قولُه: فصلٌ
يَجبُ أنْ يُعلَمَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيَّنَ لأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ القرآنِ, كَمَا بيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى :{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } سُورَة النـَّحْلِ :44 يَتَنَاوَلُ هَذَا وهَذَا .
وَقَدْ قَالَ أَبو عَبدِ الرَّحْمَنِ السُّلَميُّ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ – كَعُثْمَانَ بنِ عفَّانَ، وعبدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ وغيرِهِمَا – أنَّهُمْ كانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا ما فِيهَا مِنَ العِلْمِ وَالعَمَلِِ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنا القُرْآنَ وَالعِلْمَ وَالعَمَلَ جَمِيعًا. وَلِهَذَا كانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ. وَقالَ أَنَسٌ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ البقرَةَ وآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِي أَعْيُنِنَا.
وَأَقَامَ ابنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ البَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ – قِيلَ: ثَمَانِيَ سِنِينَ – ذَكَرَهُ مَالِكٌ. وَذلِكَ أنَّ اللَّهَ تعالَى قَالَ: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ } سُورَة ص: 29 [، وقالَ :{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } سُورَة النِّسَاء ِ: 24[، وَقَالَ: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ } سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 68 [. وتَدَبُّرُ الكَلامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لا يُمْكِنُ، وكذلِكَ قالَ تعالَى :{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون َ} سُورَة يُوسُفَ: 2 [، وعـَقـْلُ الكَلامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِهِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلامٍ فَالْمَقْصُودُ منْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ، فَالْقُرآنُ أَوْلَى بذلِكَ.
وأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَومٌ كِتابًا في فَنٍّ من العِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلاَ يَسْتَشْرِحُوهُ، فَكَيْفَ بِكَلامِ اللَّهِ تَعالَى الَّذِي هو عِصْمَتُهُم، وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ، وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنيَاهُمْ
وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحابةِ في تَفْسِيرِ القُرْآنِ قَلِيلاً جِدًّا، وَهُوَ وَإِنْ كانَ في التَّابعينَ أَكْثَرَ منْهُ في الصَّحابةِ، فهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسبةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كانَ الاجْتِمَاعُ وَالائْتِلاَفُ وَالعِلْمُ وَالبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ.
ومِن التَّابعينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفسيرِ عَنِ الصَّحابَةِ، كمَا قالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ علَى ابنِ عبَّاسٍ، أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيةٍ منْهُ، وأسألُهُ عَنْها. وَلِهَذَا قَالَ الثَّوريُّ: إِذَا جَاءَكَ التَّفسيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ. وَلِهَذَا يَعتمِدُ علَى تفسيرِهِ الشَّافعيُّ والبخاريُّ وغيرُهُمَا منْ أَهْلِ العِلْمِ، وَكَذَلِكَ الإمَامُ أَحْمَدُ وَغَيرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ في التَّفسيرِ، يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابعينَ تَلَقَّوا التَّفسيرَ عَن الصَّحابَةِ كَمَا تَلَقَّوا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكلَّمُونَ في بَعْضِ ذَلِكَ بِالاسْتِنْبَاطِ وَالاسْتِدْلاَلِ، كَمَا يَتَكَلَّمُونَ في بَعْضِ السُّننِ بِالاسْتِنْباطِ والاسْتِدلالِ).
هذا الفصلُ عقَدَهُ المصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى لبيانِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيَّنَ لأصحابِه معانيَ القرآنِ، وقد اشتملَ على الموضوعاتِ التاليةِ:
البيانُ النبويُّ للقرآنِ.
اهتمامُ الصحابةِ بتعلُّمِ معاني القرآنِ.
قلَّةُ النـزاعِ بينَ الصحابةِ في التفسيرِ، وإن كان قد يُوجدُ أحيانًا.
إنَّ من التابعين مَن تلقَّى جميعَ التفسيرِ من الصحابةِ.
إنَّ التابعين قد يتكلَّمُون في التفسيرِ بالاستنباطِ والاستدلالِ.
