مثلَ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَنْزِلُ رَبُّنا إلى سَماءِ الدُّنْيا كُلَّ لَيْلَةٍ، حينَ يَبْقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَيَقولُ: مَنْ يَدْعوني فَأسْتَجيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُني فَأعْطِيهُ، مَنْ يَسْتغْفِرُني فَأغْفِرَ لَهُ)). متفق عليه(4).
(4) فصلٌ في أحاديثِ الصِّفاتِ
الحديثُ الأوَّلُ في إثْباتِ نزولِ اللهِ إلى السَّماءِ الدُّنْيا هذا الحديثُ قَالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّهُ مِنَ الأحاديثِ المتواترةِ، واتَّفقواعلى أنَّهُ مِنَ الأحاديثِ المشهورةِ المستفيضةِ عِنْدَ أهلِ العلمِ بالسُّنَّةِ.
قولُهُ: ((ينزلُ ربنُّا إلى السَّماءِ الدُّنْيا)): نزولُهُ تعالَى حقيقِيٌّ؛ لأنَّهُ كمَا مرَّ عليَنْا مِنْ قبلُ: أنَّ كلَّ شيءٍ كانَ الضَّميرُ يعودُ فيهِ إلى اللهِ؛ فهو يُنْسَبُ إليه حقيقةً.
فعَليْنَا أنْ نؤمنَ بهِ ونصدِّقَ ونقولَ: ينزلُ رَبُّنَا إلى السَّماءِ الدُّنْيا، وهي أقربُ السَّماواتِ إلى الأرضِ، والسَّماواتُ سبعٌ، وإنمَّا ينزلُ عزَّ وجلَّ في هذا الوقتِ مِنَ اللَّيلِ للقُربِ مِنْ عبادهِ جلَّ وعلا؛ كَما يقربُ منهم عشيةَ عرفةَ؛ حيثُ يباهِي بالواقفينَ الملائكةَ.
وقولُهُ: ((كلَّ ليلةٍ)): يشملُ جميعَ ليالي العامِ.
((حينَ يبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخِرِ)) واللَّيلُ يبتدئُ مِنْ غروبِ الشَّمسِ اتِّفاقًا لكنْ حصلَ الخلافُ في انتهائِهِ هَلْ يكونُ بطلوعِ الفجرِ أو بطلوعِ الشَّمسِ , والظَّاهرُ أنَّ الليلَ الشَّرعيَّ ينتهِي بطلوعِ الفجرِ واللَّيلَ الفَلَكِيَّ ينتهِي بطلوعِ الشَّمسِ.
وقولُهُ: ((فيقولُ: مَنْ يَدْعُوني)): ((مَنْ)): استفهامٌ للتَّشْويقِ؛ كقولِهِ تعالَى: (هَل أَدُلُّكُم عَلَى تِجاَرَةٍ تُنجِيكُم من عَذَابٍ أَلِيمٍ)) [الصَّفّ: 10].
و((يَدْعُوني))؛ أيْ: يقولُ: يا ربِّ!
وقولُهُ: ((فأسْتَجِيبَ له)): بالنَّصبِ؛ لأنَّها جوابُ الطَّلبِ.
((مَنْ يسألُني)): يقولُ: أسألُكَ الجنَّةَ، أو نحوَ ذلِكَ.
((مَنْ يستغفِرُنِي)): فيقولُ: اللَّهمَّ اغفرْ لي، أو: أستغفرُك اللَّهمَّ!
((فأغفرَ لَهُ)): والمغفرةُ سترُ الذَّنبِ والتَّجاوزِ عَنْهُ.
بهذا يتبيَّنُ لكلِّ إنسانٍ قرأَ هذا الحديثَ، أنَّ المرادَ بالنُّزولِ هُنا نزولُ اللهِ نفسِه، ولا نحتاجُ أنْ نقولَ: بذاتِه؛ ما دامَ الفعلُ أُضيفَ إليه؛ فَهُوَ لَهُ، لكنَّ بعضَ العلماءِ قَالُوا: ينزلُ بذاتِه؛ لأنَّهم لجؤوا إلى ذلِكَ، واضطرُوا إليه؛ لأنَّ هناك مَنْ حرَّفوا الحديثَ وقَالُُوا: الَّذِي ينزلُ أمرُ اللهِ! وقَالَ آخرونَ: بلْ الَّذِي ينزلُ رحمةُ اللهِ! وقَالَ آخرونَ: بلْ الَّذِي ينزلُ مَلَكٌ من ملائكةِ اللهِ!
