأشقياءِ إليها ، وإلقاءِ اللهِ إيَّاهُمْ فيها ؟ أَفَيُلْقِيهم فيها ثانيةً وقد ألقَاهُم فيها قَبْلُ فَلَمْ تَمتلئْ ؟ كأنَّه في زَعْمِ هذا المُدَّعِي حَبَسَ عنها الأشقياءَ وألقى فيها السُّعَدَاءَ فلما استَزَادَت ألقَى فيها الأشقياءَ بعدُ حتى مَلأها ، وإنَّما أرادَ اللهُ بقولِه (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الَّذِينَ حقَّ عليهم العَذابُ ولها خَزَنَةٌ يَدخلُونها مَلائكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ غيرُ مُعذَّبِينَ بها . وفيها كِلابٌ وحَيَّاتٌ وعَقَارِبُ قال (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ) فَلا يَدفعُ هذه الآياتِ قولُه {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الِجنَّة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} كما لا يَدفعُ هذه الآيةَ قولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( ويَضعُ الجَبَّارُ فيها قَدَمَهُ )) فإذا كَانتْ جَهنَّمُ لا تَضُرُّ الخَزَنَةَ الذين يَدخلُونها ويَقومون عليها فكيفَ تَضُرُّ الذي سَخَّرَها لهم ؟ فهذه الآثَارُ التي رُوِيَتْ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذِكْرِ القَدَمِ لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ الذي ذَهبت إليه الجَهْمِيِّةُ )) .