قال بعد ذلك: "وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها , يفعل ما يشاء، وهو غير ظالم أبداً، تقدس عن كل سوء وحين، وتنزه عن كل عيب وشين , لا يسأل عما يفعل وهم يسألون".
يريد رحمه الله بهذا أن يقرر معتقد أهل السنة والجماعة، أنه ما من شيء يحدث إلا وهو بمشيئة الله وعلمه وقضائه جل وعلا وقدره، وأن الأمور لا تستأنف، لا يعلمها الله جل وعلا إلا بعد وقوعها، كلا وحاشا , وإنما تقع على وفق تقدير الله جل وعلا لها في الأزل، يعني علمه جل وعلا بها , وكتابته جل وعلا لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة , وأنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وفي هذه الجملة فيها ذكر مراتب الإيمان بالقدر المعروفة:
المرتبة الأولى: ذكرها في قوله: العلم.
والمرتبة الثانية: ذكرها في قوله: القدر. وهو الكتابة.
والمرتبة الثالثة: ذكرها في قوله: بمشيئة الله تعالى، غلبت مشيئته المشيئات كلها.
والمرتبة الأخيرة ذكرها في قوله فيما سبق: وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد. فهو لم ينص على مراتب القدر المعروفة وهي مفرقة في هذا الكلام.
وههنا مسائل:
المسألة الأولى:
تفصيل الكلام على مراتب القدر، هنا لم ينص عليه , والشارح أيضاً لم يتعرض له في هذا الموطن، وتفصيله أن القدر، الإيمان بالقدر يشمل الإيمان بمرتبتين:
المرتبة الأولى سابقة لوقوع الواقعة، أو لوقوع المقدر , وهذا الإيمان السابق يشمل الإيمان بعلم الله جل وعلا بالأشياء قبل وقوعها علماً كلياً، وعلماً جزئياً يعني علما منه جل وعلا بالكليات وبالجزئيات , وعلمه I بهذه الأشياء أول، كصفاته جل وعلا , ويشمل أيضاً الدرجة الثانية وهو الإيمان بكتابة الله جل وعلا للأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في الحديث الذي في الصحيح: ((قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء))، ((قدر الله مقادير الخلائق)) يعني: كتبها في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
أما مرتبة العلم فهي سابقة، فعلمه جل وعلا بالأشياء أول لا حدود له.
المرتبة الثانية: إيمان بالقدر إذا وقع المقدر، وهذا يشمل درجتين أيضاً:
الأولى: أن يعلم العبد، أن مشيئته في إحداث الأشياء هي تبع لمشيئة الله جل وعلا , وأن مشيئة الله نافذة , ما شاء كان , وما لم يشأ لم يكن، كما قال جل وعلا: ] وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ , وقال جل وعلا: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} , وقال جل وعلا: ] وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [ ووقوع المقدر أيضاً.
ثم فيه درجة ثانية؛ وهو أنه لا يقع شيء مما يقع إلا والله جل وعلا هو الذي قضاه، وهو الذي خلق هذا الفعل , فالله جل وعلا هو الخالق لكل شيء، وفي ضمن ذلك حركات العبد وأفعال العباد، كما قال سبحانه: ] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [ على نحو ما فصلنا في دلالة الآية.
والقضاء والقدر لفظان أتيا في الكتاب والسنة، والعلماء تكلموا في معنى القضاء والقدر والصلة بين هذا وهذا، والتحقيق في ذلك أن القدر هو ما يسبق وقوع المقدر، فإذا وقع المقدر صار قضاءً، قُضِيَ يعني انتهى، ومادة قضى في اللغة تدور حول هذا، فيقال: قضى القاضي بكذا، إذا أنفذ حكمه وانتهى , وقال جل وعلا: ] فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [ يعني: أنهاهن بخلقهن سبع سماوات , وقال جل وعلا: ] فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ [ يعني: أحكم بما تحكم به حتى يكون قضاء، وقال: ] فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ [.
فالقضاء يطلق بمعنى إنفاذ المقدر , فإذا وقع المقدر سمي قضاءً، وهذا نعني به القضاء الكوني؛ لأن القضاء في النصوص يكون قضاءً كونيًا، ويكون قضاءً شرعيًا , أما القضاء الكوني فهو على نحو ما مر، وأما القضاء الشرعي فمعناه أَمرَ الله ووصى كقوله: ] وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [، يعني أمر ربك ووصى ألا تعبدوا إلا إياه. ويأتي القضاء في معنى ثالث، إذا عدي بحرف إلى، بمعنى أوحينا وأعلمنا، تقول: قضيت إليه أن يفعل كذا , يعني: أخبرته، أعلمته , ولا يعني معنى الإنفاذ كما قال جل وعلا: ] وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [، وكما في قوله جل وعلا في آخر سورة الحجر: ] وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ [ , ] قَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ [ يعني أوحينا إليه ذلك الأمر، فهذا باب آخر غير الباب الذي نتكلم عنه.
المسألة الثانية:
ذكر هنا الظلم، فقال: "يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدًا" , ولفظ الظلم من الألفاظ التي أدخلها هنا؛ لأن الفرق الضالة تكلمت فيها، فالمعتزلة لهم كلام في الظلم , والجبرية لهم كلام في الظلم، وأهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وسط بين الفئتين , فالظلم عند المعتزلة في حق الله جل وعلا هو الظلم في حق الإنسان، فما يفعله الإنسان ويكون ظلمًا منه إذا نسب إلى الله جل وعلا فإنه ظلم، فقاسوا الظلم الذي يضاف إلى الله جل وعلا بالظلم الذي يقع من الإنسان، فعندهم الظلم واحد سواء أكان في المخلوق، أم في الخالق , ضابطه واحد وتعريفه واحد، وما ينزه الله جل وعلا عنه من الظلم هو ما لا يليق بالإنسان أن يفعله.
وأما المتكلمون والأشاعرة ونحو هؤلاء، فإن الظلم عندهم هو الامتناع عن القدرة، وعندهم قدرة الرب جل الله متعلقة بما لا يشاؤه سبحانه في تعلقها الأزلي , وفي تعلقها الصلوحي على حد كلماتهم، لا ينشغل ذهنك بها، فعندهم القدرة متعلقة بما يشاؤه سبحانه، فما لا يشاؤه غير مقدور، فمعنى ذلك الممتنع عن القدرة في تفسير الظلم هو الممتنع في حق الله جل وعلا عما لم يشأه جل وعلا , فعند المتكلمين.. أو الأحسن طائفة من المتكلمين؛ لأنها ليست موضع اتفاق عند المتكلمين، والأشاعرة ثم خلاف بينهم وإن كان قليلاً، عندهم الظلم هو الامتناع أو ما يمتنع أو ما هو ممتنع من القدرة، فما هو ممنوع ممتنع في قدرة الرب جل وعلا هو الذي لو فعله لكان ظلماً.
لكن هذا كما ترى تحصيل حاصل؛ فإنه جل وعلا إذا كان لم يفعل فيكون عدم ظلمه في أنه جل وعلا لا يفعل الأشياء؛ لأنه لا يظلم أحدًا، فلو فعل شيئًا لا يدخل في قدرته بحسب كلامهم يكون ظلمًا , وهذا تفسير لا حاصل تحته؛ لأن القدرة شيء والظلم شيء آخر , فالظلم إذن في تفسيرهم , في تفسير طائفة من المتكلمين والأشاعرة , ومن نحا نحوهم يرجع إلى الممتنع في صفة القدرة لله جل وعلا، فرجع إلى أن الممتنع في مشيئة الله جل وعلا لو فعله لكان ظلمًا؛ لأن عندهم الأفعال أيضًا غير معللة , وحكمة الله جل وعلا غير مرتبطة بالعلل والأسباب في بحث يطول ذكره هنا.
وأما تفسير أهل الجماعة والأئمة , والذي دلت عليه النصوص، فهو أن الظلم هو وضع الأشياء في غير موضعها اللائق بها , الموافق للحكمة منه جل وعلا , والظلم بالتالي يكون غير مرتبط بالقدرة , وغير مقيس على أفعال الإنسان، بل هو سبحانه متنزه عن الظلم وقد حرمه على نفسه. وخذ مثالاً على ذلك يوضح المقام، مما يتصل أيضًا بكلام المتكلمين والأشاعرة أن الظلم عندهم لا يكون، بل عند المعتزلة لا يكون إلا من مأمور ومنهي، يعني أن حقيقة الظلم تكون فقط ممن يؤمر وينهى ويريدون الآيات في ذلك.
يقولون: الآيات كلها دالة على أن الظلم إنما يكون في حق من أمر فلم يفعل، ونهي ففعل، وهم المكلفون ولذلك ينفون عن الله جل وعلا حقيقة الظلم؛ لأجل أنه غير مأمور وغير منهي، ويردون الأحاديث التي فيها تحريم الظلم على الله جل وعلا ونحو ذلك , نقول نضرب مثالاً على ذلك بحديثين:
أما الحديث الأول فقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في الصحيح حديث أبي ذر المعروف: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا))، وهذا يدل على أن الله حرم الظلم على نفسه، فلو كان الظلم على تفسير أولئك لا يقع إلا من مأمور ومنهي، فكيف يكون تحريمه على الله جل وعلا؟ يكون تحريمه تحصيل حاصل، أي: لا معنى له، ولو كان الظلم هو الامتناع عن القدرة لكان أيضًا إضافته إلى الله جل وعلا تحريم الظلم، ليس له معنى.
فإذًا تحريم الظلم، ((حرمت الظلم على نفسي)) يعني: جعلت وضع الأشياء في غير موضعها الموافق للحكمة، جعلته محرمًا على نفسي، وحرمت عليكم أن تظالموا.
والحديث الثاني: وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داوود وغيره وصححه بعض العلماء، قال عليه الصلاة والسلام: ((لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالمٍ لهم)) الحديث , يعني أن أهل السماوات والأرض لو عذبهم الله جل وعلا لعذبهم وهو غير ظالم لهم.
المعتزلة يردون هذه الأحاديث أصلاً، والأشاعرة يجوزون أن يعذب الله جل وعلا الناس من غير سبب؛ لأنهم لا حكمة عندهم ولا تعليلاً لأفعال الله يفعل ما يشاء بدون علة وبدون سبب، ومنها أخذ صاحب السفارينية في قوله في منظومته السَفَّاريني (إيش) يقول:
وجائزٌ أن يعذب الورى من غير ما ظلمٍ ولا ذنبٍ جرى
يعني البيت، المهم يقول: (جائز أن يعذب الورى) يعني: الله جل وعلا , (من غير ما ذنبٍ ولا جرمٍ جرى) , هذا الحديث أهل السنة لا يفسرونه بهذا ولا هذا، بل يفسرونه بعظم معرفتهم لربهم Y وخشيتهم له ومعرفتهم بحقوقه، فيقول أئمة أهل السنة بأن العبد، بل أهل السماوات وأهل الأرض إنما قاموا برحمة الله جل وعلا، فما فيهم حركة ولا حياة ولا شأن إلا وفي كلّ منها فضل من الله جل وعلا ورحمة ونعمة أفاضها عليهم , بها قامت حياتهم , وبها استقاموا كما قال جل وعلا: ] وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [.
فمن حقه جل وعلا , من حقه جل وعلا على هذا العبد المكلف الذي لا ترمش عينه إلا بنعمة ولا يأكل إلا بنعمة، ولا يتنفس إلا بنعمة، ولا يتعلم إلا بنعمة، ولا يخطو خطوة إلا بنعمة , ولا ينظر إلا بنعمة، ولا يسمع إلا بنعمة , ولا يتكلم إلا بنعمة، ولا يفرح إلا بنعمة... إلى آخر نعم الله جل وعلا التي لا تحصى ولا تعد، من حقه جل وعلا أن يقابل مع كل نعمة بشكر يقابل تلك النعمة.