وهذا باطلٌ؛ فإنَّ نزولَ أمرِ اللهِ دائَمًا وأبدًا، ولا يختصُّ نزولهُ في الثُّلثِ الأخيرِ مِنَ اللَّيلِ؛ قَالَ اللهُ تعالَى: (يُدَبّرُ الأَمرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الأَرضِ ثُمَّ يَعرُجُ إِلَيهِ) [السَّجدة: 5]، وقَالَ: (وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ) [هود: 123].
وأمَّا قولهُمُ: تنزلُ رحمةُ اللهِ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حينَ يبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخِرِ! فسبحانَ اللهِ! الرَّحمةُ لا تنزلُ إلَّا في هذا الوقتِ!؟ قَالَ اللهُ تعالَى: (وَمَا بِكُم من نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل: 53]؛ كلُّ النَّعمِ مِنَ اللهِ، وهِيَ مِنْ آثارِ رحمتِهِ، وهي تترَى كلَّ وقتٍ!!
ثمَّ نقولُ: أيُّ فائدةٍ لنا بنزولِ الرَّحمةِ إلى السَّماءِ الدُّنْيا؟!
ثُمَّ نقولُ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ ملَكٌ مِنْ ملائكتِهِ: هَلْ مِنَ المعقولِ أنَّ الملَكَ مِنْ ملائكةِ اللهِ يقولُ: مَن يدعوني فأستجيبَ له …إلخ؟!
فتبيَّنَ بهذا أنَّ هذِهِ الأقوالَ تحريفٌ باطلٌ يبطلُهُ الحديثُ.
وواللهِ؛ لَيْسوا أعلمَ باللهِ مِنْ رسولِ اللهِ، ولَيْسُوا أنصحَ لعبادِ اللهِ، مِنْ رسولِ اللهِ ولَيْسُوا أفصحَ في قولِهِم مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
يقولُونَ: كَيْفَ تقولونَ: إنَّ اللهَ ينزلُ؟! إذا نزلَ؛ أيْنَ العُلُوُّ؟! وإذا نزَلَ؛ أينَ الاستواءُ على العرشِ؟! إذا نَزَلَ؛ فالنُّزولُ حركةٌ وانتقَالٌ!! إذا نزلَ؛ فالنُّزولُ حادِثٌ، والحوادثُ لا تقومُ إلاَّ بحادثٍ!!
فنقولُ: هذا جدالٌ بالباطلِ، ولَيْسَ بمانعٍ مِنَ القولِ بحقيقةِ النُّزولِ!! هَلْ أَنتُم أعلمُ بما يستحقُّهُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِنْ أصحابِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
فأصحابُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قَالُوا هذه الاحتمالاتِ أبدًا؛ قَالُوا: سمِعْنا وآمَنَّا وقبِلْنا وصَدَّقْنَا.
وأَنْتُم أيُّها الخالفونَ المخالفُونَ تأتونَ الآنَ وتجادلُونَ بالباطلِ وتقولُونَ: كَيْفَ؟! وكَيْفَ؟!
نحنُ نقولُ: ينزلُ، ولا نتكلَّمُ عَنْ استوائِه على العرشِ؛ هَلْ يخلُو منهِ العرشُ أو لا يخلُو؟!
أمَّا العُلُوّ؛ فنقولُ: ينزلُ، لكنَّه عالٍ عزَّ وجلَّ على خلقِهِ؛ لأنَّهُ لَيْسَ معنَى النُّزولِ أنَّ السَّماءَ تُقِلُّه، وأنَّ السَّماوات الأخرى تُظِلُّه؛ إذ أنَّهُ لا يحيطُ به شيءٌ من مخلوقاتِهِ.
فنقولُ: هو ينزلُ حقيقةً مع علوِّهِ حقيقةً، ولَيْسَ كمثلِهِ شيءٌ.
أمَّا الاستواءُ على العرشِ فهو فعلٌ، لَيْسَ مِنْ صفاتِ الذَّاتِ، ولَيْسَ لنا حقٌّ - فيما أرى- أنْ نتكلَّمَ هَلْ يخلُو مِنْهُ العرشُ أو لا يخلُو، بلْ نسكُتُ كَما سكَتَ عَنْ ذلِكَ الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنْهُم.
وإذا كانَ علماءُ أهلِ السُّنَّةِ لهم في هذا ثلاثةُ أقوالٍ: قولٍ بأنَّهُ يخلُو، وقولٍ بأنَّهُ لا يخلُو، وقولٍ بالتَّوقُّفِ.
وشيخُ الإسلامِ رحمَهُ اللهُ في ((الرِّسالةِ العَرْشِيَّةِ)) يقولُ: إنَّه لا يخلُو مِنْهُ العرشُ؛ لأنَّ أدلَّةَ استوائِه على العرشِ مُحْكَمَةٌ، والحديثُ هذا مُحْكَمٌ، واللهُ عزَّ وجلَّ لا تُقاسُ صفاتُهُ بصفاتِ الخلقِ؛ فيجبُ علينا أنْ نبقيَ نصوصَ الاستواءِ على إحكامِها، ونصَّ النُّزولِ على إحكامِهِ، ونقولُ: هو مستوٍ على عرشِهِ، نازلٌ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، واللهُ أعلمُ بكيفيَّةِ ذلِكَ، وعقولُنا أقصرُ وأدنَى وأحقرُ مِنْ أنْ تحيطَ باللهِ عزَّ وجلَّ.
القولُ الثَّاني: التوقُّفُ؛ يقولُونَ: لا نقولُ: يخلُو، ولا: لا يخلُو.
والثَّالثُ: أنَّهُ يخلُو مِنْهُ العرشُ.
وأوردَ المتأخِّرونَ الَّذِين عرفُوا أنَّ الأرضَ كُرويَّةٌ وأنَّ الشَّمسَ تدورُ على الأرضِ إشكالاً؛ قَالُوا: كَيْفَ ينزلُ في ثلثِ اللَّيلِ؟! وثُلثُ اللَّيلِ إذا انتقلَ عَنِ المملكةِ العربيةِ السُّعوديةِ؛ ذهبَ إلى أوروبا وما قاربهَا؟! أفيكونُ نازلاً دائمًا؟!
فنقولُ: آمِنْ أولاً بأنَّ اللهَ ينزلُ في هذا الوقت المعيَّنِ، وإذا آمنْتَ؛ لَيْسَ عَلَيْكَ شيءٌ وراءَ ذلكَ، لا تقُلْ: كَيْفَ؟! وكَيْفَ؟! بَلْ قُلْ: إذا كانَ ثُلثُ اللَّيلِ في السُّعوديةِ؛ فاللهُ نازلٌ، وإذا كانَ في أمْرِيكا ثُلثُ اللَّيلِ؛ يكونُ نزولُ اللهِ أيضًا، وإذا طلعَ الفجرُ؛ انتهى وقتُ النُّزولِ في كلِّ مكانٍ بحسْبِهِ.
إذاً؛ موقفُنَا أنْ نقولَ: إنّا نؤمنُ بما وصلَ إليْنَا عَنْ طريقِ محمَّدٍ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بأنَّ اللهُ ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنْياحينَ يبقى الثُلثُ الآخِرُ مِنَ اللَّيلِ، ويقولُ: مَنْ يدعوني فأستجيبَ له؟ مَنْ يسألني فأعطيَه؟ مَنْ يستغفرنِي فأغفرَ له؟!
مِنْ فوائدِ هذا الحديثِ:
أولاً: إثباتُ العُلُوِّ للهِ مِنْ قولِهِ: ((ينزلُ)).
ثانياً: إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ الَّتي هي الصِّفاتُ الفعليَّةُ مِنْ قولِهِ: ((ينزل حيَن يبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخِرِ)).
ثالثًا: إثباتُ القولِ للهِ مِنْ قوله: ((يقولُ)).
رابعًا: إثباتُ الكَرَمِ للهِ عزَّ وجلَّ مِنْ قولِهِ: ((مَن يدعُوني... مَن يسألُني … مَن يستغفِرُني …)).
وفيه مِنَ النَّاحيةِ المَسْلَكِيَّة:
أنَّهُ ينبغِي للإنسانِ أنْ يغتنمَ هذا الجزءَ مِنَ اللَّيلِ، فيسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ ويدعُوه ويستغفرُهُ.
ما دام الرَّبُّ سبحانَهُ يقولُ: ((من يدعوني … من يستغفرني …))، و(مَن): للتَّشْويقِ؛ فينبغِي لنا أنْ نستغلَّ هذِهِ الفرصةَ؛ لأنَّهُ لَيْسَ لكَ مِنَ العُمْرِ إلا ما أمضيْتَهُ في طاعةِ اللهِ، وستمرُّ بِكَ الأيامُ؛ فإذا نزلَ بِكَ الموتُ؛ فكأنَّك وُلِدْتَ تِلْكَ السَّاعةِ، وكلُّ ما مضَى لَيْسَ بشيءٍ.