(لِلْوَالِدِ) الْمَعْرُوفُ فِي الذِّهْنِ يَعْنِي جِنْسَ الْوَالِدِ فَيَشْمَلُ الْأُمَّ وَالْأَبَ وَإِنْ عَلَوْا (الْمُتَأَكِّدِ) فِي الْقُرْبِ وَالْمُسْتَحِقِّ لِلْبِرِّ , كَمَا أَخْبَرَ الرَّبُّ . فَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ , وَعُقُوقُهُمَا مِنْ أَكْبَرِ الْمُوبِقَاتِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْآثَارِ الْمُسْنَدَاتِ .
وَرَأَيْت فِي عِدَّةِ نُسَخٍ مَكَانَ هَذَا الْبَيْتِ بَدَلَهُ مَا لَفْظُهُ(وَإِنَّ عُقُوقَ) أَيْ إيذَاءَ (الْوَالِدَيْنِ) تَثْنِيَةُ وَالِدٍ , يُقَالُ عَقَّ وَالِدَهُ . يَعُقُّهُ عُقُوقًا فَهُوَ عَاقٌّ إذَا آذَاهُ وَعَصَاهُ وَخَرَجَ عَلَيْهِ وَهُوَ ضِدُّ الْبِرِّ بِهِ , وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَقِّ الَّذِي هُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ (كَبِيرَةٌ) الْكَبِيرَةُ مِنْ الذُّنُوبِ مَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ , وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَوْ نَفْيُ إيمَانٍ أَوْ لَعْنٌ مُبْعِدٌ .
وَفِي مَنْظُومَةِ الْكَبَائِرِ:
فَمَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَوَعُّدٌ بِأُخْرَى = فَسَمِّ كُبْرَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ
وَزَادَ حَفِيدُ الْمَجْدُ أَوْ جَا وَعِيدُهُ = بِنَفْيٍ لِإِيمَانٍ وَلَعْنٍ مُبْعِدِ
(فَبِرُّهُمَا) أَيْ الْوَالِدَيْنِ وَالْبِرُّ الصِّلَةُ وَالْحَسَنَةُ وَالْخَيْرُ وَالْإِشْبَاعُ فِي الْإِحْسَانِ , فَهُوَ ضِدُّ الْعُقُوقِ . قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ . وَفِي الْمَطَالِعِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " وَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ " الْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ . قَالَ وَبِرُّ الْأَبَوَيْنِ كُلُّهُ مِنْ الصِّلَةِ وَفِعْلُ الْخَيْرِ وَالتَّوَسُّعُ فِيهِ وَاللُّطْفُ وَالطَّاعَةُ (تَبْرُرْ) أَيْ يَبَرُّك أَوْلَادُك أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ جَزَاءً لِبِرِّك وَالِدَيْك , فَإِنَّ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ بَرَّهُ أَوْلَادُهُ كَمَا يَأْتِي فِي الْخَبَرِ , وَمَنْ عَقَّهُمَا عَقَّهُ أَوْلَادُهُ جَزَاءً وِفَاقًا . قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ عَصَى وَالِدَيْهِ لَمْ يَنَلْ السُّرُورَ مِنْ وَلَدِهِ . وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا يَضْرِبُ أَبَاهُ فِي مَوْضِعٍ فَقِيلَ لَهُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ الْأَبُ: خَلُّوا عَنْهُ فَإِنِّي كُنْت أَضْرِبُ أَبِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَابْتُلِيت بِابْنِي يَضْرِبُنِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . (وتحمد) مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ وَكُسِرَ لِلْقَافِيَةِ , يَعْنِي تُحْمَدُ فِي الدُّنْيَا بِحُسْنِ الثَّنَاءِ مِنْ الْخُلُقِ وَالْمَلَأِ الْأَعْلَى , وَتُحْمَدُ فِي الْآخِرَةِ لَدَى رَبِّ السَّمَوَاتِ الْعُلَى , وَتُحْمَدُ عَاقِبِةُ بِرِّك لَهُمَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا حَصَلَتْ لَكَ بَرَكَتُهُ فِي الْأُولَى .
قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ .
مطلب فِي ذِكْرِ الْأَخْبَارِ المصطفوية فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ
وَأَمَّا الْأَخْبَارُ المصطفوية وَالْآثَارُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْضَرَ , فِي مِثْلِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ .
وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ طَرَفٍ صَالِحٍ مِنْهَا .
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ " سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا .
قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ .
قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتَّرْمِذِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ " .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ " جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ مِنْ الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ نَعَمْ , قَالَ فِيهِمَا فَجَاهِدْ " .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " أَقْبَلَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ .
قَالَ فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْك أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا حَيٌّ .
قَالَ فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ .
قَالَ فَارْجِعْ إلَى وَالِدَيْك فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا " .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه " أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا؟ قَالَ هُمَا جَنَّتُك وَنَارُك " .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ " أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْت أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْت أَنْ أَسْتَشِيرَك , فَقَالَ هَلْ لَك مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ نَعَمْ , قَالَ فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِهَا " .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِطَلْحَةِ بْنِ مُعَاوِيَةَ السُّلَمِيِّ " أُمُّك حَيَّةٌ؟ قَالَ نَعَمْ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ " أَشَارَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ إلَى ضَعْفِهِ .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ إنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا .
فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ , فَإِنْ شِئْت فَضَعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ " أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ إنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى زَوَّجَنِي وَإِنَّهُ الْآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا .
قَالَ مَا أَنَا بِاَلَّذِي آمُرُك أَنْ تَعُقَّ وَالِدَيْك وَلَا بِاَلَّذِي آمُرُك أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَك , غَيْرَ أَنَّك إنْ شِئْت حَدَّثْتُك مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , سَمِعْته يَقُولُ " الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ إنْ شِئْت أَوْ دَعْ " قَالَ فَأَحْسِبُ عَطَاءً قَالَ فَطَلَّقَهَا .
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمُدَّ اللَّهُ لَهُ فِي عُمْرِهِ , وَيُزَادَ فِي رِزْقِهِ فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ , وَلِيَصِلْ رَحِمَهُ " .
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ طُوبَى لَهُ زَادَ اللَّهُ فِي عُمْرِهِ " .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ سُلَيْمَانَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إلَّا الْبِرُّ " .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ , وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ , وَمَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلًا فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا , فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الْحَوْضَ " .
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ " بِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ .
وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ .
قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَوْ أَحَدَهُمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ " وَمَعْنَى رَغِمَ أَنْفُهُ أَيْ لَصِقَ بِالرَّغْمِ وَهُوَ التُّرَابُ .
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ أَحَدُهَا حَسَنٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَمْرٍو الْقُشَيْرِيِّ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً فَهِيَ فِدَاهُ مِنْ النَّارِ .
وَمَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ " زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَأَسْحَقَهُ .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمْ الْمَبِيتُ إلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ , فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ , فَقَالُوا إنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ .
قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْت لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا , فَنَأَى بِي طَلَبُ شَجَرٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا , فَحَلَبْت لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتهمَا نَائِمَيْنِ فَكَرِهْت أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا فَلَبِثْت وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ انْتَظَرْت اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا .
اللَّهُمَّ إنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ , فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمِي .
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ فَأَرَدْتهَا عَلَى نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنْ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ , حَتَّى إذَا قَدَرْت عَلَيْهَا قَالَتْ لَا أَحِلُّ لَك أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إلَّا بِحَقِّهِ , فَتَحَرَّجْت مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا , فَانْصَرَفْت عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ وَتَرَكْت الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتهَا .
اللَّهُمَّ إنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ , فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْت أُجَرَاءَ وَأَعْطَيْتهمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ , فثمرت أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ , فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إلَيَّ أَجْرِي , فَقُلْت كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِك مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ .
فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئْ بِي , فَقُلْت إنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِك , فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا .
اللَّهُمَّ إنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ .
فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ " .
قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ " وَكُنْت لَا أَغْبِقُ قَبْلَهَا أَهْلًا وَلَا مَالًا " الْغَبُوقُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الَّذِي يُشْرَبُ بِالْعَشِيِّ وَمَعْنَاهُ كُنْت لَا أُقَدِّمُ عَلَيْهِمَا فِي شُرْبِ اللَّبَنِ أَهْلًا وَلَا غَيْرَهُمْ .
وَقَوْلُهُ " يَتَضَاغَوْنَ " بِالضَّادِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ يَضِجُّونَ مِنْ الْجُوعِ .
وَالسَّنَةُ الْعَامُ الْمُقْحِطُ الَّذِي لَمْ تَنْبُتْ الْأَرْضُ فِيهِ شَيْئًا سَوَاءٌ نَزَلَ غَيْثٌ أَمْ لَمْ يَنْزِلْ .
وَقَوْلُهُ تَفُضَّ الْخَاتَمَ هُوَ بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ كِنَايَةٌ عَنْ الْوَطْءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ " بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَمَالُوا إلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اُنْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا .
فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ , وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ , كُنْت أَرْعَى , فَإِذَا رُحْت عَلَيْهِمْ فَحَلَبْت بَدَأْت بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي , وَأَنَّهُ نَأَى بِي الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْت حَتَّى أَمْسَيْت فَوَجَدْتُهَمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْت كَمَا كُنْت أَحْلُبُ فَجِئْت بِالْحِلَابِ فَقُمْت عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا , وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا , وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمِي , فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبُهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ , فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَأَفْرِجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ حَتَّى يَرَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ يَرْتَادُونَ لِأَهْلِيهِمْ فَأَصَابَهُمْ السَّمَاءُ فَلَجَئُوا إلَى جَبَلٍ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَفَا الْأَثَرُ وَوَقَعَ الْحَجَرُ وَلَا يَعْلَمُ بِمَكَانِكُمْ إلَّا اللَّهُ , فَادْعُوا اللَّهَ بِأَوْثَقِ أَعْمَالِكُمْ " الْحَدِيثَ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما مَرْفُوعًا " رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ , وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَجَعَ وَقْفُهُ .
وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ " طَاعَةُ اللَّهِ طَاعَةُ الْوَالِدِ , وَمَعْصِيَةُ اللَّهِ مَعْصِيَةُ الْوَالِدِ " .
وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَوْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ " رِضَا الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ , وَسَخَطُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ " .
إلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ .
مطلب هَلْ إذَا أَمَرَ الْأَبُ أَوْ الْأُمُّ وَلَدَهُمَا بِتَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ يُجِيبُهُمَا أَو لَا؟
(وَ) كَأَمْرِهِمَا لَهُ (بِتَطْلِيقِ زَوْجَاتٍ) لَهُ أَوْ بَيْعِ أَمَةٍ لَهُ (بِرَأْيٍ) أَيْ اعْتِقَادٍ (مُجَرَّدٍ) عَنْ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرَّأْيُ الِاعْتِقَادُ جَمْعُهُ آرَاءٌ .
قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: فَإِنْ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَمْ يَجِبْ .
ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ .
وَسَأَلَ رَجُلٌ الْإِمَامَ رضي الله عنه فَقَالَ إنَّ أَبِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي , قَالَ لَا تُطَلِّقْهَا .
قَالَ أَلَيْسَ عُمَرُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ حَتَّى يَكُونَ أَبُوك مِثْلَ عُمَرَ رضي الله عنه .
قَالَ فِي الْآدَابِ: وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عُمَرَ .
وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ قَالَ إذَا أَمَرَتْهُ أُمُّهُ بِالطَّلَاقِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُطَلِّقَ , لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْآدَابِ , وَكَذَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ لِأَمْرِ أُمِّهِ .
فَإِنْ أَمَرَهُ الْأَبُ بِالطَّلَاقِ طَلَّقَ إذَا كَانَ عَدْلًا يَعْنِي الْأَبَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِيمَنْ تَأْمُرُهُ أُمُّهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ , قَالَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا , بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهَا , وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا .
انْتَهَى .
وَقَالَ رَجُلٌ للإمام رضي الله عنه: لِي جَارِيَةٌ وَأُمِّي تَسْأَلُنِي أَنْ أَبِيعَهَا , قَالَ تَتَخَوَّفُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسُك؟ قَالَ نَعَمْ , قَالَ لَا تَبِعْهَا .
قَالَ إنَّهَا تَقُولُ لَا أَرْضَى عَنْك أَوْ تَبِيعُهَا , قَالَ إنْ خِفْت عَلَى نَفْسِك فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ يَبْقَى إمْسَاكُهَا وَاجِبًا , أَوْ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا .
وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ يُطِيعُهَا فِي بَيْعِهَا لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ لَا دِينًا وَلَا دُنْيَا .
وَقَالَ أَيْضًا: قَيَّدَ أَمْرَهُ بِبَيْعِ السُّرِّيَّةِ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ بَيْعَ السُّرِّيَّةِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الثَّمَنَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ .
فَإِنَّهُ مُضِرٌّ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي الطَّلَاقِ مَا لَا يُتَّهَمُ فِي بَيْعِ السُّرِّيَّةِ .
وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ وُجُوبِ طَاعَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " وَطَلَاقُ زَوْجَاتِهِ بِمُجَرَّدِ هَوًى ضَرَرٌ بِهَا وَبِهِ .
مطلب فِي تَقْدِيمِ بِرِّ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ
(الثَّانِي) قَدْ عُلِمَ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدِينَ وَاجِبٌ , لَكِنْ يُقَدَّمُ بِرُّ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ " جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ أُمُّكَ , قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمُّكَ , قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمُّكَ , قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أَبُوكَ " فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ الْأُمِّ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْأَبِ لِذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأُمَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَذِكْرِ الْأَبِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ الْأُمَّ تَنْفَرِدُ عَنْ الْأَبِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ صُعُوبَةُ الْحَمْلِ , وَصُعُوبَةُ الْوَضْعِ, وَصُعُوبَةُ الرَّضَاعِ , فَهَذِهِ تَنْفَرِدُ بِهَا الْأُمُّ وَتَشْقَى بِهَا ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ.
مطلب: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ
(فَوَائِدُ: الْأُولَى) قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ .
وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَكْحُولٍ .
قُلْت وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ " أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ هَلْ لَك مِنْ أُمٍّ " وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ " هَلْ لَك وَالِدَانِ؟ قَالَ لَا .قَالَ فَهَلْ لَك مِنْ خَالَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ .
قَالَ فَبِرَّهَا " .
مطلب: لَوْ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِتَنَاوُلِ الْمُشْتَبَهِ هَلْ تَجِبُ طَاعَتُهُ؟
(الْخَامِسَةُ) لَوْ أَمَرَهُ وَالِدُهُ بِتَنَاوُلِ الْمُشْتَبَهِ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ أَوْ لَا تَجِبُ , يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى عَلَى جَوَازِ تَنَاوُلِهِ وَعَدَمِهِ , وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ بَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ , وَقُوَّةُ الْكَرَاهَةِ فِيهِ وَضَعْفُهَا بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْحَرَامِ وَقِلَّتِهِ , وَهَذَا الَّذِي قَدَّمَهُ الْآزِجِيُّ وَغَيْرُهُ , وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ , وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَأَطْعَمَهُ طَعَامًا فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ , وَإِنْ سَقَاهُ شَرَابًا مِنْ شَرَابِهِ فَلْيَشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ وَلَا يَسْأَلْ عَنْهُ " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُمَيْلٍ عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: لِي جَارٌ يَأْكُلُ الرِّبَا وَلَا يَزَالُ يَدْعُونِي , فَقَالَ مُهَنَّأَهُ لَك وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ .
قَالَ الثَّوْرِيُّ: إنْ عَرَفْته بِعَيْنِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ .
وَمُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَلَامُهُ لَا يُخَالِفُ هَذَا .
