قَوْلُهُ:
قالَ الشيخُ الإمامُ، العالِمُ العَلاَّمَةُ، شيخُ الإسلامِ تَقِيُّ الدينِ أبو العَبَّاسِ، أحمدُ بنُ عبدِ الحليمِ ابنِ عبدِ السلامِ بنِ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
الشرحُ:
(( الشيخُ )) جَمْعُهُ أشياخٌ وشيوخٌ، وهو إمَّا مصدرُ شَاخَ أو صِفَةٌ، وسُمِّيَ المُؤَلِّفُ شيخاً لِمَا حَوَى مِن كثرةِ المعاني؛ لأنَّ مَعْنَاهُ في الاصطلاحِ مَن بَلَغَ رُتْبَةَ أهلِ الفضلِ ولو صَبِيًّا، وأمَّا في اللغةِ فمعناهُ مَن جاوزَ الأربعينَ، وقولُهُ: (( الإمامُ )) معناهُ لغةً: المُقَدَّمُ على غيرِهِ، وفي الاصطلاحِ: مَن يَصِحُّ الاقتداءُ بهِ، ولهُ معانٍ أُخَرُ، و (( العالمُ )) كلُّ مَن اتَّصَفَ بالعلمِ, ولو كانَ مُبْتَدِئًا في الطَّلَبِ، و (( العلاَّمَةُ )) صفةُ مُبَالَغَةٍ، فلا يُوصَفُ بها إلا مَن حَازَ المعقولَ والمنقولَ، والمُرَادُ بها هنا كثيرُ العلمِ.
وقولُهُ: (( شيخُ الإسلامِ)) أيْ: عالمُ الإسلامِ وحُجَّةُ الإسلامِ، وذلكَ لِمَا امتازَ بهِ على غيرِهِ مِن فَرْطِ الذكاءِ، وسَيَلاَنِ الذِّهْنِ، وقوَّةِ الحافظةِ، وغزارةِ العلمِ، فقدْ كانَ إذا سُئِلَ عن فَنٍّ مِن العلمِ ظَنَّ الرَائِي والسامِعُ أَنَّهُ لا يَعْرِفُ غيرَ ذلكَ الفَنِّ، وحَكَمَ أنَّ أحدًا لا يَعْرِفُ مثلَهُ.
ولمْ يَبْرَحْ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في ازديادٍ من العلمِ، وتدريسِهِ، ونَشْرِهِ، والاجتهادِ في سبيلِ الخيرِ حتى انْتَهَتْ إليهِ الإِمَامَةُ في العلمِ، والعملِ، والزُّهْدِ، والوَرَعِ، والحِلْمِ، والأَنَاةِ، وبهذا اسْتَحَقَّ أنْ يُلَقَّبَ بِحَقٍّ شيخَ الإسلامِ، فهو كقولِهِمِ: حُجَّةُ الإسلامِ، ومعنى اللَّقَبَيْنِ: العالمُ بعلومِ الشَّرِيعَةِ والحُجَّةُ فيهَا.
وقولُهُ: (( تَقِيُّ الدِّينِ )) أيْ: صِينُهُ وَنَقِيُّهُ، فقدْ كانَ وَرِعاً، صَوَّاماً، قَوَّاماً، ذَاكِراً للهِ تعالى في جميعِ أحوالِهِ، عابِداً، ناسِكاً، وَقَّافاً عندَ حدودِ اللهِ.
وقولُهُ: ((أبو العَبَّاسِ، أحمدُ)): يعني ابنَ الشيخِ الإمامِ العلاَّمَةِ شِهابِ الدينِ أبي المحاسنِ عبدِ الحليمِ بنِ الشيخِ الإمامِ العلاَّمةِ شيخِ الإسلامِ مَجْدِ الدينِ أبي البَرَكاتِ عبدِ السلامِ بنِ أبي محمدٍ عبدِ اللهِ بنِ أبي القاسمِ الخَضِرِ بنِ محمدِ بنِ الخضرِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ ابنِ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ نَزِيلِ دِمِشْقَ.
