قولُه:
وبهذا وغيرِه يُعرفُ ما وَقعَ من الغلَطِ في مُسمَّى (التوحيدِ)، فإن عامَّةَ المتكلِّمين الَّذِينَ يُقرِّرون التوحيدَ في كُتبِ الكلامِ والنظَرِ، غايتُهم أن يَجعلوا التوحيدَ ثلاثةَ أنواعٍ، فيقولون: هو واحدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له، وواحدٌ في صفاتِه لا شبيهَ له، وواحدٌ في أفعالِه لا شريكَ له، وأشهرُ الأنواعِ الثلاثةِ عندَهم هو الثالثُ، وهو توحيدُ الأفعالِ، وهو أن خالقَ العالَمِ واحدٌ وهم يَحتَجُّون على ذلك بما يذكرونه من دلالةِ التمانُعِ وغيرِها، ويظنُّون أن هذا هو التوحيدُ المطلوبُ، وأن هذا هو معنى قولِنا (لا إله إلا اللهُ) حتى يَجعلوا معنى الإلهيَّةِ القدرةَ على الاختراعِ. ومعلومٌ أن المشركين من العربِ الَّذِينَ بُعثَ إليهم محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوَّلاً لم يكونوا يُخالفونه في هذا، بل كانوا يُقرِّون بأن اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، حتى أنهم كانوا يُقرِّون بالقدَرِ أيضاً، وهم مع هذا مشرِكون.
فقد تبيَّنَ أن ليس في العالَمِ من يُنازعُ في أصْلِ هذا الشرْكِ ولكن غايةُ ما يُقالُ: إن مِن الناسِ مَن جَعلَ بعضَ الموجوداتِ خلْقاً لغيرِ اللهِ كالقدريَّةِ وغيرِهم، ولكن هؤلاءِ يُقرُّون بأن اللهَ خالقُ العِبادِ وخالقُ قدرتِهم وإنْ قالوا إنهم خالِقوا أفعالِهم - وكذلك أهلُ الفلسفةِ والطبْعِ والنجومِ الَّذِينَ يَجعلون بعضَ المخلوقاتِ مبدِعةً لبعض الأمورِ، هم مع الإقرارِ بالصانعِ يَجعلون هذه الفاعلاتِ مصنوعةً مخلوقةً، ولا يقولون إنها غنيَّةٌ عن الخالقِ، مشارِكةٌ له في الخلْقِ. فأما من أَنكرَ الصانعَ، فذاك جاحدٌ معطِّلٌ للصانعِ، كالقولِ الذي أَظهرَه فرعونُ، والكلامُ الآنَ مع المشرِكين باللهِ، المقرِّين بوجودِه فإن هذا التوحيدَ الذي قرَّره لا يُنازعُهم فيه هؤلاءِ المشركون، بل يُقرُّون به مع أنهم مشرِكون، كما ثَبتَ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ، وكما عُلمَ بالاضطرارِ من دِينِ الإسلامِ.
وكذلك النوعُ الثاني، وهو قولُهم (لا شبيهَ له في صفاتِه) فإنه ليس في الأمَمِ من أَثبتَ قديماً مماثِلاً له في (ذاتِه سواءً) قالَ إنه يُشارِكُه، أو قالَ إنه لا فِعلَ له، بل من يُشبِّهُ به شيئاً من مخلوقاتِه فإنما يشبِّهُه به في بعضِ الأمورِ. وقد عُلمَ بالعقلِ امتناعُ أنْ يكونَ له مِثلٌ في المخلوقاتِ يُشارِكُه فيما يَجبُ، أو يَجوزُ، أو يَمتنعُ عليه، فإن ذلك يَستلزمُ الجمْعَ بينَ النقيضَيْن، كما تَقدَّمَ. وعُلِمَ أيضاً بالعقلِ أن كلَّ موجودَيْن قائمَيْن بأنفسِهما فلا بدَّ بينَهما من قدْرٍ مشترَكٍ، كاتِّفاقِهما في مُسمَّى الوجودِ، والقيامِ بالنفسِ، والذاتِ، ونحوِ ذلك، وأن نفيَ ذلك يَقتضي التعطيلَ المحضَ، وأنه لابدَّ من إثباتِ خصائصِ الربوبيَّةِ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على ذلك.
الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ بما تَقدَّمَ من تقريرِ توحيدِ المرسَلين الذي هو دِينُ الإسلامِ بمعناه العامِّ وأن ضدَّه الشرْكُ: وهو اتِّخاذٌ مع اللهِ آلهةً أُخرى يتَّضحُ خطأُ من غلَطَ من أربابِ الكلامِ، وأهلِ التصوُّفِ الَّذِينَ جَعلوا الإقرارَ بربوبيَّةِ اللهِ الشاملةِ هو النهايةُ في التوحيدِ، وأن معنى كلمةِ الإخلاصِ: هو القادرُ على الاختراعِ. وقد استدَلُّوا على أن توحيدَ الربوبيَّةِ هو الغايةُ بدليلِ التمانُعِ المشهورِ، وهو أنه لو كان للعالَمِ صانعان فعندَ اختلافِهما مثلُ أن يريدَ أحدُهما تحريكَ جسْمٍ وآخَرُ تسكينَه، أو يريدَ أحدُهما إحياءَه والآخَرُ إماتَته: فإما أن يَحصُلَ مرادُهما، أو مرادُ أحدِهما، أو لا يَحصُلُ مرادُ واحدٍ منهما، والأوَّلُ: ممتنِعٌ لأنه يَستلزمُ الجمْعَ بينَ النقيضَيْن، والثالثُ: ممتنِعٌ لأنه يَستلزمُ خلوَّ الجسْمِ عن الحركةِ والسكونِ وهو ممتنِعٌ ويَستلزمُ أيضاً عجْزَ كلٍّ منها والعاجزُ لا يكونُ إلهاً، وإذا حصَلَ مرادُ أحدِهما دونَ الآخَرِ كان هو الإلَهَ القادرَ, والآخَرُ عاجزاً لا يَصلُحُ للإلهيَّةِ، ولا رَيْبَ أن هذا غلَطٌ واضحٌ واعتقادٌ فاسدٌ فإن معنى (لا إلهَ إلا اللهُ) لا معبودَ بحقٍّ سوى اللهِ سبحانَه، كما قالَ تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقالَ: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فأَجابوه ردًّا عليه بقولِهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. فالإلهُ هو بمعنى المأْلُوهِ المعبودِ الذي يَستحِقُّ العبادةَ، ليس الإلهُ بمعنى القادرِ على الخلْقِ كما يقولُ ذلك من يقولُه من الأشاعرةِ وغيرِهم، فلو أَقرَّ الإنسانُ بما يَستحقُّه الربُّ تعالى من الصفاتِ، ونزَّهَهُ عن كلِّ ما يُنَزَّهُ عنه، وأقرَّ بأنه وحدَه خالقُ كلِّ شيءٍ لم يكن موحِّداً حتى يَشهدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ، فيُقرَّ بأن اللهَ وحدَه هو الإلهُ المستحِقُّ للعبادةِ، ويَلتزِمُ بعبادةِ اللهِ وحدَه لا شريكَ له، فإن مشرِكِي العربِ كانوا مقرِّين بأن اللهَ وحدَه خالقُ كلِّ شيءٍ ومع ذلك كانوا مشرِكين. وقد أَنكروا ما جاءَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التوحيدِ، وما نَفاه من الشركاءِ فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} أي صيَّرَها إلهاً واحداً وقَصرَها على اللهِ سبحانَه وقالوا: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي لأَمْرٌ بالغٌ في العَجبِ إلى الغايةِ، فهم إذاً أعلَمُ بمعنى كلمةِ الإخلاصِ من أربابِ الكلامِ والتصوُّفِ، كما كان المشرِكون يقِرُّون بمشيئةِ اللهِ النافذةِ وقدْرتِه التامَّةِ.
وبما سَبقَ يتَّضِحُ أنه ليس أحدٌ من طوائفِ بني آدمَ يُنازِعُ في أصْلِ الربوبيَّةِ على اعتبارِ وجودَيْن متماثلَيْن من كلِّ وجْهٍ، بل غايةُ ما يُقالُ: إن بعضَ الطوائفِ المشرِكةِ تَنسِبُ شيئاً من التأثيرِ لغيرِ اللهِ كما تقولُ القدَريَّةُ في أفعالِ العِبادِ بأنها مخلوقةٌ لهم وإن كانوا يقِرُّون أن اللهَ هو خالقُ العِبادِ وخالقُ قُدرتِهم على الفعْلِ، وكما تقولُ المجوسُ بأن الظلْمَةَ تَخلُقُ الشرَّ مع إقرارِهم أن اللهَ خالقُ الخيرِ ويُعبِّرون عنه بالنورِ، وكما تقولُ الفلاسفةُ بأن الكواكبَ السبْعَ والاثْنَي عشرَ بُرْجاً تُحدثُ أموراً من غيرِ إحداثِ اللهِ لها وكما تقولُ المنانيَّةُ بأزليَّةِ الطبائعِ الأربعِ، وأنها كانت بسائطَ غيرَ ممتزِجةٍ، ثم حدثَ الامتزاجُ بينَها فحدَثَ العالَمُ بامتزاجِها. وكثيرٌ من المشركين قد يَظنُّ في آلهتِه شيئاً من نفْعٍ أو ضُرٍّ، بدون أن يَخلُقَ اللهُ ذلك، فهؤلاءِ جميعاً مشركون في الربوبيَّةِ بهذا الاعتبارِ مع اعتقادِ جميعِ هذه الطوائفِ أن العالَمَ بأسرِه مخلوقٌ مربوبٌ للكبيرِ المتعالِ، غيرَ أن هناك من يَجحدُ ربوبيَّةَ اللهِ سبحانَه عِنادًا وتَجاهُلاً كفرعونَ فهو أشهرُ من عُرِفَ تَجاهلُه وتَظاهرُه بإنكارِ الصانعِ وقد كان مستَيْقناً به في الباطنِ، كما قالَ موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} وقالَ تعالى عنه وعن قومِه: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} وما يُقِرُّ به هؤلاءِ النُّظَّارُ لا يُنازعُهم فيه المشركون الَّذِينَ بُعثَ إليهم الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم يَدْعون آلهتَهم كما يَدْعون اللهَ، ويَسجدون، ويَنسُكون لها، ويَتقرَّبون إليها، ثم يقولون: إن هذا ليس بشرْكٍ، وإنما الشرْكُ إذا اعتقدْنا أنها هي المدبِّرةُ لنا فإذا جَعلناها سبباً وواسِطةً لم نكن مشركين، ولكن الكلامَ هنا مع المقرِّين باللهِ مع اتِّخاذِهم آلهةً أُخْرَى، فهم إذاً مقرِّون بأن اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه ومع هذا فهُمْ غيرُ موحِّدين بل هم كفَّارٌ مشرِكون، كما هو معلومٌ بالضرورةِ من دِينِ الإسلامِ. وقد دَلَّ عليه الكتابُ والسنَّةُ وإجماعُ الأمَّةِ، وقد سَبقَ الشيءُ الكثيرُ من الآياتِ والأحاديثِ المصرِّحةِ بذلك.
وقولُه: غايتُهم أن يَجعلوا التوحيدَ ثلاثةَ أنواعٍ فيقولون: هو واحدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له، وواحدٌ في صفاتِه لا شبيهَ له، وواحدٌ في أفعالِه لا شريكَ له، معناه: أن هؤلاءِ المتكلِّمين يُقسِّمون التوحيدَ في عرفِهم إلى ثلاثةِ أقسامٍ: أشهرُها عندَهم توحيدُ اللهِ بأفعالِه، ويعبِّرون عنها بهذه العباراتِ المجملَةِ.
فقولُهم واحدٌ إن أرادوا به ما أرادَه اللهُ ورسولُه في قولِه تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} - وقولِه - {وَهُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ونحوِ ذلك فهذا حقٌّ، وإن أَرادوا بالواحدِ ما تريدُه الجهْمِيَّةُ نُفاةُ الصفاتِ من أنه ذاتٌ مجرَّدةٌ عن الصفاتِ فهذا باطلٌ، فإنهم يُدرِجون في هذا نفْيَ عُلوِّه على خلقِه، واستوائِه على عرشِه، ونفْيَ ما يَنفونَه من صفاتِه، ويقولون إن إثباتَ ذلك يَقتضي أن يكونَ مرَكبًّا مُنقسِماً. ومن المعلومِ أن من لا صفةَ له فلا حقيقةَ له في الخارجِ وإنما يُقدَّرُ في الأذهانِ لا في الأعيانِ.
وقولُهم: (واحدٌ في صفاتِه لا شبيهَ له) إن أَرادوا بذلك أنه سبحانَه مُسمًّى بالأسماءِ الحُسنى ومتَّصِفٌ بالصفاتِ الكاملةِ العُليا التي لا يُماثلُه فيها أحدٌ، فهذا حقٌّ، وقد عُلمِ بالضرورةِ أنه ليس هناك أحدٌ من بني آدمَ اعتَقدَ وجودَ إلهٍ قديمٍ مماثلٍ لربِّ العالمين في ذاتِه، سواءً كان المعتقِدُ لوجودِ إلهٍ آخَرَ يَنسبُ إليه نوعَ شِركةٍ مع اللهِ في أفعالِه، أو كان يَعتقدُ أن إلهَه ليس له شيءٌ من التدبيرِ، بل غايةُ ما يُقالُ إن من شبَّهَ به أحداً من خلقِه فإنما يُشبَّهُ به في شيءٍ دونَ شيءٍ، وأما إن أرادَ القائلُ المعنى الباطلَ من أنه سبحانَه غيرُ مستوٍ على عرشِه ولا يَنزلُ إلى السماءِ الدنيا، ولا يَجيءُ لفصْلِ القضاءِ يومَ القيامةِ، ولا يَفعلُ ما يريدُ إلى غيرِ ذلك فهو مُلحِدٌ ضالٌّ. ومما هو معلومٌ بصريحِ العقلِ الموافقِ لصحيحِ النقلِ أن اللهَ تباركَ وتعالى ليس كمثلِه شيءٌ لا في ذاتِه، ولا في صفاتِه، ولا في أفعالِه، بل ذلك ممتنِع؛ فإنه يَلزمُ منه أن يَجوزَ على مثيلِه ما يَجوزُ عليه، ويَجبُ له ما يَجبُ له، ويَمتنِعُ عليه ما يَمتنِعُ عليه. وهذا جمْعٌ بين النقيضَيْن؛ لأنه يكونُ كلٌّ منهما واجبَ الوجودِ، ليس بواجبِ الوجودِ، خالقاً ليس بخالقٍ، قديماً ليس بقديمٍ إلى غيرِ ذلك، وقد سَبقَت الإشارةُ إلى هذا في آخِرِ القاعدةِ السادسةِ، كما سَبقَ أيضاً القولُ بأن كلَّ موجودَيْن فلابدَّ أن يكونَ بينَهما قدْرٌ مشترَكٌ يشتركان فيه كمدلولِ الوجودِ ومدلولِ القيامِ بالنفْسِ والذاتِ والعلْمِ والقدْرةِ، ونحوِ ذلك من المعاني العامَّةِ المشترَكةِ ويَختلفان في أن لكلٍّ منهما ما يُضافُ إليه ويَليقُ به، فالخالقُ وإن اتَّفقَ مع المخلوقِ في أن كلاّ منهما متَّصِفٌ بالصفاتِ إلا أنهما يَختلفان في أن لكلٍّ منهما ما يُناسبُه. أما اتِّصافُ كلٍّ منهما بالصفاتِ فليس فيه مماثلَةٌ بينَهما. وللهِ خصائصُه التي اختُصَّ بها وللمخلوقِ خصائصُه التي اختُصَّ بها فمن ادَّعى مشاركةَ المخلوقِ للخالقِ في شيءٍ من خصائصِه فهو المشَبِّهُ الممثِّلُ، والنوعُ الثالثُ سيأتي الكلامُ عليه في محلِّه قريباً.
قولُه:
ثم إنَّ الجهْمِيَّةَ من المعتزِلةِ وغيرِهم أَدْرَجُوا نفْيَ الصفاتِ في مُسمَّى ذلك، فصارَ من قالَ: إن للهِ علْماً أو قدْرةً، أو إنَّه يَرى، أو إنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ, يقولون إنه مشَبِّهٌ ليس بموحِّدٍ. وزادَ عليهم غُلاةُ الفلاسفةِ والقرامطةِ. فنَفَوْا أسماءَه الحُسْنَى، وقالوا: من قالَ إن اللهَ عليمٌ قديرٌ، عزيزٌ حكيمٌ، فهو مشَبِّهٌ ليس بموحِّدٍ، وزادَ عليهم غُلاةُ القرامطةِ وقالوا: لا يُوصفُ بالنفْيِ ولا بالإثباتِ، لأن في كلٍّ منهما تشبيهاً له. وهؤلاءِ كلُّهم وقَعُوا في جنسِ تشبيهٍ، هو شرٌّ مما فَرُّوا منه؛ فإنهم شبَّهُوه بالممتنِعاتِ والمعدوماتِ والجماداتِ، فِراراً من تشبيهِهم إيَّاهُ بزعمِهم بالأحياءِ. ومعلومٌ أن هذه الصفاتِ الثابتةَ للهِ لا تَثبُتُ له على حدِّ ما تَثبتُ لمخلوقٍ أصْلاً وهو سبحانَه ليس كمثلِه شيءٌ لا في ذاتِه ولا في صفاتِه، ولا في أفعالِه، فلا فرْقَ بينَ إثباتِ الذاتِ وإثباتِ الصفاتِ، فإذا لم يكنْ في إثباتِ الذاتِ إثباتُ مماثلَةِ الذواتِ لذاتِه لم يكنْ في إثباتِ الصفاتِ مماثلَةٌ في ذلك. فصارَ هؤلاءِ الجهْمِيَّةُ المعطِّلةُ يَجعلون هذا توحيداً، ويَجعلون مقابلَ ذلك التشبيهَ ويُسمُّون أنفسَهم الموحِّدين.
الشرْحُ:
يعني أن المعتزِلةَ وأشباهَهم من أهلِ التجَهُّمِ يُدخلون نفْيَ أسماءِ اللهِ وصفاتِه في مدلولِ التوحيدِ عندَهم، فيقولون من أَثبتَ للهِ سمْعاً، أو بصَراً، أو عِزَّةً، أو حكْمَةً، أو علْماً، أو قدرَةً، أو قالَ بأن المؤمنين يَرَوْنَه سبحانَه في الآخِرَةِ عِيَاناً بأبصارِهم، من أَثبتَ ذلك ونحوَه فهو عندَهم مشَبِّهٌ مجسِّمٌ، وقد تَبِعَهم في ذلك الفلاسفةُ والقرامطةُ بل زادوا على المعتزِلةِ في عدَمِ إثباتِ الاسمِ ولو كان غيرَ دالٍّ على صفةٍ وزادوا على بعضِ الجهْمِيَّةِ في إثباتِهم الاسمَ مَجازاً. وزادَ عليهم غُلاتُهم فقالوا من وَصفَ اللهَ بالإثباتِ فهو مشَبِّهٌ ومن وَصفَه بالنفيِ فهو مشَبِّهٌ. وهؤلاءِ جميعاً قد فَرُّوا من التشبيهِ على زعمِهم بالحيِّ المتَّصِفِ بأوصافِ الكمالِ فوَقَعوا في شرٍّ مما فَرُّوا منه؛ حيث شبَّهوه بالجمادِ أو المعدومِ أو الممتنِعِ. ومن المعلومِ أن اللهَ جلَّ وعلا متَّصِفٌ بما له من حقائقِ الأسماءِ والصفاتِ على وجهٍ لا يماثِلُ فيه أحـداً من خلقِه البتَّةَ؛ إذ هو سبحانَه الكاملُ في ذاتِه وصفاتِه {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وثبوتُ الصفاتِ هو فرْعُ ثبوتِ الذاتِ، فكما أن الذاتَ المقدَّسةَ ثابتةٌ بحقيقةِ الإثباتِ، فالأسماءُ الحسْنى والصفاتُ العُلى ثابتةٌ بحقيقةِ الإثباتِ، وليست الصفةُ كالصفةِ، كما أن الموصوفَ ليس مثلَ الموصوفِ. وهؤلاءِ النُّفاةُ قد زَعموا أن نفيَهم للصفاتِ هو تنزيهُ اللهِ عن النقْصِ وسَمُّوا أنفسَهم بالموحِّدين، وفي واقعِ الأمْرِ أنهم هم المعطِّلون الجاحِدون المشَبِّهون، وليس فيما وَصفَ اللهُ به نفسَه أو وَصفَه به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشبيهٌ، قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ رحِمَه اللهُ في (الفقهِ الأكبرِ) (لا يُشْبِهُ شيئاً من خلقِه ولا يُشْبِهُه شيءٌ من خلقِه) ثم قالَ بعدَ ذلك (وصفاتُه كلُّها خلافُ صفاتِ المخلوقِين. يَعلمُ لا كعِلمِنا، ويَقدرُ لا كقدْرتِنا، ويَرى لا كرؤيتِنا)، وهكذا قولُ سائرِ الأئمَّةِ، كنُعيمِ بنِ حمَّادٍ، والشافعيِّ، وقد سَبقَ ذِكرُ نموذجٍ من ذلك، فسلَفُ الأمَّةِ وأئمَّةُ السنَّةِ ومن تَبِعَهم بإحسانٍ هم وَرثةُ الرسُلِ وهم الموحِّدون، أما الجعْدِيُّون والواصِلِيُّون وأضرابُهم فهم الملحِدون المعطِّلون.
وقولُه عن النُّفاةِ الَّذِينَ يَصِفون من قالَ إن القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، بأنه مشَبِّهٌ معناه أن الجهْمِيَّةَ من المعتزِلةِ وإخوانِهم يقولون بأن كلامَ اللهِ مخلوقٌ غيرُ منَزَّلٍ، ويَستدِلُّون على ذلك بمِثلِ قولِه تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ويُدخلون كلامَ اللهِ في عمومِ كلِّ. وقد غَلَطوا غلَطاً فاحِشاً، وضلُّوا ضَلالاً مُبِيناً، فإن القرآنَ الكريمَ هو كلامُ اللهِ. وكلامُه من صفاتِه، وصفاتُه داخلةٌ في مُسمَّى اسمِه كعلْمِه وقدْرتِه وحياتِه وسمْعِه وبصرِه ووجهِه، وحينئذٍ فطَرْدُ باطلِهم أن تكونَ جميعُ صفاتِه تعالى مخلوقةً كالعلْمِ والقدرَةِ والحياةِ وسائرِ الصفاتِ، ذلك صريحُ الكفرِ فإن علْمَه شيءٌ، وقدرتَه شيءٌ، وحياتَه شيءٌ، فيَدخلُ ذلك في عمومِ (كلِّ) فيكونُ مخلوقاً - تعالى اللهُ عمَّا يقولون عُلوًّا كبيراً - ولو صحَّ أن يُوصفَ أحدٌ بصفةٍ قامت بغيرِه لصحَّ أن يُقالَ للبصيرِ أَعمى وللأعمى بصيرٌ؛ لأن البصيرَ قد قامَ وصْفُ العمى بغيرِه، والأعمى قد قامَ وصْفُ البصرِ بغيرِه؛ إذا عُرفَ هذا فعمومُ (كلِّ) في كلِّ موضعٍ بحسْبِه، ويُعرفُ ذلك بالقرائنِ. ألا تَرى إلى قولِه تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} فمساكنُهم شيءٌ، ولم تَدخلْ في عمومِ كلِّ شيءٍ دمَّرَتْه الريحُ؛ وذلك لأن المرادَ في الآيةِ كلُّ شيءٍ يَقبلُ التدميرَ بالريحِ عادةً واستحَقَّ التدميرَ، وكذا قولُه تعالى حكايةً عن بلقيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شِيْءٍ}، فإن المرادَ من كلِّ شيءٍ يَحتاجُ إليه الملوكُ، وهذا القيْدُ يُفهمُ من قرائنِ الكلامِ؛ إذ مُرادُ الهدهدِ أنها ملِكَةٌ كاملةٌ في أمْرِ المُلْكِ غيرُ محتاجَةٍ إلى ما يَكمُلُ به أمْرُ مُلكِها، ونظائرُ هذا كثيرةٌ، فالمرادُ من قولِه تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: كلُّ شيءٍ مخلوقٍ، وكلُّ موجودٍ سِوى اللهِ فهو مخلوقٌ ولم يَدخلْ في العمومِ (الخالقُ تعالى) وهو سبحانَه موصوفٌ بأوصافِ الكمالِ، وصفاتُه ملازِمةٌ لذاتِه المقدَّسةِ. وشيخُ المعتزِلةِ الجهْمِيَّةِ: الجعْدُ بنُ دِرْهَمٍ وتلميذُه الجَهْمُ بنُ صفوانَ هما أوَّلُ من نُقلَ عنه هذا الرأيُ الزائغُ الفاسدُ، قالَ الشيخُ: (والناسُ يَقرأُون القرآنَ بأصواتِهم ويَكتبونه بِمِدادِهم، وما بينَ اللوحَيْن كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، والمِدادُ الذي يُكتبُ به القرآنُ مخلوقٌ، والصوتُ الذي يُقرأُ به صوتُ العبدِ، والعبدُ وصوتُه وحركاتُه وسائرُ صفاتِه مخلوقةٌ، فالقرآنُ الذي يَقْرَؤه الخلْقُ كلامُ الباري والصوتُ صوتُ القاري).
قولُه:
وكذلك النوعُ الثالثُ، وهو قولُهم: هو واحدٌ لا قَسيمَ له في ذاتِه أو لا جزءَ له أو لا بعضَ له لفظٌ مجمَلٌ؛ فإن اللهَ سبحانَه أحدٌ صمَدٌ، لم يلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يكن له كُفْواً أحدٌ، فيمتنِعُ عليه أن يَتفرَّقَ، أو يَتحيِّزَ، أو يكونَ قد رُكِّبَ من أجزاءٍ، لكنهم يريدون من هذا اللفظِ نفيَ عُلوِّه على عرشِه، ومباينتِه لخلقِه، وامتيازِه عنهم، ونحوَ ذلك من المعاني المستلزِمةِ لنفيِه وتعطيلِه، ويَجعلون ذلك من التوحيدِ، فقد تبيَّنَ أن ما يُسمُّونه (توحيداً) فيه ما هو حقٌّ، وفيه ما هو باطلٌ، ولو كان جميعُه حقًّا، فإن المشركين إذا أَقرُّوا بذلك كلِّه لم يَخرجوا من الشرْكِ الذي وَصفَهم اللهُ به في القرآنِ. وقاتَلَهم عليه الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل لابدَّ أن يؤمنوا بأنه لا إلهَ إلا اللهُ، وليس المرادُ (بالإله) هو القادرُ على الاختراعِ - كما ظنَّه مَن ظنَّه مِن أئمَّةِ المتكلِّمين - حيث ظنَّ أن الإلهيَّةَ هي القدرةُ على الاختراعِ وأن من أَقرَّ بأن اللهَ هو القادرُ على الاختراعِ دونَ غيرِه، فقد شهِدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ، فإن المشركين كانوا يُقرُّون بهذا وهم مشرِكون، كما تقدَّمَ بيانُه بل (الإلهُ) الحقُّ هو الذي يستحِقُّ أن يُعبدَ، فهو إلهٌ بمعنى (مألوهٌ) لا بمعنى (آلِهٌ) والتوحيدُ أن تَعبدَ اللهَ وحدَه لا شريكَ له، والإشراكُ أن تَجعلَ مع اللهِ إلهاً آخَرَ.
الشرْحُ:
يعني أن النوعَ الثالثَ من أنواعِ التوحيدِ عندَ أربابِ الكلامِ والتصوُّفِ هو قولُهم: إن اللهَ واحدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له ولا جُزءَ له ولا بعضَ له، وهذا كلامٌ مُجمَلٌ مشتمِلٌ على حقٍّ وباطلٍ؛ فقد يُرادُ به معنًى صحيحٌ كما إذا قُصدَ به أن الله سبحانَه لا يَجوزُ عليه أن يتفرَّقَ بل هو أحدٌ صمَدٌ، وقد يُرادُ به نفيُ صفاتِه؛ وحينئذٍ فهُمْ إنما يَقصِدون تعطيلَ حقائقِ أسمائِه وصفاتِه التي هي من لوازمِ ذاتِه المقدَّسةِ زاعمين أن ذلك من التوحيدِ. وبما ذُكرَ يَنكشفُ زَيْغُهم ويتَّضِحُ باطلُهم؛ فإن هذه المعاني التي تَتناولُها عباراتُهم فيها ما يُوافقُ ما جاءَ به الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيها ما يُخالفُه. وليس الحقُّ الذي فيها هو الغايةُ التي جاءَ بها الرسولُ بل التوحيدُ الذي جاءَ به أمْرٌ يَتضمَّنُ الحقَّ الذي في هذا الكلامِ، وزيادةً أُخرى. ومقالتُهم هذه هي الكلامُ الذي لُبِسَ فيه الحقُّ بالباطلِ فلو أَقرَّ الإنسانُ بما يَستحقُّه الربُّ تعالى من الصفاتِ، ونزَّهَهُ عن كلِّ ما تَنزَّهَ عنه، وأقَرَّ بأنه وحدَه خالقُ كلِّ شيءٍ لم يكن موحِّداً حتى يقرَّ بأن اللهَ وحدَه هو الإلهُ المستحِقُّ للعبادةِ.
والإلهُ بمعنى المأْلُوهِ المعبودِ الذي يَستحقُّ العبادةَ ليس هو الإلهُ بمعنى القادرِ على الخلقِ. قالَ ابنُ جريرٍ: (الله أصلُه الألاه أُسقِطت الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ فالتَقَت اللامُ التي هي عينُ الاسمِ واللامُ الزائدةُ وهي الساكنةُ فأُدغِمَت في الأُخرى فصارتا في اللفظِ لاماً واحدةً مشدَّدةً. وأما تأويلُ (الله) فإنه على معنى ما رُويَ لنا عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (هو الذي يُأَلِّهُهُ كلُّ شيءٍ ويعبُدُه كلُّ خلْقٍ. وساقَ بسندِه عن الضَّحَّاكِ عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ قالَ: اللهُ ذو الألوهيَّةِ والعبوديَّةِ على خلقِه أجمعين) انتهى. فالإلهُ هو الذي تأْلَهُهُ القلوبُ عبادةً واستعانةً ومحبَّةً وتعظيماً وخوفاً ورجاءً وإجْلالاً. وللهِ عزَّ وجلَّ حقٌّ لا يُشركُه فيه غيرُه، فلا يُعبدُ إلا اللهُ ولا يُدعى إلا اللهُ ولا يُخافُ إلا اللهُ، ولا يُطاعُ إلا اللهُ، وأوَّلُ ذلك أن لا تَجعلَ مع اللهِ إلهاً آخَرَ, فلا تُحِبُّ مخلوقاً كما تُحبُّ اللهَ، ولا تَرجوه كما تَرجو اللهَ، ولا تَخشاه كما تَخشى اللهَ. ومن سَوَّى بينَ المخلوقِ والخالقِ في شيءٍ من ذلك فهو من الَّذِينَ بربِّهم يَعدِلون، وقد جَعلَ مع اللهِ إلهاً آخَرَ وإن كان مع ذلك يَعتقدُ أن اللهَ وحدَه خلَقَ السمواتِ والأرضَ، فإن مشركي العربِ كانوا مُقرِّين بأن اللهَ وحدَه خلَقَ السمواتِ والأرضَ وكانوا مع ذلك مشرِكين يَجعلون مع اللهِ آلهةً أُخْرَى، وقد سَبقَ ذكْرُ جملةٍ من الآياتِ الدالَّةِ على ذلك، فتبيَّنَ أنَّ جَعْلَ هذا التوحيدِ الذي يُقرُّ به المتكلِّمون هو الغايةُ لا يُخرِجُهم عن الشرْكِ، فقد كان المشركون يُقرُّون به ومع ذلك وصفَهم اللهُ بالشرْكِ، وقاتَلَهم الرسولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتوحيدُ الذي بَعثَ اللهُ به رسُلَه وأَنزلَ به كُتبَه هو أن يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وضِدُّه الشرْكُ وهو أن يَتَّخِذَ مع اللهِ آلهةً أخرى.