وَرَوَى جَمَاعَةٌ أَيْضًا عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: إذَا كَانَ لَك صَدِيقٌ عَامِلٌ فَدَعَاك إلَى طَعَامٍ فَاقْبَلْهُ فَإِنَّ مُهَنَّأَهُ لَك وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مَنْصُورٌ قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: عَرِيفٌ لَنَا يُصِيبُ مِنْ الظُّلْمِ وَيَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُهُ , فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لِلشَّيْطَانِ غَرَضٌ بِهَذَا لِيُوقِعَ عَدَاوَةً , قَدْ كَانَ الْعُمَّالُ يَهْمِطُونَ وَيُصِيبُونَ ثُمَّ يَدْعُونَ فَيُجَابُونَ .
قُلْت نَزَلْت بِعَامِلٍ فَنَزَلَنِي وَأَجَازَنِي , قَالَ أَقْبِلْ قُلْت فَصَاحِبُ رِبَاءٍ , قَالَ أَقْبِلْ مَا لَمْ تَرَهُ بِعَيْنِهِ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْهَمْطُ الظُّلْمُ وَالْأَخْذُ بِلَا تَقْدِيرٍ .
قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ , وَكَمَا لَوْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِالِاحْتِمَالِ وَإِنْ تَرَكَهُ أَوْلَى .
قَالَ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا حُكْمُ مُعَامَلَتِهِ وَقَبُولُ هَدِيَّتِهِ وَضِيَافَتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(تَتِمَّةٌ) ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حُرْمَةَ الْوَالِدَيْنِ وَلَمْ يُوصِ بِهِمَا لَكَانَ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ حُرْمَتَهُمَا وَاجِبَةٌ , وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَتَهُمَا وَيَقْضِيَ حَقَّهُمَا .
فَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ , وَقَدْ أَمَرَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ وَأَوْحَى إلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ وَأَوْصَاهُمْ بِحُرْمَةِ الْوَالِدَيْنِ وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِمَا , وَجَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطَهُ فِي سَخَطِهِمَا .
وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لَوْ عَلِمَ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ الْعُقُوقِ أَدْنَى مِنْ أُفٍّ لَنَهَى عَنْ ذَلِكَ , فَلْيَعْمَلْ الْعَاقُّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ , وَلْيَعْمَلْ الْبَارُّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ النَّارَ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلَاثِ آيَاتٍ لَا يُقْبَلُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا , أَوَّلُهَا أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ , فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ .
وَالثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك}َ, فَمَنْ شَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْكُرْ وَالِدَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ .
وَالثَّالِثُ قوله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ , فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُطِعْ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ .
وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ " يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي خَرِفَتْ عِنْدِي وَأَنَا أُطْعِمُهَا بِيَدَيْ وَأُسْقِيهَا بِيَدَيْ وَأُوَضِّيهَا وَأَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِي فَهَلْ جَزَيْتهَا؟ قَالَ لَا وَلَا وَاحِدًا مِنْ مِائَةٍ وَلَكِنَّك قَدْ أَحْسَنْت وَاَللَّهُ يُثِيبُك عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرًا " قُلْت: وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ الْمَقُولَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه وَأَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ وَلَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّك أَحْسَنْت .
.
.
إلَخْ .
وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ وُجُوبَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَذَّرَ مِنْ عُقُوقِهِمَا أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالتَّوْصِيَةِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ إلَى أَصْحَابِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بِرِّهِمَا فَقَالَ:
مطلب: فِي بِرِّ الرَّجُلِ أَبَوَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا
وَأَحْسِنْ إلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّدِ (وَأَحْسِنْ) بِالْمَوَدَّةِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَإِطْلَاقِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ الْبَشَاشَةِ (إلَى أَصْحَابِهِ) أَيْ الْوَالِدِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ أَوْ الْأُمُّ بِأَنْ يُكْرِمَ صُوَيْحِبَاتِهَا (بَعْدَ مَوْتِهِ) أَيْ وَالِدِهِ , وَلَعَلَّ هَذَا الْقَيْدَ أَغْلَى فَيُحْسِنُ إلَى أَصْحَابِهِ وَلَوْ حَيًّا , لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَغْلَبُ إنَّمَا يَحْتَاجُونَهُ بَعْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ قَيَّدُوهُ بِكَوْنِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ (فَهَذَا) أَيْ إحْسَانُك إلَى أَصْحَابِ وَالِدِك (بَقَايَا) أَيْ كَمَالُ (بِرِّهِ) مِنْك , فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَلَيْسَ بِرُّك لَهُ كَامِلًا بَلْ عَلَيْك الْإِحْسَانُ لِأَصْحَابِ وَالِدِك لِكَمَالِ بِرِّهِ (الْمُتَعَوَّدِ) مِنْك يَعْنِي الْمُعْتَادَ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ " الْمُتَزَوَّدِ " يَعْنِي الْمُتَّخَذَ زَادًا لِكَوْنِ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْك وَوَالِدُك فِي دَارِ الْبَرْزَخِ , فَكَأَنَّك أَرْسَلْته زَادًا لَهُ أَحْوَجَ مَا هُوَ إلَيْهِ , وَذَلِكَ لِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَةَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه قَالَ " بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا , وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا , وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا , وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إلَّا بِهِمَا , وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ " قَالَ الرَّجُلُ مَا أَكْثَرَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَطْيَبَهُ , قَالَ فَاعْمَلْ بِهِ " وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَلْ لَك مِنْ خَالَةٍ .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ .
قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا أَصْلَحَك اللَّهُ إنَّهُمْ الْأَعْرَابُ وَهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ , فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " وَإِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ " .
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَأَتَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُك؟ قَالَ قُلْت لَا .
قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ فَلْيَصِلْ إخْوَانَ أَبِيهِ " .
وَأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي عُمَرَ وَبَيْنَ أَبِيكَ إخَاءٌ وَوُدٌّ فَأَحْبَبْت أَنْ أَصِلَ ذَاكَ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ عِدَّةُ أَخْبَارٍ , مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " الْوُدُّ يُتَوَارَثُ وَالْبُغْضُ يُتَوَارَثُ " وَقَوْلُهُ " ثَلَاثٌ يُطْفِينَ نُورَ الْعَبْدِ: أَنْ يَقْطَعَ وُدَّ أَبِيهِ , وَيُبْدِلَ سُنَّةً صَالِحَةً , وَيَزْنِي بِبَصَرِهِ فِي الْحُجُرَاتِ " وَذُكِرَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ لَا تَقْطَعُ مَنْ كَانَ أَبُوك يَصِلُهُ فَيُطْفَى نُورُك .
انْتَهَى .
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي الرَّوَّادِ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ بَارًّا بِأَبَوَيْهِ فِي حَيَّاتِهِمَا ثُمَّ لَمْ يَفِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِنُذُورِهِمَا وَلَمْ يَقْضِ دُيُونَهُمَا كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاقًّا .
وَإِذَا كَانَ لَمْ يَبَرَّهُمَا وَأَوْفَى بِنُذُورِهِمَا وَقَضَى دُيُونَهُمَا كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَارًّا .
ذَكَرَهُ الْحَجَّاوِيُّ رحمه الله .
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي تَنْبِيهِهِ: فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ إذَا مَاتَا سَاخِطَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ هَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرْضِيَهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا , قِيلَ لَهُ بَلْ يُرْضِيهِمَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ , أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِمَا مِنْ صَلَاحِهِ , وَالثَّانِي أَنْ يَصِلَ قَرَابَتَهُمَا وَأَصْدِقَاءَهُمَا , وَالثَّالِثُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمَا وَيَدْعُوَ لَهُمَا وَيَتَصَدَّقَ عَنْهُمَا .
وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّ مَنْ دَعَا لِأَبَوَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَقَدْ أَدَّى حَقَّهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فَشُكْرُ اللَّهِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ , وَكَذَا شُكْرُ الْوَالِدَيْنِ أَنْ تَدْعُوَ لَهُمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .