ثم نقل الشيخ أن قدامة رحمه الله تعالى قولاً لعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وهذا القول مروي في كثير من كتب السنة وغيرها .
وعمر بن عبدالعزيز هو الخليفة الراشد والإمام العادل،وقد اشتهر هذا الخليفة بالعدل واشتهرت خلافته كذلك بأنها خلافة راشدة على منهاج النبوة .
وعلى الرغم من قصر مدة خلافته رضي الله عنه , إلا أنه حرص على أن يعود بالأمة إلى المنهج الحق والصدق في كثير مما انحرفت عنه , وإلا فالأمة الإسلامية في وقته كانت في غالب أمورها سائرة على المنهج الصحيح, لكن وقع شيء من الظلم وبعض الانحراف, خاصة لما نشأ التفرق والخلاف بين الطوائف والأحزاب ونحو ذلك , فأراد عمر بن عبدالعزيز أن يعود بالأمة إلى منهج الصواب, ووفق في ذلك أيما توفيق .
وكان لهذا الخليفة جولات وصولات ومواقف رائعة في مواجهة أهل الأهواء والبدع , حبذا لو أفردت ببحث أو دراسة لنرى كيف كانت مواقف عمر بن عبد العزيز من المخالفين من أهل البدع وتعامله معهم .
وهذا النص الذي بين أيدينا ونقله ابن قدامة, هو من أصول منهج عمر بن
عبد العزيز رحمه الله تعالى في اتباع السنة وعدم الابتداع في الدين , فماذا قال؟ قال رحمه الله تعالى موصياً أصحابه وإخوانه : (( قف حيث وقف القوم)).
والمقصود بالقوم هنا : السلف الصالح من الصحابة والتابعين , الذين ساروا على منهاج النبوة رضي الله عنهم جميعاً. فلا تغيّر , ولا تبتدع , وإنما انظر ماذا قالوا فقل , وانظر أي موقف وقفوا, فقف معهم , (( قف حيث وقف القوم )) ووقوفهم كان بالتزام السنة وترك البدعة .
ثم إنه رحمه الله تعالى علل ذلك بتعليل دقيقٍ جداً فقال : (( فإنهم عن علم وقفـوا )) وهذه العبارة عبارة منهجية في الصميم تبين منج أهل السنة والجماعة , ((فإنهم عن علم وفقوا )) وليس عن عجز أو جهل .
وبعض المتكلمين المتأخرين الذين ابتدعوا الكلام إذا قيل لهم : إن السلف ما تحدثوا عن ذلك ولم يخوضوا فيما خضتم فيه من الكلام المذموم , قالوا : كانوا مشغولين بالجهاد , وهذا جواب المتأدبين معهم أما بعضهم فقد يتهم الصحابة ومن بعدهم بأنهم لم تكتمل عقولهم, ومعرفتهم العقلية, واطلاعهم على القضايا المنطقية , فهو يقول : لو اطلعوا على ذلك لتكلموا بهذا الكلام وخاضوا فيه كما خضنا .
وهذا القول غير صحيح إطلاقاً, كما قال عمر بن عبد العزيز : (( فإنهم عن علم وقفوا)) بمعنى أن السلف الصالح رحمهم الله تعالى سلكوا ذلك المسلك في باب الأسماء والصفات, وغيره من أبواب العقائد عن قناعة منهجية علمية , وليس كما يزعم البعض أن هؤلاء السلف إنما يسمعون النصوص وينقلونا كما سمعوها فقط . بل أولئك السلف سمعوا النصوص , وفهوها , وعرفوا مدلولاتها , واثبتوها, لأنهم كانوا ارجح الناس عقولاً , وأعظم الناس فهماً , وأكمل الناس ديناً وتقوى, ومن ثم كان فهمهم أصح الأفهام, وعلمهم أعمق العلم وأدقه بالنسبة لمن بعدهم .
وسبب ذلك أنهم لما جاءت ووردت إليهم هذه النصوص نظروا إليها النظر السليم ووزنوها بالميزان الصحيح , وعلموا إنما هي أمور إخبارية تتعلق بالله وأسمائه وصفاته , والخبر عن الله وأسمائه وصفاته مما لاتدخل في مجاله العقول, فإن البشر مهما أعملوا عقولهم , فلا يمكن أن يصلوا إلى هذه الحقائق, فلما كان الأمر كذلك , أحالوا في العلم بها إلى الخبر الصادق , فوجدوا أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما البيان فأثبتوها .
إذن المنهج الحق والمنهج العلمي الصحيح لأهل السنة والجماعة , ليس هو بإعمال العقول القاصرة في كل شيء , ولا في إعمال العقل في كل الأمور وليس هذا دليل عمق الفهم ودقة التعبير والتحصيل كما قد يزعم البعض .
المنهج الصحيح هو أن تعطي كل ذي حق حقه , فإذا كان هناك خبر عن غائب , فأنت والحالة هذه يجب أن تأخذ الخبر من مصدره, لأنه لامجال للعقل وحده بالنسبة لهذا الخبر الغيبي , مهما أعملت فكرك فيه , وهذه فضية منهجية, لكن في مقابل ذلك نجدهم في المجالات الأخرى التي كان للعقل فيها مجال أعملوا عقولهم , وعمروا الدنيا, وخططوا إدارياً , وعسكرياً , واقتصادياً , وسياسياً .
بل إن هناك كتابات مستقلة كتبت عن مناهج هؤلاء في الأمور السياسية والاقتصادية والعسكرية والإدارية , وكانت لهم في ذلك رؤى مستقلة ونظريات لا زالت تدرس إلى وقتنا هذا, ومن هؤلاء عمر بن عبدالزيز صاحب هذا القول الذي نحن بصدد شرحه, ومن قبل الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وغيرهما- رضي الله عنهم - .
ففي المجال الذي يفيد المسلم , وللعقل, وللتفكيري فيه مجال, فكّروا وأنتجوا فيما ينفع المسلمين .
لكن المجال الذي ليس للعقل فيه دور كالخبر عن الله أسمائه وصفاته , وتشريعه في أبواب العبادات والأحكام وغيرها وقفوا مع النصوص والوارده, ولم يدخلوا عقولهم فيها .
ومن هنا قال رحمه الله تعالى هذه العبارة العظيمة المحددة لمنهج أهل السنة ((فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذكفوا )) .
البصر : بصيرة العقل والقلب, نافذ ثاقب . وهو الذي يرى الحق ويبصره وقد ورد في الأثر حديث رواه البيهقي في الزهد وغيره : (( إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات )) (1) .
فهؤلاء عن بصر نافذ دقيق جداً وتبصر حقيقي منهجي كفوا عن الخوض في هذه الأمور, فلم يخوضوا فيهاكما خاض المتأخرون حين قالوا مرة نثبت هذا , ومرة لا نثبته أو قالوا: هذا مجاز , العقول خالفته أو ناقضته . نتأول هذا, وهذا لا نتأوله, ما خاضوا في هذا , وإنما اثبتوا ماورد ووقفوا, فهم رحمه الله تعالى عليهم ببصيرة وعقل كفوا علن الخوض فيها, لا عجزاً كما يدعي بعض المتكلمين الذين أشرنا إليهم قبل قليل, وحنيما يُسألون عن اختلاف منهجهم عن منهج السلف الصالح السابق, يأتون بتلك العبارة المشهورة فيقولون مذهب السلف أسلم , ومذهب الخلف اعلم واحكم . وهذه عبارة خاطئة, بل إن مذهب السلف أسلم , وأعلم, وأحكم. ومذهب الخلف ليس أسلم, ولا أعلم, ولا أحكم .
ثم قال رحمه الله تعالى : (( وَلَهُمْ على كشفها كانوا اقوى )).
أي أن أولئك السلف الصالح رحمهم الله تعالى لو أرادوا أن يخوضوا في تلك المسائل بعقولهم لا ستطاعوا أن يخوضوا فيها, وهذه الأمور التي ابتدعها المتأخرون لو كانت خيراً لسبق أولئك إليها ولو كان ماذكروه من معانٍ هي مما يليق بالله سبحانه وتعالى, لسبق أولئك إليها وكشفوها, فإنهم كما سبق أن قررنا كانوا اعمق الناس فهماً , وأذكاهم , وأرجح الناس عقولاً رحمهم الله تعالى .
(( وبالفضل لو كان فيها أحرى )) : فإنهم كانوا أسبق إلى الفضل من غيرهم في جميع الأمور, ولهذا فإن كل من جاء بعدهم هو أقل فضلاً منهم, والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى ذلك القرن الخيرية بقوله : (( خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم )) (2) .
