القارئ:
باب دخول الخلاء والاستطابة
عَن أنسِ بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخل الخلاء قَالَ: ((اللهم إني أعوذ بك مِنَ الخبث والخبائث)) .
وعَن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قَال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول , ولا تستدبروها , ولكن شرقوا أو غربوا)) .
قَال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عَزَّ وَجَلَّ .
الشيخ:
هذا الباب مِنْ تمام الطهارة , يعقده العلماء في مؤلفاتهم لمسيس الحاجة إليه , ولو كان شيئا طبيعيا عاديا ولوكان شيئا مما يستحيى عَنْ ذكره ولكن لا حياء في الدين (إن الله لا يستحيي مِنَ الحق) يتعلق بِهِ أحكام وأدعية وطهارة ونجاسة فلابد مِنْ معرفة أحكامه , فلأجل ذلك بينه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه وعلمهم كيفية ذلك.
ثبت في صحيح مسلم أن اليهود قالوا لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة , يعني حتى ما تفعلونه عند التخلي , فقال: (نعم والله -أقسم لهم- لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط , ونهانا أن تستنجي باليمين وأن نستجمر بها وأن نمس عوراتنا باليمين وأن نستنجي بأقل مِنْ ثلاثة أحجار), يعني بين لهم صحة ما قالوا وأن في ذلك علم وفائدة .
الأحكام التي بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الباب كلها ذات أهمية , فمنها الأدعية التي يدعى بها ، وبلا شك أنها مناسبة , مناسب أن يدعى لها بأدعية .
كذلك أيضا نقول: إن الله علم نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ونبيه علم أمته , وهذه التعاليم تعاليم لها أهميتها , فمنها ما يتعلق بالأدعية التي فيها حفظ الإنسان مِنَ الشرور , ومنها ما يتعلق بالآداب التي فيها حفظ الإنسان من النجاسة , ومنها ما يتعلق بالأحكام التي فيها الامتثال وتعظيم حرمات الله عز وجل .
فهذا الحديث الأول يتعلق بالأدعية , فأولا: ثبت في الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إن هذه الحشوش محتضرة)) فأمر بأن يتحصن الإنسان مِنَ الشياطين بذكر الله .
محتضرة: يعني تحضرها الشياطين ، معلوم أن الشياطين تألف الأماكن المستقذرة , تألف الأماكن النجسة , فإذا لم يتحفظ الإنسان مِنَ الشياطين عبثت بِهِ ، ورد أيضا في بعض الأحاديث أن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم , يعني إذا لم يتحفظ منها ولم يتحصن منها عبثت بِهِ فأوقعته في نجاسة أو في خبث حسي أو معنوي , إما حسي كأن يتقذر بالنجاسة ولا يبالي , وإما معنوي بأن يوسوس ويتوهم ويقع في وساوس شيطانية تدوم معه ؛ فلأجل ذلك أُمر بالاستعاذة وبذكر اسم الله تعالى .
الثابت عند الدخول أن يذكر اسم الله للتحصن وأن يدعو بهذا الدعاء فيقول: ((بسم الله)) , يعني أتحصن وأتحفظ باسمه باسم ربي ليحصنني ويحفظني مِنْ كل سوء ومن كل شر , ثم يَقُولُ: ((أعوذ بالله مِنَ الخبث والخبائث)) ، الخبُث: الذكور. والخبائث: الإناث . أو الخبْث: يعني الشر . والخبائث: الأشرار . يعني فيستغيث مِنْ ذكران الشياطين وإناثهم، أو مِنَ الشر وأهل الشر، هذا هو المعنى في هذه الجملة .
كأنه يَقُولُ: أعوذ بك يا ربي وأتحفظ بك وأتحصن بك وأستجير بك مِنَ الشرور ومِن أهل الشرور , إذا قَالَ ذلك -وهو صادق- حماه الله وحفظه مِنْ شر هذه الشياطين .
ورد زيادة في بعض الروايات أنه يَقُولُ: ((أعوذ بالله مِنَ الخبث والخبائث ومِنَ الرجس النجس الشيطان الرجيم)) فيخصص بعدما يعمم , إذا قَالَ: مِنَ الرجس النجس , الرجس و النجس معناها واحد , ثم فسره بأنه الشيطان الرجيم , فخص الشيطان بعدما عم الشر وأهل الشر، أو الذكران والإناث مِنَ الشياطين , سواء مِنْ شياطين الجن أو مِنْ مردة الجن أو مِنْ شياطين الإنس , استعاذ مِنَ الشر وأهله .
متى يَقُولُ هذا ؟
عندما يريد أن يدخل بيت الخلاء , إذا أراد أن يدخل الخلاء , (إذا دخل الخلاء) يعني: أراد أن يدخله ؛ لأنه لا يستحب أن يقوله في نفس التخلي أو في نفس المكان المعد للتخلي ؛ لأنه مكان متستقذر , فتنزه أسماء الله أن يؤتى بها في ذلك المكان , ينزه أسماء الله عَنْ ذكره في ذلك المكان , وإن كان يجوز أن يذكر الله بقلبه ونحو ذلك ، هذا الذكر المندوب:
أولا: التسمية .
ثانيا: الاستعاذة مِنَ الخبث والخبائث , ومِنَ الرجس النجس الشيطان الرجيم .