وقدْ ذَكَرَ ابنُ خَلِّكَانَ فِي كتابِهِ ( وَفَياتِ الْأَعْيَانِ ) أنَّ المَسْؤُولَ عن اسمِ تَيْمِيَّةَ: هو محمدُ بنُ الخَضِرِ بنِ محمدِ بنِ الخَضِرِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ, فَعَلَى هذا يكونُ عبدُ السلامِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ محمدِ بنِ الخضرِ بنِ محمدِ بنِ الخضرِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ المعروفَ بابنِ تَيْمِيَّةَ.
قولُهُ: (ابنُ تَيْمِيَّةَ) سببُ نِسْبَتِهِ إلى تَيْمِيَّةَ هو ما ذَكَرَهُ أبو البركاتِ ابنُ المُسْتَوْفِي في تاريخِ (إِرْبِلَ) قالَ: سألْتُ محمداً – يَعْنِي: ابنَ الخضرِ - عن اسمِ تَيْمِيَّةَ ما مَعْنَاهُ؟ فقالَ: حَجَّ أبي أوجَدِّي - أَنَا أَشُكُّ أَيُّهُمَا قَالَ- وكانت امْرَأَتُهُ حَامِلاً، فَلَمَّا كانتْ بِتَيْمَاءَ رأَى جُوَيْرِيَةً حَسَنَةَ الوَجْهِ قد خَرَجَتْ مِن خِبَاءٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إلى حَرَّانَ وَجَدَ امْرَأَتَهُ قد وضَعَتْ جاريةً، فَلَمَّا رَفَعُوهَا إليهِ قالَ: ياتَيْمِيَّةُ ياتَيْمِيَّةُ، يَعْنِي: أنَّهَا تُشْبِهُ التي رَأَهَا بِتَيْمَاءَ فَسُمِّيَ بها, أو كلامًا هذا معناهُ.
وتَيْمَاءُ: بُلَيْدَةٌ في بدايةِ تَبُوكَ إذا خَرَجَ الإنسانُ مِن خَيْبَرَ إليها تكونُ على منتصفِ طريقِ الشامِ.
وتَيْمِيَّةُ نسبةً إلى هذهِ البُلَيْدَةِ، وكانَ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ تَيْمَاوِيَّةً؛ لأَنَّ النسبةَ إلى تَيْمَاءَ تَيْمَاوِيٌّ, لَكِنَّهُ هكذا قالَ, واشْتَهَرَ كما قالَ.
قولُهُ: (( الحَرَّانِيُّ)) نسبةً إلى حَرَّانَ، وهيَ مدينةٌ مشهورةٌ, ذَكَرَ ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في تاريخِهِ أنَّ هَارَّانَ عَمَّ إبراهيمَ الخليلِ - عليهِ الصلاةُ والسلامُ - عَمَرَهَا فَسُمِّيَتْ باسمِهِ، فقيلَ: هَارَّانَ، ثم إِنَّهَا عُرِّبَتْ، فقيلَ: حَرَّانَ، وَهَارَّانُ المذكورُ هو أبو سَارَةَ زَوْجَةِ إبراهيمَ، وكانَ لإبراهيمَ - عليهِ وعلى نبيِّنَا أفضلُ الصلاةِ والسلامِ - أخٌ يُسَمَّى هَارَّانَ أيضاً، وهو أبو لُوطٍ عليهِ السلامُ. وقالَ الجَوْهَرِيُّ في كتابِ الصِّحاحِ: حَرَّانُ اسْمُ بَلَدٍ, والنِّسْبَةُ إليهِ حَرْنَانِيٌّ على غيرِ قياسٍ، والقياسُ حَرَّانِيٌّ على ما عليهِ العامَّةُ.
وهذهِ الكلمةُ الوجيزةُ عبارةٌ عن تَقْدِمَةٍ تعريفيَّةٍ بالمُؤَلِّفِ تُشِيرُ إلى مكانتِهِ العلميَّةِ، ونَسَبِهِ، وَوَطَنِهِ، فهيَ مِن بعضِ تلاميذِهِ أو غيرِهِم مِمَّنْ نَسَخُوا هذه الرسالةَ، أمَّا صُلْبُ كلامِ المُؤَلِّفِ فَيَبْدَأُ مِن قولِهِ: الحمدُ للهِ نَحْمَدَهُ ونَسْتَعِينُهُ.
وقد وُلِدَ الشيخُ بِحَرَّانَ يَوْمَ الاثنينِ عاشِرٍ، وقيلَ: ثانيَ عَشَرَ مِن شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ سنةَ سِتِّمِائَةٍ وإِحْدَى وَسِتِّينَ هجريَّةً، وسافرَ والِدُهُ بهِ وبإخوتِهِ عندَ جَوْرِ التتارِ إلى دِمِشْقَ أثناءَ سنةِ سِتِّمِائَةٍ وسبعٍ وسِتِّينَ، وقدْ بَرَعَ في الفنونِ العديدةِ، وهو ابنُ بِضْعَ عَشْرَةَ سنةٍ، فانْبَهَرَ أهلُ دِمِشْقَ مِن فَرْطِ ذكائِهِ، وسَيَلاَنِ ذِهْنِهِ، وقُوَّةِ حافظَتِهِ، وسرعةِ إدراكِهِ.
وقد سَمِعَ العلمَ عن أكثرَ مِن مِائَتَيْ شيخٍ، وجهادُهُ بلسانِهِ وسِنَانِهِ في سبيلِ اللهِ مشهورٌ معروفٌ، وقد حَسَدَهُ مُنَافِسُوهُ, وَسَعَوْا في مَكِيدَتِهِ بَغْياً وَعُدْوَانًا، وَجَرَى لهُ مِن المِحَنِ أشياءُ كثيرةٌ؛ منها مِحْنَتُهُ بسببِ تأليفِهِ الحَمَوِيَّةَ، ومنها سِجْنُهُ بسببِ فُتْيَاهُ في الطلاقِ.
ولَمَّا كانَ في سنةِ سَبْعِمِائَةٍ وسِتٍّ وعشرينَ وَقَعَ الكلامُ في شَدِّ الرحالِ وإعمالِ المَطِيِّ إلى قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ، فَأَفْتَى الشيخُ رَحِمَهُ اللهُ بالمَنْعِ عن شَدِّ الرحالِ، فَحَصَلَ ما حَصَلَ مِن قُضَاةِ عَصْرِهِ، وعلماءِ زمانِهِ، فَحُبِسَ بأمرٍ مِن السلطانِ بِقَلْعَةِ دِمِشْقَ، وقد بَقِيَ مُقِيماً بهذهِ القلعةِ سَنَتَيْنِ وثلاثةَ أَشْهُرٍ وأياماً، ثم تُوُفِّيَ إلى رحمةِ اللهِ ورضوانِهِ سنةَ سَبْعِمِائَةٍ وثمانٍ وعشرينَ، وكان في هذهِ المُدَّةِ مُكِبًّا على العبادةِ والتلاوةِ وتصنيفِ الكُتُبِ والرَّدِّ على المُخَالِفِينَ، فما حالُهُ مع خصومِهِ إلاَّ كَمَا قالَ الشاعِرُ:
فإنْ تَسْجِنُوا القَسْرِيَّ لاَ تَسْجُنُوا اسْمَهُ = وَلاَ تَسْجُنُوا مَعْرُوفَهُ في القبائلِ
وَإِذَا صَحَّ لَنَا أَنْ نَسْلُبَ مَعْنَى بَيْتِ الشاعرِ قُلْنَا:
فَإِنْ تَسْجِنُوا التَّيْمِيَّ لاَ تَسْجُنُوا اسْمَهُ = وَلاَ تَسْجُنُوا مَأْثُورَهُ فِي العَوَالِمِ
قولُهُ:
(( الحمدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِن شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأَشْهَدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لهُ، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
الشرحُ:
هذه خُطبةُ الحَاجَةِ التي كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهَا أصحابَهُ.