فلا يمكن أن يكون القرن الذي نبتت فيه نابتة الافتراق والاختلاف والأقوال البدعية وغيرها, أفضل من القرن الذي كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولهذا فهم كانوا اسبق الناس إلى أنواع الفضائل من أولها إلى آخرها, وأسبق الناس إلى كل فضل وإلى كل خير .
ثم قال رحمه الله تعالى : (( فلئن قلتم : حدث بعدهم , فما أحدثه إلا من خالف هديهم )) .
وهذا صحيح , فهذه الامور المحدثات المبتدعة , كلها مخالفة لهدي أولئك السلف الكرام رحمهم الله تعالى (( ورغب عن سنتهم )) فكل ما ابتدعه المتأخرون كما أشار عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى مخالف لهم, ومخالف لهديهم وسنتهم .
ثم قال : (( ولقد وصفوا منه ما يشفي , وتكلموا منه بما يكفي ))
قوله : (( وصفوا منه ما يشفي )) فإن أولئك الصحب الكرام , نقلوا ما ورد من هذه الصفات ومسائل العقيدة كلها, وكل ما نقلوه إلى من بعدهم هو مما يشفي القلوب , فمن اقتصر على هديهم انشرح صدره وشُفي قلبه, ومن لم يقتصر على ذلك, بل ظنّ أنهم قصروا , فأعمل عقله , وأدخل نفسه في باب البدع والتأويلات الباطلة ونحوها , انتابته الأمراض المتعددة , وهذا بلا شك دليل على رسوخ السلف الصالح في العلم وتقدمهم فيه, وليست طرقتهم مضطربة كحال المتأخرين , بل من سلك سبيلهم كان أكثر اطمئناناً, فهم رحمهم الله تعلى وصفوا لنا الدواء, وبلغونا ما يشفي, وتكلموا بما يكفي من الكلام القليل المغني عن كلام كثير من المتأخرين .
ومع أن كلامهم رحمهم الله تعالى كان قليلاً, إلا أنه كان مفيداً فصلاً ،
وكان كلامهم مربوطاً بعمل ، بخلاف من كان بعدهم ، فقد كثر كلامهم ، وقل فقههم ، وتقلص عملهم ، فأًصبح كثير من المتأخرين يقولون ما لا يفعلون ، ويكثر كلامهم بلا فائدة .
ثم قال رحمه الله تعالى : (( فما فوقهم محسِّر ، وما دونهم مقصِّر )) .
أراد رحمه الله تعالى أن يبين أن منهجهم وسط ، فمن أراد أن يغلو ، ويثبت غير ما أثبتوه ، ويظن أنهم أنقصوا بعض الحاجات ، فما زاده عنهم فليست زيادته إلا نقص وخروج عن طريقتهم المثلى ، ومن دونهم أي الذين قصروا ولم يأخذوا بجميع ما جاءوا به وإنما اكتفوا ببعضه ، ونحو ذلك فهؤلاء مقصرون .
ولفظة محسِّر هنا لها بعض المعاني اللغوية المناسبة للمعنى المقصود هنا ؛ فإن المقاتل الذي ليس عليه درع ، ولا على رأسه مغفر ، يسمى حاسر ، وجاء في قصة غزوة حنين أن رجلاً سأل البراء فقال لـه : (( يا أبا عمارة ، أكنتم فررتم يوم حنين ؟ فقال لـه البراء رضي الله عنه : لا والله ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه وخفافهم حُسْراً ليس بسلاح ...)) (3) .
فالحُسرْ جمع حاسر هم الذين ليس معهم سلاح ، وليس عليهم دروع ، ولا على رؤوسهم المغافر التي يتقون بها ضرب السيوف .
ويقول سبحانه وتعالى : {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } (الملك:3,4).
ومعنى حسير : أي كليل ، ضعيف من شدة النظر ، فإن الإنسان إذا نظر واستد نظره إلى شيء ولم ينته فيه إلى أمر ، رجع البصر حسيراً كليلاً ، لأنه لم يصل إلى غايته .
