وفيما قالَهُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- نَظَرٌ مِن وَجهينِ:
أحدُهما: أنه لم يَثْبُتْ سماعُ أبي وائلٍ مِن مُعاذٍ، وإن كان قد أَدْرَكَهُ بالسِّنِّ، وكان مُعاذٌ بالشَّامِ، وأبو وائلٍ بالكُوفةِ، وما زالَ الأئمَّةُ -كأحمدَ وغيرِهِ- يَستَدِلُّون علَى انتفاءِ السَّماعِ بِمِثْلِ هذا.
وقد قالَ أبو حاتمٍ الرازيُّ في سَماعِ أبي وائلٍ مِن أبي الدرداءِ: (قد أَدْرَكَهُ، وكان بالكُوفةِ، وأبو الدَّرداءِ بالشامِ) يعني: أنه لم يَصِحَّ له سَمَاعٌ منه.
وقد حكَى أبو زُرعةَ الدِّمشقيُّ عن قومٍ أنَّهم تَوَقَّفُوا في سَمَاعِ أبي وائلٍ مِن عُمَرَ، أو نَفَوْهُ، فسَمَاعُهُ مِن مُعاذٍ أَبْعَدُ.
والثاني: أنَّهُ قد رواهُ حمَّادُ بنُ سَلمةَ، عن عاصمِ بنِ أبي النَّجودِ، عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن مُعاذٍ، خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ مُخْتَصَرًا.
قالَ الدارقُطنيُّ: (وهو أَشْبَهُ بالصَّوابِ؛ لأنَّ الحديثَ معروفٌ مِن روايَةِ شَهْرٍ علَى اختلافٍ عليهِ فيهِ).
قلتُ: وروايَةُ شَهْرٍ، عن مُعاذٍ مُرْسَلةٌ يَقينًا، وشهرٌ مُخْتَلَفٌ في توثيقِهِ وتَضعيفِهِ، وقد خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ مِن روايَةِ شَهْرٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ، عن مُعاذٍ، وخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ أيضًا مِن روايَةِ عُروةَ بنِ النزَّالِ أو النَّزَّالِ بنِ عُروةَ، وميمونِ بنِ أبي شَبيبٍ، كِلاهما عن مُعاذٍ، ولم يَسْمَعْ عُروةُ ولا مَيمونٌ مِن مُعاذٍ، وله طُرُقٌ أُخرَى عن مُعاذٍ كلُّها ضَعيفةٌ.
(2)وقولُهُ: (أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّةَ، وَيُباعِدُني مِنَ النَّارِ) قد تَقَدَّمَ في شرْحِ الحديثِ الثاني والعشرينَ مِن وُجوهٍ ثابتةٍ مِن حديثِ أبي هُريرةَ وأبي أيُّوبَ وغيرِهما، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عن مِثلِ هذه المسألةِ، وأجابَ بنحوِ ما أجابَ به في حديثِ مُعاذٍ.
وفي روايَةِ الإمامِ أحمدَ في حديثِ مُعاذٍ أنَّهُ قالَ: (يا رَسولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عن كَلِمَةٍ قَدْ أَمْرَضَتْنِي وَأَسْقَمَتْني وَأَحَزَنَتْنِي).
قالَ: ((سَلْ عَمَّا شِئْتَ)).
قالَ: (أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ)، وهذا يَدُلُّ علَى شِدَّةِ اهتمامِ مُعاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بالأعمالِ الصَّالحةِ، وفيهِ دَليلٌ علَى أنَّ الأعمالَ سَببٌ لدخولِ الْجَنَّةِ، كما قالَ تعالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلونَ} [الزخرف: 72].
وأمَّا قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لَنْ يَدْخُلَ أَحْدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) فالمرادُ -واللَّهُ أعلمُ- أنَّ العملَ بنَفسِهِ لا يَستَحِقُّ به أحدٌ الْجَنَّةَ لولا أنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ -بفضلِهِ ورحمتِهِ- سببًا لذلك، والعملُ نفسُهُ مِن رحمةِ اللَّهِ وفَضْلِهِ علَى عَبْدِهِ، فالجنَّةُ وأسبابُها كلٌّ مِن فضلِ اللَّهِ ورحمتِهِ.
(3) وقولُهُ: ((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ))قد سَبَقَ في شرحِ الحديثِ الْمُشارِ إليهِ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ لِرجلٍ سَأَلَهُ عن مِثْلِ هذا: ((لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ الْمَسْأَلَةَ، لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَأَطْوَلْتَ))، وذلك لأنَّ دُخولَ الْجَنَّةِ والنَّجاةَ مِن النارِ أَمْرٌ عظيمٌ جِدًّا، ولأَجْلِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ الكُتُبَ، وأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لرجلٍ: ((كَيْفَ تَقُولُ إِذَا صَلَّيْتَ ؟))، قالَ: (أَسْأَلُ اللَّهَ الجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَلا أُحْسِنُ دَنْدنَتَكَ وَلا دَنْدَنَةَ مُعاذٍ)، يُشيرُ إلَى كثرةِ دُعائِهما واجتهادِهما في المسألةِ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ))،وفي روايَةٍ: ((هَلْ تَصِيرُ دَنْدَنَتِي وَدَنْدَنَةُ مُعَاذٍ إِلا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَنَعُوذَ بِهِ مِنَ النَّارِ)).
وقولُهُ: ((وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ)) إشارةٌ إلَى أنَّ التَّوفيقَ كُلَّهُ بيدِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فمَن يَسَّرَ اللَّهُ عليهِ الْهُدَى اهْتَدَى، ومَن لم يُيَسِّرْهُ عليهِ، لم يَتَيَسَّرْ له ذلك؛ قالَ اللَّهُ تعالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10].
وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ))، ثم تلا صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هذه الآيَةَ.
وكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقولُ في دُعائِهِ: ((واهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي))، وأَخْبَرَ اللَّهُ عن نَبِيِّهِ موسَى عليهِ السَّلامُ أنه قالَ في دُعائِهِ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25،26]، وكان ابنُ عمرَ يَدْعُو: (اللهمَّ يَسِّرْنِي لِلْيُسْرَى، وجَنِّبْنِي العُسْرَى).
وقد سَبَقَ في شَرْحِ الحديثِ الْمُشارِ إليهِ تَوجيهُ ترتيبِ دخولِ الجنَّةِ علَى الإتيانِ بأركانِ الإسلامِ الخمسةِ، وهي: التَّوحيدُ، والصَّلاةُ، والزَّكاةُ، والصِّيامُ، والحجُّ.
وقولُهُ: ((أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوابِ الْخَيْرِ))، لَمَّا رَتَّبَ دُخولَ الْجَنَّةِ علَى واجباتِ الإسلامِ، دَلَّهُ بعدَ ذلك علَى أبوابِ الخيرِ مِنَ النَّوافِلِ؛ فإنَّ أَفْضَلَ أولياءِ اللَّهِ هُمُ الْمُقَرَّبونَ، الذين يَتقرَّبونَ إليهِ بالنَّوافِلِ بعدَ أداءِ الفرائضِ.
وقولُهُ: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ)) هذا الكلامُ ثابتٌ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِن وُجُوهٍ كثيرةٍ، وخَرَّجَاهُ في (الصحيحينِ) مِن حديثِ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ بزيادةٍ، وهي:((الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ)).
وخَرَّجَ مِن حديثِ عُثمانَ بنِ أبي العاصِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ)).
ومِن حديثِ جابرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ)).
_ وخَرَّجَ أحمدُ والنَّسائيُّ مِن حديثِ أبي عُبيدةَ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا))، وقولُهُ: ((مَا لَمْ يَخْرِقْهَا))، يعني: بالكلامِ السَّيِّئِ ونحوِهِ، ولهذا في حديثِ أبي هُريرةَ الْمُخَرَّجِ في (الصحيحين)، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ، وَلا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ سَابَّهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)).
وقالَبعضُ السَّلَفِ: (الغِيبَةُ تَخْرِقُ الصِّيامَ، والاستغفارُ يَرْقَعُهُ، فمَن استطاعَ مِنكم أن لا يَأْتِيَ بصومٍ مُخَرَّقٍ فلْيَفْعَلْ).
وقالَ ابنُ الْمُنْكَدِرِ: (الصائمُ إذا اغتابَ خُرِقَ، وإذا استَغْفَرَ رُقِعَ).
وخَرَّجَالطبرانيُّ بإسنادٍ فيهِ نَظَرٌ، عن أبي هُريرةَ مَرفوعًا:((الصِّيامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا))، قيل: (بِمَ يَخْرِقُهُ؟) ، قالَ: ((بِكَذِبٍ أَوْ غِيبَةٍ)).
فالْجُنَّةُ هي:ما يَسْتَجِنُّ بها العبدُ، كالْمِجَنِّ الذي يَقيهِ عندَ القِتالِ مِن الضَّربِ، فكذلك الصيامُ يَقِي صاحبَهُ مِنَ الْمَعاصي في الدُّنيا، كما قالَ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فإذا كان له جُنَّةً مِن الْمَعاصِي، كان له في الآخِرَةِ جُنَّةً مِن النارِ، وإن لم يكنْ له جُنَّةً في الدنيا مِن المعاصي، لم يكنْ له جُنَّةً في الآخِرَةِ مِن النارِ.
وخَرَّجَ ابنُ مَردُويَهْ مِن حديثِ عليٍّ مَرفوعًا، قالَ: ((بَعَثَ اللَّهُ يَحْيَى بنَ زَكَرِيَّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ))، فذَكَرَ الحديثَ بطُولِهِ، وفيهِ: ((وَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَصُومُوا، وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَشَى إِلَى عَدُوِّهِ، وَقَدْ أَخَذَ لِلْقِتَالِ جُنَّةً، فَلا يَخَافُ مِنْ حَيْثُ مَا أُتِيَ)).
وخَرَّجَهُ مِن وَجْهٍ آخَرَ عن عليٍّ مَوقوفًا، وفيهِ قالَ: ((وَالصِّيَامُ مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْتَصَرَهُ النَّاسُ، فَاسْتَحَدَّ فِي السِّلاحِ، حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ لَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سِلاحُ الْعَدُوِّ، فَكَذَلِكَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ)).
(4) وقولُهُ: ((وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ)) هذا الكلامُ رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِن وُجوهٍ أُخَرَ، فخَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ مِن حديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ)).
_ وخَرَّجَهُ الطبرانيُّ وغيرُهُ مِن حديثِ أنَسٍ مَرفوعًا بمعناهُ.
_ وَخَرَّجَهُ التِّرمذيُّ وابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ) مِن حديثِ أنَسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوءِ)).
_ ورُوِيَ عن عليِّ بنِ الْحُسينِ أنَّهُ كان يَحْمِلُ الْخُبزَ علَى ظهرِهِ باللَّيل يَتَّبِعُ به المساكينَ في ظُلمةِ الليلِ، ويقولُ: إنَّ الصَّدقةَ في سَوادِ اللَّيلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، وقد قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271]، فدَلَّ علَى أنَّ الصدقةَ يُكَفَّرُ بها مِن السَّيِّئَاتِ: إمَّا مُطْلَقًا، أو صَدقَةُ السِّرِّ.
وقولُهُ: ((وَصَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ)) يعني: أنها تُطْفِئُ الْخَطيئةَ أيضًا كالصَّدقةِ، ويَدُلُّ علَى ذلك ما خَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ مِن روايَةِ عُروةَ بنِ النَّزَّالِ، عن مُعاذٍ قالَ: (أَقْبَلْنَا مع النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِن غَزوةِ تَبوكَ) فذَكَرَ الحديثَ، وفيهِ: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ وَقِيامُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ)).
_ وفي (صحيحِ مسلمٍ)، عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ قِيامُ اللَّيْلِ)).
وقد رُوِيَ عن جماعةٍ مِن الصحابةِ: (أنَّ الناسَ يَحْتَرِقُونَ بالنهارِ بالذنوبِ، وكلَّما قامُوا إلَى صلاةٍ مِن الصَّلواتِ المكتوباتِ أَطْفَؤُوا ذنوبَهم)، ورُوِيَ ذلك مَرفوعًا مِن وُجوهٍ فيها نَظَرٌ.
فكذلك قِيامُ الليلِ يُكَفِّرُ الْخَطايَا؛ لأنه أَفضلُ نَوافلِ الصلاةِ، وفي (التِّرمذيِّ) مِن حديثِ بلالٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ للدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ)).
وَخَرَّجَهُ أيضًا مِن حديثِ أبي أُمامةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بنحوِهِ، وقالَ: هُوَ أَصَحُّ مِن حديثِ بلالٍ.
وَخَرَّجَهُ ابنُ خُزيمةَ والحاكِمُ في (صحيحَيْهما) مِن حديثِ أبي أُمامةَ أيضًا.
_ وقالَ ابنُ مَسعودٍ: (فضلُ صلاةِ الليلِ علَى صلاةِ النهارِ كفَضْلِ صَدَقَةِ السِّرِّ علَى صَدَقَةِ العلانيَةِ).
وَخَرَّجَهُ أبو نُعَيْمٍ عنه مَرفوعًا، والموقوفُ أَصَحُّ.
وقد تَقَدَّمَ أنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ الخطيئةَ، وتُطفئُ غَضَبَ الرَّبِّ، فكذلك صلاةُ الليلِ.
وقولُهُ: ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16،17] يَعني: أنَّ النبيَّ تلا هاتين الآيتين عندَ ذِكْرِهِ فَضْلَ صلاةِ الليلِ، ليُبَيِّنَ بذلك فَضْلَ صلاةِ الليلِ.
_ وقد رُوِيَ عن أَنَسٍ أنَّ هذه الآيَةَ نَزَلَتْ في انتظارِ صلاةِ العِشاءِ، خَرَّجَهُ التِّرمذيُّ وصَحَّحَهُ.
ورُوِيَ عنه أنه قالَ في هذه الآيَةِ: (كانوا يَتَنَفَّلُونَ بينَ المغرِبِ والعشاءِ)، خَرَّجَهُ أبو داودَ. ورُوِيَ نحوُهُ عن بلالٍ، خَرَّجَهُ البَزَّارُ بإسنادٍ ضعيفٍ.
وكلُّ هذا يَدْخُلُ في عُمومِ لفظِ الآيَةِ؛ فإنَّ اللَّهَ مَدَحَ الَّذين تَتَجَافَى جُنوبُهم عن المضاجِعِ لدُعائِهِ، فيَشملُ ذلك كلَّ مَنْ تَرَكَ النَّومَ باللَّيلِ لذِكْرِ اللَّهِ ودُعائِهِ، فيَدْخُلُ فيهِ مَنْ صَلَّى بينَ العِشائيَنِ، ومَن انتظرَ صلاةَ العِشاءِ فلم يَنَمْ حتَّى يُصَلِّيَها، لا سِيَّمَا مع حاجتِهِ إلَى النومِ، ومُجاهدَةِ نفسِهِ علَى تَرْكِهِ لأداءِ الفريضةِ، وقد قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِمَنِ انتظرَ صلاةَ العِشاءَ: ((إِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ)).
ويَدخلُ فيهِ مَنْ نامَ ثمَّ قامَ مِنْ نومِهِ باللَّيلِ للتَّهَجُّدِ، وهو أَفضلُ أنواعِ التطوُّعِ بالصَّلاةِ مُطْلَقًا.
وربما دَخَلَ فيهِ مَن تَرَكَ النَّومَ عندَ طُلوعِ الفجرِ، وقامَ إلَى أداءِ صلاةِ الصُّبحِ، لا سِيَّمَا مع غَلَبَةِ النَّومِ عليهِ، ولهذا يُشْرَعُ للمؤذِّنِ في أذانِ الفجرِ أن يقولَ في أذانِهِ: الصَّلاةُ خَيرٌ مِن النومِ.
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَصَلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ))ذَكَرَ أفضلَ أوقاتِ التَّهَجُّدِ بالليلِ، وهو جَوْفُ الليلِ، وخَرَّجَ التِّرمذيُّ والنَّسائيُّ مِن حديثِ أبي أُمامةَ، قالَ: قيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ ؟
قالَ: ((جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ)).
_ وَخَرَّجَهُ ابنُ أبي الدنيا، ولَفْظُهُ: جاءَ رجلٌ إلَى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، قالَ: أَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ ؟
قالَ: ((جَوْفُ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ)).
قالَ: أيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ ؟
قالَ: ((دُبُرُ الْمَكْتُوبَاتِ)).
_ وخَرَّجَ النَّسائيُّ مِن حديثِ أبي ذَرٍّ قالَ: سألتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَيُّ اللَّيْلِ خَيْرٌ ؟
قالَ: ((خَيْرُ اللَّيْلِ جَوْفُهُ)).
_ وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِن حديثِ أبي مُسْلِمٍ قالَ: قلتُ لأبي ذرٍّ: أَيُّ قِيامِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ ؟ قالَ: سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتَنِي فقالَ: ((جَوْفُ اللَّيْلِ الغَابِرِ، أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ، وَقَلِيلٌ فاعِلُهُ)).
_ وخَرَّجَ البَزَّارُ والطبرانيُّ مِن حديثِ ابنِ عمرَ، قالَ: سُئلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ اللَّيْلِ أَجْوَبُ دَعْوَةً ؟
قالَ: ((جَوْفُ اللَّيْلِ))، زادَ الْبَزَّارُ في رِوايتِهِ: ((الآخِرِ)).
_ وخَرَّجَ التِّرمذيُّ مِن حديثِ عمرِو بنِ عَبْسَةَ، سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ))، وصحَّحَهُ، وَخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ، ولَفْظُهُ قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ السَّاعاتِ أَفضلُ ؟
قالَ: ((جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرِ)) وفي روايَةٍ له أيضًا: قالَ: ((جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرِ أَجْوَبُهُ دَعْوَةً)). وفي روايَةٍ له: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ ساعةٍ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أُخْرَى ؟
قالَ: ((جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرِ)).
_ وَخَرَّجَهُ ابنُ ماجهْ، وعندَهُ: ((جَوْفُ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ)).
_ وفي روايَةٍ للإمامِ أحمدَ، عن عمرِو بنِ عَبْسَةَ، قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، هل مِن ساعةٍ أَفضلُ مِن ساعةٍ ؟
قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ لَيَتَدَلَّى فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَيَغْفِرُ إِلا مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ)).
وقد قيلَ: إنَّ جوفَ الليلِ إذا أُطْلِقَ فالمرادُ به وَسَطُهُ، وإن قيلَ: جوفُ الليلِ الآخِرِ، فالمرادُ وَسَطُ النِّصفِ الثاني، وهو السدسُ الخامسُ مِن أسداسِ الليلِ، وهو الوقتُ الذي وَرَدَ فيهِ النُّزولُ الإلهيُّ.
(5) وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَلا أُخْبِرُكُ بِرَأْسِ الأَمرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ؟))
قلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ.
قالَ: ((رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)).
_ وفي روايَةٍ للإمامِ أحمدَ مِن روايَةِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن ابنِ غَنْمٍ، عن مُعاذٍ قالَ: قالَ لي نبيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ بِرَأْسِ هَذَا الأَمْرِ وَقِوامِ هَذَا الأَمْرِ وَذِرْوَةِ السَّنَامِ)).
قلتُ: بلَى.
فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ رَأْسَ هَذَا الأَمْرِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، وَإِنَّ قِوَامَ هَذَا الأَمْرِ إِقامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَإِنَّ ذِرْوَةَ السَّنَامِ مِنْهُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَيَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَصَمُوا وَعَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوالَهُم إِلا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ)).
_ وقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا شَحَبَ وَجْهٌ، وَلا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى فِيهِ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ بَعْدَ الصَّلاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا ثَقَّلَ مِيزَانَ عَبْدٍ كَدَابَّةٍ تُنْفَقُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
فأَخْبَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثلاثةِ أشياءَ: رأسِ الأمرِ، وعَمودِهِ، وذِروةِ سَنَامِهِ.
فأمَّا رأسُ الأمرِ،ويَعني بالأمرِ: الدِّينَ الذي بُعِثَ به، وهو الإِسلامُ، وقد جاءَ تفسيرُهُ في الروايَةِ الأُخرَى بالشهادتينِ، فمَن لم يُقِرَّ بهما ظاهرًا وباطِنًا، فليسَ مِن الإِسلامِ في شيءٍ.
وأمَّا قِوامُ الدِّينِ - الذي يَقومُ به الدِّينُ كما يَقومُ الفُسطاطُ علَى عَمودِهِ - فهو الصلاةُ، وفي الروايَةِ الأُخرَى: ((وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ)) وقد سَبَقَ القولُ في أركانِ الإِسلامِ وارتباطِ بعضِها ببعضٍ.
وأمَّا ذِروةُ سَنامِهِ - وهو أعلَى ما فيهِ وأَرْفَعُهُ - فهو الْجَهادُ، وهذا يَدُلُّ علَى أنَّهُ أَفضلُ الأعمالِ بعدَ الفرائضِ، كما هو قولُ الإِمامِ أحمدَ وغيرِهِ مِن العُلماءِ.
_ وقولُهُ في روايَةِ الإِمامِ أحمدَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا شَحَبَ وَجْهٌ، وَلا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى بِهِ دَرَجَاتُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الصَّلاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))يَدُلُّ علَى ذلك صريحًا.
_ وفي (الصحيحين)، عن أبي ذَرٍّ، قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ العملِ أفضلُ ؟
قالَ: ((إِيمانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ)).
_ وفيهما عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ، ثُمَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
والأحاديثُ في هذا المعنَى كثيرةٌ جِدًّا.
(6) وقولُهُ: ((أَلا أُخْبِرُكَ بِمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟)).
قلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ.
فَأَخَذَ بِلِسانِهِ فقالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا))إلَى آخِرِ الحديثِ.
هذا يَدُلُّ علَى أنَّ كَفَّ اللسانِ وضَبْطَهُ وحَبْسَهُ هو أصلُ الخيرِ كُلِّهِ، وأنَّ مَن مَلَكَ لِسانَهُ، فقد مَلَكَ أَمْرَهُ وأَحْكَمَهُ وضَبَطَهُ، وقد سَبَقَ الكلامُ علَى هذا المعنَى في شَرْحِ حديثِ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
وفي شَرْحِ حديثِ: ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)).
_ وخَرَّجَ البَزَّارُ في (مُسْنَدِهِ) مِن حديثِ أبي الْيُسْرِ، أنَّ رجلاً قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، دُلَّنِي علَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةِ.
قالَ: ((أَمْسِكْ هَذَا))، وأشارَ إلَى لسانِهِ.
فأَعادَها عليهِ.
(7) فقالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِم فِي النَّارِ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))وقالَ: إسنادُهُ حَسَنٌ.
والمرادُ بحصائدِ الألسنةِ: جزاءُ الكلامِ المحرَّمِ وعُقوباتُهُ؛ فإنَّ الإِنسانَ يَزْرَعُ بقولِهِ وعملِهِ الحسناتِ والسَّيِّئاتِ، ثم يَحْصُدُ يومَ القِيامةِ ما زَرَعَ، فمَن زَرَعَ خيرًا مِن قولٍ أو عملٍ، حَصَدَ الكرامةَ، ومَن زَرَعَ شرًّا مِنْ قولٍ أو عملٍ، حَصَدَ غدًا النَّدامةَ.
وظاهرُ حديثِ مُعاذٍ يَدُلُّ علَى أنَّ أكثرَ ما يَدْخُلُ به النَّاسُ النارَ النُّطقُ بأَلْسِنَتِهِم؛ فإنَّ مَعصيَةَ النُّطقِ يَدْخُلُ فيها الشِّركُ وهو أَعْظَمُ الذنوبِ عندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ويَدخلُ فيها القولُ علَى اللَّهِ بغيرِ عِلْمٍ، وهو قرينُ الشِّركِ، ويَدْخُلُ فيهِ شهادةُ الزُّورِ التي عَدَلَت الإشراكَ باللَّهِ عزَّ وجلَّ، ويَدخلُ فيها السِّحْرُ والقَذْفُ وغيرُ ذلك مِنَ الكبائرِ والصَّغائرِ؛ كالكَذِبِ والغِيبَةِ والنَّميمةِ، وسائرُ المعاصي الفعليَّةِ لا يَخْلُو غالبًا مِن قولٍ يَقترِنُ بها يكونُ مُعِينًا عليها.
_ وفي حديثِ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الأَجْوَفانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ)) خَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ.
_ وفي(الصحيحين) عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ))، وَخَرَّجَهُ التِّرمذيُّ، ولفظُهُ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا، يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ)).
_ ورَوَى مالكٌ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيهِ، أنَّ عمرَ دَخَلَ علَى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وهو يَجْبِذُ لسانَهُ.
فقالَ عمرُ: (مَهْ، غَفَرَ اللَّهُ لك !)
فقالَأبو بكرٍ: (هذا أَوْرَدَنِي الْمَواردَ).
_ وقالَ ابنُ بُريدةَ: رأيتُ ابنَ عبَّاسٍ آخِذًا بلسانِهِ وهو يقولُ: (وَيْحَكَ، قُلْ خيرًا تَغْنَمْ، أو اسْكُتْ عن سُوءٍ تَسْلَمْ، وإلا فاعْلَمْ أنَّك سَتَنْدَم)ُ.
قالَ: فقيلَ له: يا أبا عبَّاسٍ، لِمَ تَقولُ هذا ؟
قالَ: (إنَّهُ بَلَغَنِي أنَّ الإنسانَ - أُراهُ قالَ - ليس علَى شيءٍ مِن جَسَدِهِ أشدَّ حُنْقًا أو غَيْظًا يَوْمَ القِيامةِ منه علَى لِسانِهِ إلا ما قالَ به خَيْرًا، أو أَمْلَى به خيرًا).
_ وكان ابنُ مسعودٍ يَحْلِفُ باللَّهِ الَّذي لا إلهَ إلا هوَ: (ما علَى الأرضِ شيءٌ أَحْوَجُ إلَى طُولِ سِجْنٍ مِن لسانٍ).
_ وقالَ الحسن: (اللسانُ أميرُ الْبَدَنِ، فإذا جَنَى علَى الأعضاءِ شيئًا جَنَتْ، وإذا عَفَّ عَفَّتْ).