أما عند الخروج مِنَ الخلاء فإنه يَقُولُ: ((غفرانك)) ، كما ورد في بعض الأحاديث , ومناسبة طلب المغفرة كأنه لما أحس بخفة مِنْ ثقل الأذى تذكر ثقل الذنوب فسأل المغفرة فقال: أسألك تخفيفا من الذنوب كما خففتني من الأذى .
ورد أيضا أنه عَلَيْهِ الصلاة والسلام كان يَقُولُ بعد الخروج: ((الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)) وفي بعض الروايات أو بعض الأحاديث أنه يَقُول: ((الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في منفعته وأذهب عني أذاه)) .
وكل ذلك اعتراف بفضل الله تعالى ونعمته , فيناسب عند الدخول الدعاء بالاستعاذة مِنَ الشيطان , وعند الخروج حمد لله تعالى وشكره على ما أنعم بِهِ على عبده . هذا ما يأتي بِهِ مِنَ الأدعية .
أما الحديث الثاني فجاء بِهِ لأجل تبيين كيفية جلوسه , فأخبر في هذا الحديث بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحترم الكعبة المشرفة التي هي قبلة الصلاة ؛ فنهاهم أن يستقبلوا القبلة بغائط أو بول , وأمرهم بأن يستقبلوا المشرق أو المغرب حتى تكون القبلة عَنْ يمين أحدهم أو عَنْ يساره ؛ وذلك لأنه يخاطب أهل المدينة وأهل المدينة قبلتهم في الجنوب , يستقبلون الجنوب ويستدبرون الشمال في الصلاة , ويكون المصلي قد جعل المشرق عَنْ يساره والمغرب عَنْ يمينه , فأمرهم في التخلي أن يجعلوا القبلة عَنْ يمين أحدهم أو عَنْ يساره , إما أن يشرقوا فتكون القبلة عن يمينه أو يغربوا فتكون القبلة عَنْ يساره , ولا يستقبل القبلة يجعلها أمامهم وهم يقضون الحوائج يعني عند التخلي , ولا يستدبرونها يجلعونها خلف ظهورهم عند ذلك التخلي ؛ احتراما للقبلة التي هي قبلة المصلي ، المصلي يستقبلها فتنزه هذه الجهة التي هي قبلة الصلاة عن أن يستقبلها الإنسان حالة التخلي , هكذا أرشدهم عَلَيْهِ الصلاة والسلام .
وهذا الحديث عام في جميع الحالات , وعمل بِهِ الصحابة , فهذا أبو أيوب راوي الحديث يَقُولُ: (فقدمنا إلى الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننصرف عنها ونستغفر الله عَزَّ وَجَلَّ) . لما فتحت الشام في عهد عمر دخل المسلمون الشام واستوطنوها وصارت أماكن التخلي في داخل البيوت بخلاف أهل المدينة ، فإن أهل المدينة كانوا في قرية وكانوا يتخلون يعني بقضون حوائجهم في البقيع , يعني يذهب أحدهم إلى خارج البلد ويقضي حاجته في الصحراء , ولكن لما توسعت المدن احتاجوا إلى أن يجعلوا بيوت الخلاء في داخل الدور ؛ لبعد المسافة أو الصحراء التي كانوا يتخلون فيها , كما في هذه البلاد وغيرها أصبحت أماكن التخلي في داخل البيوت , وهي التي تسمى بحمامات أو قديما تسمى صهاريج أو نحو ذلك , يعني تسمى أيضا مراحيض ودورات مياه أو خلاء بيوت خلاء أو كنف جمع كنيف , هي التي معدة لقضاء الحاجة يعني للتغوط ، فنهوا أن يستقبلوا القبلة أو يستدبروها ببول أو بغائط, فيقول أبو أيوب: (لما قدمنا الشام ووجدنا المراحيض): المقاعد، وجدناها مهيأة مركبة على استقبال القبلة ، لم نتجرأ أن نجلس فيها فصار أحدنا ينحرف , إذا جلس انحرف عن يمينه أو عَنْ يساره واستغفر الله عما يقع فِيهِ مِنَ الخطأ ونحو ذلك .
وذلك دليل على أنهم عمموا الحكم واعتقدوا أن المنع عام في داخل البيوت وفي خارجها , في الحمامات المبنية وفي الصحاري ونحوها , أن الحكم على عمومه ليس لَهُ مخصص , هذا هو الذي فهمه هذا الصحابي رضي الله عنه .
وقد أباح بعض العلماء استقبال القبلة أو استدبارها إذا كان في بناء , إذا كان في داخل مباني أو نحوها , ويستدل بحديث ابن عُمَر الذي ذُكر بعد هذا الحديث .
ولكن الصحيح أن الحكم عام , وبهذا ينتبه الإنسان إلى أن الحكم على الصحيح عام , وهو الذي رجحه الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم في (المحلى) والأئمة الثقات المعلومين المشهورين , واعتذروا عَن الأحاديث التي فيها شيء مِنَ الرخصة بأنها محمولة على عذر أو بأنها مِنَ الخصائص أو نحو ذلك .
وبهذا يُنتبه , ينتبه الإنسان إذا دخل الخلاء إلى أنه متى كان موجها إلى القبلة فإن عَلَيْهِ أن ينحرف ويميل عَنْهُ قليلا حتى لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها , وكذلك أيضا ينتبه عند تأسيس الدورات هذه ينتبه عند تأسيسها إلى أنها لا تركب مستقبلة القبلة حتى لا يعتقد مَنْ يدخلها أن ذلك جائز لتعميم الحكم ؛ لأن الأحاديث عامة كما فهم ذلك أبو أيوب مِن هذا الحديث وكما هو ظاهر عمومات النصوص ، النصوص التي فيها النهي: ((لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط)) , وكذلك حديث سلمان:(نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط وأن نستدبرها). فهذا لأجل احترام هذه الجهة , احترام جهة القبلة التي هي جهة المصلي فتحترم ؛ لأنها أشرف الجهات وأفضلها , هذا هو الاحتياط في هذا الباب , وإن كان قد رخص بعض العلماء وهم أكثرهم في ذلك إذا كان في داخل البناء ولكن الأحوط والأرجح هو العمل بالعموم .
والحديث الآخر إن شاء الله نقرأه فيما بعد , وهو يتعلق بهذا الموضوع .
* * *
القارئ:
وعَن عَبْد اللَّهِ بن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنهما قَال: رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة .
وعَن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قَال: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي معي إداوة مِن ماء وعنزة فيستنجي بالماء)) .
والعنزة: الحربة الصغيرة . والإداوة: إناء صغير مِن جلد .
وعَن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول , ولا يتمسح مِنَ الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء)) .
الشيخ:
هذه الأحاديث تتعلق بقضاء الحاجة كالتبول ونحوه , وقد عرفنا أن الشريعة .. الشرع الشريف تطرق إلى كل شيء تمس إليه الحاجة , ولا شك أن مما تمس إليه الحاجة أمور الطهارة , ولا شك أن الأقذار مِن البول ونحوه نجسة العين، فالشرع جاء بتعليم الإنسان كيف يتوقاها وكيف يتطهر منها , وعلمه أيضا كيف يجلس وكيف يتنزه وما أشبه ذلك , مما يدل على كمال هذه الشريعة وتتضمنها لكل ما تمس إليه الحاجة.
وقد ذكرنا أن اليهود قالوا لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة , قَال: (نعم , لقد نهانا ألا نستقبل القبلة ببول أو غائط وألا نستنجي باليمين وألا نستنجي بأقل مِنْ ثلاثة أحجار) .
تقدم لنا حديث أبي أيوب , قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروهما ولكن شرقوا أو غربوا)). قَالَ أبو أيوب: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عَزَّ وَجَلَّ) .
وأخذنا مِنْ هذا الحديث أنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها حالة التبول ونحوه , سواء في داخل البيوت أو خارجها ؛ حيث أن أبا أيوب فهم الأمر على الإطلاق فصار هو والصحابة إذا دخلوا تلك المراحيض وتلك المقاعد المبنية نحو الكعبة ينحرفون عنها ويخالفون ما بنيت عَلَيْهِ .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز الاستدبار في داخل البيوت أو الاستقبال , واستدلوا بهذا الحديث عَن ابْنِ عُمَرَ حيث ذكر أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستدبر القبلة مستقبل الشام , يعني في المدينة القبلة في جهة الجنوب والشام في جهة الشمال , فهو يقضي حاجته على لبنات مستقبل الشام مستدبر القبلة , فجاء عَنْ بعض العلماء أنه قال: يجوز الاستدبار فقط، أخذا بهذا الحديث .
وبعضهم قَالَ: لا يجوز الاستقبال ولا الاستدبار وحملوا هذا الحديث على الخصوصية , أنه مِنْ خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وبعضهم قَالَ: يحمل هذا على البنيان , ويحمل حديث أبي أيوب ونحوه على الصحراء , فإذا كنت في الصحراء فلا تستقبل ولا تستدبر , وإذا كنت في داخل البيوت فلك ذلك جمعا بين الأدلة .
ولكن الراجح مِنْ حيث الدليل، عموم الأدلة الموجهة إلى الأمة , وأن هذا الحديث يعتبر مِنْ خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما ورد غيره مِنَ الأحاديث ، ويمكن أن يكون هناك عذر ، أن يكون هناك عذر حيث أنه لو شرق أو غرب لكان مقابلا للمارة أو الناس , ويمكن أن يكون استدباره للكعبة ليس استدبارا كليا بل يكون مائلا عنها يمنة أو يسرة.
فالحاصل أن أحاديث النهي عامة موجهة إلى الأمة , فالأحوط للإنسان ألا يستقبل ولا يستدبر حتى في داخل البيوت , وإذا بنيت المراحيض موجهة إلى الكعبة أو يعني مستدبرة لها فإن عليك أن تنحرف يمنة أو يسرة ولو قليلا ؛ حتى لايصدق عليك الاستقبال ولا الاستدبار .
ولعل ذلك تشريف لجهة القبلة التي هي جهة الصلاة والتي هي جهة بيت الله الحرام , فيشرف وينزه عَن أن يستقبل في هذه الحالة المستقذرة ، هذا هو الراجح مِنْ حيث الدليل تعميم النهي .
ومِن الأحاديث في هذا الباب حديث أنس الذي سمعنا في الاستنجاء ، ذكر أنه كان إذا دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للخلاء أو ذهب ليتخلى حمل إداوة مِنْ ماء وعنزة ليستنجي بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقوله: (يدخل الخلاء), يعني: يذهب للتخلي ، للتبول ، أو للغائط ونحوه .
وقوله: (أحمل أنا وغلام نحوي) , أي: مثلي ومقارب لي في السن . ذُكر أن هذا الغلام من الأنصار، يعني قريب منه في السن، يحمل هذا الإداوة مرة وهذا مرة , أو هذا يحمل الماء وهذا يحمل العنزة .
والإداوة: قدح يتخذ للشرب , يصنع مِنْ حجارة أو يصنع مِنْ خشب أو من صهر أو نحاس .
والعنزة: هي العصا التي في رأسها حديدة محددة, حربة صغيرة , وقصده مِنَ العنزة إما أنه يحفر بها الأرض حتى يلين التراب لوقع البول عَلَيْهِ حتى يأمن رشاشه , أو أنها تركز ويجعل عليها ستر يستنز به أو نحو ذلك .
.... ذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذهب إلى الخلاء تبعه غلام بماء ليستنجي به ويتبعه أحياناً بعنزة ليستتر بها , وقد فعل ذلك كثير من الصحابة معه , فتبعه ابن عباس بماء مرارا ً, وكذلك المغيرة بن شعبة , وكذلك أبو هريرة وغيرهم , وأحياناً لا يذكرون الماء وإنما يذكرون الحجارة , أنه يطلب منهم حجارة يستجمر بها , كما نقل ذلك ابن مسعود وأبو هريرة , وفي هذا دليل على الاكتفاء بالاستجمار ودليل على الاكتفاء بالاستنجاء أحياناً , والأفضل الجمع بينهما إذا تيسر .
الاستجمار: هو مسح آثار الغائط بالحجارة ونحوها ليزول الجرم جرم النجاسة .
والاستنجاء: غسل أثرها بالماء حتى يطهر المكان , فإذا تيسر الجمع بينهما قدم الاستجمار ثم أتبعه الاستنجاء , وإن اقتصر على أحدهما فالاقتصار على الاستنجاء أفضل؛ لأن الماء ينقي أكثر مما ينقي التمسح , والاستجمار قد يحصل أكثر ما يستعمل فيه الحجارة , ولكن قد يكتفى بكل ما يزيل أثر النجاسة .
ومما يستعمل في هذه الأزمنة المناديل .. مناديل الأوراق ونحوها , فإنها تكفي في إزالة أثر النجاسة , إزالة جرم النجاسة وتنقية المكان , فإذا نظف المكان بإزالة أثره وبمسحه بهذه المناديل أو نحوها طهر المكان ولم يحتج إلى غسل , وإن غسل فمن باب الزيادة في الطهارة ومن باب النظافة وإزالة أثر النجاسة إزالة كلية , وإن لم يحصل المسح بالأحجار ولا بالمناديل ونحوها وغسل بالماء اكتفي بذلك .
الغسل هو أن يُصب الماء ويدلك باليد اليسرى ونحوه إلى أن يعود المكان إلى خشونته ويزول أثر النجاسة ولزوجتها ورائحتها ونحو ذلك .
هذا هو الاستنجاء , فالاستنجاء بالماء , والاستجمار بالأحجار .
وقد ورد الجمع بينهما في حديث في قصة أهل قبا الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} فسئلوا ما هذه الطهارة ؟ فأخبروا بأنهم يُتبعون الحجارة الماء، يعني: يتمسحون بالحجارة لتزيل جرم النجاسة ثم يغسلون فروجهم بالماء ليزيل الماء أثرها , فمدحوا بذلك وجعلت هذه هي الطهارة {يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}.
وحيث ثبت الاستنجاء في هذا الحديث .. في حديث أنس وفي غيره من الأحاديث وأنه يقتصر عليه فإن أكثر الناس يقتصرون على الاستنجاء الذي هو الغسل , ولكن يقع أن كثيراً من الناس يبالغون في الغسل بالماء ويوسوس إليه أحدهم الشيطان أنه ما نظف المحل ولا يزال يغسل ويمضي عليه زمنا طويلا وهو يغسله ويخيل إليه أنه لم ينظف .
قد ذكر العلماء أن أكثر ما قيل في الغسل سبع غسلات , ولكن الأولى أن يقال إنه يغسل الدبر إلى أن يعود إلى خشونته وتزول عنه لزوجة الغائط ونحوه , هذا هو الأصل أي يعود إلى ما كان عليه قبل إلى خشونته ولا حاجة إلى عدد , فقد ينظف بأقل من سبع , وقد يحتاج بعض الناس إلى أكثر ولكن لا يبالغ ولا يتمادى مع الوساوس والأوهام .
وأما العنزة فذكروا أن حملها لأمرين:
الأمر الأول: أنه كان يحفرُ بها الأرض ؛ وذلك لأن الأرض قد تكون صلبة إذا وقع البول عليها تطاير له رشاش فيتطاير على الثوب أو على الجسد فيحصل منه تنجيس , فلأجل ذلك قالوا: يختار أن يبول في أرض لينة رخوة حتى لا يتطاير الرشاش على بدنه أو ثيابه فينجس وهو لا يشعر , فيحفر الأرض الصلبة مثلاً أو يختار أرضاً رطبةً لينة رخوةً أو نحو ذلك , وإذا كان في أرض مبلطة أو نحوه يعني كما هو الحال في أكثر المراحيض ونحوه فإنه يحتاط , يحتاط حتى لا يتطاير الرشاش , وذكروا أنه أيضاً إذا ألصق ذكره بالأرض أمن رشاش البول , وبكل حال عليه أن يحتاط لقول النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا أو.. ((تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)) , وسيأتينا حديث في ذلك , فبكل حال التنزه والتحفظ من النجاسة واجب حتى تقبل الصلاة وحتى لا يصلي الإنسان وعليه شيء يبطل عبادته .
وأما القول الثاني: وهو أنه يتخذها سترة , فاستدلوا به على أن الإنسان إذا جلس لحاجته يستر نفسه عن أعين الناظرين , هذا إذا كان يبول أو يتغوط في صحراء , كان عليه الصلاة والسلام أولاً: يذهب بعيدا حتى يختفي عن أعين الناس, وإذا كان قريباً اتخذ سترة من شجرة أو جبل أو حائط مثلاً أو شيء شاخص أو نزل في مكان مطمئن من الأرض ليخفي شخصه ؛ لأنه على حالة مستقذرة فيستر نفسه , وأحياناً يكون معه عنزة وهي حربة صغيرة فيغرسها في الأرض وينشر عليها ثوبا حتى يستره عن أعين الناظرين , فكل هذا دليل على تأكد الاستتار والاختفاء عن الناس .
وأما حديث أبي قتادة ففيه هذه المسائل:
المسألة الأولى: قوله: ((لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول))، والثانية: ((لا يتمسح من الخلاء بيمينه))، والثالثة: ((لا يتنفس في الإناء)) يعني: إناء الشرب .
في هذا تكريم اليد اليمنى , وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب التيمن في الأشياء المستحبة , ويجعل شماله للأشياء المستقذرة , فيأكل بيمينه ويشرب بها ويأخذ بها ويعطي بها ويقدمها في الأشياء الفاضلة , فيقدمها في دخول المسجد وفي لبس النعل , ثبت عنه أنه قال: ((إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين , وإذا خلع فليبدأ بالشمال , ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تخلع)) مما يدل على تفضيل اليمين , فإذا كانت اليمين فاضلة فإن ذلك دليل على ميزتها , والله تعالى قد فضل أهل اليمين فقال تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا}, {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه}، {وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} فجعل لأصحاب الميمنة ميزة ولأصحاب اليمين ميزة {وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين} .
كثيراً ما يقدم الله تعالى ويمدح أهل اليمين ؛ لأنهم ذات اليمين أي ذهب بهم إلى اليمين , واليمين مشتقة من اليمن الذي هو البركة , فلا جرم ميزت اليمين وفضلت ؛ فلا يجوز للإنسان أن يمسك ذكره حالة بوله بيمينه تنزيهاً لها .
ويفهم منه أنه يجوز إمساكه باليد اليسرى ؛ لأن الإنسان قد يحتاج أن يمسك ذكره حتى يأمن رشاش البول , فإذن يمسكه -إذا كان ولابد- باليد اليسرى وينزه اليد اليمنى , كذلك لا يستنجي باليد اليمنى ؛ لأن الاستنجاء مباشرة للنجاسة باليد .
الاستنجاء: هو غسل أثر البول أو غسل أثر الغائط . وهو يحتاج إلى دلك . والدلك يكون باليد , فاليد اليمنى لا تباشر النجاسة ولا تباشر الفرج , لا يمس فرجه بيده اليمنى , ويتولى ذلك باليد اليسرى , فيصب بيده اليمنى ويدلك فرجيه بيده اليسرى حتى ينظِّف أثر النجاسة , ثم بعد ذلك يغسل يديه أو يغسل يده مما تلوثت أو مما علق بها , وكل ذلك كما عرفنا لأجل تكريم اليد اليمنى .
وقد ذكرت عائشة أن يسار النبي صلى الله عليه وسلم كانت للاستنجاء وللاستجمار وللتمخط ولنحو ذلك من الأشياء المستقذرة , يعني أنه يتولى إزالة المخاط وإزالة أثر يعني.. الاستجمار.. يمسك الأحجار التي يستجمر بها بيده اليسرى , ويغسل إذا غسل النجاسة على أحد الفرجين غسلها بيده اليسرى , وهكذا .
واختلفوا في إمساك السواك , إذا أراد أن يستاك هل يمسكه بيده اليمنى ؛ لأن ذلك تنظيف مثلاً , عمل مبرور ؟ أو يمسكه باليد اليسرى ؛ لأن ذلك إزالة قذر وإزالة وسخ في الأسنان ؟
ويختار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين أنه يمسكه باليد اليسرى ؛ وذلك أنه إزالة وسخ وإزالة قذر من الأسنان ومن الفم ومما علق من بقايا الطعام ونحو ذلك , كذلك إذا خلل ما بين أسنانه يتخلل باليد اليسرى .
ولعل ذلك كله من باب تكريم اليمنى حتى لا تباشر ولا تقوم بالأشياء التي فيها قذارة أو فيها رائحة مستنكرة أو مستكرهة أو نحو ذلك .
وأما الخصلة الثالثة التي هي أمره بألا يتنفس في الإناء فالمراد الشرب , الإنسان إذا شرب فإنه يباشر الشرب بفمه, ومعلوم أن هذا الماء أو اللبن الذي يشرب منه قد يبقى بعضه فيناوله الآخرين ليشربوا منه , وإذا أخذ يتنفس فيه استقذره الآخرون , فقد يخرج مع نفسه إذا تنفس مثلاً من أنفه شيء من الأذى أو نحوه أو يعلق به شيء من آثار نفسه فيستقذر ؛ فأمر الإنسان بأن يحترم هذا الشراب الذي هو من أهم الضروريات للإنسان حتى لا يفسده على غيره.
