المتن: فصل
ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم,وصح به النقل عنه.
الشرح:
لما عرف الإيمان,وذكر الأدلة على تعريفه عند أهل السنة والجماعة؛ ذكر أن من الإيمان: الإيمان بالغيب,وهو: ما غاب عن الناس ولم يشاهدوه، من الأمور الماضية والأمور المستقبلة ؛لأنه قد مضى وانقضى, أو لأنه لم يحدث بعد وسيأتي,فهذا ليس للعقل فيه دخل أبدا, وإنما الاعتماد فيه على النقل,وهو الخبر الصادق عن الله ورسوله.فكل ما أخبر الله عنه من الغيوب الماضية,والغيوب المستقبلة،وكل ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغيوب الماضية، والغيوب المستقبلة؛فإنه يجب الإيمان به,والتسليم له,من غير تدخل بعقولنا وأفهامنا؛لأن هذا شيء لا تدركه عقولنا ولا أفكارنا,وإنما مبناه على التسليم والتصديق لخبر الله ورسوله.
والإيمان إنما هو الإيمان بالغيب,أما الإيمان بالشيء المشاهد؛ فهذا لا ميزة فيه لأحد, ولا يسمى إيماناً.
فالإنسان الذي لا يؤمن إلا بما يشاهده ويراه؛فإن هذا ليس إيماناً منه,ولهذا لا يُقبل الإيمان إذا قامت القيامة,أو إذا حضر الإنسانَ أجلُه، وشاهد ما كان يخبر عنه من الأمور الغائبة عنه,فإذا عاينها وأبصرها لا يُقبل إيمانه.
فلهذا جاء في الحديث: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) يعني: ما لم تبلغ روحه الغرغرة؛لأنها إذا بلغت روحه الغرغرة انتهى الإيمان، وانتهى العمل, ووقع الإنسان فيما أُخبر عنه في الماضي, وشاهده عياناً: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} هذا خطاب للإنسان: أنه عند نزع روحه يشاهد ما كان يخبر عنه في حياته,فحينئذ لا ينفعه الإيمان.
كذلك قوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}.
هذا إذا طلعت الشمس من مغربها,حينئذ لا يقبل الإيمان ممن آمن,ولا التوبة ممن تاب؛لأن هذا أصبح حساً ومشاهداً,لا غائباً.
ولهذا يقول جل وعلا: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين},ولهذا يقول جل وعلا في أول سورة البقرة: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة}.
فأول صفات المتقين :أنهم يؤمنون بالغيب,يعني: بما غاب عنهم، ولم يشاهدوه,ولكن اعتمدوا فيه على خبر الصادق,فآمنوا به ,كأنهم يشاهدونه عياناً؛لأنهم يصدقون بأخبار الله،وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالأمور الغائبة والمستقبلة, لا يعتمد فيها على العقول, ولا على الأفكار,وإنما يعتمد فيها على الأخبار الصحيحة الصادرة عن الله جل وعلا, عالم الغيب والشهادة,أو الصادرة عن نبيه,الذي لا ينطق عن الهوى: {إن هو إلا وحي يوحى}.
ويدخل في هذا الباب الكثير من الأخبار الماضية، كخبر آدم والملائكة,وخبر الأمم السابقة: قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم,وأصحاب مدين،وغيرهم من الأمم.
هذا كله أخبر الله عنه,فيجب الإيمان به,وهو غيب ماض.
وكذلك الغيوب المستقبلة، مثل: أشراط الساعة,وما يكون قبل قيام الساعة,وما يكون في آخر الزمان,وكذلك الإيمان بعذاب القبر ونعيمه,وما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم من ذلك,وكذلك الإيمان باليوم الآخر,وما يكون فيه,والإيمان بالبعث والنشور,والإيمان بالجنة والنار,كل ذلك داخل في الإيمان بالغيب,بل الإيمان بالله جل وعلا هو إيمان بالغيب؛لأننا لم نر الله جل وعلا,وإنما آمنا به؛اعتمادا على آياته الكونية,وآياته القرآنية,وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام.
فنحن نؤمن بالله وبأسمائه وصفاته,ووجوب عبادته؛اعتماداً على الأخبار الصادقة,والآيات البينة,والبراهين الساطعة أمام أعيننا, مما نشاهد من خلق الله، وملكوت الله سبحانه وتعالى, وأن هذا الكون لا يمكن أن يكون أوجد نفسه,أو أن يكون أحد أوجده غير الله سبحانه وتعالى:{أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون.أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون}.
من هو الذي ادعى أنه خلق ذرة,أو خلق حبة,أو خلق شعيرة,أو خلق شيئا من السماوات والأرض؟!ما أحد ادعى هذا من الكفار,مع شدة كفرهم وعنادهم. لا يستطيعون أن يدعوا أنهم خلقوا شيئا: {أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه}.
الله جل وعلا يتحداهم:هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله؛أروني ماذا خلقوا من الأرض.ما أحد ادعى أن معبوده خلق شيئاً؛ لأنه لا يمكنه أن يدعي هذا أبدا,والله جل وعلا أخبر أنه خلق السماوات والأرض,وأنه خلق الجن والإنس,وأنه خلق,وأنه يخلق,ولا أحد اعترض على الله في خبره سبحانه وتعالى؛ لأنه لا أحد يقدر على ذلك,لا أحد يقدر أن يعترض على الله فيقول: لا,هذا الشيء خلقه فلان,وهذا الشيء خلقه فلان.
ما أحد يدعي هذا,ما يستطيعون هذا.
والله! نتحداهم, نقول: أبرزوا براهينكم على أن أحدا يخلق غير الله سبحانه وتعالى: {أم لهم شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار}.
أخبر سبحانه أنه خلق ويخلق,ولا أحد يعترض ويقول: أبداً؛ إن هذا ما هو بصحيح.ما أحد يقدر على هذا,بل العقول استسلمت لهذا,ولا أحد ادعى أن أحداً يخلق مع الله سبحانه وتعالى.
فلذلك الله جل وعلا هو الخلاق وحده سبحانه وتعالى,وهو الخالق جل وعلا,هذا بتسليم العالم كله؛كفارهم ومؤمنيهم؛أن الله هو الخالق سبحانه وتعالى:{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله،ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}.
يعترفون بهذا؛ أن الخلق لله سبحانه وتعالى,وإذا كان له الخلق فله الأمر,هو الذي يأمر وينهى ويشرع: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
فالحاصل: أن هذه الغيوب لا تدخلها العقول والأفكار، ولا أحد يتدخل فيها بنفي أو إثبات,إلا بناء على ما جاء عن الله,وعن رسله عليهم الصلاة والسلام.
المتن: ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم,وأما الإيمان ببعضه والكفر ببعضه,فهذا كفر بالجميع,فنحن نؤمن بكل ما أخبر به؛ما تتصوره عقولنا وما لا تتصوره عقولنا,ليس لعقولنا دخل في هذا؛لأنها عاجزة,ولا تحيط بالأشياء,لا يحيط بالأشياء إلا الله جل وعلا.
المتن: وصح به النقل عنه.
الشرح:
صح به النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم,فما دام صح السند فإنه يجب الإيمان بالحديث.
عندما يخبرنا الحديث الصحيح عن أمور غائبة فإنه يجب علينا التصديق والإيمان,أما ما لم يصح سنده؛فنحن غير مطالبين بالإيمان به.
فلا بد من صحة السند عند أئمة أهل الحديث,فإذا صح فلا كلام لأحد.
المتن: فيما شاهدناه,أو غاب عنا,نعلم أنه حق وصدق.
الشرح: يعني: لا فرق بين ما نشاهده وما لم نشاهده,يجب أن تؤمن بالجميع,كأنك تشاهد الغائب؛لأنه أخبرك عنه الصادق المصدوق,الذي لا ينطق عن الهوى,صلى الله عليه وسلم,فهو مثل الذي تشاهده سواء بسواء.
المتن: وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه.
الشرح: وسواء بذلك ما تصورته عقولنا,وما لم تتصوره عقولنا, العقول ليس لها دخل في هذا, أمور الغيب لا تتصورها العقول,مثلاً:القبر؛ أنه روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار,هذا الأمر عقول بعض البشر لا تتصوره,يقولون: الميت يصير ترابا, ولو حفرنا ما وجدنا عنده ناراً، ولا وجدنا عنده جنة.
نقول: هذا ليس من عالم المشاهدة ؛ عالم الدنيا , هذا من عالم الآخرة,الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى,وأنت لا تحس به,وليس من لازم صحة الشيء ووقوعه؛ أنك تشاهده، هناك أشياء موجودة، لكن أنت لا تراها,ولا تشاهدها,وهي موجودة,وأنت لا تدركها أبداً.
مثلا مما يقرب هذا: ينام اثنان بعضهم إلى جانب بعض,هذا ينام نوما هادئا ومريحاً ولذيذاً , وهذا ينام نوماً _ والعياذ بالله _ مقلقاً ومزعجا بالأحلام المزعجات، والمنغصات في نومه,وهذا إلى جانب هذا,فلا هذا يحس بهذا ولا هذا يحس بهذا.فإذا كان هذا في أمور الدنيا,فكيف في أمور الآخرة التي لا يعلمها إلا الله؟!
كذلك الأموات؛منهم من هو في نعيم,ومنهم من هو في عذاب,وإن كان بعضهم إلى جانب بعض,فلا هذا يحس بنعيم هذا,ولا هذا يحس بعذاب هذا,كل يتعلق به حكمه.
هذه قدرة الله جل وعلا التي لا يعجزها شيء.
والله حجب عنا أمور الآخرة,وعذاب القبر من أمور الآخرة,وإنما نحن نؤمن به؛ بناء على خبر الرسول صلى الله عليه وسلم,فنؤمن أن الميت يعذب,أو ينعم,وإن كنا لا نحس بهذا,ولا نراه,وفي حجبه عنا رحمة بنا,يقول صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن لا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)).
فالله جل وعلا حجب هذا عنا؛رحمة بنا.الميت يضرب في قبره فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين , ولو سمعها الإنسان لصَعِقَ,يعني: لمات, فمن رحمة الله أن حجب هذا عنا,ولا نسمعه ولا نراه؛رحمة بنا.
فأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا,وأول أمور الآخرة عذاب القبر,فهو أول منزل من منازل الآخرة,وما يجري فيه فهو من عالم الغيب,الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
المتن: سواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه, ولم نطلع على حقيقة معناه,مثل حديث الإسراء والمعراج.
الشرح:
من الأخبار التي أخبرنا الله عنها ورسوله: الإسراء والمعراج,قال الله جل وعلا: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام} يعني: من مكة المشرفة,{إلى المسجد الأقصى} في فلسطين, {الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا}.
وبين مكة وفلسطين مسافة تقطعها الإبل في الأشهر,والرسول صلى الله عليه وسلم أسري به وعاد؛في ليلة واحدةصلى الله عليه وسلم,جاءه جبريل عليه السلام وهو نائم في مكة,فاحتمله على البراق _ دابة يركبها الأنبياء _وذهب به إلى بيت المقدس؛خطوها عند مد بصرها.
ثم إنه صلى بالأنبياء في بيت المقدس, ثم إنه عرج به,يعني : صعد به إلى السماء بروحه وبجسمه,يقظة لا مناما, وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى,ومن معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذلك مذكور في أول سورة النجم, والإسراء مذكور في أول سورة بني إسرائيل: {سبحان الذي أسرى بعبده} والسُّرى: هو السير ليلاً,والمعراج ذكر في أول سورة النجم: {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} يعني: جبريل عليه السلام,{ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى}... إلى آخر الآيات.
فالله جل وعلا يقول في الإسراء: { لنريه من آياتنا} فأراه من آياته في هذه الليلة الشيء العجيب في ملكوت السماوات والأرض,ورأى الجنة والنار,ورأى أهل النار فيها, ورأى أهل الجنة فيها,وكلمه الله من وحيه بما شاء,وفرض عليه الصلوات الخمس من فوق سبع سماوات,ثم نزل صلى الله عليه وسلم,نزل به جبريل إلى الأرض,ثم جاء إلى مكة في ليلة واحدة,فأصبح يخبر الناس,فأهل الإيمان ازدادوا إيماناً؛لأنهم صدقوه من أول الأمر,وما دام آمنوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يكذبونه.
ولهذا لما قيل لأبي بكر: إن صاحبك يقول: كذا, ويزعم أنه سرى لبيت المقدس، وصعد إلى السماء، وجاء في ليلة واحدة؛قال: إن كان قد قاله فهو كما قال, أنا أصدقه في خبر السماء,أفلا أصدقه في هذا!
وأما الكفار فإنهم اتخذوا من هذه الحادثة وسيلة للتهكم بالرسول صلى الله عليه وسلم,ومن ضعاف الإيمان من ارتد عن الإسلام,والكفار فرحوا بذلك.
ولكن الإسراء والمعراج حق, وهو معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم,وهو من أعظم ما أكرم الله به هذه الأمة المحمدية,والإيمان به واجب,وهو يقظة لا منام؛لأن المنام لا أحد ينكره,قريش لا تنكر الرؤيا,فلو كان رؤيا ما أنكرته قريش؛لأنها تؤمن بالرؤيا ,وأيضاً؛ الله جل وعلا يقول:{أسرى بعبده},والعبد إنما يكون لمجموع الروح والجسد,الروح وحدها لا تسمى عبداً، والجسد وحده لا يسمى عبداً,وإنما مجموع الروح والجسد هو العبد,{ أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام} بمكة المشرفة, {إلى المسجد الأقصى} في بيت المقدس,مع بعد المسافة,وذاك الوقت ليس فيه وسائل النقل السريعة,ولكن فيه من خلق الله سبحانه ومن قدرة الله الذي أوجد هذه الوسائل السريعة الآن.
هذه قدرة الله جل وعلا,وهذا خلق الله,وهذا ملكوت الله,ما جاء أحد بشيء من عنده أبداً.
ألا يقدر سبحانه أن يسري برسوله,وأن يعرج به إلى السماء,وأن يأتي به في ليلة واحدة؟! الله جل وعلا لا يستعصي عليه شيء.
فالمدار على الإيمان,والتسليم لله ولرسوله,من غير تدخل بأفكارنا وعقولنا وقياساتنا.هذا هو الإيمان.