روَى الإمامُ أحمدُ والأربعةُ, مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قالَ: عَلَّمَنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ في الحَاجَةِ: (إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ من شرورِ أنْفُسِنَا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ) والحَاجَةُ هنا عامَّةٌ، تُقَالُ في النكاحِ وغيرِهِ، كما في الروايةِ التى عندَ البَيْهَقِيِّ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ: إذا أرادَ أحدُكُم أنْ يَخْطُبَ لِحَاجَةٍ من النكاحِ أو غيرِهِ فَلْيَقُلْ: (الحمدُ للهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ) إلخ.
ويَشْهَدُ لهذا ما رُوِيَ من حديثِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ رَجُلاً كَلَّمَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شَيْءٍ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونَسْتَعِينُهُ، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أمَّا بَعْدُ: ).
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ: والأحاديثُ كلُّهَا مُتَّفِقَةٌ على أنَّ (نَسْتَعِينُهُ) و (نَسْتَغْفِرُهُ) و (نَعُوذُ بهِ) بالنونِ، والشهادتانِ بالإفرادِ، (أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ) وقدْ ذَكَرَ لهذا عِلَّةً وَجِيهَةً وَنُكْتَةً بَدِيعَةً، وهي قولُهُ: (لَمَّا كانتْ كلمةُ الشهادةِ لا يَتَحَمَّلُهَا أَحَدٌ عن أَحَدٍ، ولا تُقْبَلُ النيابةُ بِحَالٍ أَفْرَدَ الشهادةَ بها وَلَمَّا كانت الاستعانةُ والاستعاذةُ والاستغفارُ أموراً تَقْبَلُ النيابةَ، فَيَسْتَغْفِرُ الرجلُ لغيرِهِ، ويستعينُ اللهَ لهُ، ويستعيذُ باللهِ أَتَى فيها بلفظِ الجَمْعِ، ولهذا يقولُ: ( اللَّهُمَّ أَعِنَّا وأَعِذْنَا واغْفِرْ لَنَا) قالَ: (وفيهِ مَعْنًى آخَرُ: وهو أنَّ الاستعانةَ والاستعاذةَ والاستغفارَ طَلَبٌ وإنشاءٌ، فَيُسْتَحَبُّ للطالبِ أنْ يطلُبَهُ لنفسِهِ ولإخوانِهِ المؤمنينَ، وأمَّا الشهادةُ فهِيَ إخبارٌ عن شهادتِهِ للهِ بالوحدانيَّةِ ولنبيِّهِ بالرسالةِ، وهي خبرٌ يُطَابِقُ عَقْدَ القلبِ وَتَصْدِيقَهُ، وهذا إنِّمَا يُخْبِرُ بهِ الإنسانُ عن نفسِهِ لعلمِهِ بحالِهِ، بخلافِ إخبارِهِ عن غيرِهِ، فإنَّهُ إنَّمَا يُخْبِرُ عن قولِهِ ونُطْقِهِ لا عن عَقْدِ قلبِهِ، واللهُ أعلمُ), (وقدْ جاءَ لفظُ الحمدِ في بعضِ الرواياتِ بغيرِ نونٍ، وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: نَحْمَدُهُ بالنونِ مع أنَّ الحمدَ لا يَتَحَمَّلُهُ أَحَدٌ عن أَحَدٍ،وَلاَ يَقْبَلُ النيابَةَ، فَإِنْ كانتْ هذه اللفظةُ محفوظةً فيهِ فقدْ جاءَتْ بهذهِ الصِّيغَةِ لتكونَ ألفاظُ الحمدِ والاستعانةِ والتعوُّذِ والاستغفارِ على نَسَقٍ واحدٍ).
قولُهُ:
( مَن يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لهُ ومَن يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لهُ).