قيل: (يا رسول الله إنا لا نروى بنفس واحد) , يعني أن الإنسان قد يشرب ويضيق نفسه فلا يروى , قال: ((فأبن القدح عن فمك)) يعني: إذا أردت التنفس فأبن يعني: أخر القدح عن فمك ثم تنفس ثم ارجع واشرب بنفس ثان .
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشرب بثلاثة أنفاس , يعني يشرب ثم يحتاج إلى تنفس فيبين القدح ثم يتنفس ثم يشرب مرة ثانية إلى ثلاثة مرات , وكان أيضاً يحث على الشرب بدون عب , روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصاً ولا يعب عبا ؛ فإنه من الكباد)) يعني: أنه إذا أخذ يعب عباً ويجرع جرعات كبيرة لم يأمن أن تنصب على كبده فتأثر فيه , وذلك من الإرشادات النبوية التي أرشد بها أمته إلى شيء ينفعهم في حياتهم وإن كان من الأمور العادية , فنهانا أن نتنفس في الإناء حتى لا يفسد هذا الشراب سواء كان هناك من يشربه أو لم يكن , حتى لو لم يكن هناك من هو بحاجة , لو كنت مثلاً ستهريق بقية الماء لو كان ذلك الماء قليلاً وأنت ستشربه كله ولا تبقي منه شيئاً، أنت منهي بهذا الحديث عن أن تتنفس حالة الشرب .
وأيضاً فقد ذكروا أن في هذا تشبه بالدواب , الدواب كالبقر ونحوه الذي إذا شرب يتنفس حالة الشرب , هذا التشبه به تشبه بحيوان بهيم , مستقذر طبعاً التشبه به ؛ فأرشد عليه الصلاة والسلام أمته إلى هذه الإرشادات سواء كانت متعلقة بالعبادات أو متعلقة بالعادات .
الشرب أمر عادي معروف قبل الإسلام ومعروف في كل حالة من الحالات أنه أمر معتاد وضروري , فأرشد إليه وبين كيفيته التي يحبها الشرع والتي توافق الفطرة السليمة , والتي تبعد الإنسان عن أن يكون قذراً أو مستقذراً عند غيره , مما يدل على أهمية هذه الشريعة وتطرقها إلى كل ما تمس إليه حاجة البشر .
* * *
القارئ:
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير , أما أحدهما فكان لا يستتر من البول , وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرس في كل قبر واحدة , فقالوا: يارسول الله لما فعلت هذا ؟ قال: ((لعله يخفف عنهما مالم يببسا)) .
الشيخ:
هذا حديث يتعلق بالطهارة التي هي التنزه من النجاسة , دلالة الحديث على وجوب البعد عن النجاسة وعلى أن البول من جملة النجاسة .. من جملة النجاسات , أخبر في هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على قبرين وكأنهما جديدين ثم أوحى الله إليه أو أطلعه على أنهما يعذبان أو أسمعه شيئاً من عذابهما , فأخبر الذين معه بأنهما يعذبان وأن الذي يعذبان فيه ليس كبيراً أي ليس شيئاً صعباً ولكنه سهل تركه أو يسير في أعين الناس , يحتقر في أعين الكثير من الناس.
أحدهما: ذكر أنه لا يستنزه أو لا يستبرئ من البول أي: لا يبالي ما أصاب البول من ثوبه أو من بدنه .
والثاني : يمشي بالنميمة .
وفعل ما فعله من جعله هذه الجريدة أو غرسه في كل قبر نصف ذلك السعف أو تلك الجريدة ليخفف عنهما مالم ييبسا .
فأولاً: نعرف أن هذا مما أطلع الله عليه نبيه عليه الصلاة والسلام ولم يكن لأحدٍ غيره , يعني: لم يطلع أحد على عذاب هذه القبور إلا من أطلعه الله , والاطلاع لابد أن يكون بوحي .
ثانيا: نعرف أنه ما فعل ذلك إلا للتحذير من هذين الأمرين: التحذير من التهاون بالبول والتحذير من السعي بالنميمة , وبيان أنهما ذنبان مما يستحق العذاب بهما , أن العابد يعذب بتهاونه بهما في قبره.
وأما قوله: ((وما يعذبان في كبير)) فقد فهم بعض العماء أنها من صغائر الذنوب , ولكن ليس كذلك بل هما من الكبائر , وحينئذ فما معنى قوله: ((فما يعذبان في كبير))؟
ذكر العلماء أن معناه ليس ذلك شيء صعب عليهم تداركه , أو ليس كبيراً في أعين الناس , بل الناس يتساهلون به ويعتقدون أنه من أيسر الأمور ومن أهونها , وأنه وإن كان ذنباً ولكن هو من صغائر الذنوب . ولكن وصل إلى أنه يعذب عليه في القبر , فالشيء الذي يعذب عليه في القبر ما يكون من الصغائر , ولهذا ورد في رواية قال: ((وما يعذبان في كبير)) , ثم قال: ((بلى)) أي: إنه لكبير ((بلى إنه لكبير)) , فدل على أنه ليس بكبير عند الناس ولكنه كبير عند الله , فلا يحتجّ بهذا على أنه ليس من الكبائر بل هو من كبائر الذنوب لماذا ؟
أولاً: عدم التنزه من البول , ورد في رواية: ((لا يستنزه من البول)) وفي رواية: ((لا يستتر من البول)) وفي رواية: ((لا يستبرئ من البول)) والمعنى واحد , المعنى: أنه لا يبالي أن يقع البول على ثيابه وعلى جسده ؛ فهو يقوم من غير استبراء, وربما يبول وهو يسير , وربما يقوم وهو يبول ونحو ذلك ؛ فيفسد بذلك بدنه وتفسد ثيابه ويتنجس , والنجس لا تقبل له عبادة ؛ لأن الله تعالى أمر بالطهارة في قوله: {فاطهروا}، {وإن كنتم جنباً فاطهروا} وأمر بتطهير الثياب: {وثيابك فطهر} ولا شك أن البول من جملة النجاسات .
وفي هذا الحديث أنه مما يعذب عليه , لماذا ؟
لأنه إذا تنجست ثيابه وصلى لم تقبل صلاته وهو يحمل النجاسة , وإذا لم تقبل صلاته ردت عليه هذه الصلاة , إذا بطلت صلاته فماذا معه ؟ ليس معه صلاة , والذي بطلت صلاته بطلت أعماله والعياذ بالله ؛ فإن الصلاة عمود الدين , فعرف بذلك أنه لأجل التنزه من البول ولأجل الاستبراء .
وقد ورد حديث آخر بلفظ: ((استنزهوا من البول ؛ فإن عامة عذاب القبر منه)) كأنه يقول: إن أكثر ما يقع العذاب في القبر بسببه ؛ لأنه ما يُتساهل أو يتهاون كثير من الناس به مع كونه يفسد العبادة , يفسد الصلاة , ويفسد القراءة مثلاً لمن يقرأ وهو محدث , ويُفسد أيضاً الطواف الذي يفسد بسببه الحج وما أشبه ذلك .
فلذلك صار من كبائر الذنوب ......
فهذا الحديث يحث على التنزه من البول , وكيفية ذلك أن يتحفظ الإنسان ألا يصيب البول ثوبه أو بدنه , فعند التبول يتحرى مكاناً رخوا أو ليناً حتى يأمن من رشاش البول وتطاير قطرات على ثيابه أو على ساقه أو نحو ذلك ولا يتفطن لها , فيقع في فساد عباداته بذلك , وكذلك بعد التبول لا يقوم إلا بعدما يتأكد انقطاع أثر البول , فلا يقوم مثلاً وقد بقي شيء منه , فإن العادة أنه يتقاطر وهو يسير أو نحو ذلك .
ومن التنزه ألا يقوم إلا بعد الاستجمار بعد أن يمسح محل البول , أي يمسح الرجل مجرى البول كرأس الذكر , والمرأة تمسح مجرى البول ومخرجه حتى يتحقق أنه نظف ولم يبق فيه شيء , وإذا تيسر الاستنجاء وهو غسل محل البول بالماء أو غسل الفرج أو الفرجين كليهما بالماء حتى ينقطع فإن ذلك من أسباب الانقطاع انقطاع البول .
ولكن قد يصل بعض الناس قد يصل الأمر بهم إلى شيء من التوهم ومن الوسوسة , فكثير منهم يشتكي بأنه يحس بتقاطر أو بخروج كلما قام أو كلما انتهى من الاستنجاء ومشى أو نحو ذلك . فالأصل أنه لا حاجة إلا إلى الاستنجاء فإذا استنجى بغسل ذكره أُمن بذلك إن شاء الله أن يبقى فيه بقية .
وأما ما ذكره بعضهم .. أو ما ورد في حديث ضعيف: ((إذا بال أحدكم فلينتر ذكره)) فالنتر دليله لم يثبت, والصحيح أنه لاحاجة إلى النتر ولا إلى السلت أن يسلته مثلاً , ولا إلى إدخال قطنة في مجرى البول , ولا إلى قفزات كما يفعله بعضهم يقفز قفزات , ولا إلى نزلات ينزل مثلاً في منحدر , ولا إلى أن يعلق نفسه مثلا ويحرك نفسه ليخرج ما تبقى.
كل ذلك يفعله الموسوسون لا حاجة إلى ذلك , ويقول العلماء: إن البول في المثانة بمنزلة اللبن في الضرع إن حلب در وإن ترك قر , فما دام يريد إخراجه فإنه يخرج , وإذا كان يريد إمساكه فإنه يبقى , وذلك من تيسير الله على الإنسان , فلو كان مثلاً البول يجري كلما اجتمع لشق على الإنسان حيث أنه دائماً و هو يمشي ويتحرك , ولكن جعله الله متوقفاً حتى يريد إخراجه .
فهؤلاء الذين يبتلون بهذه الوسوسة والتوهمات يقال لهم: اقطعوا عنكم التوهمات وثقوا بأن هذا ليس بشيء ما تحسونه , لكن إذا أحس.. أحس الإنسان بشيء متحقَق يعني أحس بخروج قطرات من ذكره أو من مجرى البول فإن ذلك يعتبر ناقضا , فعليه أن يستنجي ويعيد الوضوء وأن يغسل ما أصاب من ثيابه أو من سراويله .
وأما إذا لم يكن هناك إحساس وإنما توهمات فإنه لا يحتاج إلى أن يفتش نفسه , كثير منهم يقطع الصلاة عدة مرات ويقول: إني أحس , ثم إذا فتش نفسه لم يجد شيئاً , إذا فتش عن ثيابه لم يجد رطوبة ولا غيرها , أما إذا ابتلي والعياذ بالله بالسلس الذي هو جريان البول وعدم توقفه فإنه يعتبر معذورا , ولكن لا يتوضأ إلا بعدما يدخل الوقت , وعليه أن يتحفظ أن يجعل على رأسه أو فرجه شيئاً يمسك البول في وقت الصلاة كقطن أو شاش أو نحو ذلك إلى أن ينتهي وقت الصلاة حتى لا يلوث ثيابه , ثم بعد ذلك يغيره في الوقت الثاني أو ما أشبهه.
أما المسألة الثانية التي هي النميمة: النميمة معروف أنها: نقل الكلام من إنسان إلى آخر على وجه التحريش والإفساد , قال تعالى: {هماز مشاء بنميم}، والنمام: هو الذي ينقل الكلام من هذا إلى هذا ليوقع الوحشة بين الناس , وليسبب التقاطع والتفرق بين هذا وهذا , ولا شك أنه مفسد وذنبه كبير , والعادة أنه يفعل ذلك إذا حسد إنساناً على أمر فإنه ينم فيه حتى يبغضه إلى أصحابه، ويقول: إنه يقول فيكم كذا وإنه يقول فيكم كذا , فتقع البغضاء وتقع المقاطعة وتقع الوحشة بين المسلمين بسبب هذا النمام .
وقد ورد وعيد شديد فيه , قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة قتات)) القتات: هو النمام , ورد في بعض الآثار أن النمام يفسد في الساعه الواحدة ما لا يفسد الساحر في السنة , وما ذاك إلا أنه قد يسبب القتال ووقوع الفتن والتناحر بين المسلمين وزيادة على التقاطع والتهاجر وما أشبه ذلك .
ولذلك ورد في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم ما العاظة , هي النميمة القالة بين الناس)) فشبهه بالعاظة الذي هو السحر أو نوع من أنواع السحر , فجلعه شبيها به لهذا السبب الذي هو النميمة .
النميمة على هذا من كبائر الذنوب ؛ وذلك لأنها سببت عذاب القبر , سببت أنه يعذب في القبر , وتتفاوت بحسب العمل الذي ترتب عليها , فالنمام الذي دائماً هذا ديدنه وهذه صياغته لا شك أن ذنبه كبير . وكذلك قد يكون ذنبه أصغر إذا لم يحصل مفسدة ولم يحصل إلا عمل يسير فيكون ذنبه أصغر . وعلى كل حال فهما من كبائر الذنوب , هذان الأمران .
أما كونه صلى الله عليه وسلم غرس هذه الجريدة في قبريهما وقال: ((لعله يخفف عنهما ما لم يببسا)) فقال بعضهم: إن ذلك لكون هذه الجريدة رطبة , والرطوبة فيها شيء من الخضرة , والخضرة قد تخفف الألم , قد يخضر بسببها القبر ويكون ذلك سبباً لتخفيف العذاب , وقيل: لأن الجريدة حالة خضرتها تسبح فتسبيحها قد يصل تأثيره إلى ذلك المدفون فيخفف عنه , هكذا قال بعضهم .
ولكن هل يجوز لنا أن نستعمل هذه الجريدة , أن نجعل في القبور جريدا ؟
لا يجوز ؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعله مع سائر المقبورين مع كونه قد دفن بعض الناس وقد استغفر لبعضهم وقد صلى عليهم , ولو كان ذلك مشروعاً لفعله مع كل أحد , وكأنه خص هذين الاثنين بوحي من الله , يعني أوحى الله إليه أنه إذا غرس هذه الجريدة خفف عنهما , ولهذا قال: ((لعل)) . ولم يوحى إليه بغيرهما , وأيضاً فلم يفعل ذلك الصحابة ولو كان مشروعاً لشرعوا أن يضعوا في كل ما دفنوا إنسانا وضعوا في قبره جريدة خضراء , فلما لم يفعلوا ذلك عرف بذلك خصوصيته لهذين الأمرين فلا يشرع , والعبادات مبناها على التوقيف فلما لم يقل النبي عليه السلام: افعلوا ذلك مع كل ميت دل على أن هذا من خصوصياته أو من خصوصيات هذين .
وبكل حال يبتعد الإنسان عن أسباب عذاب القبر ؛ وذلك لأنه أول منازل الآخرة , القبر أول منازل الآخرة , حينما تخرج الروح من الجسد فالإنسان قد قامت قيامته , فإما أن يلقى عذابا وإما أن يلقى نعيماً .
وأسباب عذاب القبر كثيرة , منها هذان الأمران المذكوران في هذا الحديث , ولا شك أن من أسبابه الكفر مثلاً أو النفاق أو الأعمال السيئة أو سائر المعاصي وسائر الذنوب , كثيرة الذنوب التي تسبب عذاب القبر , كون الإنسان يعذب في قبره.
والمسلمون أهل السنة يصدقون بأن الله تعالى يعذب هذا في قبره أو ينعم هذا في قبره , كما وردت في ذلك أدلة مجملة ومفصلة , ولكن الكيفية محجوبة عنا , لو لم ندرك ذلك فقد أدركه الأنبياء كما أدركه النبي عليه السلام في هذا الحديث ولو لم نره , لو كشفنا عن الميت ورأيناه كما وضع فإنا لا تنفي أنه يعذب أو ينعم أو يضيق عليه قبره أو يوسع عليه ؛ وذلك لأن هذا من علم الآخرة , و أهل الدنيا ليسوا بمطلعين على أمور الآخرة .