935- وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَكَلَّمْ)) مُتَّفَقٌ عليهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- تَجَاوَزَ: هو مِن جَازَ يَجُوزُ، فألِفُه مُنْقَلِبَةٌ عن واوٍ، وتَجَاوَزَ عن المُسِيءِ: عَفَا عنه، وصَفَحَ عنه، ولَمْ يُؤاخِذْهُ بذَنْبِه.
- حَدَّثَتْ: بتشديدِ الدالِ المُهملَةِ، يُقالُ: حَدَّثَه بكذا، أي: أخْبَرَه، والمُرادُ هنا حَدِيثُ النَّفْسِ، وهو ما يَخْطِرُ بالقَلْبِ من الوَسْوَسَةِ.
936- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما عن النبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)). رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ، والحاكِمُ، وقَالَ أبو حَاتِمٍ: لا يَثْبُتُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
الحديثُ حَسَنٌ.
اخْتَلَفَتْ أنظارُ العُلماءِ في هذا الحديثِ وشَواهِدِه، والأرجَحُ قَبُولُه.
قالَ ابْنُ حَجَرٍ: رِجَالُه ثِقَاتٌ، إلاَّ أنَّه أُعِلَّ بعِلَّةٍ غَيْرِ قَادِحَةٍ.
وقالَ ابْنُ رَجَبٍ في (شَرْحِ الأرْبَعِينَ): هذا الحديثُ أخْرَجَهُ ابنُ مَاجَهْ، من طريقِ الأَوْزَاعِيِّ، عن عَطَاءٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وخَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في صَحيحِه (16/202) والدَّارَقُطْنِيُّ (4/ 170) وعندَهما عن الأوزاعِيِّ, عن عَطَاءٍ, عن عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ, عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ, عن النبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهذا إسنادٌ صَحِيحٌ في ظَاهِرِ الأمْرِ، ورُواتُه كُلُّهم مُحْتَجٌّ بهم في الصحيحيْنِ، وقدْ خَرَّجَه الحاكِمُ وقالَ: صَحِيحٌ على شَرْطِهما، ووافَقَه الذَّهَبِيُّ.
ولكنْ لَهُ عِلَّةٌ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ الإمامُ أَحْمَدُ جِدًّا، وقالَ: لا يُرْوَى إلا عن الحَسَنِ, عن النبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. قالَ أبو حَاتِمٍ: هذهِ أحاديثُ مُنْكَرَةٌ، وكأنَّها مَوضوعةٌ، فإنَّ الأَوْزاعِيَّ لَمْ يَسْمَعْ هذا الحديثَ عن عطاءٍ، وقَدْ رُوِيَ عن النبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِن وُجوهٍ أُخَرَ.
قالَ أبو دَاوُدَ: رَوَى الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ، عن مَالِكٍ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ، لَيْسَ لها أَصْلٌ، منها عن نَافِعٍ أربعةٌ.
قُلْتُ: والظَّاهِرُ أنَّ منها هذا الحديثَ.
أمَّا الشَّيْخُ الألبَانِيُّ فقالَ مَا خُلاصَتُه: لَسْتُ أَرَى مَا ذَهَبَ إليه أبو حَاتِمٍ؛ فإنَّه لا يَجُوزُ تَضْعِيفُ حَدِيثٍ بمُجَرَّدِ دَعْوَى عَدَمِ السَّماعِ؛ ولذلكَ فنحن على الأصْلِ، وهو صِحَّةُ الحديثِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ انْقِطَاعُه.
وأمَّا الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فَقَالَ: رِجَالُه ثِقَاتٌ.
وقالَ البُوصِيرِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، كما صَحَّحَه ابنُ حِبَّانَ، وحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ في (الرَّوْضَةِ)، كما صَحَّحَه الشيخُ أحمدُ شَاكِرٌ.
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- وَضَعَ: عَفَا وتَجَاوَزَ، وأسْقَطَ المُؤاخَذَةَ.
- الخَطَأَ: جَمْعُه أَخْطاءٌ، وهو ضِدُّ الصوابِ، فهو: مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ مِن الأَمْرِ.
- النِّسْيَانَ: مَصْدَرُ نَسِيَ، وله مَعْنيانِ:
أحدُهما: التَّرْكُ معَ الذِّكْرِ.
الثاني: وهو المُرادُ هنا: دُخولُ غَفْلَةٍ عَمَّا كانَ في الذِّهْنِ.
* مَا يُؤْخَذُ من الحَدِيثَيْنِ:
1- الحديثُ رَقْمُ (935) يَدُلُّ على أنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى تَجَاوَزَ وعَفَا عن الأفْكارِ والهَواجِسِ التي تَطْرَأُ على النَّفْسِ، فيُحَدِّثُ الإنسانُ بها نَفْسَه، وتَمُرُّ على خاطِرِه، ذلك أنَّ الخَواطِرَ النفسيةَ، والهَواجِسَ القَلْبيَّةَ، لَيْسَتْ من عَمَلِ الإنسانِ وإرادتِه، وإنما هي أُمورٌ تَرِدُ وتَخْطِرُ على قَلْبِه، بدونِ قَصْدٍ وتَعَمُّدٍ لها، فهذه عَفَا اللهُ عنها، وتَجَاوَزَ لعبادِه عنها، فلا تَلْحَقُهم تَبِعاتُها.
2- ومِن هذا الطلاقُ، فإذا فَكَّرَ فيه، وعَرَضَ في خَاطِرِه، ولكنَّه لَمْ يَتَكَلَّمْ به، ولَمْ يَكْتُبْهُ، فإنَّ حَدِيثَ نَفْسِه به، وتَفْكِيرَه فيه، لا يُعْتَبَرُ طلاقاً.
3- أمَّا الحديثُ رَقْمُ (936) فيَدُلُّ على أنَّ الخَطَأَ، والنِّسْيَانَ، والإكْرَاهَ في الطلاقِ مَعْفُوٌّ عن صَاحِبِه، مُسامَحٌ فيه، فلو أَرَادَ أنْ يَقُولَ لزوجَتِه: أنتِ طَاهِرٌ. فقَالَ خَطَأً: أنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تُطَلَّقْ، لأنَّ الطَّلاقَ يُعْتَبَرُ لوُقوعِه إِرَادَةُ لَفْظِه لمعناهُ.
4- أمَّا المُكْرَهُ بغيرِ حَقٍّ، فلا يَقَعُ طلاقُهُ.
قالَ ابْنُ القَيِّمِ: لأنَّه قَدْ أَتَى باللفظِ المُقْتَضِي للحُكْمِ، ولكنْ لَمْ يَثْبُتْ عليهِ حُكْمُه؛ لكَوْنِه غَيْرَ قَاصِدٍ له، وإِنَّما قَصَدَ دَفْعَ الأذَى عن نَفْسِه، فانْتَفَى الحُكْمُ، لانتفاءِ قَصْدِه وإرادتِه لمُوجِبِ اللفْظِ.
5- أمَّا المُكْرَهُ بحَقٍّ، فيَقَعُ طَلاقُه، وذلك المُولِي إذا مَضَى عليهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وأَبَى أنْ يَفِيءَ، فأجْبَرَه الحاكِمُ على الطلاقِ، فيَقَعُ طلاقُه؛ لأنَّه إِكْرَاهٌ بحَقٍّ.
6- الحديثُ رَقْمُ (936) دَلِيلٌ على أنَّ الأحكامَ الأُخْرَوِيَّةَ من العِقابِ مَعْفُوٌّ عنها لأُمَّةِ مُحمدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، إذا صَدَرَتْ عن خَطَأٍ، أو نِسْيانٍ، أو إِكْراهٍ.
7- أنَّ طَلاقَ الخَاطِئِ والمُكْرَهِ لا يَقَعُ عندَ جُمهورِ العُلماءِ، ومنهم الأئِمَّةُ الثلاثَةُ: مَالِكٌ، والشافِعِيُّ، وأَحْمَدُ، ويَقَعُ عندَ أبي حنيفةَ.
8- مَفهومُ الحديثِ أَنَّ الإنسانَ إِذَا تَكَلَّمَ بالحُكْمِ الشرعيِّ، كأنْ يَلْفِظَ بالطَّلاقِ، أو يَفْعَلَ بأنْ يَكْتُبَهُ، أنَّه يَقَعُ عليه، ولا يُعْذَرُ حينَئذٍ.