وهذا واضح ، فالإنسان منا لو قال لـه قائل : انظر هناك على بعد عشرين كيلو متراُ في ذلك الجبل ، فإن فيه بقعة بيضاء هل يمكنك أن تراها ؟ فيأتي هذا الإنسان ينظر بالعين المجردة إلى الجبل فيرى الجبل ، ولكنه يريد أن ينظر إلى تلك البقعة البيضاء أو نحو ذلك ، فتجده ينظر ، وينظر ، ثم في النهاية يكلُّ بصره ، وهذا الكلال جاء من شدة الغلو في النظر والمبالغة فيه .
يقول عمر بن عبد العزيز : (( فما فوقهم محسِّر )) أي من أراد أن يقول : أنا أفضل من الصحابة ، ويثبت ما لم يثبتوه ، ويعمل ما لم يعملوه ، فهو محسر منقطع يرجع كليلاً ، ولهذا قيل : (( إن المنبت لا أرضـاً قطـع ولا ظهراً أبقـى )) (4).
حتى في باب العبادة ، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه ، لما عزم على الصيام أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوصاه به من العبادة ، ولكنه قال أنا أستطيع أكثر من ذلك وما زال يتدرج معه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى قال لـه : (( صم يوماً وأفطر يوماً ، لا أفضل من صيام داود )) (5).
وعبد الله بن عمرو في شبابه كان قوياً مستطيعاً .
لكنه في أخر عمره قال :
((لقد قَصَر عنهم قومٌ فَجَفَوا ، وتجاوزهم آخرون فَغَلَوْا ، وإنهم فيما بَيْن ذلك لعلى هدًى مُستقيم )) .
ليتني أطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أن الأمر كله سنة ، لكنه لا يريد أن يتخلى عن أمر فارق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالمهم أن الإنسان إذا غلا في الأمر ، كان مآله في النهاية إلى الضعف والعجز ، ولهذا فإن الغلو مردود والتقصير مردود ، لأن التقصير معناه التخلي عن بعض الأمور التي ورد بها الشرع ، ووردت بها أدلة في الكتاب والسنة .
كما أن الغلو فيها يؤدي إلى هذا أيضاً وهو ترك الاتباع الكامل ، والسلف رحمهم الله تعالى وسط في كل الأمور ، وسط في باب العبادات ، ووسط في باب المعاملات ، ووسط في باب الأحكام ، ووسط في باب العقائد ، ووسط بين جميع الطوائف ، فكل الطوائف إما غالية في هذا الباب أو مقصرة ، إما في إفراط وإما في تفريط .
فمنهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسط ، وهذا الذي أشار إليه عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى . ولهذا قال شارحاً ذلك : (( لقد قَصَر عنهم قوم فجفَوْا )) فالجافي هو المقصر لأن الجافي هو الذي أعرض ، فكأنه أعرض عن بعض منهجهم ، (( وتجاوزهم آخرون فغلوا )) فالمخالفون للسلف الصالح هم بين الجفاء والغلو وهذا تفسير للعبارة السابقة .
ثم قال : (( وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم )) .
أي أن أولئك السلف والصحب الكرام رحمهم الله تعالى كانوا بين ذلك على طريق مستقيم .
______________________
(1) رواه البيهقي في الزهد رقم 952 وابو نعيم في الحلية 6/ 199 بلفظ ( ويحب العقل الكامل عند هجم الشهوات) وقال عنه العراقي في تخريج الإحياء 4/388 )) أبو نعيم في الحلية من حيث عمران بن الحصين وفيه حفص بن عمر العدني ضعفه الجمهو ر)) وقال الزبيدجي في إتحاف السادة المتقين 10/105 بعد أن نقل كلام العراقي السابق :(( قلت : ورواه كذلك البيهقي في الزه د وأبو مطيع في أماليه والحافظ أبو سعد بن إبراهيم الأصبهاني في كتاب الأربعين بلفظ : عند مجيء ))
(2) أخرجه البخاري رقم ( 2652) كتاب الشهادات . رقم ( 2535) كتاب فضائل الصحابة.
(3) أخرجه البحاري رقم ( 2930 ) كتاب الجهاد . ومسلم رقم ( 1776 ) كتاب الجهاد .
(4) روى في هذا الحديث مرفوعاً أخرجه البزار عن جابر بلفظ : (( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى )) . وهو في ضعيف الجامع رقم ( 2022 ) إلا أن معناه صحيح .
(5) أخرجه البخاري رقم ( 1976 ) كتاب الصوم . ومسلم رقم ( 1159 ) كتاب الصيام .