بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ الذي رَضِيَ الإِسْلامَ للمؤمنينَ دينًا، ونَصَبَ الأدلَّةَ على صِحَّتِهِ وبيَّنَها تَبْيِينًا، وغَرَسَ التَّوحِيدَ في قُلُوبِهمْ، فأَثْمَرتْ بإخلاصِهِ فنونًا، وأعانَهم على طاعتِهِ هدايةً منه وكَفَى بربِّكَ هاديًا ومُعِينًا.
والحَمْدُ للهِ الذي لَمْ يتَّخِذْ وَلَدًا، ولَمْ يَكُنْ له شَرِيكٌ في المُلْكِ، ولَمْ يَكُنْ له وَلِيٌّ مِن الذُّلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا، الذي خَلَقَ مِن المَاءِ بَشَرًا فجَعَلَه نسَبًا وصِهْرًا وكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا، ويَعْبُدُونَ مِن دونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُهُم وَلاَ يَضُرُّهُم وَكَانَ الكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا.
وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَه لاَ شَرِيكَ له في رُبُوبيَّتِهِ وإِلَهِيَّتِهِ، تَعَالَى عن ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا.
وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه ورَسُولُه، أَرْسَلَهُ بالحَقِّ شَاهِدًا، ومُبَشِّرًا، ونَذِيرًا، ودَاعِيًا إلى اللهِ بِإِذْنِهِ، وسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فَهَذَا شَرْحٌ لكِتَابِ التَّوْحِيدِ وَافٍ -إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- بالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ مِن بَيَانِ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ؛ إِذْ هو المَقْصُودُ بالأَصَالَةِ -هنا- وَلَمْ أُخْلِهِ -أيضًا- مِن التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَضَمَّنُه مِن غَيْرِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الأَوْلَى بِنَا هو بَيَانُ ما وُضِعَ لأَِجْلِهِ الكِتَابُ لعُمُومِ الضَّرَرِ والفَسَادِ الوَاقِعِ مِن مُخَالَفَةِ ما فيه.
والأَصْلُ في ذَلِكَ هو الإِعْرَاضُ عن الهُدَى والنُّورِ الذي أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن الكِتَابِ والحِكْمَةِ، والاسْتِغْنَاءِ عن ذلكَ بِمُتَابَعَةِ الآباءِ والأَهْواءِ والعَادَاتِ المُخَالِفَةِ لذلكَ.
ولِهَذَا كَرَّرَ اللهُ تَعَالَى الأَمْرَ بِمُتَابَعَةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ في مَوَاضِعَ كَثِيرةٍ مِن القُرْآنِ، وضَرَبَ الأَمْثَالَ لذلكَ، وأَكَّدَه وتَوَعَّدَ عَلَى الإِعْرَاضِ عنه، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لشِدَّةِ الحَاجَةِ، بل الضَّرُورَةُ إلى ذلك فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، فَإِنَّه لاَ صَلاَحَ للعَبْدِ، ولاَ فَلاَحَ وَلاَ سَعَادَةَ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِلاَّ بذلكَ، ومتى لم يَحْصُلْ ذَلِكَ للعَبْدِ فهو مَيِّتٌ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام:122].
فسَمَّى سُبْحَانَه وَتَعَالَى الخَالِيَ عن هَذَا الهُدَى والنُّورِ مَيِّتًا، وسَمَّى مَن حَصَلَ له ذلك حياًّ؛ وذلكَ أنَّهُ لاَ مَقْصُودَ به في حَيَاةِ الدُّنْيَا إِلاَّ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى، ومَعْرِفَتُه وخِدْمَتُه، والإِخْلاَصُ له، والاسْتِلْذَاذُ بذِكْرِهِ، والتذَلُّلُ لعِظَمَتِهِ، والانْقِيَادُ لأَِوَامِرِهِ، والإِنَابَةُ إليهِ، والإِسْلاَمُ له، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا للعَبْدِ، فهو الحَيُّ، بل قَدْ حَصَلَتْ له الحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ في الدَّارَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:97].
فَإِذَا فَاتَهُ هَذَا المَقْصُودُ فهو مَيِّتٌ، بل شَرٌّ مِن المَيِّت:
- قَالَ اللهُ تَعَالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف:3].
- وقَالَ تعَالَى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:153].
- وَقَالَ تَعَالَى: { قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المائدة:15-16].
- وقَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّها النّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [النساء:174].
- وَقَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء:59].
- { وَمَا أَرْسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } [النساء:64].
- { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65].
- وقال تعالى: { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل:89].
- وقال تعالى: { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99)مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْرًا(100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِمْلاً } [طه:99-101].
- وقال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا(124) وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى } [طه:123-125] ؛ قال ابنُ عَبَّاسٍ: تَكَفَّلَ اللهُ لِمَن قَرَأَ القُرْآنَ وعَمِلَ بِمَا فيه أَنْ لاَ يَضِلَّ في الدُّنْيا، ولا يَشْقَى في الآخِرَةِ.
- وقَالَ تَعَالَى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاه نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وِإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى:52].
فيَا عَجَبًا مِمَّن يَزْعُمُ أنَّ الهِدَايَةَ والسَّعَادَةَ لاَ تَحْصُلُ بالقُرْآنِ ولاَ بالسُّنَّةِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَهْتَدِ إِلاَّ بذلك:
- كَمَا قَالَ تَعَالَى: { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [سبأ:50]، ثُمَّ بعدَ ذَلِكَ يُحِيلُهَا عَلَى قَوْلِ فُلاَنٍ وفُلاَنٍ.
- وقَالَ تعَالَى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر:7].
والآيَاتُ في هَذَا المَعْنَى كَثِيرَةٌ، فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَن عَقَلَ عن اللهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ ويَقِينٍ في دِينِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ } [يوسف:108] ، ومُحَالٌ أَنْ يَحْصُلَ اليَقِينُ والبَصِيرَةُ إِلاَّ مِن كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكيفَ يَنَالُ الهُدَى والإِيمَانَ مَنْ زَعَمَ أنَّ ذلك لاَ يَحْصُلُ مِن القُرْآنِ إنَّما يَحْصُلُ مِن الآرَاءِ الفَاسِدَةِ التي هي زُبَالَةُ الأَذْهَانِ ! تَاللهِ لَقَدْ مُسِخَتْ عُقُولٌ هذا غايةُ ما عِنْدَها مِن التَّحْقِيقِ والعِرْفانِ.
وهَذِه المُتَابَعَةُ لكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي حَقِيقَةُ دِينِ الإِسْلاَمِ، الذي افْتَرَضَهُ اللهُ عَلَى الخَاصِّ والعَامِّ، وهو حَقِيقَةُ الشَّهَادَتَيْنِ الفَارِقَتَيْنِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والكُفَّارِ، والسُّعَداءِ أَهْلِ الجَنَّةِ والأَشْقِيَاءِ أَهْلِ النَّارِ.
إذ مَعْنَى الإِلَهِ: هو المَعْبُودُ المُطَاعُ، وذلك هو دِينُ اللهِ الذي ارْتَضَاهُ لنَفْسِهِ ومَلاَئِكَتِهِ ورُسُلِهِ وأَنْبِيَائِهِ فَبِهِ اهْتَدَى المُهْتَدُونَ وإِلَيْهِ دَعَا المُرْسَلُونَ ؛ { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25] ، { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُون وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [آل عمران:83] فَلاَ يُتَقَبَّلُ مِن أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ مِن الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ ، كما قال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ }[آل عمران:85].
شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ دِينُهُ قَبْلَ شَهَادَةِ المَخْلُوقِينَ، وأَنْزَلَهَا تُتْلَى في كِتَابِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى وهو العَزِيزُ العَلِيمُ: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [آل عمران:18].
جَعَلَ أَهْلَهُ هُمُ الشُّهَداءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، لِمَا فَضَّلَهُم به مِن الأقوالِ، والأعمالِ، والاعْتِقَادَاتِ التي تُوجِبُ إِكْرَامَهُ ؛ فَقَالَ تَعَالَى وَلَمْ يَزَلْ عَزِيزًا حَمِيدًا: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة:143].
وفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الأَدْيانِ، فهو أَحْسَنُهَا حُكْمًا، وأَقْوَمُهَا قِيلاً ؛ فَقَالَ تَعَالَى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء:125].
وكيف لا يُمَيِّزُ مَن له بَصِيرَةٌ بَيْنَ دِينٍ أُسِّسَ على تَقْوَى من اللهِ ورضوانٍ، وارْتَفَعَ بِنَاؤُه على طاعَةِ الرَّحْمَنِ، والعَمَلِ بِمَا يَرْضَاهُ في السِّرِّ والإِعْلاَنِ، وبَيْنَ دِينٍ أُسِّسَ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بصَاحِبِه في النَّارِ؟ أُسِّسَ عَلَى عِبَادَةِ الأصنامِ والأوثانِ، والالْتِجَاءِ إلى الصَّالِحِينَ وغَيْرِهم مِن الإِنْسِ والجَانِّ، عِنْدَ الشَّدَائِدِ والأَحْزَانِ، وصَرْفِ مُخِّ العبادةِ لغيرِ المَلِكِ الدَّيَّانِ، ورَجَاءِ النَّفْعِ والعَطَاءِ والمَنْعِ مِمَّن لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا، فَضْلاً عن غَيْرِه مِن نَوْعِ الإِنْسَانِ، ودَعْوَى التَّصَرُّفِ في المُلْكِ لِصَالِحِ رَمِيمٍ في التُّرَابِ والأَكْفَانِ ، قد عَجَزَ عن دَفْعِ مَا حَلَّ به مِن أَمْرِ اللهِ، فَكَيْفَ يَدْفَعُ عَمَّن دَعَاهُ مِن بَعِيدِ الأَوْطَانِ ؟! أو فَاسِقٌ يُشَاهِدُونَ فِسْقَه وفُجُورَه فهو أَبْعَدُ النَّاسِ مِن الرَّحْمَنِ ؟! أو سَاحِرٌ يُرِيهِم مِن سِحْرِه مَا يُحَيِّرُ به الأَذْهانَ، فَيَظُنُّ المَخْذُولُونَ أَنَّها كَرَامَةٌ مِن اللهِ، وَإِنَّمَا هي مِن مَخَارِيقِ الشَّيْطَانِ ! تبًّا لَهُم سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهم بَابَ العِلْمِ والإِيمَانِ، وفَتَحُوا عَلَيْهَا بَابَ الجَهْلِ والكُفْرَانِ، قَابَلوا خَبَرَ اللهِ بالتَّكْذِيبِ، وأَمْرَه بالعِصْيانِ.
أَخْبَرَ بِأَنَّ الهُدَى والنُّورَ في كِتَابِهِ، فَقَالُوا: كَانَ ذَاكَ فِيمَا مَضَى مِن الزَّمَانِ ، وَأَمَرَهُم باتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إليهم مِن رَبِّهِم، وَلاَ يَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، فَقَالُوا: لا بُدَّ لَنَا مِن وَلِيٍّ غَيْرِ القُرْآنِ ، إنْ جِئْتَهم بكِتَابِ اللهِ قَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ أَهْلَ الزَّمَان ، أو جِئْتَهُم بِسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: خَالَفَهَا الشَّيْخُ فُلاَنٌ، وهو أَعْلَمُ مِنَّا ومنكم، فاعْتَبِرُوا يا أُولِي الإِيمَانِ.
عَمَـدُوا إلى قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ والصَّالِحِينَ، فَبَنَوْا عَلَيْهَا البُنْيَانَ، ونَقَشُوا سُقُوفَهَا والحِيطَانَ، وحَلَّوْها بالغَالِي مِن الأَثْمَانِ، وأَلْبَسُوهَا أَلْوَانَ السُّتُورِ الحِسَانِ، وَجَعَلُوا لَهَا السَّدَنَةَ والخُدَّامَ، فِعْلَ عُـبَّادِ الأوثانِ والصُّلبانِ، وذَبَحُوا وَنَذَرُوا لِمَن فيها، وَقَرَّبُوا لَهُم القُرْبانَ، وقَالُوا: هؤلاء شُفَعَاؤُنَا في كَشْفِ الكُرُوبِ وغُفْرَانِ الذُّنُوبِ ودُخُولِ الجِنَانِ.
فباللهِ صِفْ لي شِرْكَ المُشْرِكِينَ، هل هو بِعَيْنِهِ إِلاَّ هذا، كَمَا نَطَقَ به القُرْآنُ في سُورَةِ يُونُسَ، والزُّمَرِ، وَغَيْرِهِمَا، مِن مُحْكَمَاتِ الفُرْقَانِ، إِنْ غَرَّكَ أَنَّ الأَكْثَرَ عَلَيْهِ، فَقَدْ حَكَمَ اللهُ بِأَنَّهُم أَضَلُّ سَبِيلاً مِن الأَنْعَامِ؛ إِذِ اسْتَبْدَلُوا الشِّرْكَ بالتَّوْحيدِ، والضَّلاَلَ بالهُدَى، والكُفْرَ بالإِسْلاَمِ، نَعُوذُ باللهِ مِن مُوجِبَاتِ غَضَبِهِ وأَلِيمِ عِقَابِهِ فهو السَّلاَمُ، أو غَرَّكَ أَنَّ بَعْضَ مَن تُعَظِّمُه قَدْ رَأَى شَيْئًا مِن هَذَا أَو قَالَهُ، فالخَطَأُ جَائِزٌ عَلَى مَن سِوَى الرَّسُولِ مِن الأَنَامِ.
فَعَلَيْكَ بالرُّجُوعِ إلى العِصْمَةِ الذي لاَ سَبِيلَ إِلَى تَطَرُّقِ الخَطَأِ إِلَيْهِ، وهو كَلاَمُ ذِي الجَلاَلِ والإِكْرَامِ، وسُنَّةُ رَسُولِهِ -عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاَةِ والسَّلاَمِ-، مَعَ مَا قَالَهُ العُلَمَاءُ الأَعْلاَمُ، الذين نَطَقُوا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وحَقَّقُوها بالأَعْمَالِ والكَلاَمِ.
ولَمْ يَزَلِ الحَالُ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَكَ مِن الأُمُورِ العِظَامِ مُنْتَشِرًا في أَهْلِ البُلْدَانِ المُنْتَسِبينَ إلى الإِسْلاَمِ، المَارِقِينَ منه كَمَا تَمْرُقُ الرَّمِيَّةُ مِن السِّهَامِ، إلى أَنْ أَرَادَ اللهُ إِزَالَةَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وكَشْفَ البِدَعِ والضَّلاَلاَتِ، ونَفْيَ الشُّبُهَاتِ والجَهَالاَتِ، وتَصْدِيقَ بِشَارةِ رَسُولِ رَبِّ الأَرْضِ والسَّمَاواتِ، في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَن يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا " رَوَاهُ أَبُو دَاودَ والحَاكِمُ والبَيْهَقِيُّ في المَعْرِفَةِ وإِسْنَادُه صَحِيحٌ، على يَدَيْ مَن أَقَامَهُ هذا المُقَامَ، ومَنَحَهُ جَزِيلَ الفَضْلِ والإِنْعَامِ، أَعْنِي به الشَّيْخَ الإِمَامَ خَلَفَ السَّلَفِ الكِرَامِ، المُتَّبِعَ لهَدْي سيدِ الأَنَامِ، المنافحَ عن دِينِ اللهِ في كُلِّ مَقَامٍ، شَيْخَ الإِسْلاَمِ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ الوَهَّابِ، أَحْسَنَ اللهُ له المَآبَ وضَاعَفَ له الثَّوَابَ، فَدَعَا إلى اللهِ لَيْلاً ونَهَارًا وسِرًّا وجِهَارًا، وَقَامَ بِأَمْرِ اللهِ في الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ ومَا حَابَى أَحَدًا فيه ولاَ دَارَى، فعَظُمَ عَلَى الأَكْثَرِينَ وأَنِفُوا اسْتِكْبَارًا، وَلَمْ يُثْنِهِ ذَلِكَ عَن أَمْرِ اللهِ حَتَّى قَيَّضَ اللهُ له أَعْوانًا وَأَنْصَارًا، فَرَفَعُوا أَلْوِيَتَهُ وأَعْلاَمَهُ حَتَّى انْتَشَرَتْ في الخَافِقَينِ انْتِشَارًا.
وَصَنَّفَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- التَّصَانِيفَ في تَوْحيدِ الأَنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ، والرَّدِّ عَلَى مَن خَالفَهُ مِن المُشْرِكِينَ، وَمِن جُمْلَتِهَا كِتَابَ التَّوْحيدِ ؛ وهو كِتَابٌ فَرْدٌ في مَعْنَاهُ، لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ سَابِقٌ، وَلاَ لَحِقَهُ فيه لاَحِقٌ، وهو الذي قَصَدْتُ الكَلاَمَ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وإِنْ كُنْتُ لَسْتُ مِمَّنْ يَتَصَدَّى لِهَذَا الشَّأْنِ لكن لَمَّا رَأَيْتُ الكِتَابَ لَمْ يَتَعَرَّضْ للكَلاَمِ عَلَيْهِ أَحَدٌ يُعْتَدُّ بِهِ ورَأَيْتُ تَشَوُّقَ الطَّلَبَةِ والإِخْوَانِ إلى شَرْحٍ يَفِي ببَعْضِ ما فيه مِن المَقَاصِدِ، أَحْبَبْتُ أَنْ أُسْعِفَهُمْ بِمُرَادِهم عَلَى حَسَبِ طَاقَتِي، واللهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، ولذلك يَسَّرَ اللهُ الكَلاَمَ عَلَيْهِ، وَمَنَّ به مِن عِنْدِه وَحْدَه لاَ شَرِيكَ له بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ، لاَ بِحَوْلِي وقُوَّتِي فَنَاسَبَ أَنْ يُسَمَّى: تَيْسِيرَ العَزِيزِ الحَمِيدِ في شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
وحَيْثُ أَطْلَقْتُ شَيْخَ الإِسْلاَمِ، فالمُرَادُ بِهِ الإِمَامُ أَبُو العَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، والحَافِظَ فالمُرَادُ به أَبُو الفَضْلِ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلاَنِيُّ، صَاحِبُ فَتْحِ البَارِي وغَيْرِه رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى.
وأسألُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وسَبَبًا للفَوْزِ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ، رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
***
(1) افْتَتَحَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ كِتَابَهُ بالبَسْمَلَةِ، اقْتِدَاءً بالكِتَابِ العَزِيزِ وعَمَلاً بالحَدِيثِ: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ " رَوَاهُ الحَافِظُ عَبْدُ القَادِرِ الرَّهاويُّ في الأَرْبَعِينَ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الخَطِيبُ في الجَامِعِ بنحوِهِ.
فإن قلْتَ: هَلاَّ جَمَعَ المُصَنِّفُ بَيْنَ البَسْمَلَةِ والحَمْدَلَةِ، لِمَا رَوَى ابنُ ماجه والبيهقيُّ، عن أبي هريرةَ مرفوعًا: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِالحَمْدِ للهِ فَهُوَ أَقْطَعُ " وفي روايةٍ لأحمدَ: " لاَ يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ وَأَقْطَعُ ".
قيلَ: المرادُ الافتتاحُ بما يدلُّ عَلَى المقصودِ مِن حمدِ اللهِ والثَّناءِ عليهِ؛ لأَِنَّ الحَمْدَ مُتَعَيِّنٌ؛ لأَِنَّ القَدْرَ الَّذي يَجْمعُ ذلك هو ذِكْرُ اللهِ وَقَدْ حَصَلَ بالبَسْمَلَةِ ، وأيضًا فَلَيْسَ في الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ تَتَعيَّنُ كِتَابتُها مَعَ النُّطْقِ بِهَا، فَقَدْ يَكُونُ المُصَنِّفُ نَطَقَ بذلِكَ في نفسِهِ.
واتّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أنَّ الجَارَّ والمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ الكُوفِيُّونَ فِعْلاً مُقَدَّمًا، والتَّقْدِيرُ: أَبْدَأُ، وقَدَّرَهُ البَصْرِيُّونَ اسْمًا مُقَدَّمًا، والتَّقْدِيرُ: ابْتِدَائِي كَائِنٌ، أو مُسْتَقِرٌّ.
قَالَ: (فالجَارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي في مَوْضِعِ رَفْعٍ) وذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ القَوْلَيْنِ مُتَقَارِبَانِ، وَكُلٌّ قَدْ وَرَدَ بِهِ القُرْآنُ.
- أمَّا مَنْ قدَّرَه باسْمٍ تَقْدِيرُهُ: باسْمِ اللهِ ابْتِدَائِي ؛ فلِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَقالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود:41].
- ومَنْ قَدَّرَه بالفِعْلِ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا نَحْوَ: بَدَأَ باسْمِ اللهِ، وابْتَدَأْتُ باسْمِ اللهِ، فلقولِهِ تَعَالَى: { اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } .
وكِلاَهُمَا صَحِيحٌ، فَإنَّ الفِعْلَ لاَ بُدَّ له مِن مَصْدَرٍ، فلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الفِعلَ ومَصْدَرَهُ، وذلك بِحَسَبِ الفِعْلِ الَّذي سَمَّيْتَهُ قبلَه إن كانَ قِيَامًا أو قُعُودًا، أو أَكْلاً، أو شُرْبًا، أو قِرَاءَةً، أو وُضُوءًا، أو صَلاَةً، فالمَشْرُوعُ ذِكْرُ اسمِ اللهِ تَعَالَى في ذلكَ كلِّه تَبَرُّكًا وَتَيمُّنًا واسْتِعَانَةً عَلَى الإِتْمَامِ والتَّقَبُّلِ.
وقَدَّرهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِعْلاً مُؤَخَّرًا، أي: باسْمِ اللهِ أَقْرَأُ أو أَتْلُو؛ لأَِنَّ الَّذي يَتْلُوهُ مَقْرُوءٌ، وكلُّ فَاعِلٍ يَبْدَأُ في فِعْلِهِ باسْمِ اللهِ كَانَ مُضْمِرًا ما تُجْعَلُ التَّسْمِيَةُ مَبْدأً له، كَمَا أنَّ المُسَافِرَ إِذَا حَلَّ أو ارْتَحَلَ، فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، كَانَ المَعْنَى بِسْمِ اللهِ أَحِلُّ، وبسمِ اللهِ أَرْتَحِلُ، وهَذَا أَوْلَى مِن أَنْ يُضْمَرَ أَبْدَأُ، لعَدَمِ ما يُطَابِقُهُ ويَدُلُّ عَلَيْهِ، أو ابْتِدَائِي لزِيَادَةِ الإِضْمَارِ فيهِ، وإنَّما قَدَّرَ المَحْذُوفَ مُتَأَخِّرًا وقَدَّمَ المَعْمُولَ؛ لأَِنَّهُ أَهَمُّ وَأَدَلُّ عَلَى الاخْتِصَاصِ، وأَدْخَلُ في التَّعْظِيمِ وأَوْفَقُ للوُجُودِ، فإنَّ اسْمَ اللهِ تَعَالَى مُقَدَّمٌ عَلَى القِرَاءَةِ، كيفَ وَقَدْ جُعِلَ آلةً لَهَا مِن حَيْثُ إنَّ الفِعْلَ لاَ يُعْتَدُّ بهِ شَرْعًا مَا لَمْ يُصَدَّرْ باسْمِهِ تَعَالَى.
وأمَّا ظُهُورُ فِعْلِ القِرَاءةِ في قَوْلِهِ: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } فَلأَِنَّ الأَهَمَّ ثَمَّةَ القِرَاءةُ، ولِذَا قَدَّمَ الفِعْلَ فيها عَلَى مُتعلَّقِهِ، بِخِلاَفِ البَسْمَلَةِ فَإِنَّ الأَهَمَّ فيها الابْتِدَاءُ، قَالَهُ البَيْضَاوِيُّ، وَهَذَا القَوْلُ أَحْسَنُ الأَقْوَالِ، وأَظُنُّهُ اخْتِيارَ شَيْخِ الإِسْلاَمِ، وَقَدْ أَلَمَّ بهِ ابنُ كَثِيرٍ إِلاَّ أنَّهُ جَعَلَ المَحْذُوفَ مُقَدَّرًا قَبْلَ البَسْمَلَةِ.
وذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ لحَذْفِ العَامِلِ في بِسْمِ اللهِ فَوَائِدَ عَدِيدةً:
منها: أَنَّهُ مَوْطِنٌ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ فيه سِوَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، فَلَوْ ذَكَرْتَ الفِعْلَ وهو لا يَسْتَغْنِي عن فَاعِلِه كَانَ ذلكَ مُنَاقِضًا للمَقْصُودِ، فَكَانَ في حَذْفِهِ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ للمَعْنَى ليكونَ المَبْدُوءُ بهِ اسْمَ اللهِ، كَمَا تَقُولُ في الصَّلاَةِ: اللهُ أَكْبَرُ، ومَعْنَاهُ: مِن كُلِّ شَيْءٍ، ولَكِنْ لاَ تَقُولُ هَذَا القَدْرَ ليَكُونَ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لمَقْصُودِ الجَنَانِ، وهو أَنْ لاَ يَكُونَ في القَلْبِ إِلاَّ ذِكْرُ اللهِ وحدَهُ، فَكَمَا تَجَرَّدَ ذِكْرُهُ في قَلْبِ المُصَلِّي تَجَرَّدَ ذِكْرُه في لِسَانِهِ.
ومنها: أَنَّ الفِعْلَ إِذَا حُذِفَ صَحَّ الابْتِدَاءُ بالتَّسْمِيَةِ في كُلِّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ وَحَرَكَةٍ، ولَيْسَ فِعْلٌ أَوْلَى بِهَا مِن فِعْلٍ، فَكَانَ الحَذْفُ أَعَمَّ مِن الذِّكرِ، فَأَيَّ فِعْلٍ ذَكَرْتَهُ كَانَ المَحْذُوفُ أَعَمَّ منهُ.
(اللهِ) عَلَمٌ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ: أنَّهُ أَعْرَفُ المَعَارِفِ ، ويُقَالُ: إنَّهُ الاسْمُ الأَعْظَمُ؛ لأَِنَّهُ يُوصَفُ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ له الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ له مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر:22-24] فَأَجْرَى الأَسْمَاءَ البَاقِيَةَ كُلَّهَا صِفَاتٍ له.
واختلفُوا: هلْ هو اسمٌ جامدٌ أو مشتَقٌّ؟ عَلَى قولين: أَصَحُّهُمَا أنَّهُ مُشْتَقٌّ.
قالَ ابنُ جريرٍ: فإنَّهُ عَلَى ما رُوِيَ لَنَا عن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اللهُ ذُو الأُلُوهِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ.
وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ عن الخَلِيلِ أَنَّ أَصْلَهُ: (إِلَهٌ) مِثْلَ فِعَالٍ، فَأُدْخِلَتِ الأَلِفُ واللاَّمُ بَدَلاً مِن الهَمْزَةِ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: مِثْلَ النَّاسِ أَصْلُهُ أُنَاسٌ.
وَقَالَ الكِسَائِيُّ والفَرَّاءُ: أَصْلُه الإِلَهُ حَذَفُوا الهَمْزَةَ وأَدْغَمُوا اللاَّمَ الأُولَى في الثَّانِيَةِ .
وعَلَى هَذَا فالصَّحِيحُ أنَّهُ مُشْتَقٌّ مِن أَلِهَ الرَّجُلُ: إِذَا تَعبَّدَ، كَمَا قَرَأَ ابنُ عَبَّاسٍ: { وَيَذَرَكَ وإِلَهَتَكَ } أي: عِبَادَتَكَ وَأَصْلُهُ الإِلَهُ ؛ أي: المَعْبُودُ، فحُذِفَتِ الهَمْزَةُ الَّتِي هي فَاءُ الكَلِمَةِ فالْتَقَتِ اللاَّمُ الَّتِي هي عينُهَا مَعَ اللاَّمِ الَّتِي للتَّعْرِيفِ، فأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا في الأُخْرَى، فَصَارَتَا في اللَّفْظِ لاَمًا وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً وفُخِّمَتْ تَعْظِيمًا، فَقِيلَ: اللهُ.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ: القَوْلُ الصَّحِيحُ أَنَّ اللهَ أصْلُه: الإِلَهُ، كَمَا هو قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ منهم، وأنَّ اسْمَ اللهِ تَعَالَى هو الجَامِعُ لجَمِيعِ مَعَانِي الأَسْمَاءِ الحُسْنَى والصِّفَاتِ العُلَى.
قَالَ: وزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ وَشَيْخُهُ أَبُو بَكْرِ بنُ العَرَبِيِّ أَنَّ اسْمَ اللهِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ؛ لأَِنَّ الاشْتِقَاقَ يَسْتَلْزِمُ مَادَّةً يُشتَقُّ منها، واسْمُهُ تَعَالَى قَدِيمٌ، والقَدِيمُ لاَ مَادَّةَ له، فيَسْتَحِيلُ الاشْتِقَاقُ.
وَلاَ رَيْبَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بالاشْتِقَاقِ هَذَا المَعْنَى وَأَنَّهُ مُسْتَمَدٌّ مِن أَصْلٍ آخَرَ فهو بَاطِلٌ، ولَكِنَّ الَّذينَ قالُوا بالاشْتِقَاقِ لَمْ يُرِيدُوا هَذَا المَعْنَى، وَلاَ أَلَمَّ بقُلُوبِهِم، وإنَّما أَرَادُوا أنَّهُ دَالٌّ عَلَى صِفَةٍ له تَعَالَى وهي الإِلَهِيَّةُ كَسَائِرِ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى: كالعَلِيمِ والقَدِيرِ والغَفُورِ والرَّحِيمِ والسَّمِيعِ والبَصِير ؛ لإِنَّ هَذِهِ الأَسْمَاءَ مُشْتَقَّةٌ مِن مَصَادِرِها بِلاَ رَيْبٍ، وهي قَدِيمَةٌ، والقَدِيمُ لاَ مَادَّةَ له، فَمَا كَانَ جَوابَكُم عن هذه الأَسْمَاءِ فهو جَوَابُ القَائِلِينَ باشْتِقَاقِ اسْمِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ الجَوَابُ عن الجَمِيعِ أَنَّا لاَ نَعْنِي بالاشْتِقَاقِ إِلاَّ أنَّهَا مُلاَقِيَةٌ لِمَصَادِرِهَا في اللَّفْظِ والمَعْنَى، لاَ أنَّهَا مُتَولِّدةٌ منه تَوَلُّدَ الفَرْعِ من أصْلِه ، وتَسْمِيَةُ النُّحَاةِ للمَصْدَرِ والمُشْتَقِّ منه أَصْلاً وفَرْعًا لَيْسَ مَعْناهُ أنَّ أحدَهمُا تولَّدَ مِن الآخَرِ، وإنَّما هو باعْتِبَارِ أنَّ أحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ الآخَرَ وزِيَادَةً.
وذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ لِهَذَا الاسْمِ الشَّرِيفِ عَشْرَ خَصَائِصَ لفْظِيَّةٍ ثُمَّ قَالَ: (وأَمَّا خَصَائِصُهُ المَعْنَوِيَّةُ فقد قالَ فيها أَعْلَمُ الخَلْقِ بهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " وكيف تُحْصَى خَصَائِصُ اسْمٍ مُسَمَّاهُ كلُّ كمَالٍ عَلَى الإِطْلاَقِ وَكُلُّ مَدْحٍ وَكُلُّ حَمْدٍ وَكُلُّ ثَنَاءٍ وَكُلُّ مَجْدٍ وَكُلُّ جَلاَلٍ وَكُلُّ إِكْرَامٍ وَكُلُّ عِزٍّ وكُلُّ جَمَالٍ، وَكُلُّ خَيْرٍ وإِحْسَانٍ وجُودٍ وَبِرٍّ وفَضْلٍ فَلَهُ ومِنْهُ.
