أبدأ هذه المحسنات بالسرد،فقال: أولها التورية. والتورية مشتقة من وري الزند, إذا كثرت ناره، أو وري المخ، إذا كثر, فهي مشتقة من الكثرة، ومنه اشتقاق الورىللبشر لكثرتهم، فالورى معناه: الكثيرون.
وهي في الاصطلاح:أن يذكر لفظٌ، لفظه واحد ومعانيه متعددة كثيرة, فيُقصد به المعنى الخفي, لا المعنى المعروف, المعنى الذي لا يتبادر إلى الذهن؛ لذلك قال: أن يذكر لفظ له معنيان.
واللغة العربية يستعمل فيها اللفظ الواحد لمعان متعددة, ويسمى ذلك بمشترك اللفظ, ويستعمل فيها اللفظان فأكثر للمعنى الواحد فيسمى ذاك بالمترادفات؛ فإذن في اللغة اشتراك وترادف, فالاشتراك أن يستعمل اللفظ الواحد لعدة معان, كالعين يطلق على العين الباصرة، وعلى الجاسوس، وعلى عين الشمس، وعلى عين الماء، وعلى عين النقد أي: الذهب والفضة, كل ذلك يسمى عيناً،فهو من المشترك اللفظي كقول الحريري
إن جاد بالعين حين أعمى هواه ..... وعينه فانثنى بلا عينين
(إن جاد بالعين) أي: بالذهب والفضة, ((حين أعمى هواه)) عينه الباصرة (فانثنى بلا عينين)انثنى أي: رجع بلا عينين .
وهذا النوع المشترك اللفظي سبب من أسباب الخفاء, كما هو معلوم في أصول الفقه, وأما الترادف فهو عكسه باستعمال الألفاظ المتعددةللمعنى الواحد، كهذا العضو يسمى رقبة، ويسمى عنقا، ويسمى جيداً، وغير ذلك مما يطلق عليه، فالرقبة والعنق والجيد كلها بهذا المعنى.
قال: أن ينكر لفظ له معنيان:
قريب يتبادر فهمه من الكلام, أي: يتبادر إلى الذهن.
وضعيف هو المراد بالإفادة لقرينة خفية تدل على ذلك, فيقصد المعنى الأبعد لا المعنى الأقرب، وذلك مثل قول الله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار}.
فالجرح في اللغة يطلق على الشق، قال: جرح فلان فلاناً، إذا اشق إهابه، شق جلده, ولكنه يطلق أيضاً على اقتراف الأمر وارتكابه, فيقولون كلام جارح, أي: مؤثر في النفس, ومن ذلك قول الشاعر:
جراحات السنان لها التئام ..... ولا يلتام ما جرح اللسان.
فقوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار}. جرحتم هنا لا يقصد به المعنى القريب، الذي هو شق الجلد، بل يقصد بها ما اقترفتم، وارتكبتم من الأمور في النهار، فيقصد بها المعنى البعيد، أراد بقوله: ‘‘جرحتم‘‘ معناه البعيد, وهو ارتكاب الذنوب, وكذلك قول الشاعر:
يا سيداً حاز لطفا له البرايا عبيد ..... أنت الحسين ولكن جفاك فينا يزيد
فيزيد يتبادر إلى الذهن أنه علم، وبالأخص عند ذكر الحسين يتذكر الإنسان يزيد بن معاوية، لكن لا يقصد ذلك هنا، بل يقصد هنا يزيد فعل مضارع، من زاد يزيد، معنى يزيد القريب أنه علم اسم رجل، ومعناه البعيد المقصود هنا أنه فعل مضارع، من زاد يزيد.
ومن التوريات التورية بمصطلحات العلوم، أن يوري الإنسان بمصطلح معروف في علم من العلوم، وهذا مما يُكثر منه المتأخرون، كقول جدي رحمة الله:
ترى القوم فيها بين عال ونازل ..... ومضطرب مثنى ثلاث وواحداً.
وهو هنا لا يصف الإبل وأهلها, فقال: "ترى القوم فيها بين عال ونازل" وهذا من مصطلح الحديث، العالي والنازل، "ومضطرب" المضطرب:هو مصطلح الحديث, (مثنى ثلاث وواحداً)كذلك:
إذا روَّحوها حدثوا عن غريبها ..... تذاكرَ طلاب العلوم الشواردَ
فهذا روى عمن رآها تواتر ..... وهذا روى عمن رآها مفارداً
هذا من مصطلح الحديث،ومصطلح الأصول أيضاً،التواتر والمفارد ؛ فهو تورية، كونه استعمله في معناه الأصلي اللغوي لا في معناه الاصطلاحي المعروف ومن ذلك قولك لمن بلغه مساعدتك لعدوه،تقول له: والله ما عضدته، فعضد في اللغة تستعمل بمعنى المساعدة، يقال: عضده, أي: قوي عضده، لكن لها معنىً آخر، وهو ضربه على العضد، وكذلك قولك: إذا أردت أن تكتم عن إنسان أنك رأيت آخر, فسألك هل رأيت فلاناً؟ فتقول: ما رأيته, فرأيته معناها المتبادر: أنك ما رأيته بالبصر, لكنك أنت تقصد أنك ما ضربته على الرئة, فرأه وكلاه معناها: أصاب رئته وكليته, ومن ذلك قول الشاعر:
فكلي بعضها وبعضاً رآه ..... وانبرى في اختفاء المصباح
(فكلىبعضها) أصابها الكلى, (وبعضاً) رآه أصابه في الرئة, فتقول: ما رأيته, وتقصد بذلك أنك ما ضربته في الرئة, وقد أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في المعاريض مندوحة عن الكذب)). (في المعاريض)وهي هذا النوع من الكلام, التورية، (مندوحة عن الكذب)، أي: طريق يفر فيه الإنسان من الكذب, فلا يكذب, لكنه يذهب إلى معنى آخر لا يتبادر إلى الذهن, وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في غزوة بدر حين مرَّة على قوم فسألهم من أنتم؟ فقالوا: مدلج فقالوا: من أنت؟ فقال: نحن من ماء. فجعل الرجل يقول: أمن ماء العراق أم من ماء نجد؟! نحن من ماء، وظن أنها اسم قبيلة، وهذا فعلاً اسم لقبيلة معروفة، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن الله تعالى خلق كل حي من الماء: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} فجعل الرجل يقول: أمن ماء العراق أم من ماء نجد؟!
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما استعمل هذه التورية في بعض الأحوال, كقوله لعمته صفية -رَضِي اللهُ عَنْهُا- حين سألته أن يعطيها جملاً, قال: ((لأحملنك على ابن الناقة)). فظنت أنه سيعطيها فصيلاً حماراً صغيراً, فقالت: لا يحملني ابن الناقة, فالجمل ما هو إلا ابن الناقة, ويروى كذلك أنه دخلت عليه عجوز, فسألته أن يسأل الله لها الجنة, فقال:((إن الجنة لا تدخلها عجوز)). وهذا تورية, المقصود به أن أهل الجنة جميعاً يبعثون على سن الثالثة والثلاثين, فليس فيهم عجائز, ويظهر هذا قوله للأعراب, كانوا إذا أتوه يسألونه متى الساعة؟ فينظر إلى أصغرهم, فيقول: ((لايموت هذا حتى تقوم الساعة)) فالمقصود بذلك ساعته هو الخاصة به, أي: قيامته الصغرى, فإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته.