(1) يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا، وَيُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلًا.
(2) وَكُلُّهُم يَتَقَلَّبُونَ في مَشِيئَتِهِ بينَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ.
(1) اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَهْدِي مَن يشاءُ، ويُضِلُّ مَن يشاءُ، وهذا بقضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، ولكنَّهُ يَهْدِي مَن يعلمُ أنَّهُ يَصْلُحُ للهدايةِ، ويَهْدِي مَن يَحْرِصُ على طَلَبِ الهدايةِ وَيُقْبِلُ عليها، فَإِنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُهُ لليُسْرَى، وَيُضِلُّ مَن يشاءُ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِ عن طَلَبِ الهدايةِ والخيرِ، فَيُضِلُّهُ اللَّهُ عُقَوبَةً لَهُ على إعراضِهِ وعدمِ رغبتِهِ في الخيرِ، يُوَضِّحُ ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (الليل: 5-7) فَصَارَ السَّبَبُ من العبدِ، والقَدَرُ من جهةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل: 8-10)، فَصَارَ السببُ من العبدِ والقَدَرُ من اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عُقُوبَةً لهُ.
فَقَدَّرَ اللَّهُ الهدايةَ فَضْلًا من اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَكَرُّمًا على الشخصِ الذي يُرِيدُ الخيرَ ويريدُ الهدايةَ، فَيُيَسِّرُهُ اللَّهُ للخيرِ وَلِفِعْلِهِ، وهذا لِمَصْلَحَتِهِ، لا مَصْلَحَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وأمَّا إِضْلَالُ الضالِّينَ فَعَدْلٌ منهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، جَزَاءً لَهُمْ على إعراضِهِم وَعَدَمِ إقبالِهم على الخيرِ وعلى طاعةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لم يَظْلِمْهُم شيئًا، ولهذا نَجِدُ في الآياتِ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البَقَرَة: 258) {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (البَقَرَة: 264)، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (المَائِدَة: 108) فَجَعَلَ الظُّلْمَ، والكفرَ، والفسقَ أسبابًا لِعَدَمِ الهدايةِ، وهذهِ من أفعالِ العِبَادِ جَازَاهُم عليها، عَدْلًا منهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, لا ظُلْمًا {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النَّحْل: 33)، فَلَا يَلِيقُ بهِ سُبْحَانَهُ أنْ يُكْرِمَ مَنْ هذا وَصْفُهُ, وَأَيْضًا لا يَلِيقُ به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُضِيعَ عَمَلَ العَامِلِينَ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجَاثِيَة: 21) {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الجَاثِيَة: 22)، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القَلَم: 35، 36) هذا جَورٌ يُنَزَّهُ اللَّهُ عنه، ويقولُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28).
فاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يُضِيعُ أَجْرَ مَن عَمِلَ صالحًا، ولا يُجَازِي أَحَدًا بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَبِغَيْرِ كَسْبِهِ {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الصَّافَّات: 39) فالعملُ كُلُّهُ للعبدِ من الخيرِ والشرِّ، والمجازاةُ مِن اللَّهِ فَضْلًا وَعَدْلًا.
(2) وكُلُّ العِبَادِ لا يَخْرُجُونَ عن التَّقَلُّبِ في مَشِيئَةِ اللَّهِ بينَ فَضْلِهِ على أهلِ الطاعةِ وأهلِ الخيرِ، وَعَدْلِهِ مع أهلِ الكفرِ والشركِ، وهذا هو اللائقُ بِحِكْمَتِهِ وَعَظَمَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَجْمَعُ بينَ المُتَضَادَّاتِ والمختلفاتِ، بل يُنَزِّلُ الأشياءَ في مَنَازِلِهَا، ولهذا من أسمائِهِ: الحكيمُ، وَمِن صفاتِهِ: الحكمةُ، الحكيمُ الذي يَضَعُ الأشياءَ في مواضِعِهَا، فَيَضَعُ الفضلَ في أهلِ الطاعةِ، وَيَضَعُ العذابَ في أهلِ الكفرِ والمَعَاصِي، هذا فَضْلُهُ سُبْحَانَهُ وَعَدْلُهُ.