فَمَا ذُكِرَ هذا الاسْمُ في قَلِيلٍ إِلاَّ كَثَّرَهُ، وَلاَ عِنْدَ خَوْفٍ إِلاَّ أَزَالَهُ، ولاَ عِنْدَ كَرْبٍ إِلاَّ كَشَفَهُ، وَلاَ عِنْدَ هَمٍّ وغَمٍّ إلاَّ فَرَّجَهُ، ولاَ عِنْدَ ضِيقٍ إِلاَّ وَسَّعَهُ، ولا تَعَلَّقَ بهِ ضَعِيفٌ إِلاَّ أَفَادَهُ القُوَّةَ، وَلاَ ذَلِيلٌ إِلاَّ أنَالَهُ العِزَّ، وَلاَ فَقِيرٌ إِلاَّ أَصَارَهُ غَنِيًّا، وَلاَ مُسْتَوْحِشٌ إِلاَّ آنَسَهُ، وَلاَ مَغْلُوبٌ إِلاَّ أيَّدَهُ ونَصَرَهُ، وَلاَ مُضْطَرٌّ إلاَ كَشَفَ ضُرَّهُ، وَلاَ شَرِيدٌ إِلاَّ آواهُ.
فهو الاسْمُ الَّذِي تُكْشَفُ بهِ الكُرُبَاتُ، وتُسْتَنْزَلُ بهِ البَرَكَاتُ والدَّعَوَاتُ، وتُقَالُ بهِ العَثَرَاتُ، وتُسْتَدْفَعُ بِهِ السَّيِّئَاتُ، وتُسْتَجْلَبُ بهِ الحَسَنَاتُ، وهو الاسْمُ الَّذِي بِهِ قَامَتِ السَّمَاواتُ والأَرْضُ، وبِهِ أُنْزِلَتِ الكُتُبُ، وبهِ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وبهِ شُرِعَتِ الشَّرَائِعُ، وبهِ قَامَتِ الحُدُودُ، وبهِ شُرِعَ الجِهَادُ، وبهِ انْقَسَمَتِ الخَلِيقَةُ إِلَى السُّعَداءِ والأَشْقِيَاءِ، وبهِ حَقَّتِ الحَاقَّةُ، ووَقَعَتِ الوَاقِعَةُ، وبهِ وُضِعَتِ المَوَازِينُ القِسْطُ، ونُصِبَ الصِّرَاطُ، وقَامَ سُوقُ الجنَّةِ والنَّارِ.
وبهِ عُبِدَ رَبُّ العَالَمِينَ وَحُمِدَ، وبِحَقِّهِ بُعِثَتِ الرُّسُلُ، وعنه السُّؤالُ في القَبْرِ ويومَ البَعْثِ والنُّشُورِ وبهِ الخِصَامُ، وإليهِ المُحَاكَمَةُ، وفيه المُوَالاَةُ والمُعَادَاةُ، وبهِ سَعِدَ مَنْ عَرَفَهُ وقام بِحَقِّهِ، وبهِ شَقِيَ مَنْ جَهِلَهُ وتَرَكَ حَقَّهُ، فهو سِرُّ الخَلْقِ والأَمْرِ وبهِ قامَا وَثَبَتَا، وإِلَيْهِ انْتَهَيَا، فالخَلْقُ والأَمْرُ بهِ وإِلَيْهِ ولأَِجْلِهِ فَمَا وُجِدَ خَلْقٌ وَلاَ أَمْرٌ وَلاَ ثَوَابٌ وَلاَ عِقَابٌ إِلاَّ مُبْتَدِئًا منه، مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ، وذَلِكَ مُوجِبُهُ ومُقْتَضَاهُ، ربَّنَا ما خَلَقْتَ هَذَا باَطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار) إلى آخِرِ كَلاَمِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
(الرَّحمنُ) و(الرَّحِيمُ) قَالَ ابنُ كثيرٍ: اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِن الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ المُبَالَغَةِ، ورَحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِن رَحِيم ، قَالَ ابنُ عبَّاسٍ: وَهُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُما أَرَقُّ مِن الآخَرِ ، أي: أَوْسَعُ رَحْمَةً.
وَقَالَ ابنُ المُبَارَكِ: الرَّحْمَنُ إِذَا سُئِلَ أَعْطَى، والرَّحِيمُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ يَغْضَبُ ، قُلْتُ: كَأنَّ فيه إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى كَلاَمِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ لأَِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى تَغْلِبُ غَضَبهُ، وَعَلَى هَذَا فالرَّحْمَنُ أَوْسَعُ مَعْنًى مِن الرَّحِيمِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ زِيَادَةُ البِنَاءِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ عَامٌّ في جَمِيعِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ يَخْتَصُّ بِهِ اللهُ تَعَالَى، والرَّحِيمُ إنَّما هو في جِهَةِ المُؤْمِنِينَ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب:43] ونَحْوَهُ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ.
ويُشكِلُ عَلَيْهِ قولُهُ تَعَالَى: { إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:143] ، وقولُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ: " رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا " .
فالصَّوابُ -إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- ما قَالَهُ ابنُ القَيِّمِ: إنَّ الرَّحْمَنَ دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ القَائِمَةِ بهِ -سُبْحَانَهُ-، والرَّحيمَ دالٌّ عَلَى تعلُّقِهَا بالمَرْحُومِ، فكَانَ الأَوَّلُ للوَصْفِ والثَّانِي للفِعْلِ ؛ فالأَوَّلُ دَالٌّ عَلَى أنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ، والثَّانِي دالٌّ عَلَى أنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ.
وإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: { وَكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } { إنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة:117] ، وَلَمْ يَجِئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِم، فَعُلِمَ أنَّ (رَحْمَن) هو المَوْصُوفُ بالرَّحْمَةِ، و(رَحِيم) هو الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ.
والرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ نَعْتَانِ للهِ تَعَالَى ، واعْتُرِضَ بورُودِ اسْمِ الرَّحْمَنِ غَيْرَ تابعٍ لاِسْمٍ قَبْلَهُ ؛ قَالَ تَعَالَى: { الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] فهو عَلَمٌ، فَكَيْفَ يُنْعَتُ بهِ.
والجَوَابُ ما قَالَهُ ابنُ القَيِّمِ أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّبِّ تَعَالَى هي أَسْمَاءٌ ونُعُوتٌ، فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِفَاتِ كَمَالِهِ، فَلاَ تَنَافِيَ فيها بَيْنَ العَلَمِيَّةِ والوَصْفِيَّةِ ، فالرَّحْمَنُ اسْمُهُ تَعَالَى ، ووصْفُهُ تَعَالَى لاَ يُنَافِي اسْمِيَّتَهُ، فَمِن حَيْثُ هو صِفَةٌ جَرَى تَابِعًا لاِسْمِ اللهِ تَعَالَى، ومِن حَيْثُ هو اسْمٌ وَرَدَ في القُرْآنِ غَيْرَ تَابِعٍ، بل وَرَدَ الاسْمُ العَلَمُ ، ولَمَّا كَانَ هَذَا الاسْمُ مُخْتَصًّا بهِ سُبْحَانَهُ حَسُنَ مَجِيئُهُ مُفْرَدًا غَيْرَ تَابِعٍ كَمَجِيءِ اسْمِ اللهِ، وَهَذَا لاَ يُنَافِي دَلاَلَتَهُ عَلَى صِفَةِ الرَّحْمَةِ كاسْمِ اللهِ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى صِفَةِ الأُلُوهِيَّةِ فلَمْ يَجِئْ قَطٌّ تَابِعًا لغَيْرِهِ بلْ مَتْبُوعًا، وهَذَا بِخِلاَفِ العَلِيمِ والقَدِيرِ والسَّمِيعِ والبَصِيرِ ونَحْوِهَا، ولِهَذَا لاَ تَجِيءُ هَذِهِ مُفْرَدَةً بل تَابِعَةً.
قُلْتُ: قولُهُ عن اسمِ اللهِ: ولَمْ يَجِئْ قَطُّ تَابِعًا لغَيْرِهِ، بل لَقَدْ جَاءَ في قولِهِ تَعَالَى: { إِلى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ (1) اللهِ الَّذِي له مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } [إبراهيم:1 ،2] عَلَى قِرَاءَةِ الجَرِّ، وجَوَابُ ذَلِكَ مِن كَلاَمِهِ المُتَقَدِّمِ، فيُقَالُ فيه مَا قَالَهُ في اسْمِ الرَّحْمَنِ.
(2) (كتابُ التَّوْحِيدِ)
الكِتَابُ: مَصْدَرُ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابًا وكِتَابَةً وكَتْبًا. ومَدَارُ الْمَادَّةِ عَلَى الجَمْعِ ، ومنه تَكَتَّبَ بَنُو فُلاَنٍ: إِذَا اجْتَمَعُوا ، والكَتِيبَةُ لِجَمَاعَةِ الخَيْلِ، والكِتَابَةُ بالقَلَمِ لاِجْتِمَاعِ الكَلِمَاتِ والحُرُوفِ، وسُمِّيَ الكِتَابُ كِتَابًا لِجَمْعِهِ مَا وُضِعَ له، ذَكَرَهُ غَيْرُ واحِدٍ.
والتَّوْحِيدُ: مَصْدَرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ تَوْحِيدًا، أي: جَعَلَهُ واحِدًا.
وسُمِّيَ دِينُ الإِسْلاَمِ تَوْحِيدًا؛ لأَِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ في مُلْكِهِ وأَفْعَالِهِ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ووَاحِدٌ في ذَاتِهِ وصِفَاتِهِ لاَ نَظِيرَ لَهُ، ووَاحِدٌ في إلَهِيَّتِهِ وعِبَادَتِهِ لاَ نِدَّ له، وإلى هذه الأَنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ يَنْقَسِمُ تَوْحِيدُ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ الَّذِينَ جَاؤُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وهي مُتَلاَزِمَةٌ، كُلُّ نَوْعٍ مِنْها لاَ يَنْفَكُّ عن الآخَرِ، فَمَنْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنْهَا وَلَمْ يَأْتِ بالآخَرِ، فَمَا ذَاكَ إِلاَّ أنَّهُ لَمْ يَأْتِ بهِ عَلَى وَجْهِ الكَمَالِ المَطْلُوبِ.
وإِنْ شِئْتَ قلْتَ: التَّوحِيدُ نَوْعَانِ:
- تَوْحِيدٌ في المَعْرِفَةِ والإِثْبَاتِ، وهو تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ والأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ.
- وتَوْحِيدٌ في الطَّلَبِ والقَصْدِ، وهو تَوْحِيدُ الإِلَهِيَّةِ والعِبَادَةِ.
ذَكَرَهُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ وابْنُ القَيِّمِ، وذَكَرَ مَعْنَاهُ غَيْرُهُمَا.
النَّوعُ الأَوَّلُ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ والمُلْكِ، وهو الإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ومَالِكُهُ وخَالِقُهُ ورَازِقُهُ، وأَنَّهُ المُحْيِي المُمِيتُ النَّافِعُ الضَّارُّ المُتَفَرِّدُ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ الاضْطِرَارِ، الَّذِي له الأَمْرُ كُلُّهُ، وبِيَدِهِ الخَيْرُ كُلُّهُ، القَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، لَيْسَ له في ذَلِكَ شَرِيكٌ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ الإِيمَانُ بالقَدَرِ.
وهَذَا التَّوْحِيدُ لاَ يَكْفِي العَبْدَ في حُصُولِ الإِسْلاَمِ، بل لاَ بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ مَعَ ذَلِكَ بِلاَزِمِهِ مِن تَوْحِيدِ الإِلَهِيَّةِ؛ لأَِنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَى عن المُشْرِكِينَ أنَّهُم مُقِرُّونَ بِهَذَا التَّوْحِيدِ للهِ وَحْدَهُ ؛ قَالَ تَعَالَى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [يونس:31] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ } [الزخرف:87] ، وقالَ: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ } [العنكبوت:63] ، وَقَالَ تَعَالَى: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [النمل:62].
فهُمْ كانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ للهِ وَحْدَهُ ولَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُسْلِمِينَ، بل قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّه إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون } [يوسف:106] قَالَ مُجَاهِدٌ في الآيَةِ: إِيمَانهُم باللهِ قَوْلُهُم: إنَّ اللهَ خَلَقَنَا ويَرْزُقُنَا ويُمِيتـُنَا، فَهَذَا إِيمَانٌ مَعَ شِرْكِ عِبَادَتِهِم غَيْرَهُ ، رواهُ ابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حَاتمٍ ، وعن ابنِ عَبَّاسٍ وعَطَاءٍ والضَّحَّاكِ نَحْوَ ذَلِكَ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الكُفَّارَ يَعْرِفُونَ اللهَ وَيَعْرِفُونَ رُبُوبِيَّتَهُ، ومُلْكَهُ وَقَهْرَهُ، وكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَهُ وَيُخْلِصُونَ لَهُ أَنْوَاعًا مِن العِبَادَاتِ كالحَجِّ والصَّدَقَةِ والذَّبْحِ والنَّذْرِ والدُّعاءِ وَقْتَ الاضْطِرَارِ ونَحْوِ ذَلِكَ ، ويَدَّعُونَ أنَّهُم عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: { مَا كانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [آل عمران: 67] وبَعْضُهُم يُؤْمِنُ بالبَعْثِ والحِسَابِ، وبَعْضُهُمْ يُؤْمِنُ بالقَدَرِ.
كَمَا قَالَ زُهَيرٌ:
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ في كِتَابٍ فيُدَّخَرْ=لِيَوْمِ الحِسَابِ أو يُعَجَّلْ فَيَنْقِمِوقالَ عَنْتَرَةُ:
يَاعَبْلُ أَيْنَ مِن المَنِيَّـةِ مَهْرَبـي=إِنْ كَانَ رَبِّي في السَّمَاءِ قَضَاهَا
ومِثْلُ هَذَا يُوجَدُ في أَشْعَارِهِم، فَوَجَبَ عَلَى كلِّ مَن عَقَلَ عن اللهِ تَعَالى أَنْ يَنْظُرَ ويَبْحَثَ عن السَّبَبِ الَّذي أَوْجَبَ سَفْكَ دِمَائِهِم، وسَبْيَ نِسَائِهِم، وإِبَاحَةَ أَمْوَالِهِم، مَعَ هَذَا الإِقْرَارِ والمَعْرِفَةِ، ومَا ذَاكَ إِلاَّ لِإِشْرَاكِهِم في تَوْحِيدِ العِبَادَةِ الَّذِي هو مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
النَّوْعُ الثَّانِي: تَوْحِيدُ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ، وهو الإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ الحَيُّ القَيُّومُ الَّذي لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ، لَهُ المَشِيئَةُ النَّافِذَةُ، والحِكْمَةُ البَالِغَةُ، وأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى، وعَلَى المُلْكِ احْتَوَى، وأَنَّهُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ، سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الأَسْمَاءِ الحُسْنَى، والصِّفاتِ العُلَى.
وهَذَا أَيْضًا لاَ يَكْفِي في حُصُولِ الإِسْلاَمِ، بَلْ لاَ بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِن الإِتْيَانِ بِلاَزِمِه، مِن تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ والإِلَهِيَّةِ.
والكُفَّارُ يُقِرُّونَ بِجِنْسِ هَذَا النَّوْعِ، وإِنْ كَانَ بَعْضُهُم قَدْ يُنْكِرُ بَعْضَ ذَلِكَ، إمَّا جَهْلاً، وَإِمَّا عِنَادًا، كَمَا قَالُوا: لاَ نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلاَّ رَحْمَنَ اليَمَامَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ فيهِم: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [الرعد: 30].
قالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: والظَّاهِرُ أَنَّ إِنْكَارَهُم هَذَا إنَّما هو جُحُودٌ وعِنَادٌ وتَعَنُّتٌ في كُفْرِهِم، فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَ في بَعْضِ أَشْعَارِ الجَاهِلِيَّةِ تَسْمِيَةُ اللهِ بالرَّحْمَنِ ؛ قالَ الشَّاعرُ:
وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ
وَقَالَ الآخَرُ:
أَلاَ قَضَبَ الرَّحمنُ رَبِّي يمينَهَا
وهما جاهليَّانِ.
وقالَ زُهَيرٌ:
فَلاَ تَكْتُمَنَّ اللهَ مَا في نُفُوسِكُم=ليَخْفَى ومَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
قُلْتُ: وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُم إِنْكَارُ شَيْءٍ مِن هَذَا التَّوْحِيدِ إِلاَّ في اسْمِ الرَّحْمَنِ خَاصَّةً، وَلَوْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ لَرَدُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، كَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ تَوْحِيدَ الإِلَهِيَّةِ فَقَالُوا: { أَجَعَلَ الآلَهِةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:5] لاَ سِيَّمَا السُّورُ المَكِّيَّةُ مَمْلُوءَةٌ بِهَذَا التَّوحِيدِ.
النَّوعُ الثَّالثُ: تَوْحيدُ الإلهيَّةِ المَبْنِيُّ عَلَى إِخْلاَصِ التَّأَلُّهِ للهِ تَعَالَى، مِن المَحَبَّةِ وَالخَوْفِ، والرَّجَاءِ والتَّوَكُّلِ، والرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ، والدُّعَاءِ للهِ وَحْدَهُ ، ويَنْبَنِي عَلَى ذلك إخلاصُ العِبَادَاتِ كُلِّهَا ظَاهِرِهَا وباطِنِها للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ له، لاَ يَجْعَلُ فيها شَيْئًا لِغَيْرِهِ، لاَ لمَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلاَ لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فَضْلاً عن غَيْرِهِمَا.
وهَذَا التَّوْحِيدُ هو الَّذِي تَضَمَّنَهُ قولُهُ تَعَالَى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وقولُهُ تَعَالَى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[هود:123] ، وقولُهُ تَعَالَى: { فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }[التوبة:129] ، وقولُهُ تَعَالَى: { ربُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم:65] ، وقولُهُ تَعَالَى: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود:88] ، وقولُهُ تعالَى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } [الفرْقَان:58] ، وقولُهُ: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر:99].
وهذا التَّوحيدُ هو أوَّلُ الدِّينِ وآخِرُه، وباطنُهُ وظَاهِرُهُ، وهو أوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وآخِرُهَا، وهو مَعْنَى قَوْلِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ؛ فَإِنَّ (الإِلَهَ) هو المَأْلُوهُ المَعْبُودُ بالمَحَبَّةِ، والخَشْيَةِ، والإِجْلاَلِ، والتَّعْظِيمِ، وجَمِيعِ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ، وَلأَِجْلِ هَذَا التَّوحيدِ خُلِقَتِ الخَلِيقَةُ، وأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وأُنزلِتِ الكُتُبُ، وبِهِ افْتَرَقَ النَّاسُ إِلَى مُؤْمِنِينَ وكُفَّارٍ، وسُعَداءَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَشْقِيَاءَ أهلِ النَّارِ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:21] فَهَذَا أوَّلُ أَمْرٍ في القُرْآنِ ، وَقَالَ تَعَالَى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [المؤمنون:23] فَهَذَا دَعْوَةُ أَوَّلِ رَسُولٍ بَعْدَ حُدُوثِ الشِّرْكِ ، وقَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ: { اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف:65] ، وَقَالَ صَالِحٌ لقومِهِ: { اعْبُدُوا اللهَ مَالَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [هود:61] ، وقَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: { اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف: 85] ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لقومِهِ: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:79] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25] ، وقَالَ تَعَالَى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف:45] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56] ، قَالَ هِرَقْلُ لأَِبِي سُفْيَانَ لَمَّا سَأَلَهُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يَقُولُ لَكُمْ ؟ قَالَ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، واتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُم ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: " إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ " ، وفي رِوَايَةٍ: " أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ " .
وهَذَا التَّوحيدُ هو أوَّلُ واجِبٍ عَلَى المُكَلَّفِ، لاَ النَّظَرُ وَلاَ القَصْدُ إِلَى النَّظَرِ وَلاَ الشَّكُّ في اللهِ، كَمَا هي أَقْوالٌ لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا بَعَثَ اللهُ بهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن مَعَانِي الكِتَابِ والحِكْمَةِ، فهو أَوَّلُ وَاجِبٍ وآخِرُ واجِبٍ، وأوَّلُ ما يُدْخَلُ بهِ الإسلامُ وآخِرُ ما يُخْرَجُ بهِ مِنَ الدُّنيَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ " حدِيثٌ صَحيحٌ ، وقالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وقدْ أَفْصَحَ القُرْآنُ عن هذا النَّوعِ كُلَّ الإِفْصاح وأَبْدَأَ فيهِ وأعَادَ، وضَرَبَ لِذلِكَ الأَمْثَالَ، بِحَيْثُ إنَّ كلَّ سُورَةٍ في القُرْآنِ فيها الدَّلاَلَةُ عَلَى هذا التَّوحيدِ، ويُسَمَّى هذا النَّوعُ تَوحيدَ الإِلَهِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إخْلاَصِ التَّأَلُّهِ -وهو أشَدُّ المَحَبَّةِ- للهِ وحْدَهُ، وذلك يَسْتَلْزِمُ إِخْلاَصَ العِبَادَةِ، وتَوْحيدَ العِبَادَةِ لذلك، وتوحيدَ الإرادةِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إرادةِ وجْهِ اللهِ بالأَعْمَالِ ،
وتَوحيدَ القَصْدِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إِخْلاَصِ القَصْدِ المُسْتَلْزِمِ لِإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ ،
وتَوحيدَ العَمَلِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إخْلاَصِ العَمَلِ للهِ وَحْدَه ؛
قالَ اللهُ تَعَالَى: { فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } [الزمر:2] ، وقالَ: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ }[الزمر:11،12] ، وَقَالَ: { قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّه دِينِي (14) فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ } إلى قولِهِ: { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } إلى قولِهِ: { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } الآيةَ إلى قولِهِ: { أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ (43) قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } الآيةَ إلى قولِهِ: { وَأَنِـيبُواْ إِلَى ربِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ له مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } إلى قولِهِ: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:14-66] إلى آخِرِ السُّورةِ.
فكلُّ هذه السُّورِ في الدُّعاءِ إلى هذا التَّوحيدِ، والأمرِ بهِ، والجوابِ عن الشُّبهاتِ والمُعَارَضَاتِ، وذِكْرِ مَا أعَدَّ اللهُ لأَِهْلِهِ مِن النَّعيمِ المُقِيمِ، ومَا أعَدَّ لمَنْ خالفَهُ مِن العَذَابِ الأليمِ.
وكلُّ سُورةٍ في القُرْآنِ، بلْ كلُّ آيةٍ في القُرْآنِ، فهي دَاعِيَةٌ إلى هذا التَّوحيدِ، شَاهِدَةٌ بهِ، مُتَضَمِّنَةٌ له؛ لأَِنَّ القُرْآنَ:
- إمَّا خَبَرٌ عن اللهِ تَعَالَى وأَسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ وأَفْعَالِهِ، وهو تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وتَوْحيدُ الصِّفاتِ فذاك مُستلزِمٌ لهذا، مُتَضَمِّنٌ له.
- وإمَّا دُعاءٌ إلى عِبَادَتِهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وخَلْعِ ما يُعبدُ من دونِهِ، أو أمْرٌ بأنواعٍ مِن العِبَادَاتِ، ونَهيٌ عن المخالفاتِ، فهذا هو توحيدُ الإلهيَّةِ والعِبَادَةِ، وهو مُسْتَلْزِمٌ للنَّوْعَيْنِ الأَوَّلَيْنِ، مُتَضَمِّنٌ لهما أيضًا.
- وإمَّا خَبَرٌ عن إِكْرَامِهِ لأَِهْلِ توحيدِهِ وطاعتِهِ، وما فَعَلَ بِهِمْ في الدُّنيا، وما يُكْرِمُهُم بهِ في الآخرةِ، فهو جَزَاءُ تَوْحيدِهِ.
- وإمَّا خَبَرٌ عن أَهْلِ الشِّرْكِ ومَا فَعَلَ بِهِم في الدُّنيا من النَّكَالِ، وما يُحِلُّ بِهِم في العُقْبَى مِن الوَبَالِ، فهو جَزَاءُ مَنْ خرَجَ عنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ.
وهَذَا التَّوحِيدُ هو حَقِيقَةُ دِينِ الإسْلاَمِ الَّذي لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ، فَأَخْبَرَ أَنَّ دِينَ الإِسْلاَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى هذه الأَرْكَانِ الخَمْسَةِ وهي الأَعْمَالُ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ الإِسْلاَمَ هو عِبَادَةُ اللهِ وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ له، بِفِعْلِ الَمأْمُورِ، وَتَرْكِ المَحْظُورِ، والإِخْلاَصُ في ذلكَ للهِ.
وقدْ تَضَمَّنَ ذلكَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ، فَيَجِبُ إِخْلاَصُهَا للهِ تَعَالَى، فَمَن أَشْرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وغَيْرِهِِ في شَيْءٍ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ.
فمنها: المَحَبَّةُ، فَمَن أَشْرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وبَيْنَ غَيْرِهِ في المَحَبَّةِ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ للهِ، فهو مُشْرِكٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ } إِلَى قولِهِ تَعَالَى: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة:165-167].
ومنها: التَّوكُّلُ، فَلاَ يُتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِ اللهِ فِيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة:3] ، { وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُون } [المجادلة:10] والتَّوكُّلُ عَلَى غيرِ اللهِ فيما يَقْدِرُ عَلَيْهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ.
ومنها: الخَوْفُ، فَلاَ يُخَافُ خَوْفَ السِّرِّ إِلاَّ مِنَ اللهُ ؛ ومَعْنَى خَوْفِ السِّرِّ: هو أَنْ يَخَافَ العَبْدُ مِنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهٌ بِمَشِيئتِهِ وقُدْرَتِهِ وإن لم يُبَاشِرْهُ، فهذا شِرْكٌ أَكْبَرُ؛ لأَِنَّهُ اعْتِقَادٌ للنَّفْعِ والضُّرِّ في غَيْرِ اللهِ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [النحل:51] ، وَقَالَ تَعَالَى: { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [المائدة:44] ، وقالَ تعالى: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ له إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يونس:107].
ومنها: الرَّجاءُ فيما لا يَقْدِرُ عليهِ إِلاَّ اللهُ كَمَنْ يَدْعُو الأَمْواتَ أو غَيْرَهُم رَاجِيًا حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِن جِهَتِهِم فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ } [البقرة:218] ، وقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : لاَ يَرْجُوَنَّ عبدٌ إِلاَّ رَبَّه.
ومنها: الصَّلاَةُ والرُّكُوعُ والسُّجُود ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } ، وقالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُم }[الحج:77].
ومنها: الدُّعَاءُ فيما لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ، سَوَاءً كَانَ طَلَبًا للشَّفَاعَةِ أَو غَيْرِها مِن المَطَالِبِ ؛ قالَ اللهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر:13،14] ، وقالَ تعالى: { وَقالَ ربُّكُـمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60] ، وقالَ تعالى: { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ } [يونس:106] ، وقالَ تعالى: { أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ (43) قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر:43،44].
ومنها: الذَّبحُ، قالَ اللهُ تَعَالَى: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ له وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162 ،163] والنُّسُكُ: الذَّبْحُ.
ومنها: النَّذرُ؛ قالَ اللهُ تَعَالَى: { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [الحج: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [الإنسان: 7].
ومنها: الطَّوَافُ، فَلاَ يُطَافُ إِلاَّ بِبَيْتِ اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج:29].
ومنها: التَّوْبَةُ، فلا يُتابُ إِلاَّ للهِ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ } [آل عمران:135] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَتُوبُواْ إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور:31].
ومنها: الاسْتِعَاذَةُ فيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ } ، وقالَ تَعَالَى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }.
ومنها: الاسْتِغَاثَةُ فِيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ }[الأنفال:9].
فمَنْ أَشْرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وبينَ مَخْلُوقٍ فِيمَا يَخْتَصُّ بالخَالِقِ تَعَالَى مِنْ هذِهِ العِبَادَاتِ أو غَيْرِهَا، فهو مُشْرِكٌ ، وإنَّمَا ذَكَرْنَا هذه العِبَادَاتِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ عُبَّادَ القُبُورِ صَرَفُوهَا للأَمْوَاتِ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، أو أَشْرَكُوا بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وبَيْنَهُم فيها، وإِلاَّ فَكُلُّ نَوْعٍ مِن أَنْوَاعِ العِبَادَةِ، مَنْ صَرَفَهُ لغيرِ اللهِ، أو شَرَّكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَغَيْرِهِ فيهِ، فهو مُشْرِكٌ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بهِ شَيْئًا } [النساء:36].
وهذا الشِّرْكُ في العِبَادَةِ هو الَّذِي كَفَّرَ اللهُ بهِ المُشْرِكِينَ، وأَبَاحَ بهِ دِمَاءَهُم وأَمْوَالَهُم ونِسَاءَهُم، وإِلاَّ فَهُم يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هو الخَالِقُ الرَّزَّاقُ المُدَبِّرُ ليس له شَرِيكٌ في مُلْكِهِ، وإنَّما كَانُوا يُشْرِكُونَ بهِ في هَذِهِ العِبَادَاتِ ونَحْوِهَا، وكَانُوا يَقُولُونَ في تَلْبِيَتِهِم: لبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، إِلاَّ شَرِيكًا هو لَكَ، تَمْلِكُهُ ومَا مَلَكَ.
فَأَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتَّوحيدِ الَّذي هو مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) الَّذي مَضْمُونُه أَنْ لاَ يُعْبَدَ إِلاَّ اللهُ، لاَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَضْلاً عن غَيْرِهِمَا فَقَالُوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:5].
وكَانُوا يَجْعَلُونَ مِن الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا للهِ وللآلهةِ مِثْلَ ذلك، فَإِذَا صَارَ شَيْءٌ مِن الَّذي للهِ إلى الَّذي للآلهةِ تَرَكُوه لَهَا، وقَالُوا: اللهُ غَنِيٌّ، وإِذَا صَارَ شَيْءٌ مِن الَّذي للآلِهَةِ إلى الَّذي للهِ تَعَالَى رَدُّوهُ، وَقَالُوا: اللهُ غَنِيٌّ، والآلِهَةُ فَقِيرَةٌ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعَالَى: { وَجَعَلُواْ للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام:136] ، وهذا بِعَيْنِهِ يَفْعَلُهُ عُبَّادُ القُبُورِ، بل يَزِيدُونَ عَلَى ذلك فَيَجْعَلُونَ للأَمْوَاتِ نَصِيبًا مِن الأَوْلاَدِ.
إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فاعْلَمْ أَنَّ الشِّرْكَ يَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ بالنِّسْبَةِ إلى أَنْوَاعِ التَّوحِيدِ، وكُلٌّ منها قَدْ يَكُونُ أَكْبَرَ وأَصْغَرَ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَكُونُ أَكْبَرَ بالنِّسْبَةِ إلى ما هو أَصْغَرُ منه، ويَكُونُ أَصْغَرَ بالنِّسْبَةِ إلى ما هو أَكْبَرُ مِنْهُ.
القِسْمُ الأَوَّلُ: الشِّرْكُ في الرُّبُوبِيَّةِ، وهو نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: شِرْكُ التَّعْطِيلِ، وهو أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، كَشِرْكِ فِرْعَوْنَ ؛ إذ قالَ: { وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ } ، ومِن هَذَا شِرْكُ الفَلاَسِفَةِ القَائِلِينَ بِقِدَمِ العَالَمِ وأَبَدِيَّتِهِ، وأنَّهُ لم يَكُنْ مَعْدُومًا أَصْلاً، بل لم يَزَلْ وَلاَ يَزالُ، والحَوَادِثُ بأَسْرِهَا مُسْتَنِدَةٌ عِنْدَهم إلى أَسْبَابٍ ووَسَائِطَ اقْتَضَتْ إِيجَادَهَا، يُسَمُّونَهَا: العُقُولَ، والنُّفُوسَ ، ومِن هَذَا شِرْكُ طَائِفَةِ أَهْلِ وَحْدَةِ الوُجُودِ,كابْنِ عَرَبِيٍّ، وابنِ سَبْعِينَ، والعَفِيفِ التِّلْمِسَانِيِّ، وابنِ الفَارِضِ، ونَحْوِهم مِن المَلاَحِدَةِ الَّذينَ كَسَوا الإِلْحَادَ حِلْيَةَ الإِسْلاَمِ، ومَزَجُوهُ بِشَيْءٍ مِن الحَقِّ، حَتَّى رَاجَ أَمْرُهُم عَلَى خَفَافِيشِ البَصَائِرِ ، ومِن هَذَا شِرْكُ مَن عَطَّلَ أَسْمَاءَ الرَّبِّ وأَوْصَافَهُ، مِن غُلاَةِ الجَهْمِيَّةِ، والقَرَامِطَةِ.
النَّوعُ الثَّانِي: شِرْكُ مَن جَعَلَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ وَلَمْ يُعَطِّلْ أَسْمَاءهُ وصِفَاتِهِ وربوبيَّتَهُ، كَشِرْكِ النَّصَارَى الَّذِينَ جَعَلُوهُ ثَالِثَ ثَلاَثَةٍ، وشِرْكِ المَجُوسِ القَائِلِينَ بإِسْنَادِ حَوَادِثِ الخَيْرِ إلى النُّورِ وحَوَادِثِ الشَّرِّ إلى الظُّلْمَةِ ، ومِن هَذَا شِرْكُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشْرِكُ بالكَوَاكِبِ العُلْوِيَّاتِ، ويَجْعَلُهَا مُدَبِّرَةً لأَِمْرِ هَذَا العَالَمِ، كَمَا هو مَذْهَبُ مُشْرِكِي الصَّابِئَةِ وغَيْرِهِم.
قُلْتُ: ويَلْتَحِقُ بهِ مِن وَجْهٍ شِرْكُ غُلاَةِ عُبَّادِ القُبُورِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَرْوَاحَ الأَوْلِياءِ تَتَصَرَّفُ بَعْدَ المَوْتِ، فَيَقْضُونَ الحَاجَاتِ، ويُفَرِّجُونَ الكُرُباتِ، ويَنْصُرونَ مَن دَعَاهُم، ويَحْفَظُونَ مَن الْتَجَأَ إِلَيْهِم، وَلاَذَ بِحِمَاهم، فَإِنَّ هذه مِن خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُم في هذا النَّوعِ.
القِسْمُ الثَّاني: شِّرْكُ في تَوْحيدِ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ، وهو أَسْهَلُ مِمَّا قَبْلَهُ، وهو نَوْعَانِ:
أَحَدُهُما: تَشْبِيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، كمَن يَقُولُ: يَدٌ كيَدِي، وسَمْعٌ كَسَمْعِي، وبَصَرٌ كبَصَرِي، واسْتِوَاءٌ كاسْتِوَائِي، وهو شِرْكُ المُشَبِّهَةِ.
الثَّاني: اشْتِقَاقُ أسماءٍ للآلهةِ الباطِلَةِ مِن أسماءِ الإلَهِ الحَقِّ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180] ، قالَ ابنُ عبَّاسٍ: { يُلْحِدُونَ في أَسْمَائِهِ } يُشْرِكُونَ ، وعنه: سَمَّوُا اللاَّتَ مِن الإِلَهِ، والعُزَّى مِن العَزِيزِ.
القِسْمُ الثَّالثُ: الشِّرْكُ في تَوحيدِ الإلهيَّةِ والعبادةِ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: أَصْلُ الشِّرْكِ المُحَرَّمِ اعْتِقَادُ شَرِيكٍ للهِ تَعَالَى في الإلهيَّةِ، وهو الشِّركُ الأعْظَمُ، وهو شِرْكُ الجَاهِلِيَّةِ، ويَلِيهِ في الرُّتْبَةِ اعْتِقَادُ شَرِيكٍ للهِ تَعَالَى في الفِعْلِ، وهو قولُ مَنْ قَالَ: إنَّ مَوْجُودًا مَا غَيْرَ اللهِ تَعَالَى يَسْتَقِلُّ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ وإِيجَادِهِ وإنْ لَمْ يَعْتَقِدْ كونَهُ إِلَهًا. هذا كَلاَمُ القُرْطُبِيِّ.
وهو نَوْعَانِ:
أَحَدُهُما: أَنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا يَدْعُوه كَمَا يَدْعُو اللهَ، ويَسْأَلُهُ الشَّفاعَةَ كَمَا يَسْأَلُ اللهَ، ويَرْجُوهُ كَمَا يَرْجُو اللهَ، ويُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللهَ، ويَخْشَاهُ كَمَا يَخْشَى اللهَ ، وبالجُمْلَةِ فهو أَنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا يَعْبُدُهُ كمَا يَعْبُدُ اللهَ، وهَذَا هو الشِّرْكُ الأَكْبَرُ ، وهو الَّذي قَالَ اللهُ فيهِ: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا } [النساء:36] ، وقالَ: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ } [النحل:36] ، وقالَ تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس:18] ، وَقَالَ تَعَالَى: { اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [السجدة:4] ، والآياتُ في النَّهْيِ عن هَذَا الشِّرْكِ وبَيَانِ بُطْلاَنِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
الثَّاني: الشِّركُ الأصغرُ، كيسيرِ الرِّياءِ والتَّصَنُّعِ للمخلوقِ، وعَدَمِ الإخْلاَصِ للهِ تَعَالَى في العِبَادَةِ، بل يَعْمَلُ لِحَظِّ نَفْسِهِ تارَةً، ولطَلَبِ الدُّنيا تَارَةً، ولطَلَبِ المَنْزِلَةِ والجَاهِ عندَ الخلقِ تارَةً، فله مِن عَمَلِهِ نَصِيبٌ، ولغَيْرِهِ منه نَصِيبٌ.
ويَتْبَعُ هذا النَّوعَ الشِّركُ باللهِ في الألفاظِ، كالحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ، وقولِ: مَا شاءَ اللهُ وشِئْتَ، ومالي إِلاَّ اللهُ وأنتَ، وأنا في حَسْبِ اللهِ وحَسْبِكَ، ونحوِهِ ، وقد يكونُ ذلكَ شِرْكًا أَكْبَرَ بِحَسَبِ حَالِ قَائِلِه ومَقْصِدِهِ ، هذا حَاصِلُ كَلاَمِ ابنِ القيِّمِ وغَيْرِهِ.
وقَد اسْتَوْفَى المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بَيَانَ جِنْسِ العِبَادَةِ الَّتِي يَجِبُ إِخْلاَصُها للهِ بالتَّنْبِيهِ عَلَى بعضِ أنواعِهَا، وبيانِ ما يُضَادُّهَا مِنَ الشِّرْكِ باللهِ تَعَالَى في العِبَادَاتِ والإرَادَاتِ والأَلْفَاظِ، كَمَا سَيَمُرُّ بكَ إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى مُفَصَّلاً في هذا الكِتَابِ، فاللهُ تَعَالَى يَرْحَمُهُ ويَرْضَى عنه.
فإن قلتَ: هلاَّ أَتَى المُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- بِخُطْبَةٍ تُنْبِئُ عن مَقْصِدِه كَمَا صَنَعَ غيرُهُ ؟
قيل: كأنَّهُ -واللهُ أعْلَمُ- اكْتَفَى بدَلاَلَةِ التَّرْجَمَةِ الأُولَى عَلَى مَقْصُودِهِ، فإنَّهُ صَدَّرَهُ بقولِهِ: (كِتَابُ التَّوحيدِ) وبالآياتِ الَّتِي ذَكَرَها وما يَتْبَعُهَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهِ، فَكَأنَّهُ قَالَ: قَصَدْتُ جَمْعَ أنواعِ توحيدِ الإلهيَّةِ الَّتي وَقَعَ أكثرُ النَّاسِ في الإشراكِ فيها وهم لا يَشْعُرونَ، وبَيَانَ شيءٍ مِمَّا يُضَادُّ ذلكَ مِن أَنْواعِ الشِّركِ، فاكْتَفَى بالتَّلْوِيحِ عن التَّصْرِيحِ.
والأَلِفُ واللاَّمُ في (التَّوحيدِ) للعَهْدِ الذِّهْنِيِّ.
(3) قولُهُ: ( وقولِ اللهِ تَعَالَى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]. )
يَجُوزُ في (قولِ اللهِ) الرَّفعُ والجرُّ، وهكذا حكمُ ما يَمُرُّ بكَ مِن هذا البابِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ: العِبَادَةُ: هي طَاعَةُ اللهِ بامْتِثَالِ مَا أَمَرَ بهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ ،
وقَالَ أَيْضًا: العِبَادَةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ويَرْضَاه، مِن الأَقْوَالِ، والأَعْمَالِ البَاطِنَةِ والظَّاهِرَةِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ: ومَدارُهَا عَلَى خَمْسَ عَشْرَةَ قَاعِدَةً، مَنْ كَمَّلَهَا كَمَّلَ مَرَاتِبَ العُبُودِيَّةِ، وبَيَانُ ذلكَ أنَّ العِبَادَةَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى القَلْبِ، واللِّسَانِ، والجَوَارِحِ ، والأَحْكَامُ الَّتِي للعُبُودِيَّةِ خَمْسةٌ: واجِبٌ، ومُسْتَحَبٌّ، وحَرَامٌ، ومَكْرُوهٌ، ومُبَاحٌ ؛ وهُنَّ لكُلِّ واحدٍ مِن القَلْبِ واللِّسَانِ والجَوَارِحِ.
وقَالَ القُرْطُبِيُّ: أَصْلُ العِبَادَةِ: التَّذلُّلُ والخُضُوعُ، وسُمِّيتْ وظَائِفُ الشَّرعِ عَلَى المكلَّفينَ عباداتٍ؛ لأنَّهُم يَلْتَزِمُونَهَا ويَفْعَلُونَهَا خَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ للهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابنُ كثيرٍ: العِبَادَةُ في اللُّغَةِ مِن الذِّلَّةِ، يُقالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ وغَيْرُ معبَّدٍ، أي: مُذَلَّلٌ ، وفي الشَّرعِ: عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كمَالَ المحبَّةِ والخضوعِ والخوفِ.
وهكذا ذَكَرَ غيرُهم مِن العُلَمَاءِ.
ومَعْنَى الآيةِ: أنَّ اللهَ تعالَى أَخْبَرَ أنَّهُ ما خَلَقَ الإنسَ والجنَّ إِلاَّ لعِبَادَتهِ، فهذا هو الحِكْمَةُ في خَلْقِهم، ولَمْ يُرِدْ منهم مَا تُرِيدُهُ السَّادَةُ مِن عبيدِهَا من الإعانةِ لهم بالرِّزْقِ والإطعامِ، بل هو الرَّازِقُ ذو القُوَّةِ المَتينُ، الَّذي يُطْعِمُ ولا يُطعَمُ، كمَا قالَ تَعَالَى: { قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكينَ } [الأنعام:14] .
وعبادَتُهُ هي طَاعَتُهُ بفعلِ المَأمورِ، وتَرْكِ المحظورِ، وذلكَ هو حَقِيقَةُ دينِ الإسلامِ؛ لأَِنَّ مَعْنَى الإسلامِ هو الاسْتِسْلاَمُ للهِ المُتَضَمِّنُ غَايَةَ الانْقِيَادِ، في غَايَةِ الذُّلِّ والخُضُوعِ .
قالَ عليُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في الآيةِ: إِلاَّ لآمُرَهُم أَنْ يَعْبُدُونِي، وأَدْعُوَهُم إلى عِبَادَتِي ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلاَّ لآمُرَهم وأنْهاهُمْ، واخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وشيخُ الإسلامِ، قالَ: ويَدُلُّ عَلَى هذا قولُهُ: { أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة:36] قالَ الشَّافعيُّ: لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهى.
وقولُهُ: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } [الفرْقَان:77] أي: لَوْلاَ عِبَادَتُكُمْ إيَّاهُ ، وقد قالَ في القرآنِ في غَيْرِ مَوْضعٍِ: { اعْبُدُواْ رَبَّكُمْ }، { اتَّقُواْ رَبَّكُمْ } ، فَقَدْ أمَرَهُم بِمَا خُلِقُوا له، وأَرْسَلَ الرُّسُلَ إلى الجِنِّ والإِنْسِ بذلك، وهذا المَعْنَى هو الَّذي قُصِدَ بالآيةِ قَطْعًا، وهو الَّذي يفهَمُهُ جَمَاهِيرُ المُسْلِمِينَ، ويَحْتَجُّونَ بالآيَةِ عَلَيْهِ، ويُقِرُّونَ أَنَّ اللهَ إنَّما خَلَقَهُم لِيَعْبُدُوه العِبَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ وهي طَاعَتُهُ وطَاعَةُ رُسُلِه لاَ ليُضَيِّعُوا حَقَّه الَّذي خَلَقَهم له.
قالَ: وهذه الآيةُ تُشْبِهُ قولَهُ تَعَالَى: { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [البقرة:185] وقولَهُ: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ } [النساء:64] ثُمَّ قَدْ يُطَاعُ وَقَدْ يُعْصَى ، وكَذَلِكَ ما خَلقَهُم إِلاَّ للعِبَادَةِ، ثُمَّ قد يَعْبُدُونَ وقَدْ لا يَعْبُدُونَ ، وهو سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ فَعَلَ الأَوَّلَ وهو خَلْقُهُم ليَفْعَلَ بِهِم كُلِّهِم الثَّانيَ وهو عِبَادَتُهُ، ولكنْ ذَكَرَ الأَوَّلَ ليَفْعَلُوا هم الثَّانيَ، فيَكُونُوا هُم الفَاعِلِينَ له، فَيَحْصُلُ لهم بفِعْلِهِ سَعَادَتُهُم، ويَحْصُلُ ما يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ منهم وَلَهُم . انْتَهَى.
والآيةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ اخْتِصَاصِ الخَالِقِ تَعَالى بالعِبَادَةِ؛ لأَِنَّهُ سُبْحَانَهُ هو ابْتَدَأَكَ بِخَلْقِكَ والإِنْعَامِ عَلَيْكَ بِقُدْرَتِه ومَشِيئَتِهِ ورَحْمَتِه مِن غَيْرِ سَبَبٍ منكَ أَصْلاً، وَمَا فَعَلَهُ بِكَ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ إِذَا احْتَجْتَ إليه في جَلْبِ رِزْقٍ أو دَفْعِ ضُرٍّ فهو الَّذي يَأْتِي بالرِّزْقِ لاَ يَأْتِي بهِ غَيْرُه، وهو الَّذي يَدْفَعُ الضُّرَّ لا يَدْفَعُه غيرُهُ ؛ كمَا قالَ تعالى: { أمَّن هَـذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَـنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أمَّن هَـذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } [الملك:20،21].
وهو سُبْحَانَهُ يُنعِمُ عليكَ، ويُحْسِنُ إليكَ بنفسِهِ، فإنَّ ذلكَ موجَبُ ما تَسَمَّى بهِ، ووصَفَ بهِ نَفْسَهُ، إذ هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الودودُ المَجِيدُ، وهو قَادِرٌ بنَفْسِهِ، وقُدْرَتُهُ مِن لَوَازِمِ ذاتِهِ، وكذلِكَ رَحْمَتُهُ وعِلْمُهُ وحِكْمَتُهُ، لاَ يَحْتَاجُ إلى خَلْقِهِ بوجْهٍ مِن الوُجُوهِ، بل هو الغَنِيُّ عن العَالَمِينَ { وَمَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل:40].
فالرَّبُّ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ بنَفْسِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِن صِفَاتِ الكَمَالِ ثَابِتٌ له بِنَفْسِهِ، وَاجِبٌ له مِن لَوَازِمِ ذاتِهِ، لا يَفْتَقِرُ في شيءٍ مِن ذلك إلى غَيْرِهِ، فَفِعْلُه وإِحْسَانُهُ وجُودُهُ مِن كمَالِهِ، لاَ يَفْعَلُ شَيْئًا لحاجةٍ إلى غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ، بل كُلُّ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ فإنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.
وهو سُبْحَانَهُ بَالِغٌ أَمْرَهُ، فَكُلُّ مَا يَطْلُبُه فهو يَبْلُغُه ويَنَالُه ويَصِلُ إليهِ وحْدَهُ وَلاَ يُعِينُهُ أَحدٌ، وَلاَ يَعُوقُهُ أَحَدٌ، لاَ يَحْتَاجُ في شَيْءٍ مِن أُمُورِهِ إِلَى مُعِينٍ، وَمَا لَهُ مِن المَخْلُوقِينَ مِن ظَهِيرٍ، وَلَيْسَ له وَلِيٌّ مِن الذُّلِّ، قَالَه شَيْخُ الإِسْلاَمِ.