الشرحُ:
يَعْنِي: أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بِيَدِ اللهِ, يَهْدِي مَن يشاءُ بفضْلِهِ ورحمتِهِ، ويُضِلُّ مَن يشاءُ بعدلِهِ وحكمتِهِ، وهوَ أعلمُ بمواقعِ فضلِهِ وعدلِهِ، وهو أعلمُ بِمَن ضَلَّ عن سبيلِهِ، وهو أعلمُ بِمَن اهْتَدَى, ولهُ في ذلكَ الحكمةُ البالغةُ، والحُجَّةُ الدامِغَةُ, قالَ اللهُ تعالى: { مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ ومَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُو المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} وقالَ: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لهُ وَيَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقالَ: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِي ومَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} إلى أمثالِ هذهِ الآياتِ الكريماتِ الدالَّةِ على هذا المَعْنَى، فمِن العُبَّادِ الشَّقِيُّ,وهو مَن أَضَلَّهُ بعدلِهِ، ومنهم السعيدُ,وهو مَن وَفَّقَهُ وَهَدَاهُ بفضلِهِ، فللهِ الحمدُ على فضلِهِ وعدلِهِ.
وهذه الخطبةُ كثيراً ما يَفْتَتِحُ بها المُؤَلِّفونَ كُتُبَهُم؛ اقتداءً بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيثُ جاءَ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كانَ في غالبِ أحوالِهِ يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ بخطبةِ الحاجَةِ؛ وذلكَ - واللهُ أعلمُ - لِمَا اشْتَمَلَتْ عليهِ مِن صدقِ اللَّجْأِ إلى اللهِ، وطَلَبِ العَوْنِ منهُ، والاعتمادِ عليهِ، والتَّبَرِّي مِن الحولِ والقوَّةِ إلاَّ بهِ سبحانَهُ، والإقرارِ بوحدانِيَّتِهِ، وطَلَبِ المغفرةِ منهُ، والاستعاذةِ بهِ من شُرُورِ النفْسِ وسيئاتِ الأعمالِ.
قولُهُ:
أمَّا بَعْدُ: فقد سَأَلَنِي مَن تَعَيَّنَتْ إجابتُهُمْ أنْ أَكْتُبَ لَهُمْ مَضْمُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنِّي في بعضِ المجالسِ من الكلامِ (في التوحيدِ، والصفاتِ)، وفي (الشرعِ، والقَدَرِ)، لِمَسِيسِ الحاجةِ إلى تحقيقِ هذينِ الأصلينِ، وكثرةِ الاضطرابِ فيهما؛ فَإِنَّهُمَا مع حاجةِ كلِّ أَحَدٍ إليهما، ومع أنَّ أهلَ النظرِ، والعلمِ، والإرادةِ، والعبادةِ لاَ بُدَّ أنْ يَخْطُرَ لهم في ذلكَ من الخواطرِ، والأقوالِ ما يحتاجونَ معهُ إلى بيانِ الهُدَى مِن الضلالِ، لاَ سِيَّمَا مع كثرةِ مَن خَاضَ في ذلكَ بالحَقِّ تارةً, وبالباطلِ تاراتٍ، وما يَعْتَرِي القلوبَ في ذلكَ مِن الشُّبَهِ التي تُوْقِعُهَا فِي أنواعِ الضلالاتِ).
الشرحُ:
يُشِيرُ المؤلِّفُ إلى أنَّ هذه الرسالةَ عبارةٌ عن مجموعةِ تقريراتٍ سَمِعَهَا منهُ تلاميذُهُ فَعَزَّ عليهم أنْ تُتْرَكَ دونَ تقييدٍ لها مع دعاءِ الحاجةِ إلى ذلكَ.
والظاهرُ أنَّ التلاميذَ الذينَ سَأَلُوهُ كِتَابَتَهَا كانوا مِن أهلِ (تَدْمُرَ)، كَمَا قالَ تلميذُهُ ابنُ عبدِ الهادِي عندَ بيانِهِ لمصنفاتِ الشيخِ قال: (ورسالةٌ كَتَبَهَا لِأَهْلِ تَدْمُرَ) انْتَهَى، وَتَدْمُرُ: بَلْدَةٌ مِن بُلْدَانِ الشامِ مِن أعمالِ حِمْصَ، وهذا وَجْهُ نسبةِ الرسالةِ إليها.