فبالنسبةِ للقضيةِ الأولى قال: يجبُ أن يُعلمَ أنَّ النبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيَّنَ لأصحابِه معانيَ القرآنِ كما بيَّن لهم ألفاظَه فقولُه تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يتناولُ هذا وهذا؛ أي: يتناولُ الألفاظَ التي قرَأَها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ على الصحابةِ، كما يتناولُ بيانَ معاني هذه الألفاظِ.
وهذا الموضوعُ قد طرَقَه شيخُ الإسلامِ في غيرِ ما مَوطنٍ، ومن هذه المواطِنِ ما ذَكرَه في مَعرِضِ ردِّهِ على أبي حامدٍ الغزاليِّ في كتابِ " بُغيةُ المُرتادِ " (من ص 330 إلى ص332) حيث ناقشَ أبا حامدٍ في مسألةِ التفسيرِ، ثم قال في آخرِها: " فقولُنا بتفسيرِ الصحابةِ والتابعين لعِلمِنَا بأنهم بلَّغُوا عن الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فيمتنعُ أن نكونَ نحن مُصيبِينَ في فهمِ القرآنِ وهم مخطِئونَ،وهذا يُعلمُ بطلانُه ضرورةً عادةً وشرعًا " فإذا رجعتمْ إلى هذا الموطنِ ستَجِدونَ أنه نصَّ على هذه المسألةِ وهي مسألةُ أنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قد بيَّنَ للصحابةِ معانيَ القرآنِ.
وإذا كان مرادُ شيخِ الإسلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى بيانَ المعاني هنا؛ أنَّ كلَّ لفظةٍ في القرآنِ بيَّنها الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فهذا فيه إشكالٌ، وإن كان النَّظَرُ إلى عمومِ ما طرَحَه في الرسالةِ كأنه يشيرُ إلى أنَّه لا يُريدُ هذا، وإنما يريدُ بيانَ ما يحتاجُ الصحابةُ إلى بيانِه.
بِناءً على ما تقدَّمَ فإنَّ البيانَ النبويَّ للقرآنِ على نوعـين:
النوعُ الأولُ: هو بيانُ ما يحتاجُ الصحابةُ إلى بيانِه من مُجمَلِ القرآنِ أو مُشْكِلِه، وهذا لا شكَّ أنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قد بيَّنَه، ولهذا كان الصحابةُ يسألونَه عن تفسيرِ بعضِ الآياتِ كسؤالِهم عن آيةِ الظُّلمِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}؛ لأنَّهم فَهِمُوا منها معنًى استشكلوه فجاءوا إلى الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ يسألونَه عنها , وكما في قولِه تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنيَا} سأَلُوه: ما البُشرى؟ فقال: ((هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ)).
فهذا النوعُ من البيانِ المُباشِرِ لآياتِ القرآنِ قد وَقعَ من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ في بعضِ المواضِعِ, ولكنْ قليلٌ بالنسبةِ لآياتِ القرآنِ الكريمِ.
النوعُ الثاني: وهو أن تكونَ السُّنَّةُ بعمومِها شارحةً للقرآنِ , وكونُ السُّنَّةِ في مُجمَلِها مفسِّرةً للقرآنِ قضيةٌ واضحةٌ، وقد أشار إليها كثيرٌ من العلماءِ، خصوصًا عندَ حديثِهم عن منـزلةِ السُّنَّةِ من القرآنِ.
وقد دلَّ عليها عدَّةُ أحاديثَ، منها حديثُ: ((تَرَكْتُكُمْ عَلَى المَحَجَّةِ البَيضاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عنها إلا هالِكٌ، كتابِ اللَّهِ وسُنَّتِي)).
وقد ذكر الشاطبيُّ قريبًا من هذا في الموافقاتِ، فقال –وهو يتحدَّثُ عن علاقةِ السُّنَّةِ بالقرآنِ-: "إنَّ السُّنةَ إنما جاءتْ مبيِّنةً للكتابِ شارحةً لمعانِيه، ولذلك قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ ما نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ}. وقال: {يَا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ}، وذلك التبليغُ من وجهينِ: تبليغُ الرسالةِ , وهو الكتابُ، وبيانُ معانِيه، وكذلك فِعلُه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، فأنتَ إذا تأمَّلْتَ موارِدَ السُّنةِ وَجَدْتَها بيانًا للكتابِ، هذا هو الأمرُ العامُّ فيها، وتمامُ بيانِ هذا الوجهِ مذكورٌ بعدُ إن شاءَ اللَّهُ. فكتابُ اللَّهِ تعالى هو أصلُ الأصولِ، والغايةُ التي تنتهي إليها أنظارُ النُّظَّارِ ومداركُ أهلِ الاجتهادِ، وليس وراءَه مرمًى؛ لأنه كلامُ اللَّهِ القديمُ، {وأنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهَى}، وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيكَ الكتابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شيءٍ وَهُدًى ورَحمَةً وَبُشْرَى للمُسْلِمِينَ}. وقال: {مَا فَرَّطْنَا في الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}. وبيانُ هذا مذكورٌ بعدُ إن شاءَ اللَّهُ.
إذًا هذه إشارةٌ إلى أنَّ جملةَ السُّنةِ شارحةٌ للقرآنِ، ولهذا مَن كان عالِمًا بالسُّنةِ فإنه يستطيعُ أن يوظِّفَ أحاديثَ الرَّسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لبيانِ القرآنِ، وللاحتجاجِ لأقوالِ المفسِّرينَ، وسيأتي إن شاءَ اللَّهُ تعالى مزيدُ تفصيلٍ حينما نتحدثُ عن الطريقِ الثاني من طرُقِ التفسيرِ، وهي تفسيرُ القرآنِ بالسُّنةِ، ولكنَّ المهمَّ هنا هو أنَّ البيانَ نوعانِ: مباشرٌ وهو قليلٌ، والبيانُ العامُّ وهو كثيرٌ جدًّا؛ لأنَّ السُّنةَ شارحةٌ للقرآنِ.
فإن قال قائلٌ: لماذا كان البيانُ المباشِرُ قليلًا؟
فالجوابُ: هو أنَّ القرآنَ نزَلَ بلُغةِ القومِ الذين هم الصحابةُ، وكانوا رضوانُ اللَّهِ عليهم يتعلَّمونَه –كما سَيَرِدُ في أثَرِ أبي عبد الرحمنِ السُّلَمِيِّ- ويتفهَّمون ما فيه من العِلمِ والعملِ، فإذا أشكلَ عليهم شيءٌ سألوا الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ عنه، فيُعلِّمُهم الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ويُرشِدُهم ولهذا تُوفِّيَ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وقد بيَّنَ لهم كُلِّيَّاتِ الشَّريعةِ العامَّةَ، فلما حدَثَ لديهم الجزئياتُ التي تحتاجُ إلى بيانٍ رَجَعوا إلى كتابِ اللَّهِ تعالى وإلى سُنَّةِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ليَقيسُوا عليها ويَسْتَنْبِطوا منها. فالمقصودُ إذًا أنَّ في حديثِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيانًا للقرآنِ بلا إشكالٍ، ولكنَّ المرادَ هو البيانُ العامُّ، وليس المرادُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيَّنَ جميعَ معاني ألفاظِ الكتابِ؛ لأن كثيرًا من القرآنِ ظاهرٌ ومعلومٌ بالنسبةِ للصحابةِ.
ولهذا فلا يمكنُ أن يُقالَ: إنَّ شيخَ الإسلامِ أرادَ بالبيانِ بيانَ جميعِ معاني ألفاظِ الكتابِ، والظاهِرُ أنه –وإن كان نصَّ عليه كثيرًا- إنما أراد أن يَرُدَّ على أهلِ البِدَعِ الذين يفسِّرونَ القرآنَ بأهوائِهم دون الرُّجوعِ إلى السُّنَّةِ وأقوالِ السَّلفِ.
فإن قال قائلٌ: إذا كان من القرآنِ ما هو ظاهِرٌ معلومٌ بالنسبةِ للصحابَةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم فلِمَ وقعَ الاختلافُ بينَهم في تفسيرِ القرآنِ , كاختلافِهم في معنى (القُرءِ) ومعنى (العادِياتِ) ونحوِ ذلك؟
فالجوابُ: أن هذا الاختلافَ قد يكونُ راجعًا إلى لغةِ العربِ، وقد يكونُ اختلافَ تنَوُّعٍ يرجعُ في حقيقَتِه إلى معنًى واحدٍ، ولْنَضْرِبْ مِثالًا على ذلك , وهو قولُه تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} فقد اختلفَ السَّلفُ فيها هل المرادُ بـ (قَسْوَرة) هو الرَّامِي الذي يرمي أو المرادُ به الأسدُ؟ فلو كان هناك بيانٌ من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لمعنى (قَسْوَرة) لمَا حَصَلَ الاختلافُ بينَ السَّلفِ في معناها, ولكن (قَسْوَرة) عندَ العربِ تَرِدُ بمعنى الرامي وبمعنى الأسدِ، فمَن حمَلَها على هذا المعنى فهو صحيحٌ , ومَن حمَلَها على هذا فهو صحيحٌ.
فمِثلُ هذا اللفظِ لم يكنْ يَحْتاجُ إلى بيانٍ من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لأنه معناه معروفٌ في لغةِ العربِ، ولهذا فمَن حمَلَه على هذا أو على هذا فكلامُه صحيحٌ , ولا إشكالَ في ذلك.
وهذا يدلُّ على أنَّ البيانَ قد حصَلَ بلا إشكالٍ، أما البيانُ الخاصُّ لمعنى كلِّ لفظٍ من ألفاظِ القرآنِ فهذا لم يَقعْ، وإلا لمَا وقع خلافٌ بينَ السَّلفِ في التفسيرِ أصلًا.
فإن قال قائلٌ: هل في عدمِ ثبوتِ التفسيرِ الخاصِّ عن النبيِّ صلى اللَّه عليه ويَشملُ في جميعِ ألفاظِ القرآنِ حُجَّةٌ لأهلِ البِدَعِ بأنَّ تفاسيرَهم صحيحةٌ حيث لم تَرِدْ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ولا الصحابةِ ولا عن التابعين ولا عن أتباعِ التابعين؟
فالجوابُ: ما ذَكرَه شيخُ الإسلامِ في رَدِّهِ على الغزاليِّ في جواهرِ القرآنِ عندَما قال - وهو يتحدَّثُ عن التفسيرِ الباطنِ -: " إن كنتَ لا تقوى على احتمالِ ما يَقرَعُ سمْعَكَ مِن هذا النَّمطِ ما لم تُسْنِدِ التفسيرَ للصحابةِ فإنَّ التقليدَ غالِبٌ عليكَ " قال شيخُ الإسلامِ: " وأمَّا التفسيرُ الثابتُ عن الصحابةِ والتابعين فذلك إنما قَبِلُوه؛ لأنَّهم قد علِموا أنَّ الصحابةَ بلَّغُوا عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لفظَ القرآنِ ومعانِيَه جميعًا ". فكأنه أرادَ أن يَسُدَّ البابَ على مِثلِ هذه التأويلاتِ الباطِنَةِ.
ويقالُ أيضًا: إنَّ كونَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لم يبيِّنْ معنى لفظٍ معيَّنٍ للصحابةِ، فإنه لا يعني أنه يجوزُ لكُلِّ أحدٍ أن يفسِّرَ القرآنَ على رأْيِه دونَ أن يكونَ له مستَنَدٌ صحيحٌ، فنحن ننظُرُ للمستَنَدِ الذي اعتمده، فإن كان مستَندُه صحيحًا مقبولًا وجاريًا على أصولٍ عِلميَّةٍ فهذا أمرُه محتملٌ، وإن كان على غيرِ ذلك وهو من التفسيرِ الباطلِ فإنه يكونُ مردودًا , لا لكونِه لم يَرِدْ عن الصحابةِ والتابعينَ , ولكن لِعِلَّةٍ في نفسِ القولِ تمنعُه من أن يكونَ صحيحًا، مع أن عدَمَ وُرودِه يَرِدُ عن السَّلفِ قد يُضعِّفُه، ولكن لا يلزمُ منه الردُّ التامُّ له حتى يُنْظَرَ في دليلِه كما سيأتي لاحقًا إن شاءَ اللَّهُ تعالى.