(4) قالَ: ( وقولِهِ: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ } [النحل:36] ) .
قالُوا: الطَّاغُوتُ: مُشْتَقٌّ مِن الطُّغْيانِ وهو مُجَاوَزَةُ الحَدِّ.
وقد فسَّرَهُ السَّلفُ ببعضِ أَفْرَادِهِ ؛ قالَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ ، وَقَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطَّواغِيتُ: كُهَّانٌ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِم الشَّياطِينُ ، رَوَاهُمَا ابنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّاغُوتُ: الشَّيطَانُ في صُورَةِ الإِنْسَانِ، يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ وهو صَاحِبُ أَمْرِهِم .
وَقَالَ مَالِكٌ: الطَّاغُوتُ: كُلُّ ما عُبِدَ مِن دونِ اللهِ ، قُلْتُ: وهو صَحِيحٌ، لَكِنْ لاَبُدَّ فيهِ مِن اسْتِثْنَاءِ مَن لاَ يَرْضَى بِعِبَادَتهِ.
وقَالَ ابنُ القَيِّمِ: الطَّاغُوتُ: ما تَجَاوَزَ بهِ العَبْدُ حَدَّهُ مِن مَعْبُودٍ أو مَتْبُوعٍ أو مُطَاعٍ ؛ فَطَاغُوتُ كُلِّ قَوْمٍ مَنْ يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ غَيْرَ اللهِ ورَسُولِهِ، أَوْ يَعْبُدُونَهُ مِن دونِ اللهِ، أو يَتْبَعُونَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِن اللهِ، أو يُطِيعُونَهُ فيما لاَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ طَاعَةُ اللهِ ، فهذه طَوَاغِيتُ العَالَمِ، إِذَا تَأَمَّلْتَهَا وتَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ النَّاسِ مَعَهَا رَأَيْتَ أَكْثَرَهُم مِمَّن أَعْرَضَ عن عِبَادَةِ اللهِ إِلَى عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وعن طاعتِهِ ومُتَابَعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى طاعَةِ الطَّاغُوتِ ومُتَابعتِهِ.
وأمَّا مَعْنَى الآيةِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ في كُلِّ أمَّةٍ -أيْ: في كُلِّ طَائِفَةٍ وقَرْنٍ مِن النَّاسِ- رَسُولاً بِهَذِهِ الكَلِمَةِ: { أَن اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } أيْ: اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ واتْرُكُوا عِبَادَةَ ما سِوَاهُ، فَلِهَذَا خُلِقَت الخَلِيقَةُ، وأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وأُنْزِلَتِ الكُتُبُ، كَمَا قالَ تَعَالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25] وَقَالَ تَعَالَى: { قُلْ إنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلاَ أُشْرِكَ بهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } [الرعد:36].
وهذه الآيةُ هي مَعْنَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فإنَّهَا تَضَمَّنَت النَّفْيَ والإِثْبَاتَ كَمَا تَضَمَّنتْهُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) ؛ فَفِي قَوْلِهِ: { اعْبُدُوا اللهَ } الإِثْبَاتُ، وفي قولِهِ: { اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } النَّفْيُ.
فَدَلَّتِ الآيةُ عَلَى أنَّهُ لاَبُدَّ في الإسلامِ مِن النَّفْيِ والإثباتِ، فَيُثبِتُ العِبَادَةَ للهِ وحْدَهُ، ويَنْفِي عِبَادَةَ مَا سِوَاهُ وهو التَّوحيدُ الَّذي تضَمَّنَتهُ سورةُ { قُلْ يَا أَيُّها الكَافِرُون } [الكافرون:1] ، وهو مَعْنَى قولِهِ: { فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن باللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:256].
قَالَ ابنُ القيِّمِ: وَطَرِيقَةُ القُرْآنِ في مِثْلِ هَذَا أَنْ يَقرِنَ النَّفيَ بالإثباتِ، فيَنْفِيَ عِبَادَةَ ما سِوَى اللهِ، ويُثْبِتَ عِبَادَتَهُ، وهذا هو حَقِيقَةُ التَّوحيدِ، والنَّفْيُ المَحْضُ ليسَ بتوحيدٍ، وكذلِكَ الإثباتُ بدونِ النَّفيِ، فَلاَ يَكُونُ التَّوحيدُ إِلاَّ مُتَضَمِّنًا للنَّفْيِ والإثباتِ، وهذا حَقِيقَةُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. انْتَهَى.
ويَدْخُلُ في الكُفْرِ بالطَّاغُوتِ بُغْضُهُ وكَرَاهَتُهُ، وعَدَمُ الرِّضَى بِعِبَادَتِهِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ.
ودَلَّتِ الآيةُ عَلَى أنَّ الحِكْمَةَ في إِرْسَالِ الرُّسُلِ هي عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ وتَرْكُ عِبَادَةِ ما سِوَاه، وَأَنَّ أَصْلَ دِينِ الأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وهو الإِخْلاَصُ في العِبَادَةِ للهِ، وإِن اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُم، كَمَا قَالَ تَعَالىَ: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة:48] ، وأنَّهُ لابُدَّ في الإيمانِ مِن العَمَلِ رَدًّا عَلَى المُرْجِئَةِ.
(1) قالَ: ( قولُهُ: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء:23] )
هَكَذا ثَبَتَ في بعضِ الأُصولِ، لم يَذْكُرِ الآيةَ بكَمَالِها.
قالَ مُجاهِدٌ: { وقَضَى } يَعْنِي: وَصَّى، وكذلِكَ قرأَ أُبيُّ بنُ كَعْبٍ، وابنُ مَسْعودٍ، وابنُ عَبَّاسٍ وغيرُهُم ،
ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ في قولِهِ: { وَقَضَى رَبُّكَ } يَعْنِي: أَمَرَ.
وقولِهِ: { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } (أنْ) هي المصدريَّةُ وهي في مَحَلِّ جَرٍّ بِالباءِ، والمعنى: أنْ تَعْبُدُوه ولا تَعْبُدُوا غيرَهُ ممَّنْ لا يَمْلِكُ ضَرًّا ولا نَفْعًا، بل هو إِمَّا فَقِيرٌ مُحْتاجٌ إلى رَحْمةِ رَبِّهِ يَرْجُوها كمَا تَرْجُونهَا، وإِمَّا جَمادٌ لا يَسْتَجِيبُ لمَنْ دَعَاه.
وقولُهُ: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أيْ: وقَضَى أن تُحْسِنُوا بالوَالِدَينِ إِحْسانًا كمَا قَضَى بِعِبادتِهِ وحدَهُ لا شَرِيكَ له.
وَعَطْفُ حقِّهِمَا عَلَى حَقِّ اللهِ تَعالىَ دليلٌ عَلَى تَأَكُّدِ حقِّهِما وأنَّهُ أَوْجَبُ الحقوقِ بعدَ حقِّ اللهِ، وهذا كثيرٌ في القرآنِ، يَقْرِنُ بينَ حقِّهِ عَزَّ وجلَّ وحقِّ الوالدين، كقولِهِ: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لُقْمان:14] وقالَ: { وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [البقرة:83] ، ولم يَخُصَّ تَعالى نَوْعًا مِن أنواعِ الإحسانِ لِيَعُمَّ أنواعَ الإحسانِ.
وقد تَوَاتَرَت النُّصوصُ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأَمْرِ بِبِرِّ الوَالِدَين والحَثِّ عَلَى ذلكَ، وتَحْرِيمِ عُقوقِهمَا كمَا في القرآنِ ؛ ففِي صحيحِ البُخارِيِّ عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلى اللهِ ؟ قالَ: " الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِها " ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ " ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ " حَدَّثَنِي بِهنَّ وَلَو اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
وعن أَبِي بَكْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلاَ أُنَبِّئكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ " ، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قالَ: " الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ "، وَكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: " أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلا وَشَهَادَةُ الزُّورِ " فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ . رَوَاهُ البُخارِيُّ ومُسْلِم
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ: " أُمُّكَ " ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " أُمُّكَ" ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " أُمُّكَ " ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " أَبُوكَ " أَخْرَجَاه.
وعن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدَينِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِ الوَالِدَيْنِ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكمُ.
وعن أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَقالَ: يَا رَسُولَ الله هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ فَقالَ: " نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا " رَوَاهُ أَبو داودَ وابنُ ماجهَ وابنُ حِبَّانَ في صحيحِه ، والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ قد أَفْرَدَهَا العُلماءُ بالتَّصنيفِ وذَكَرَ البُخارِيُّ منها شَطْرًا صالحًا في كِتابِ الأَدَبِ المُفْرَدِ .
قالَ: ( وقولُهُ: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأَنْعام:151-153]. ) .
قالَ ابنُ كَثِيرٍ: ( يَقولُ اللهُ تَعالى لِنبيِّهِ ورسولِه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يا مُحَمَّدُ لهؤلاءِ المشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غيرَ اللهِ، وحَرَّمُوا ما رَزَقَهُم اللهُ، وقَتَلُوا أولادَهُم، وكلُّ ذلكَ فَعَلُوه بآرائِهِم الفَاسِدةِ، وتَسْوِيلِ الشَّيطانِ لهم ؛ { تَعَالَوْا } أَيْ: هَلُمُّوا وأَقْبِلُوا { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي: أَقْصُصْ عليكم، وأُخْبِرْكم بما حَرَّمَ ربُّكُم عَلَيْكم حقًّا، لا تَخَرُّصًا ولا ظَنًّا، بل وَحْيٌ مِنه وأَمْرٌ مِن عندِهِ، { أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } قَالَ: وكانَ في الكلامِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عليهِ السِّياقُ، وتقديرُهُ: وَصَّاكُم أن لا تُشْرِكُوا بهِ شيئًا ، ولهذا قالَ في آخِرِ الآيةِ { ذلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ } ).
قُلْتُ: ابْتَدَأَ تعالى هذه الآياتِ المُحْكَمَاتِ بتَحْرِيمِ الشِّركِ والنَّهيِ عنه، فحَرَّمَ علينا أن نُشْرِكَ بهِ شيئًا فشَمِلَ ذلكَ كُلَّ مُشْرَكٍ بهِ، وكُلَّ مُشْرَكٍ فيه مِن أنواعِ العِبادةِ، فإنَّ { شَيْئًا } مِن النَّكِرَاتِ فيَعُمُّ جميعَ الأشياءِ، وما أَبَاحَ تَعالى لِعِبادِهِ أن يُشْرِكوا بهِ شيئًا، فإنَّ ذلكَ أَظْلَمُ الظُّلْمِ وأَقْبَحُ القَبِيحِ.
ولفظُ (الشِّرْكِ) يَدُلُّ عَلَى أنَّ المشرِكِينَ كانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ، ولَكِن يُشْرِكُون بِهِ غَيرَهُ مِن الأَوْثَانِ والصَّالِحِين والأَصْنَامِ، فكانَت الدَّعْوَةُ وَاقِعَةً عَلَى تَرْكِ عِبادةِ ما سِوَى اللهِ، وإِفْرادِ اللهِ بِالعِبادةِ ، وكانَت (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) مُتَضَمِّنةً لهذا المعْنى، فدَعَاهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإِقْرارِ بهِا نُطْقًا وعَمَلاً واعْتِقادًا، ولهذا إذا سُئِلُوا عَمَّا يَقولُ لهم، قالُوا: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا واتْرُكُوا ما يَقُولُ آباؤُكم كمَا قالَه أَبُو سُفْيانَ.
وقولُهُ: { وَبِالوَالِدَينِ إِحْسَانًا } قالَ القُرْطُبِيُّ: الإحسانُ إلى الوالدينِ: بِرُّهما وحِفْظُهُما وصِيانتُهُمَا، وامْتِثالُ أَمْرِهمِا، وإِزَالةُ الرِّقِّ عَنْهُمَا، وتَرْكُ السَّلْطَنةِ عليهِمَا ، و { إِحْسَانًا } نُصِبَ عَلَى المَصْدَريَّةِ، وناصِبُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ مِن لَفْظِهِ: تقديرُهُ: وأَحْسِنُوا بِالوالدينِ إِحْساناً.
وقولُهُ: { وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [الأنعام:150] ؛ الإِمْلاقُ: الفَقْرُ، أَي: لا تَئِدُوا بَناتِكُم خَشْيةَ العَيْلةِ والفَقْرِ، فإنِّي رازِقُكُم وإيَّاهُم، وكانَ منهم مَن يفعلُ ذلكَ بالإناثِ والذُّكورِ خَشْيةَ الفَقْرِ، ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ.
وفي الصَّحيحين عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ ؟ قالَ: " أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قالَ: " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ " ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } [الفُرْقَان:68].
{ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: نَهْيٌ عامٌّ عن جميعِ أَنْواعِ الفَوَاحشِ، وهي المَعاصِي ، و { ظَهَرَ } وَ { بَطَنَ } حالتان تَسْتَوْفِيانِ أَقْسامَ ما جُعِلَتْ له مِن الأشياءِ.
وفي التَّفسيرِ المَنْسوبِ إلى أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ مِن الحَنَفِيَّةِ -وهو تَفْسِيرٌ عظيمٌ- { وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } أي: القَبائِحَ.
وعن ابنِ عَبَّاسٍ، والضَّحَّاكِ، والسُّدِّيِّ: أنَّ مِن الكُفَّارِ مَن كانَ لا يَرَى بالزِّنَا بَأْسًا إذا كانَ سِرًّا،
وقِيلَ: الظَّاهرُ ما بينَك وبينَ الخَلْقِ، والباطنُ ما بينَكَ وبينَ اللهِ. انْتَهَى.
وفي الصَّحيحين عن ابنِ مَسْعُودٍ مَرْفوعًا: " لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِن اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ " .
{ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ } قالَ ابنُ كَثِيرٍ: هذا مِمَّا نَصَّ تعالى عَلَى النَّهْيِ عنه تَأْكيدًا، وإلا فهو داخِلٌ في النَّهيِ عن الفَوَاحشِ.
وفي الصَّحيحين عن ابن مَسْعُودٍ مَرْفوعًا: " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلجَماعَةِ " .
وعن ابنِ عُمَرَ مرفوعًا: " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " رَوَاهُ البُخارِيُّ.
{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: { ذلكم } إشارةٌ إلى هذه المُحَرَّماتِ، والوَصِيَّةُ: الأَمْرُ المُؤَكَّدُ المُقَرَّرُ ، وقولُهُ: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تَرَجٍّ بالإضافةِ إلينا، أي: مَنْ سَمِعَ هذه الوصيَّةَ يُرْجَى وُقوعُ أَثَرِ العَقْلِ بعدَهَا.
قُلْتُ: هذا غيرُ صحيحٍ، والصَّوَابُ أنَّ (لَعَلَّ) هنا للتَّعليلِ، أيْ: أنَّ اللهَ وَصَّانا بهِذه الوَصَايا لِنَعْقِلَها عنه، ونَعْمَلَ بِها، كمَا قالَ: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [الْبَيِّنَة: 5].
وفي تفسيرِ الطَّبَرِيِّ الحَنَفِيِّ: ذَكَر أَوَّلاً { تَعْقِلُونَ } ثُمَّ { تَذَكَّرُونَ } ثُمَّ { تَتَّقُونَ} ؛ لأنَّهُم إذا عَقَلُوا تَذَكَّرُوا، فإذا تَذَكَّرُوا خافُوا واتَّقَوُا المَهالِكَ.
{ وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: هذا نَهْيٌ عن القُرْبِ الَّذي يَعُمُّ وجوهَ التَّصَرُّفِ، وفيه سَدُّ الذَّرِيعةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى ما يَحْسُنُ وهو التَّشْمِيرُ والسَّعْيُ في نَمائِهِ.