وقد بَيَّنَ المُؤَلِّفُ الأسبابَ التي مِن أَجْلِهَا أَلَّفَ هذهَ الرسالةَ وهيَ:
أولاً: مَسِيسُ الحاجةِ إلى تحقيقِ الأَصْلَيْنِ.
ثانياً: كثرةُ الاضطرابِ فيهما.
وقولُهُ: (فَإِنَّهُمَا مَعَ حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِمَا وَمَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّظَرِ) إلخ.
الظاهرُ أنَّ خبرَ ( إنَّ ) في قولِهِ ( فإنَّهُمَا ) إلى قولِهِ ( مِن الشُّبَهِ التي تُوقِعُهَا في أنواعِ الضلالاتِ ) محذوفٌ تقديرُهُ لَفِي أَمَسِّ الحاجةِ إلى التحقيقِ والإيضاحِ الكاملِ والبيانِ الشافِي، وقدْ أشارَ المُؤَلِّفُ فيما بينَ ذلكَ إلى الأسبابِ المُوجِبَةِ للتحقيقِ والإيضاحِ وهيَ:
أولاً: حاجةُ الناسِ إلى هذينِ الأصلينِ؛ إذْ بهما قِوامُ الدينِ.
ثانياً: أنَّ أهلَ النظرِ والعلمِ والإرادةِ والعبادةِ يَحْصُلُ عندَهم من الخَلَجاتِ النفسيَّةِ في هذا البابِ ما يحتاجونَ معهُ إلى بيانِ الهُدَى من الضلالِ، خاصةً وأنَّ هذا البابَ قد خَاضَ فيهِ بعضُ الناسِ بالحقِّ تارةً, وبالباطلِ مراتٍ عديدةً؛ مِمَّا سَبَّبَ بَعْثَ الشُّبَهِ، وإدخالَ الشكوكِ إلى القلوبِ،والذين يقومونَ بهذا الخَوْضِ هم الذينَ انْدَسُّوا في عِدَادِ المسلمينَ, لا رَغْبَةً في الإسلامِ, بلْ لِيَكِيدُوا لهُ ولأهلِهِ، فإنَّ العقيدةَ السَّلَفِيَّةَ مازالتْ على مَنَصَّةِ العِزَّةِ وقِمَّةِ الكرامةِ، حتى استطاعَ أعداءُ الإسلامِ أن يَنْدَسُّوا بينَ ظَهْرَانِيِّ المسلمينَ، وأنْ يُلْبِسُوا الحقَّ بالباطلِ، ويُزَخْرِفُوا الشُّبُهاتِ والشكوكَ باسمِ الدينِ، وفي صورةِ تَنْزِيهِ اللهِ عَمَّا لا يَلِيقُ بهِ، فَرَدُّوا آياتِ اللهِ، وَحَرَّفُوا كتابَ اللهِ، وعَطَّلُوا صفاتِهِ العُلْيَا وأسماءَهُ الحُسْنَى التي وَصَفَ بها نفسَهُ، وَوَصَفَهُ بها نَبِيُّهُ محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَازَالُوا يَجْلُبُونَ بَنَظَرِيَّاتِ اليُونَانِ، ومقالاتِ الفُرْسِ والهِنْدِ، وآراءِ الجَعْدِ بنِ دِرْهَمٍ، والجَهْمِ بنِ صَفْوَانَ، وإخوانِهِمَا مِن أولئكَ الزائِغِينَ المُلْحِدِينَ حتى رَاجَتْ تلكَ التُّرَّهاتُ، ومَضَتْ في طريقِهَا إلى القلوبِ المريضةِ تَفْرَحُ بِهَا، وإلى الأقلامِ المَوْبُوءَةِ تُسَجِّلُهَا على الصُحُفِ، وتُسَوِّدُ بها وجوهَ الكُتُبِ، وتَنْقُلُهَا جراثيمُ فَسَادٍ وإِفْسَادٍ إلى الذينَ فُتِنُوا بها, فَتُلَوِّثُ العقولَ والفِطَرَ.