فإذًا سيمضي حياته في شكر الله جل وعلا على الصغير والكبير، فهل تسع حياته ذلك؟! بل هل تسع حياة المكلفين ذلك؟! لا تسع ذلك , ولهذا تأمل مع هذا قول الله جل وعلا لنبيه: ] إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [ , وتأمل قول النبي r لعائشة لما قام حتى ورمت قدماه عليه الصلاة والسلام: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟)). ولن يبلغ جميع ما يستحق الله جل وعلا من الشكر بالعمل، بل لا بد من الاستغفار والإنابة؛ حتى يكمل شكر العبد لربه جل وعلا.
وتأمل أيضًا ما علمه النبي r الصديق الذي هو أفضل هذه الأمة , أن يقول في آخر صلاته: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك)) , كيف عبّر هنا بالظلم ((ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا))، لم؟ هل ظلم أبو بكر بارتكاب الكبائر؟ حاشا وكلا، هل ظلم بظلم العباد؟ حاشا وكلا، هل ظلم أبوب كر t بالتقصير في حق رسول الله r، وفي الاستجابة لله ولرسوله هذا الظلم الكثير؟ حاشا وكلا.
ولكن ينظر العبد إلى ما الفاض عليه من النعم في كل لحظة، فيشعر بأنه مقصر، والله جل وعلا وصف القليل من الإعراض في حق العبد بأنه من الظلم، ووصف الكثير بأنه من الظلم، فلهذا يشعر المؤمن بأنه ظلم نفسه ظلماً كثيراً؛ لأنه لا يمكن أن يشكر حقيقة الشكر، فلو جل علا حاسب العباد , حاسب أهل السماوات وأهل الأرض على حقيقة شكر ما أنعم الله به عليهم , وأعظم ذلك أن جعلهم متصلين منه بسبب ومرفوعين إليه جل وعلا , وأنهم من المنيبين وأنهم من المهتدين، لما قامت حيلة العبد، ولما قام إيمانه، ولما قام له شيء، ولكن ما ثم إلا رحمة الله جل وعلا، ((لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته منه وفضل)).
فإذًا ننظر إلى قوله: "لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم"؛ لأن الشكر لن يكون في تمامه، فإذًا هم لم يعدموا بل لن يكونوا إلا مقصرين، لن يكونوا إلا لم يوفوا مقام الشكر حقه، بل حتى التوبة والإنابة إذا العبد كمل الشكر بتوبته وإنابته دائمًا واستغفاره، فإن قبول التوبة وحصول المغفرة وقبول الإنابة من العبد أليست هذه نعمة تستحق شكرًا مجددًا؟
فإذًا لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، فلا يبرح العبد أن يرى نعمة الله جل وعلا تفيض عليه في أمر دينه وفي أمر دنياه , وليس ثم أمامه سبيل إلا أن يشعر بالتقصير، وهذا المؤمن الحق دائماً يقول محقرًا نفسه: عسى الله أن يتغمدنا برحمة منه وفضل , ولو كان يصوم النهار ويقوم الليل، وانظر إلى كلام أبي بكر t في دعائه فكيف حال المغرورين الجهلة والمذنبين من هذه الأمة الذين لا يرون أثرًا لذنوبهم ولا لإعراضهم؟! بل إذا فعوا القليل منوا وأدلوا على الله جل وعلا به , وهذه حال من لم يوفق.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعا إلى ما يحب ويرضى , هذا تفسير الظلم عند الطوائف المشهورة: القدرية وهم المعتزلة والجبرية، وهم أصناف , والمتكلمين , وقول أهل السنة فيما بين هؤلاء وهؤلاء , نختم بهذا , وهذه المسائل التي ذكرت مختصرة جدًا، وإلا فبحوث القدر كثيرة ولا نريد منكم أن تتوسعوا أكثر، إلا فيما شملته العقيدة الواسطية، وشملته العقيدة الطحاوية ففيها بركة؛ لأن كثرة الخوض في القدر مُلْبِسَة، إلا بعلم راسخٍ في الكتاب والسنة.
في الختام أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق للصالحات، وأن يرحمنا برحمته , وأن يوفقنا إلى طاعته، اللهم وفقنا إلى دعاءٍ تستجيبه لنا، وتقبل دعوة من دعا لنا بظهر الغيب، إنك جواد كريم، اللهم اشرح صدورنا لتمام الإيمان ولكمال الإسلام والإيمان؛ إنك على كل شيء قدير، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
وفي هذا القدر كفاية , ونؤجل الأسئلة إن شاء الله إلى أول الدرس القادم بإذنه تعالى وفقكم الله دائماً.
مـجـلـس آخــر
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أنعم بالصالحات، ويسر لسبل الخيرات، هو المحمود على كل حال، وهو المحمود على نعمه التي لا ينفك منها العبد في صباح ولا مساء، له الحمد كله كثيرًا كما ينعم كثيرًا، وله الشكر جل وعلا كثيرًا كما أنه يسدي ويتفضل كثيرًا، اللهم عاملنا بعفوك إنك سميع قريب , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله r وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا، أما بعد..,
فنذكر بعض الأسئلة مع الجواب عنها في فاتحة هذا الدرس , وأنبه على أن حسن السؤال سبب من أسباب حسن الجواب؛ فإن من المسائل التي ترد والأسئلة ما يكون قد كتب على عجل وبعبارة غير جيدة، فيتعامل معه المجيب على ظاهره، أو على مقصد السائل , وهذا يفوت الجواب المرجو، فلهذا كلما كان السؤال جيدًا ومتأنًى فيه، وسؤال عما يهم العبد وما يهم طالب العلم، أو يهم المسلم بعامة , وحرر السؤال وأجاد السؤال - كان ذلك من أنفع الأسباب في إحسان الجواب. قد مرت علينا أسئلة كثيرة وأسمع أيضاً من الأسئلة التي ترد على العلماء والمشايخ ما لا يكون محرراً، أو واضحًا , وهذا مما يفوت نشاط المجيب للجواب على السؤال بتفصيل أو بما ينفع النفع الأكبر.
سؤال: قال السائل: منّ الله عليّ بالهداية أسأل الله المزيد - آمين - كما منّ عليّ بحب العلم وأهله، وبدأت أطلب العلم منذ ثلاث سنوات تقريبًا , فحفظت قرابة خمسة وعشرين جزءًا من القرآن وبعضاً من المتون، ولكني سريع الحفظ سريع النسيان، فأرجو منكم إرشادي على طريق يساعدني على رسوخ الحفظ وتثبيت العلم، وما هي أفضل طريقة لطلب العلم؟ وهل العبرة بكثرة حضور الدروس العلمية أم بقلتها مع التفرغ للحفظ والقراءة... إلى آخره؟
جواب: أولاً: أحمد الله جل وعلا على ما منّ به من هدايتنا جميعًا إلى صراطه المستقيم وسبيله القويم، فهذه نعمة عظيمة جلّ، تحتاج إلى حمد وسؤال للثبات دائمًا.
قد كان نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو أعظم الخلق معرفة بربه وأتقاهم له Y، كان كثيراً ما يدعو: ((اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا على طاعتك.. إلى طاعتك)) ونحو ذلك من الأدعية , وأعظم النعم بعد الهداية أن يمن على العبد بأن يتهم نفسه دائماً بالتقصير، وأنه محتاج أكمل حاجة إلى ربه جل وعلا وإلى هدايته، فهذا من أعظم النعم الدينية التي يمن بها الله جل وعلا على عبده.
من أعظم الأسباب في الثبات على الطاعة والثبات على الهداية، العناية بالعلم النافع من كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله r , وأعظم العلوم علم التوحيد والعقيدة، ثم علم الفقه بالحلال والحرام، والجميع - العقيدة والفقه - يستقى من النصوص التي يحتج بها، وهي كتاب الله Y وما ثبت من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أو الإجماع الثابت المنقول عن الصحابة رضوان الله عليهم، أو نحو ذلك من الحجج المعروفة في بابها , فطلب العلم من أنفع الوسائل وهو من المجاهدة، فيدخل في عموم قوله: ] وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [، والله جل وعلا قرن شهادة أولي العلم بشهادته جل وعلا وشهادة ملائكته له بالوحدانية في قوله: ] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [.
فهذه تبين لك عظم معرفة أهل العلم بربهم جل وعلا وشهادتهم له بالوحدانية , كذلك أهل العلم مرفوعون درجات: ] يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [ وإذا ارتفع أهل العلم درجات هذا أعظم من الثبات على الهداية , فهذا ثبات وزيادة، بفتح أبوابٍ متنوعة من أنواع الطاعة والهداية إلى ما يحب الله جل وعلا ورضى أيضًا ما طلب النبي r أن يزداد من شيء إلا مما أمره ربه جل وعلا وهو أن يزداد من العلم، فقال: ] وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً [ , وازدياد العلم هو زيادة الإيمان، هو زيادة حب الله جل وعلا ورسوله وهكذا.
فإذًا العلم النافع هو هذا الذي ذكرنا وهو الذي يندرج تحت كل ما بعث الله جل وعلا به رسوله r، كما جاء في حديث أبي الدرداء: ((مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا…)) إلى آخره , فإذا تحصل العبد على هذا وأقبل على العلم، فإن الناس في استعداداتهم للعلم مختلفون، منهم من استعداده قوي في الحفظ والمدارسة والرغبة، منهم من عنده الوقت لكي يطلب العلم، ومنهم من هو مشغول , لكن ينبغي للجميع أن يعتنوا بالعلم الذي لا يسعهم جهله؛ لأن العلم درجات , العلم أبوابه واسعة كثيرة، لا يمكن لأحد أن يحصل جميع أطراف العلم، ولكن يدخل فيه برفق ويأخذ ما يحتاجه في دينه، فمن الناس من يحتاج إلى الأصول العظيمة في التوحيد، وهذا هو عامة يعني كل الناس؛ لأن هذا واجب , وهو مما لا يسعه جهله بتوحيد الله جل وعلا ومعنى الشهادتين، وتحقيق أنواع التوحيد له I، ومعرفة معنى السنة والبدعة ونحو ذلك من الأصول العامة، وهي المبينة في مثل كتاب ثلاثة الأصول لإمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ونحو هذه الرسالة من الرسائل المشابهة.
ثم يأخذ من الفقه ما لا يسعه جهله، مثل كيف يتطهر؟ كيف يصلي؟ كيف يتوضأ؟ كيف يمسح للصلاة؟ صلاة الحضر، صلاة السفر؟ يعرف ذلك بما يفتح الله جل وعلا عليه من معرفة أدلة ذلك، وهذا من أنفع ما ييسر له العبد، كذلك في أحكام الزكاة والصيام ونحو ذلك , فإذا هدي إلى ذلك فقد أتى بالعلم الذي يجب على كل مسلم أن يتعلمه لمعرفة دينه فيما يحتاجه في صحة قلبه بالعقيدة الصحيحة، وفي صحة عباداته فيما يتعلق، وإذا أشكل عليه شيء من ذلك فإنه يسأل أهل العلم كما قال سبحانه: ] فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ[.
ثم الناس بعد ذلك درجات، إذا فتح له أن يحفظ القرآن كاملاً أو يحفظ أكثر القرآن كما ذكر السائل ويحضر دروس أهل العلم، ويحفظ المتون، فهذه الناس فيها درجات، لكن الحفظ من المهمات، حفظ القرآن ثم يليه حفظ المتون التي تثبت؛ لأن الفهم عرض يطرأ ويزول، الفهم يأتي ويذهب، لكن إذا حفظ وصاحب الحفظ فهم لما حفظ، فإن هذا من أسباب ثبات الفهم؛ لأنه يبقى معك المحفوظ ولو ذهب بعضه مع مرور الزمن، لكن يبقى كثير منه، أو يبقى أكثره بحسب استعدادات الناس.
وقد جرّب طائفة ذلك في حفظ القرآن، حفظوه وأنعم الله جل وعلا به عليهم، لكنهم أساؤوا فنسوا كثيرًا من القرآن، لكن بقيت معهم الأدلة وبقيت معهم الاستدلالات , ثم فيما دون ذلك , منهم من حفظ الأربعين نووية، وحفظ البلوغ في عمره، وحفظ كتاب التوحيد، وحفظ ما حفظ ثم مع الزمن أتته المشاغل فربما نسي، لكن يبقى معه من ذلك ما يكون حجة له، وحجة معه فيما يحتاج إليه من المسائل.
فلا يشترط في طالب العلم أنه إذا حفظ لا ينسى؛ هذا لا يمكن، والناس في الحفظ استعدادات ومواهب، منهم من يحفظ سريعًا ويثبت حفظه وهم الندرة من الناس , ومنهم من يحفظ سريعًا وينسى سريعًا، ومنهم من يعسر عليه الحفظ ولكنه في المراجعة والتثبيت يسهل عليه حتى يكون قويًا في ذلك وهكذا.
فإذًا المهم أن طالب العلم لا ييأس، فإذا كانت عنده موهبة في الحفظ، فيحفظ ويكرر ولو كان ينسى بادئ ذي بدء , والحفظ السريع إذا لم يكن مع التكرار، تكرار كثير فإنه ربما يكون مذهبًا لما حفظ، لهذا نقول إجابة على آخر ما جاء في السؤال: أن من أعظم الوسائل لتثبيت المحفوظ:
أولاً: أن يكون متقيا لله جل وعلا غير مفرط في أوامره ونواهيه؛ لأن العلم نور. والمحفوظ في القلب من النصوص، من الكتاب أو السنة، هذا من النور؛ لأن الرسول نور والكتاب نور , فلهذا نور الله جل وعلا لا يثبت مع غفلة القلب، لا يثبت مع انشغال القلب بمعصية الله جل وعلا وعدم تعظيمه لأوامره، لهذا أعظم وسائل الحفظ أن يتقى الله جل وعلا بفعل أوامره، واجتناب نواهيه بحسب الاستطاعة، وأن يكثر المرء فيما فرط من الاستغفار , قال جل وعلا: ] وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [، قال بعض العلماء هنا: وأشد تثبيتًا، تثبيتًا لهم في العلم، وتثبيتًا لهم في العمل , في العلم يثبت بفعل ما توعظ به، والاستجابة لله جل وعلا ولرسوله r، وكذلك العمل يؤتاه العبد إذا عمل.
وقد قال بعض أهل العلم: من عمل بالسنة أورثه الله عملاً بسنة أخرى، وكذلك من عمل سوءًا فإنه يحجب عنه، أو قد يحجب عنه بعض العلم , والسنة في القلب والبدعة والشهوة، والعمل الصالح يتدافعان، كما هو معلوم.
وفي ذلك يقول وكيع للشافعي، والشافعي رحمه الله هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي المعروف المولود سنة خمسين ومائة، والمتوفى سنة أربع ومائتين للهجرة رحمه الله رحمة واسعة، من الأئمة المشهورين، كان يعالج نفسه بالحفظ كثيرًا، فشكى إلى شيخه وكيع بن الجراح الرؤاسي العالم والإمام المعروف سوء حفظه، فأرشده إلى ترك الذنوب، وقال في ذلك الشافعي شعرًا:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نـورٌ ونور الله لا يؤتاه عاصي
لذلك كلما زاد النور في القلب، كلما ذهبت الظلمة، والمعصية ظلمة فإذا استقل العبد للظلمة ورضي بها فإنه يذهب من النور بقدر ذلك، وهكذا حتى تتنوع القلوب في هذا.
الأمر الثاني: من أسباب الثبات على الحفظ وتيسير سبيل الحفظ: ألا يقتصر المرء على الحفظ الأول، بل يجعل له في كل ما يحفظ ختمة، القرآن يجعل له ختمة، إذا حفظ عشرة أجزاء يبدأ من أوله، من أول ما حفظ إلى نهاية العشرة أجزاء، فإذا انتهى منها بدأ من جديد، إذا حفظ الأربعين النووية، يبدأ من أولها إلى أن يختم ثم يعيد من جديد، حفظ كتاب التوحيد يبدأ، تكون ختمته في شهر في شهرين لكن لابد أن يتعاهد ما حفظ، حفظ ألفية ابن مالك، حفظ ألفية العراقي، حفظ لا بد أن يكرر في الزمن، حفظ أي متن من المتون لا بد أن يكون له قراءة فيه وختمة بين الحين والآخر؛ لأن هذا به المذاكرة.
الأمر الثالث: أن طالب العلم إذا كان مع نفسه لا يستطيع، فإنه يتخذ صاحبًا له يعينه على ذلك، ممن يشركه ويشترك معه في الرغبة في الحفظ والرغبة في المدارسة , فهذا من أنفع الأسباب.
وهناك مسائل أخرى تتعلق بذلك، تراجع في كتب آداب طلب العلم.
سؤال: هل الملائكة الموكلة بالإنسان سواء الكتبة، أو الحافظون تكون ملازمة للإنسان , أم أنهم ينفكون عنه عند دخوله الخلاء؟ وما معنى قوله تعالى: ] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [.
سؤال:... تكون ملازمة للإنسان , أم أنهم ينفكون منه عند دخوله الخلاء؟ وما معنى قوله تعالى: ] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [؟
جواب: أما معنى الآية، قوله: ] وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [، هذا قرب الملائكة، لا قرب الرب جل وعلا بذاته I؛ لأن القرب كما هو معلوم نوعان: قرب عام وقرب خاص , والقرب العام لا يثبت لله جل وعلا، قرب عام من جميع الخلق , وإنما يثبت القرب الخاص، وما جاء في النصوص من ذكر القرب العام كهذه الآية: ] وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ فإنما هو قرب الملائكة كما حققه ابن تيمية وابن القيم وجماعة آخرون.
والملائكة أنواع: منها ملائكة ملازمة للعبد لا تنفك عنه ألبتة، ومنها ملائكة تنفك عنه وتفارقه في بعض المواضع، أو لبعض الأسباب , كدخول الخلاء، وجماع الإنسان لأهله وكون الإنسان يكون جنبًا، وأشباه ذلك مما جاء في الأحاديث، هذا من أسباب أن بعض الملائكة لا يرافقونه، ينفكون عنه؟
ثم هل الملائكة هذه هي ملائكة الرحمة؟ أم ملائكة الرحمة والكتبة التي تلازم الإنسان؟ خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنهم الحفظة، هل هم الحفظة أم الكتبة؟ أم هما معًا؟ والصحيح أن الحفظة بخصوصهم هؤلاء ينفكون عن ملازمته، وأما الكتبة فإنهم لا ينفكون , والحفظة يحفظ الله جل وعلا العبد بهم كما قال: ] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [، يعني يحفظونه بأمر الله , فإذا جاء قدر الله خلوا عنه، فالله جل وعلا ييسر له من أسباب الحفظ ما ييسر , هذا وجه في الجمع بين الأحاديث وثم تفصيل آخر. نكتفي بهذا، نعم.