قالَ مُجاهِدٌ: { الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } التِّجارةُ فيه، فمَن كانَ مِن النَّاظِرِينَ له مالٌ يَعِيشُ بهِ، فالأَحْسَنُ إذا ثمَّرَ مالَ اليَتِيمِ أن لا يَأْخُذَ مِنه نَفَقَةً ولا أُجْرَةً ولا غيرَهُمَا، ومَن كانَ مِن النَّاظِرِينَ لا مالَ له، ولا يتَّفِقُ له نَظَرٌ إلاَّ بأن يُنفِقَ عَلَى نفسِهِ مِن رِبْحِ نظرِهِ، وإلاَّ دَعَت الضَّرُورةُ إلى تَرْكِ مالِ اليَتِيمِ دونَ نظرٍ، فالأَحْسَنُ أن يَنْظُرَ ويَأْكُلَ بالمعْرُوفِ. قاله ابنُ زَيْدٍ.
وقولُهُ: { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قالَ مالِكٌ وغيرُهُ: هو الرُّشْدُ وزَوالُ السَّفَهِ معَ البُلوغِ.
قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: وهو أَصَحُّ الأقوالِ وأَلْيَقُهَا بهذا الموضعِ.
قلْتُ: وقد رُوِيَ نحوُهُ عن زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، والشَّعْبِيِّ، ورَبِيعَةَ، وغيرِهِم، ويَدُلُّ عليهِ قولُهُ تعالى: { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النِّساء:6]
فاشْتَرَطَ تعالى للدَّفْعِ إِليهم ثلاثةَ شروطٍ:
- الأوَّلُ: ابْتِلاؤُهُم، وهو اخْتِبارُهُم وامْتِحانُهم بما يَظْهَرُ بهِ مَعْرفتُهُم لمصالحِ أنفسِهِم وتدبيرِ أموالِهم.
- والثَّاني: البُلُوغُ.
- والثَّالثُ: الرُّشْدُ.
{ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالقِسْطِ } قالَ ابنُ كَثِيرٍ: يَأْمُرُ تَعَالَى بإقامةِ العَدْلِ في الأَخْذِ والإِعْطاءِ، كمَا تَوَعَّدَ عليه في قولِهِ: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُوْلَـئِكَ أنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المُطَفِّفِين:1-6] ، وقد أَهْلَكَ اللهُ أُمَّةً مِن الأُمَمِ كانُوا يَبْخَسُونَ المِكْيالَ والمِيزانَ.
وقالَ غيرُهُ: القِسْطُ: العَدْلُ.
وقد رَوَى التِّرْمِذِيُّ وغيرُهُ بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابِ الكَيْلِ والميزانِ: " إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا هَلَكَتْ فِيهِ الأُمَمُ السَّالِفَةُ قَبْلَكُمْ " ورُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا بإسنادٍ صحيحٍ.
{ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } قالَ ابنُ كَثِيرٍ: أي: مَن اجْتَهَدَ في أداءِ الحقِّ وأَخْذِهِ، فإنْ أَخْطَأَ بعدَ اسْتِفْراغِ وُسْعِهِ وبَذْلِ جَهْدِهِ، فلا حَرَجَ عليهِ.
وقد رَوَى ابنُ مَرْدُويَه عن سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ مَرْفُوعًا: " أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا " قالَ: " مَن أَوْفَى عَلَى يَدِهِ فِي الكَيْلِ والميزانِ - واللهُ يَعْلَمُ صِحَّةَ نِيَّتِه بالوَفاءِ فِيهِما - لم يُؤَاخَذْ، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ: وُسْعَها " . قالَ: هذا مُرْسَلٌ غَرِيبٌ ، قُلْتُ: وفيهِ رَدٌّ عَلَى القائِلِينَ بِجَوازِ تَكْلِيفِ ما لا يُطَاقُ.
{ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى } هذا أَمْرٌ بالعَدْلِ في القَوْلِ والفِعْلِ عَلَى القَرِيبِ والبَعِيدِ.
قالَ الحَنَفِيُّ: العَدْلُ في القولِ في حقِّ الوَلِيِّ والعَدُوِّ، لا يَتَغَيَّرُ بالرِّضَى والغضبِ، بل يكونُ عَلَى الحقِّ والصِّدقِ، وإنْ كانَ ذا قُرْبَى فلا يَمِيلُ إلى الحَبِيبِ، ولا إلى القريبِ { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [الْمَائدة:8].
{ وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا } قالَ ابنُ جَرِيرٍ: يَقولُ: وبوَصيَّةِ اللهِ الَّتي وَصَّاكُم بها، فأَوْفُوا وانْقادُوا لذلِكَ، بأن تُطِيعُوهُ فيمَا أَمَرَ بهِ ونَهَاكُم عنه، وتَعْمَلُوا بكِتابِهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ، وذلك هو الوَفاءُ بعَهْدِ اللهِ ، وكذا قالَ غيرُهُ.
قُلْتُ: وهو حَسَنٌ، ولكنَّ الظَّاهِرَ أنَّ الآيةَ فيما هو أَخَصُّ، كالبَيْعَةِ والذِّمَّةِ والأمانِ والنَّذْرِ ونحوِ ذلِكَ، وهذه الآيةُ كقولِهِ: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } [النَّحْل:91] فهذا هو المَقْصُودُ بالآيةِ، وإن كانَت شامِلةً لِمَا قالوا بطريقِ العُمومِ.
{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يَقُولُ تعالى: هذا وَصَّاكُم وأَمَرَكُم بهِ وأَكَّدَ عليكُم فيه لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ، أي: تَتَّعِظُونَ وتَنْتَهُونَ عَمَّا كُنْتُم فيهِ.
{ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } قالَ القُرْطُبِيُّ: هذه آيةٌ عظيمةٌ عَطفَهَا اللهُ عَلَى ما تَقَدَّمَ، فإنَّهُ لَمَّا نَهَى وأَمَرَ، حَذَّرَ عن اتِّباعِ غيرِ سبيلِهِ وأَمَرَ فيها باتِّباعِ طريقِهِ عَلَى ما بيَّنَتْهُ الأحاديثُ الصَّحيحةُ وأقاوِيلُ السَّلَفِ.
{ وأنَّ } في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أي: (واتْلُ أنَّ هذا صِراطِي) عن الفَرَّاءِ والكِسائِيِّ ، قالَ الفَرَّاءُ: ويَجُوزُ أن يَكونَ خَفْضًا، أي: وَصَّاكُم بهِ، وبأنَّ هذا صِراطِي ، قالَ: والصِّرَاطُ: الطَّريقُ الَّذي هو دِينُ الإسلامِ ، { مُسْتَقِيمًا } نُصِبَ عَلَى الحالِ، ومَعْناه: مُسْتَوِيًا قَوِيمًا لا اعْوِجاجَ فيهِ، فأَمَرَ باتِّباعِ طَرِيقِه الَّذي طَرَقَهُ عَلَى لِسانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشَرَعَهُ، ونِهايتُهُ الجَنَّةُ، وتَشَعَّبَتْ منه طُرُقٌ، فَمَنْ سَلَكَ الجادَّةَ نَجَا، ومَنْ خَرَجَ إلى تلكَ الطُّرقِ أَفْضَتْ بهِ إلى النَّارِ ، قالَ اللهُ تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153] أي: تَمِيلَ. انْتَهَى.
ورَوَى أَحْمَدُ والنَّسائِيُّ، والدَّارِمِيُّ، وابنُ أَبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بيدِهِ، ثُمَّ قالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا " ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عن يَمِينِ ذلكَ الخَطِّ وعن شِمالِه، ثُمَّ قالَ: " وَهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ " ، ثُمَّ قَرَأَ: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }.
وعن النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ مَرْفُوعًا قالَ: " ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وعلى جَنَبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وعَلَى الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا ولا تَعْوَجُّوا، ودَاعٍ يَدْعُو مِن جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِن تِلْكَ الأَبْوَابِ، قَالَ: لا تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ ، فَالصِّرَاطُ: الإِسْلامُ، والسُّورَانِ: حُدُودُ اللهِ، والأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ، وذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، والدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ: واعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسَائِيُّ، وابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حاتمٍ.
وعن مُجاهِدٍ في قولِهِ: { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } [الأنعام:153] قالَ: البِدَعُ والشُّبُهَاتُ ، رَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ، وابنُ أَبِي حاتمٍ.
وهذه السُّبُلُ تَعُمُّ اليهوديَّةَ، والنَّصرانيَّةَ، والمَجُوسيَّةَ، وعُبَّادَ القُبورِ، وسائرَ أهلِ المِلَلِ والأَوْثانِ، والبِدَعِ والضَّلالاتِ من أهلِ الشُّذوذِ والأهواءِ، والتَّعمُّقِ في الجَدَلِ، والخَوْضِ في الكلامِ، فاتِّباعُ هذه مِن اتِّباعِ السُّبُلِ الَّتي تَذْهَبُ بالإنسانِ عن الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ إلى مَوَافقةِ أصحابِ الجَحِيمِ، كمَا قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " وفي رِوايةٍ: " كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " حديثٌ صحيحٌ.
قالَ ابنُ مَسْعُودٍ: تَعَلَّمُوا العِلْمَ قبلَ أن يُقْبَضَ، وقَبْضُهُ ذَهابُ أَهْلِه، أَلا وإيَّاكُمْ والتَّنَطُّعَ وَالتَّعَمُّقَ والبِدَعَ، وعليكُمْ بالعَتِيقِ ، رَواهُ الدَّارِمِيُّ.
قُلْتُ: العَتِيقُ: هو القديمُ، يَعْنِي: ما كانَ عليهِ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُهُ مِن الهُدَى، دونَ ما حَدَثَ بعدَهُم، فالهَرَبَ الهَرَبَ، والنَّجاءَ النَّجاءَ، والتَّمسُّكَ بالطَّرِيقِ المستقيمِ والسَّنَنِ القَوِيمِ، وهو الَّذي كانَ عليهِ السَّلَفُ الصَّالحُ، وفيه المَتْجَرُ الرَّابحُ ، قاله القُرْطُبِيُّ.
وقالَ سَهْلُ بنُ عَبْدِ اللهِ: عَلَيْكُم بالأَثَرِ والسُّنَّةِ، فإنِّي أَخَافُ أنَّهُ سَيَأْتِي عن قَلِيلٍ زَمَانٌ إذا ذَكَرَ إنسانٌ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاقْتِداءَ بهِ في جميعِ أَحْوالِه ذَمُّوهُ ونَفَرُوا عنهُ وتَبَرَّؤُوا منهُ، وأَذَلُّوهُ وأَهَانُوه.
قُلْتُ: رَحِمَ اللهُ سَهْلاً ما أَصْدَقَ فَرَاسَتَهُ، فلقدْ كانَ ذلك وأَعْظَمُ، وهو أن يُكَفَّرَ الإنسانُ بتَجْرِيدِ التَّوحيدِ والمُتابَعةِ، والأَمْرِ بإِخْلاصِ العِبادةِ للهِ، وتَرْكِ عِبادةِ ما سِوَاه والأَمْرِ بِطاعةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتَحْكِيمِهِ في الدَّقِيقِ والجَلِيلِ.
قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَلْنَذْكُرْ في الصِّراطِ المستقيمِ قَوْلاً وَجِيزًا، فإنَّ النَّاسَ قد تَنَوَّعَتْ عِباراتُهم عنه، وتَرْجَمتُهُم عنه بحَسَبِ صِفاتِهِ ومُتَعَلِّقاتِهِ، وحقيقتُهُ شيءٌ واحدٌ وهو طريقُ اللهِ الَّذي نَصَبَه لِعِبادِهِ مُوصِلاً لهم إليهِ، ولا طَرِيقَ إليهِ سِواه، بَل الطُّرُقُ كُلُّها مَسْدُودةٌ عَلَى الخَلْقِ إلاَّ طَرِيقَهُ الَّذي نَصَبَه عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِه، وجَعَلَه مُوصِلاً لِعِبادِهِ إليهِ وهو إِفْرادُهُ بالعُبوديَّةِ وإفرادُ رسولِه بالطَّاعةِ، فلا يُشْرَكُ بهِ أَحَدٌ في عُبوديَّتِهِ ، ولا يُشْرَكُ برَسُولِه أَحَدٌ في طاعتِهِ، فيُجَرِّدُ التَّوحيدَ، ويُجَرِّدُ مَتابعةَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا معنى قولِ بعضِ العارِفِينَ: إنَّ السَّعادةَ كُلَّها والفلاحَ كُلَّه مَجْموعٌ في شَيْئَيْنِ: صِدْقِ مَحَبَّةٍ وحُسْنِ مُعامَلَةٍ، وهذا كُلُّه مَضْمُونُ شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ ، فأيُّ شيءٍ فُسِّرَ بهِ الصِّراطُ المستقيمُ، فهو داخِلٌ في هذينِ الأصلينِ.
ونُكْتَةُ ذلك أن تُحِبَّهُ بقَلْبِكَ كُلِّه، وتُرْضِيَه بجَهْدِكَ كُلِّه، فلا يَكُونُ في قَلْبِكَ مَوْضِعٌ إلا مَعْمورٌ بِحُبِّهِ، ولا يَكونُ لكَ إرادةٌ إلا مُتَعَلِّقةٌ بمَرْضاتِهِ.
- فالأَوَّلُ: يَحْصُلُ بتحقيقِ شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
- والثَّاني: يَحْصُلُ بتحقيقِ شَهادةِ أنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ، وهذا هو الهُدَى ودِينُ الحقِّ، وهو مَعْرفةُ الحقِّ والعملُ بهِ، وهو معرفةُ ما بَعَثَ اللهُ بهِ رسولَه والقيامُ بِهِ، فقُلْ ما شِئْتَ مِن العِباراتِ الَّتي هذا آخِيَّتُها وقُطْبُ رَحَاهَا.
قالَ: وقولُهُ: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [النِّساء:36] هَكَذا أُثْبِتَ في نُسْخةٍ بخَطِّ شَيْخِنَا ولم يَذْكُر الآيةَ.
قالَ ابنُ كَثِيرٍ: يَأْمُرُ تَعالى عِبادَه بعِبادتِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، فإنَّهُ الخالِقُ الرَّازِقُ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ في جميعِ الحالاتِ، فهو المُسْتَحِقُّ مِنهم أن يُوَحِّدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شيئًا مِن مخلوقاتِهِ.
قُلْتُ: هذا أوَّلُ أَمْرٍ في القرآنِ، وهو الأمرُ بعبادتِهِ وحدَهُ لا شريكَ له، والنَّهْيُ عن الشِّركِ، كمَا في قولِهِ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[البقرة:21] وتَأَمَّلْ كيفَ أَمَرَ تعالى بعبادتِهِ، أي: فِعْلِها خالِصةً له، ولم يَخُصَّ بذلك نوعًا مِن أنواعِ العبادةِ، لا دُعاءً ولا صَلاةً ولا غَيرَهُمَا، لِيَعُمَّ جميعَ أنواعِ العبادةِ، ونَهَى عن الشِّركِ بهِ، ولم يَخُصَّ أيضًا نوعًا مِن أنواعِ العبادةِ بجَوَازِ الشِّركِ فيهِ.
وفي هذه الآيةِ واللَّوَاتي قبلَها دليلٌ عَلَى أنَّ العبادةَ هي التَّوحيدُ، لأنَّ الخُصومةَ فيهِ، وإلاَّ فكانَ المشركونَ يَعْبُدُونَ اللهَ ويَعْبُدُونَ غيرَهُ، فأُمِرُوا بالتَّوحيدِ، وهو عبادةُ اللهِ وحدَهُ وتَرْكُ عبادةِ ما سِواه.
وفِيهنَّ دَليلٌ عَلَى أنَّ التَّوحيدَ أوَّلُ واجِبٍ عَلَى المُكَلَّفِ، وهو الكُفْرُ بالطَّاغوتِ، والإيمانُ باللهِ المُسْتَلْزِمُ لِعبادتِهِ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ مَنْ عَبَدَ غيرَ اللهِ بنوعٍ مِن أنواعِ العبادةِ فقد أَشْرَكَ، سَوَاءٌ كانَ المعبودُ مَلَكًا أو نَبِيًّا أو صالحًا أو صَنَمًا.
(2) (قالَ ابنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أرادَ أن يَنْظُرَ إلى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتي عليها خاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } إلى قولِهِ: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ })
(ابنُ مَسْعُودٍ) هو عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعودٍ بنِ غافِلِ- بمُعْجَمةٍ وفاءٍ- ابنِ حَبيبٍ الهُذَليُّ أبو عبدِ الرَّحمنِ، صَحابيٌّ جليلٌ مِن السَّابِقِينَ الأوَّلِينَ وأهلِ بَدْرٍ وبَيْعَةِ الرِّضْوانِ، ومِن كِبارِ العُلماءِ مِن الصَّحابةِ، أمَّرَهُ عُمَرُ عَلَى الكُوفةِ، وماتَ سَنَةَ اثنتينِ وثلاثينَ.
وهذا الأَثَرُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ أَبِي حاتمٍ، والطَّبَرَانِيُّ بنحوِهِ، ورَوَى أَبُو عُبَيْدٍ وعبدُ بنُ حُمَيْدٍ عن الرَّبِيعِ بنِ خُثَيْمٍ نحوَهُ.
قالَ بعضُهُم ما معناه: أي: مَن أرَادَ أن يَنْظُرَ إلى الوَصِيَّةِ الَّتي كأنَّهَا كُتِبَتْ وخُتِمَ عليها، ثُمَّ طُوِيَت فلم تُغَيَّرْ ولم تُبَدَّلْ، تَشْبِيهًا لها بالكتابِ الَّذي كُتِبَ ثُمَّ خُتِمَ عليهِ فلم يُزَدْ فيه ولم يُنْقَصْ؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَها وخَتَمَ عليها وأَوْصَى بها، فإنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُوصِ إلاَّ بِكِتابِ اللهِ، كمَا قالَ فيما رَوَاهُ مُسْلِمٌ: " وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ " .
قُلْتُ: وقد رَوَى عُبادَةُ بنُ الصَّامِتِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَؤُلاءِ الآَيَاتِ الثَّلاثِ ؟ " ، ثُمَّ تَلا { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتَّى فَرَغَ مِن ثلاثِ آياتٍ، ثُمَّ قالَ: " مَنْ وَفَّى بِهِنَّ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الآَخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ " رَواهُ ابنُ أَبِي حاتِمٍ، والحاكمُ وصَحَّحهُ، فهذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَنِي بِهِنَّ، ويُبالِغُ في الحَثِّ عَلَى العملِ بهِنَّ.
(3) هذا الحديثُ في الصَّحيحين وبعضُ رِواياتِه نحوَ ما ذَكَرَ المُصَنِّفُ.
ومُعاذٌ: هو مُعاذُ بنُ جَبَلِ بنِ عَمْرِو بنِ أَوْسٍ الأَنْصارِيُّ الخَزْرَجِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحمنِ صَحابيٌّ مَشْهورٌ مِن أَعْيانِ الصَّحابةِ، شَهِدَ بَدْرًا وما بعدَهَا، وكانَ إليهِ المُنْتَهَى في العِلْمِ بالأحكامِ والقرآنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ماتَ سَنَةَ ثمَانيَ عَشْرةَ بالشَّامِ.
قولُهُ: (كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ؛ فيه جَوازُ الإِرْدافِ عَلَى الدَّابَّةِ، وفَضِيلةٌ لِمُعاذٍ مِن جِهةِ رُكوبِهِ خَلْفَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ: (عَلَى حِمارٍ) ؛ في رِوايةٍ: (اسمُهُ عُفَيْرٌ) ، بعَيْنٍ مُهْمَلةٍ مَضْمُومةٍ، ثُمَّ فاءٍ مَفْتُوحةٍ ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وهو الحِمَارُ الَّذي كانَ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: إنَّهُ ماتَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ ، وفيه: تَوَاضُعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للإِرْدافِ ولِرُكوبِ الحِمَارِ، خِلافَ ما عليهِ أهلُ الكِبْرِ.
قولُهُ: " أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ ؟ " الدِّرايةُ: هي المعرفةُ، وأَخْرَجَ السُّؤالَ بِصِيغةِ الاسْتِفْهامِ، لِيَكونَ أَوْقَعَ في النَّفْسِ، وأَبْلَغَ في فَهْمِ المُتَعَلِّمِ، فإنَّ الإِنْسانَ إِذَا سُئِلَ عن مَسْألةٍ لا يَعْلَمُهَا ثُمَّ أُخْبِرَ بهَا بعدَ الامتحانِ بالسُّؤالِ عنها، فإنَّ ذلك أَوْعَى لِفَهْمِهَا وحِفْظِهَا، وهذا مِن حُسْنِ إرشادِهِ وتعليمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
و" حَقُّ اللهِ عَلَى العِبادِ " هو ما يَسْتَحِقُّهُ عليهم ويَجْعَلُه مُتَحَتِّمًا.
و" حقُّ العِبادِ عَلَى اللهِ " مَعْناهُ أنَّهُ مُتَحَقِّقٌ لا مَحالةَ؛ لأنَّهُ قد وَعَدَهُم ذلك جَزاءً لهم عَلَى توحيدِهِ، ووعدُهُ حقٌّ، إنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ.
وقالَ شيخُ الإسلامِ: كَوْنُ المُطِيعِ يَسْتَحِقُّ الجزاءَ، هو اسْتِحْقاقُ إِنْعامٍ وفَضْلٍ، ليس هو استحقاقَ مُقابَلةٍ كمَا يَسْتَحِقُّ المَخْلوقُ عَلَى المخلوقِ، فمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: لا معنى للاستحقاقِ إلاَّ أنَّهُ أَخْبَرَ بذلِكَ، ووَعْدُهُ صِدْقٌ، ولكنَّ أَكْثرَ النَّاسِ يُثْبِتُون اسْتِحْقاقًا زائدًا عَلَى هذا كمَا دَلَّ عليهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ ، قالَ تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ } [الرُّوم:48] ، ولكنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقولُونَ: هو الَّذي كَتَبَ عَلَى نفسِهِ الرَّحمةَ، وأَوْجَبَ هذا الحقَّ عَلَى نفسِهِ، لم يُوجِبْهُ عليهِ مخلوقٌ، والمُعْتَزِلةُ يَدَّعُونَ أنَّهُ وَاجِبٌ عليهِ بالقِياسِ عَلَى الخَلْقِ، وأنَّ العِبادَ هم الَّذينَ أَطَاعُوه بدونِ أن يَجْعَلَهم مُطِيعِينَ له، وأنَّهُم يَسْتَحِقُّونَ الجزاءَ بدونِ أن يَكونَ هو المُوجِبَ، وغَلِطُوا في ذَلِكَ، وهذا البابُ غَلِطَت فيهِ القَدَرِيَّةُ والجَبْرِيَّةُ أَتْباعُ جَهْمٍ والقَدَرِيَّةُ النَّافِيةُ.
قولُهُ: (فَقُلْتُ: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ) ؛ فيه حُسْنُ أَدَبِ المُتَعَلِّمِ، وأنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سُئِلَ عَمَّا لا يَعْلَمُ أنْ يَقُولَ ذلكَ بخِلافِ أكثرِ المُتَكَلِّفِينَ.
قولُهُ: " أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا " أي: يُوَحِّدُوهُ بالعِبادةِ وَحْدَهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شيئًا.
وفائدةُ هذه الجملةِ: بَيانُ أنَّ التَّجرُّدَ مِن الشِّركِ لابدَّ منه في العِبادةِ، وإلاَّ فلا يكونُ العبدُ آتِيًا بعبادةِ اللهِ بل مُشْرِكٌ، وهذا هو معنى قولِ المُصَنِّفِ: (إنَّ العبادةَ هي التَّوحيدُ، لأنَّ الخُصومةَ فيهِ)، وفيهِ معرفةُ حقِّ اللهِ عَلَى العبادِ، وهو عبادتُهُ وحدَهُ لا شريكَ له.
فيا مَنْ حَقُّ سيِّدِهِ الإقبالُ عليهِ، والتَّوجُّهُ بقلبهِ إليهِ، لقد صَانَكَ وشَرَّفَكَ عن إِذْلالِ قلبِكَ ووجهِكَ لغيرِهِ، فما هذه الإِسَاءةُ القَبِيحةُ في مُعاملتِهِ مع هذا التَّشْرِيفِ والصِّيانَةِ! فهو يُعَظِّمُكَ ويَدْعُوكَ إلى الإقبالِ وأنتَ تَأْبَى إلاَّ مُبارَزَتَهُ بقَبائحِ الأفعالِ ، في بعضِ الآثارِ الإلهيَّةِ: " إِنِّي والجِنَّ والإِنْسَ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ، أَخْلُقُ ويُعْبَدُ غَيْرِي، وأَرْزُقُ ويُشْكَرُ سِوَاي، خَيْرِي إِلَى الْعِبادِ نَازِلٌ، وشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتَحَبَّبُ إليهم بالنِّعَمِ، ويَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بالمَعاصِي " ، وكيفَ يَعْبُدُهُ حقَّ عِبادتِهِ مَن صَرَفَ سؤالَه، ودُعاءهُ، وتَذَلُّلَه، واضْطِرارَهُ، وخَوْفَهُ ورَجاءهُ، وتَوَكُّلَه، وإِنابتَهُ، وذَبْحَهُ، ونَذْرَهُ؛ لمَنْ لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا، ولا موتًا ولا حَياةً ولا نُشورًا، مِن مَيِّتٍ رَمِيمٍ في التُّرابِ، أو بِناءٍ مَشِيدٍ مِن القِبابِ، فَضْلاً مِمَّا هو شرٌّ مِن ذلك.
قولُهُ: " وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " قَالَ الخَلْخَالِيُّ: تَقْديرُهُ: أنْ لا يُعَذِّبَ مَن يَعْبُدُهُ ولا يُشْرِكُ بهِ شَيْئًا .
والعبادةُ: هي الإِتْيانُ بالأوامرِ، والانْتِهاءُ عن المَنَاهِي؛ لأنَّ مجرَّدَ عَدَمِ الإِشْراكِ لا يَقْتَضِي نَفْيَ العَذَابِ، وقد عُلِمَ ذلك مِن القُرْآنِ والأَحادِيثِ الوَارِدةِ في تَهْدِيدِ الظَّالِمِينَ والعُصاةِ.
وقالَ الحافِظُ: اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الإشراكِ، لأنَّهُ يَسْتَدْعِي التَّوحيدَ بالاقْتِضاءِ، ويَسْتَدْعِي إثباتَ الرِّسالةِ باللُّزُومِ؛ إذ مَن كَذَّبَ رَسولَ اللهِ، فقد كَذَّبَ اللهَ، ومَن كذَّبَ اللهَ، فهو مُشْرِكٌ، وهو مِثْلُ قولِ القائلِ: مَن تَوَضَّأَ صَحَّت صَلاتُهُ، أي: مع سائرِ الشُّروطِ، فالمرادُ مَنْ ماتَ حالَ كونِهِ مُؤْمِنًا بجميعِ ما يَجِبُ الإيمانُ بهِ.
قُلْتُ: وسيَأْتِي تقريرُ هذا في البابِ الَّذي بعدَهُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
قولُهُ: ( أَفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ ) ؛ فيه اسْتِحْبابُ بِشارةِ المسلمِ بمَا يَسُرُّهُ ، وفيه: ما كانَ عليه الصَّحابةُ مِن الاسْتِبْشارِ، بمثلِ هذا، نَبَّهَ عليه المُصَنِّفُ.
قولُهُ: قالَ: " لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " ، وفي رِوايةٍ: " إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا " ، أي: يَعْتَمِدُوا عَلَى ذلِكَ، فيَتْرُكُوا التَّنافُسَ في الأعمالِ الصَّالحةِ.
وفي رِوايةٍ: (فَأَخْبَرَ بهِا مُعاذٌ عندَ موتِهِ تَأَثُّمًا) ، أي: تَحَرُّجًا مِن الإِثْمِ.
قالَ الوَزِيرُ أَبُو المُظَفَّرِ: لم يَكُنْ يَكْتُمُهَا إلاَّ عن جاهِلٍ يَحْمِلُه جَهْلُه عَلَى سُوءِ الأَدَبِ بتَرْكِ الخِدْمةِ في الطَّاعةِ، فأمَّا الأَكْياسُ الَّذينَ إذا سَمِعُوا بمثلِ هذا ازْدادُوا في الطَّاعةِ، ورَأَوْا أَنَّ زِيادةَ النِّعَمِ تَسْتَدْعِي زِيادةَ الطَّاعةِ فلا وَجْهَ لِكِتْمانِها عَنْهُم.
وقالَ الحافظُ: دَلَّ هذا عَلَى أنَّ النَّهْيَ للتَّبْشِيرِ ليسَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وإلاَّ لَمَا أَخْبَرَ بهِ أَصْلاً، أو أنَّهُ ظَهَرَ له أنَّ المَنْعَ إنَّما هو مِن الإِخْبارِ عُمومًا، فَبَادَرَ قبلَ مَوْتهِ فأَخْبَرَ بهِا خَاصًّا مِن النَّاسِ.
وفي البابِ مِن الفوائدِ غيرُ ما تَقَدَّمَ:
- التَّنبِيهُ عَلَى عَظَمةِ حقِّ الوالدينِ، وتَحْرِيمِ عُقوقِهِمَا.
- والحَثُّ عَلَى إخلاصِ العبادةِ للهِ تَعالى، وأنَّهَا لا تَنْفَعُ معَ الشِّركِ، بل لا تُسَمَّى عِبادةً شَرْعًا.
- والتَّنبيهُ عَلَى عَظمةِ الآياتِ المُحْكَمَاتِ في سُورةِ الأنعامِ، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
- وجَوازُ كِتْمانِ العِلْمِ لِلمَصْلَحةِ، ولا سِيَّمَا أحاديثُ الرَّجاءِ الَّتي إذا سَمِعَها الجُهَّالُ ازْدادُوا مِن الآثامِ.
كمَا قالَ بعضُهُم:
فَأَكْثِرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِن الخَطَايَا=إِذَا كَانَ الْقُدُومُ عَلَى كَرِيـمِ
- وتَخْصِيصُ بعضِ النَّاسِ بالعلمِ دونَ بعضٍ.
- وفضيلةُ مُعاذٍ، ومَنْزِلَتُهُ مِن العلمِ، لكونِهِ خُصَّ بما ذُكِرَ.
- واسْتِئْذَانُ المُتَعَلِّمِ في إِشَاعةِ ما خُصَّ بهِ مِن العلمِ.
- والخوفُ مِن الاتِّكالِ عَلَى سَعَةِ رَحْمةِ اللهِ.
- وأنَّ الصَّحابةَ لا يَعْرِفُونَ مثلَ هذا إلاَّ بتعليمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
قولُهُ: ( أَخْرَجَاهُ في الصَّحيحين ) ؛ أي: أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحَيهِما ، وإنَّما أَضْمَرَهُمَا لِلعلمِ بهِما.
والبُخارِيُّ: هو الإمامُ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ بنِ إِبْرَاهِيمَ الجُعْفِيُّ مَوْلاهُم، الحافِظُ الكَبِيرُ صاحبُ الصَّحيحِ والتَّاريخِ والأَدَبِ المُفْرَدِ وغيرِ ذلك من مصنَّفاتِهِ ، رَوَى عن الإمامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ والحُمَيْدِيِّ وابنِ المَدِينِيِّ وطَبَقَتِهِم ، ورَوَى عنه مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ والفَرَبْرِيُّ رَاوِي الصَّحِيحِ وغيرُهُم ، وُلِدَ سنةَ أربعٍ وتسعينَ ومائةٍ، وماتَ سنةَ ستٍّ وخمسينَ ومائتينِ.
ومُسْلِمٌ: هو ابنُ الحَجَّاجِ بنِ مُسْلِمٍ أَبُو الحُسَيْنِ القُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ صاحِبُ الصحيحِ والعِلَلِ والوُحْدَانِ وغيرِ ذلكَ ، رَوَى عن أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، ويَحْيَى بنِ مَعِينٍ وأَبِي خَيْثَمَةَ، وابنِ أبي شَيْبَةَ، وطَبَقَتِهِم ، رَوَى عنه التِّرْمِذِيُّ، وإبراهيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سُفْيانَ رَاوِي الصَّحيحِ وغيرُهُما ، وُلِدَ سنةَ أربعٍ ومِائَتَيْنِ، وماتَ سنةَ إحدى وسِتِّينَ ومِائَتَينِ بنَيْسَابُورَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.