وإذاً فَثَالِثُ الأسبابِ لتحقيقِ هذينِ الأصلينِ: هو كثرةُ مَن خاضَ في هذا البابِ بالحَقِّ تارةً, وبالباطلِ تاراتٍ.
ورابِعُهَا: ما يَعْتَرِي القلوبَ مِن الشُّبَهِ التي تُوقِعُهَا في أنواعِ الضلالاتِ، ونتيجةٌ لذلكَ أَصْبَحَتْ كُتُبُ التوحيدِ بِحَاجَةٍ إلى مَن يُصَقِّلُهَا، ويُبْعِدُ عنها تلكَ الترهاتِ والشُّبَهَ التي دَسَّهَا هؤلاءِ المُغْرِضُونَ، بحيثُ يعودُ التوحيدُ صافياً نَقِيًّا لا لُبْسَ فيهِ، كما كانَ في عهدِ الرسالةِ، حيثُ كانَ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُ عن ربِّهِ, ثم يَنْقُلُ عنهُ صحابتُهُ ذلكَ التوحيدَ ناصِعَ البياضِ.
والمقصودُ: أنَّ هذينِ الأصلينِ - بعدَ خَلْطِ كُتُبِ التوحيدِ بِعِلْمِ الكلامِ ومقالاتِ الفُرْسِ واليونانِ - قد أَصْبَحَا في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى التحقيقِ وبيانِ الهُدَى من الضلالِ، ولقد أَحْسَنَ القائلُ:
لا تَخْشَ مِن بِدَعٍ لَهُمْ وَحَوَادِثَ = مَا دُمْتَ فِي كَنَفِ الكِتَابِ وَحِرْزِهِ
مَنْ كَانَ حَارِسَهُ الكتابُ وَدِرْعَهُ = لَمْ يَخْشَ مِن طَعْنِ العَدُوِّ وَوَخْزِهِ
لاَ تَخْشَ مِن شُبُهَاتِهِمْ وَاحْمِلْ إِذَا = مَا قَابَلَتْكَ بِنَصْرِهِ وَبِعِزِّهِ
واللهِ مَا هَابَ امْرُؤٌ شُبُهَاتِهِمْ = إِلاَّ لِضَعْفِ القَلْبِ منهُ وَعَجْزِهِ
و (( الشبهاتُ )) جَمْعُ شُبْهَةٍ، وهي: بَرْزَخٌ بينَ الحَقِّ والباطلِ, وقدْ جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ بينَ كلِّ مُتَبَايِنَيْنِ بَرْزَخاً، و (أهلُ النظرِ والعلمِ والإرادةِ والعبادةِ) هم قومٌ مِن أهلِ السلوكِ والسَّيْرِ إلى اللهِ, (والنَّظَرُ): هو التَّأَمُّلُ والتَّفَكُّرُ في آياتِ اللهِ الأُفُقِيَّةِ والنفسيَّةِ (والعلمُ): هو النورُ الذي يَقْذِفُهُ اللهُ في القلبِ، وذلكَ بأنْ يَتَحَقَّقَ انْتِفَاعُهُ مِمَّا دَعَتْهُ إليهِ الرُّسُلُ، وَتَضُرُّرُهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ, (والإرادةُ) هي العَقْدُ الجازِمُ على المَسِيرِ، ومفارقةُ كلِّ قاطعٍ وعائِقٍ، ومرافقةُ كلِّ مُعِينٍ ومُوَصِّلٍ، (والعبادةُ) هي كمالُ الذُّلِّ والخضوعِ للهِ والانكسارِ لهُ والافتقارِ إليهِ مع كمالِ الحُبِّ.
وكلُّ هذه الأوصافِ التي ذَكَرَهَا المؤلِّفُ هي منازلُ أهلِ السَّيْرِ إلى اللهِ.