أهمية إصلاح السريرة وقوله تعالى : ( يوم تبلى السرائر ) سورة الطارق
الحمد لله العلي الأعلى , كاشف البلوى , سامع النجوى , يعلم السر وأخفى , الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى , حمداً يدوم ويبقى .
هذه بعض الوقفات مع قوله تعالى : ( يوم تبلى السرائر )
قال ابن عاشور: السرائر جمع سريرة , وهي ما يسره الإنسان ويخفيه من نواياه وخفاياه .
ويقول ابن كثير: " تبلى السرائر : أي تظهر وتبدو , ويكون السر علانية والمكنون مشهوراً .
والشواهد والنصوص التي توضح أهمية مراقبة خفايا النفس كثيرة , قال تعالى : ( قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ) سورة آل عمران
وقال عز وجل : ( يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور ) سورة غافر
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " رواه مسلم .
والمؤمن يعلم أن من أهم المسئوليات التي على عاتقه , هي إصلاح خواطره , ونياته ومقاصده .
يقول ابن القيم رحمه الله: " قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الإستقامة في الاحوال والأقوال والأعمال , وهما شيئان أحدهما حراسة الخواطر وحفظها والحذر من إهمالها والإسترسال معها , فإن أصل كل فساد من قبلها يجيئ , لأنها بذر الشيطان والنفس في أرض القلب , فإذا تمكن بذرها تعادها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم , ثم لا يزال بها حتى تثمر الاعمال "
ولأنه يسير إلى الله بقلبه, يجتهد أن يكون كل عمل من أعمال هذا القلب في محله وعلى ما يرضي ربه , فإن رأى منه جزعاً محل الرضا أو يئساً محل الرجاء أو إعراضاً محل القبول أو كفراً بنعمة محل الشكر أو شكاً محل اليقين أو طمعاً محل زهد أو لحظ منه لفتة إلى غير وجهة سيره أو احتال بحيلة عليه متطلباً مديحاً أو ثناءاً , عاتبه ولامه وأغلظ عليه في القول , يداويه بنصوص الوحي ونور كلام ربه تارة , وبتذكيره بنعم ربه عليه وآلائه أخرى وبحقيقة الدنيا والناس وماهم عليه من فناء وزوال , وماعند ربه من كمال وبقاء .
علم ذلك السلف ومن قبلهم الأنبياء فكان جل سعيهم له وغاية آمالهم الحصول عليه .
يخبر الله سبحانه وتعالى بمقالة إبراهيم عليه السلام لنقتدي به وننهج نهجه , ( ولا تخزني يوم يبعثون * يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب ٍ سليم )سورة الشعراء فلن تكون النجاة من الخزي إلا بالقلب السليم , ولن يلقى ربه بقلبٍ سليم من إلتفت إلى مقاصد الناس وتنبأ ببواطنهم وحلل مواقفهم , فانشغل بهم عن نفسه وإصلاح خواطره , يقول تعالى : ( قد أفلح من زكاها ) سورة الشمس , وكيف سيزكي نفسه ويطهرها إذ لم تكن هي أولى أولياته , ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون ). سورة المائدة
ويقول الله سبحانه وتعالى ممتدحاً موسى عليه السلام : ( واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلِصاً وكان رسولاً نبياً ) 51 سورة مريم . مخلصاً بكسر اللام في إحدى القراءات .
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :" وأسألك قلباً سليماً" رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان .
وفي ثنائه سبحانه على المؤمنين في اهتمامهم بسلامة قلوبهم قال : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم )سورة الحشر
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم للغد , والأمانة ألا تخالف سريرة علانية , واتقوا الله عز وجل فإنما التقوى بالتوقي , ومن يتق الله يقه "
وعن عثمان رضي الله عنه قال: " ما أسر أحد سريرة إلا أظهره الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه "
ويقول سفيان الثوري: " ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي "
ذكر الأعمشقال كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقرأ المصحف واستأذن عليه رجل فغطى المصحف , وقال : لا يرى هذا أني أقرأ في المصحف في كل ساعة .
وعن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك , فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي : بأي شئٍ فضل هذا الرجل علينا, حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة , إن كان يصلي إنا لنصلي ولئن كان يصوم فإنا لنصوم , وإنا كان ليغزو فإنا لنغزو , وإن كان يحج إنا لنحج . قال : فكنا في بعض مسيرينا في طريق الشام , ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج , فقام بعضنا فاخذ السراج وخرج يستصبح , فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج , فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع , فقلت في نفسي : بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا , ولعله حين فقد السراج , فصار إلى الظلمة ذكر القيامة .
وعن ابن واسع أنه قال: " إن الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم "
وليكن إصلاح سريرتك وباطنك هو مشروع عمرك وأبشر فقد قال الله تعالى في آخر سورة العنكبوت: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )
قال ابن القيم: " لله هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر وماذا اودعته من الكنوز والذخائر
ولله طيب اسرارها ولا سيما ( يوم تبلى السرائر )
سيبدو لها طيب ونورٌ وبهجةٌ وحسن ثناء يوم تبلى السرائر
اللهم أصلح سريرتنا وارفع درجتنا وأحسن عاقبتنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا , فما لله باق وما لدونه زائل مضمحل . وصلي اللهم وسلم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
المراجع
تفسير القران العظيم لابن كثير
تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور
سير أعلام النبلاء للذهبي
إغاثة اللهفان لابن القيم
طريق الهجرتين لابن القيم