المسألةُ الثانيةُ التي ذكرَها شيخُ الإسلامِ هي عنايةُ السَّلفِ بتعلُّمِ معاني القرآنِ مع عنايَتِهم بتعلُّمِ ألفاظِه، وأوْرَدَ في ذلك أثَرَ أبي عبدِ الرحمنِ عبدِ اللَّهِ بنِ حبيبٍ السُّلَمِيِّ الذي قال: حدَّثَنا الذين كانوا يُقْرِئونَنَا القرآنَ كعثمانَ بنِ عفَّانَ وعبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ وغيرِهما أنهم كانوا إذا تعلَّمُوا من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ عشْرَ آياتٍ لم يجاوِزُوها حتى يتعلَّموا ما فيها من العِلمِ والعَملِ، قالوا: فتعلَّمْنا القرآنَ والعِلمَ والعملَ جميعًا.
ثم ذَكرَ الشيخُ أنه بسبب ذلك كان أحدُهم ربما بَقِيَ مدةً طويلةً في حفظِ السُّورةِ الواحِدةِ كما وقع لابنِ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما؛ وذلك لأنَّ المقصودَ عندَهم ليسَ مجرَّدَ حِفظِ الذِّهنِ فقط، إنما المرادُ حِفظُ الذِّهنِ مع تعلُّمِ ما في السُّورِ من العلمِ والعملِ. ولهذا لما حَفِظَ ابنُ عمرَ هذه السورةَ ذبَحَ جَزُورًا احتفالًا بهذا الأمرِ العظيمِ، وبعضُ المعاصرِين يستدلُّ بفعلِ ابنِ عمرَ هذا على شرعيةِ الاحتفالاتِ التي تقيمُها بعضُ المراكزِ الدَّعَويَّةِ أو غيرُها لإنهاءِ دورةٍ أو غيرِها من أعمالِ الخيرِ، حيث يدلُّ فِعلُه على أنَّ هذا العملَ في الجملةِ كان موجودًا عندَ السَّلفِ.
وقضيةُ عنايةِ الصحابةِ بالقرآنِ من القضايا التي تحتاجُ إلى بحثٍ واهتمامٍ، وهي موضوعٌ جيِّدٌ ومُهِمٌّ نتعرفُ من خلالِه على طريقةِ السَّلفِ في تعلُّمِ القرآنِ حروفًا ومعانيَ , وعلى طريقةِ عمَلِهم بالقرآنِ.
وقد استدلَّ شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ على أنه لا بدَّ من أن يكونَ الصحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم قد عَرَفوا التفسيرَ وأخَذُوه عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بثلاثِ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ , وهي قولُه تعالى: {كِتابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وقولُه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرَآنَ} وقولُه: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القوْلَ}.
وهذه الآياتُ –وإن كانت نزلَتْ في سياقِ الكفارِ أو المنافقين- فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ المؤمنينَ غيرُ مطالَبِينَ بالتدبُّرِ، بل هم أولى مَن يتدبَّرُ القُرآنَ، لأنهم مخاطَبونَ به، لا يمكنُ فَهْمُ معنى الكلامِ إلا بتدبُّرِه, ومادام أنَّ الصحابةَ قد وَردَ عنهم العِلمُ والعملُ بالقرآنِ فهذا يدلُّ على أنهم قد فَهِموا القرآنَ وتدبَّرُوا معانِيَه.
والتدبـُّرُ على قِسـمينِ:
تدبُّرٌ لفَهْمِ المعنى؛ كما إذا كنتَ تقرأُ سورةً من القرآنِ فمرَّتْ عليك لفظةٌ لا تَعرِفُ معناها، فمِن التدبُّرِ أن تعرفَ معنى ما تقرأُ، فبحثُكَ عن المعنى المرادِ نوعٌ من التدبُّرِ.
تدبُّرُ الاستنباطِ بعدَ فهمِ المعنى المرادِ من الكلامِ، وذلك بتقليبِ الفِكرِ في دَلالاتِه وإشارَتِه وما يُفهمُ منه.
فالتدبُّرُ إذَنْ على مرحلتين؛ مرحلةٍ سابقةٍ ومرحلةٍ لاحقةٍ.
قال: " وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وعَقلُ الكلامِ متضمِّنٌ لفَهمِه " فاللَّهُ أنزلَ القرآنَ عربيًّا لكي يَفهمَه مَن نَزلَ بلُغتِهم، ثم يُبلِّغوا معناه لغيرِهم من الأمَمِ، فكيف يَعقِلُونه ويُبلِّغُونه , وهم لا يَفهمونَ معناه؟
قال: " ومِن المعلومِ أنَّ كلَّ كلامٍ المقصودُ منه فَهْمُ معانِيهِ دونَ مجرَّدِ ألفاظِه، فالقرآنُ أَوْلَى بذلك". وهذا واضحٌ، فلو أنه طُلِبَ منكَ دراسةٌ لشِعرِ فلانٍ من الناسِ، فهل يمكنُ أن تَدْرُسَ الشِّعرَ دون أن تَفْهَمَ معانِيَه؟ فإذا كان هذا في كلامِ البَشرِ فما بالُكَ بكلامِ اللَّهِ سبحانَه وتعالى?
ولهذا قال: " إنَّ العادةَ تمنعُ أن يَقرأَ قومٌ كِتابًا في فَهمِ مسألةٍ من العِلمِ كالطِّبِّ والحسابِ ولا يَسْتَشْرِحوه، فكيفَ بكلامِ اللَّهِ تعالى؟ نحنُ الآنَ نَستشرِحُ كلامَ الشيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى , وهو من كلامِ البشَرِ، فكيف بكلامِ اللَّهِ تعالى؟
إِذَنْ فمَن قرأَ القرآنَ وهو لا يَعرِفُ معناه فينبغي له أن يطْلُبَ معرفةَ هذا المعنى، كما فَعلَ الصحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم حيث سألُوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ عن معاني بعضِ الآياتِ التي أَشْكَلَتْ عليهم.
قال: " ولهذا كان النـزاعُ بينَ الصحابةِ في تفسيرِ القرآنِ قليلاً جدًّا؛ لأنَّهم تلَقَّوُا التفسيرَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، ولهذا لو جَمَعْتَ تفسيرَ الصحابةِ مجرَّدًا ونظَرْتَ في الخلافِ بينهم فإنك ستَجِدُه أقلَّ من الخلافِ بينَ التابعين ومَن جاء بعدَهم.
قال:" وهو إن كان في التابعين أكثرَ منه في الصحابةِ فهو قليلٌ بالنسبةِ لمَن جاءَ بعدَهم، وكُلَّما كان العصرُ أَشْرَفَ كان الاجتماعُ والائتلافُ والعلمُ والبيانُ فيه أكْثَرَ ". هذه قاعدةٌ علميةٌ مُطَّردةٌ ففي عهدِ أبي بكرٍ كان المسلمون أكثرَ إجماعًا وتآلُفًا, ثم في عهدِ عُمرَ، ثم بدأ ذلك يَقِلُّ في عهدِ عثمانَ، ثم قَلَّ في عهدِ عليٍّ، فكلما ابتعدَ عصرُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ازدادتْ شُقَّةُ الاختلافِ , وظهرتْ خلافاتٌ جديدةٌ، وهذه سُنَّةُ اللَّهِ في خَلْقِه، نسألُ اللَّهَ السلامةَ من هذه الاختلافاتِ والفتنِ.